الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآخرة. لا يذكر فيها شيء من الدنيا. ما رأيت أحمد ذكر الدنيا قط" (1).
قلت: وأعظم بها من شهادة، من رجل حافظ ثقة مصنف دقيق العبارة، أحد الذين تتلمذوا وأكثروا عن الإمام أحمد، وعرفه تمام المعرفة.
وأختم حديثي عن زهد الإمام أحمد بقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: " وقد صنف أحمد في الزهد كتابا حافلا عظيما، لم يسبق إلى مثله، ولم يلحقه أحد فيه. والمظنون بل المقطوع به أنه إنما كان يأخذ بما أمكنه منه رحمه الله "(2).
(1) تاريخ دمشق (7/ 252) ومناقب الإمام (ص214) وتاريخ الإسلام (ص6) والنبلاء (11/ 199).
(2)
البداية والنهاية للحافظ ابن كثير (10/ 329).
فقه الإمام أحمد:
الحديث عن فقه الإمام أحمد وتضلعه في هذا الباب يطول، ومن المعلوم أن مذهب الإمام أحمد في الفقه أحد المذاهب المعتبرة، ويعتبر رابع المذاهب المشهورة.
وقد أقام الإمام أحمد بن حنبل مذهبه الفقهي على خمسة أصول كما بينها ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى وهي:
الأول: النصوص: فإذا وجد النص أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه، ولا من خالفه كائنا من كان.
الثاني: ما أفتى به الصحابة: فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها.
الثالث: إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج من أقوال الصحابة. فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال، حكى الخلاف فيها، ولم يجزم بقول.
الرابع: الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو الذي رجحه على القياس.
وقد بين الإمام ابن القيم المراد بالحديث الضعيف الذي يأخذ به الإمام أحمد، حينما قال رحمه الله تعالى:
"وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه فالعمل به. بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن، ولم يكن يقسم الحديث إلى: صحيح وحسن وضعيف، بل إلى: صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب أثرا يدفعه، ولا قول صاحب، ولا إجماع على خلافه، كان العمل به عنده أولى من القياس". اهـ.
الخامس: إذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نص، ولا قول صحابة، أو أحد منهم، ولا أثر مرسل أو ضعيف، عدل إلى الأصل الخامس وهو: القياس، فاستعمله للضرورة (1).
ثم قال الإمام ابن القيم: " فهذه الأصول الخمسة من أصول فتاويه، وعليها مدارها. وقد يتوقف في الفتوى لتعارض الأدلة عنده. أو لاختلاف الصحابة فيها، أو لعدم اطلاعه فيها على أثر أو قول أحد من الصحابة والتابعين.
وكان شديد الكراهة والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف، كما قال لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام.
وكان يسوغ استفتاء فقهاء الحديث وأصحاب مالك، ويدل عليهم، ويمنع من استفتاء من يعرض عن الحديث، ولا يبني مذهبه عليه ولا يسوغ العمل بفتواه. . . " (2).
قلت: ولي ها هنا مع الأصل الرابع وقفة قصيرة: فابن قيم الجوزية تبع في هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى، وإليك قول
(1) إعلام الموقعين للإمام ابن القيم (1/ 29 - 32).
(2)
إعلام الموقعين (1/ 32 - 33).
شيخ الإسلام: " قولنا: إن الحديث الضعيف خير من الرأي، ليس المراد به الضعيف المتروك، لكن المراد به: الحسن، كحديث: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحديث: إبراهيم الهجري، وأمثالهما ممن يحسن الترمذي حديثه أو يصححه "(1).
وقال رحمه الله أيضا: "وأول من عرف أنه قسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف: أبو عيسى الترمذي "(2).
ولي ههنا وقفتان:
الأولى: لا يسلم بأن الترمذي رحمه الله تعالى هو أول من قسم الحديث التقسيم الثلاثي، بل عرفت هذه القسمة قبله، حيث ورد لفظ التحسين على لسان عدة من العلماء السابقين للإمام الترمذي، ومن أمثلة ذلك: ما ذكره ابن القيم نفسه عن الإمام أحمد بن حنبل أنه حسن حديث ركانة في طلاقه امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فقال ابن القيم:"وقد صحح أحمد هذا الحديث وحسنه"(3).
وقد ذكر الإمام علي بن المديني حديث عمر بن الخطاب مرفوعا: «إني ممسك بحجزكم عن النار (4)» . وقال: "هذا حديث حسن الإسناد"(5).
