الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال أبو حاتم: "كان أحمد بن حنبل بارع الفهم لمعرفة الحديث، لصحيحه وسقيمه، وتعلم الشافعي أشياء من معرفة الحديث منه. وكان الشافعي يقول لأحمد: حديث كذا وكذا قوي الإسناد محفوظ؟ فإذا قال أحمد: نعم. جعله أصلا وبني عليه"(1).
وقال الحسن بن محمد الخلال: قال عبد الرزاق الصنعاني: "رحل إلينا من العراق أربعة من رؤساء الحديث: الشاذكوني وكان أحفظهم للحديث، وابن المديني وكان أعرفهم باختلافه، ويحيى بن معين وكان أعلمهم بالرجال، وأحمد بن حنبل وكان أجمعهم لذلك كله"(2).
وقال أبو يعلى: "هو إمام في الجرح والتعديل، والمعرفة والتعليل