لذلك قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في نكته على مقدمة ابن الصلاح: " قد أكثر علي بن المديني من وصف الأحاديث بالصحة والحسن في مسنده وعلله، وكان الإمام السابق لهذا الاصطلاح. وعنه أخذ: البخاري، ويعقوب بن شيبة، وغير واحد. وعن البخاري أخذ الترمذي "(6).
(1) منهاج السنة النبوية (2/ 191).
(2)
الفتاوى (18/ 23) وانظر: الفتاوى (18/ 25) وقاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص82، 83) ط لاهور.
(3)
إعلام الموقعين (3/ 31).
(4)
صحيح البخاري الرقاق (6483)، صحيح مسلم الفضائل (2284)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 540).
(5)
العلل لعلي بن المديني (ص102).
(6)
النكت على ابن الصلاح لابن حجر (1/ 426) وانظر: قوت المقتدي للسيوطي (1/ 8).
والذي يدلك على أن الترمذي أخذ هذا الاصطلاح عن الإمام البخاري: أنه نقل عنه في جامعه تحسين بعض الأحاديث، ومنها حديث:«من زرع في أرض قوم بغير إذنه، فليس له من الزرع شيء وله نفقته (1)» قال البخاري: هذا حديث حسن.
وكذلك جاء ذكر الحديث الحسن عند الحافظ: أبي حاتم الرازي رحمه الله تعالى (2).
وبهذا يتبين: أن الإمام الترمذي مسبوق في هذا الاصطلاح. ولكن لا شك بأن الإمام الترمذي هو الذي نشر هذا التقسيم ونوه به، قال الحافظ ابن الصلاح:" كتاب أبي عيسى الترمذي رحمه الله أصل في معرفة الحديث الحسن، وهو الذي نوه باسمه وأكثر من ذكره في جامعه، ويوجد في متفرقات من كلام مشايخه والطبقة التي قبله. كأحمد بن حنبل والبخاري "(3).
الوقفة الثانية: هل كان الإمام أحمد بن حنبل يقصد بالحديث الضعيف: الحديث الحسن؟! هذا أمر لا يسلم به؛ لأن الإمام أحمد يحتج بالحديث المرسل كما نص على ذلك ابن القيم، والمرسل كما هو معلوم: نوع من أنواع الحديث الضعيف! ثم لو كان الإمام أحمد يقصد بالحديث الضعيف: "الحديث الحسن" للزم من كلام ابن القيم أن الإمام أحمد يقدم قول الصحابي على الحديث الحسن - على حسب ما قرره ابن القيم في ترتيب الأصول التي اعتمد عليها أحمد - وهذا مما لم يقله أحد من أهل العلم.
لكن مع هذا لا شك في أن الإمام أحمد بن حنبل لا يقصد بالحديث
(1) سنن الترمذي الأحكام (1366)، سنن أبو داود البيوع (3403)، سنن ابن ماجه الأحكام (2466)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 141).
(2)
انظر: شرح علل الترمذي لابن رجب الحنبلي (ص203).
(3)
مقدمة ابن الصلاح (ص32). وانظر: شرح علل الترمذي لابن رجب (ص203).
الضعيف - الذي يقدمه على القياس - هو الباطل أو المنكر أو ما في روايته متهم، بل كان يقدم الحديث الضعيف ضعفا محتملا على القياس، كما حرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، والله أعلم.
بعد هذا العرض الموجز في أصول مذهب الإمام أحمد أقول: إن الإمام أحمد بن حنبل أحد المحدثين البارزين، جمع من علمه بالحديث ورجاله فقها استطاع به أن يعرف دلائل النصوص ومراميها. فقد قال إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى:"كنت أجالس بالعراق: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأصحابنا، وكنا نتذاكر الحديث من طريق وطريقين وثلاثة. فيقول يحيى بن معين من بينهم: وطريق كذا. فأقول: أليس هذا صح بإجماع منا؟ فيقولون: نعم. فأقول: ما مراده، ما تفسيره، ما فقهه؟! فيبقون كلهم إلا أحمد بن حنبل ".
وقد أثنى كثير من العلماء على فقه الإمام أحمد بن حنبل ثناء عظيما، ومن ذلك ما قاله شيخه عبد الرزاق بن همام:"ما رأيت أفقه من أحمد بن حنبل ولا أورع".
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: "انتهى العلم إلى أربعة: إلى أحمد بن حنبل وهو أفقههم فيه، وإلى ابن أبي شيبة وهو أحفظهم له، وإلى علي بن المديني وهو أعلمهم به، وإلى يحيى بن معين وهو أكتبهم له".
وهذه شهادة جليلة من أبي عبيد الذي قال عنه إبراهيم الحربي: "رأيت أبا عبيد القاسم بن سلام ما مثله إلا بجبل نفخ فيه روح"(1)،
(1) مناقب الإمام (ص62).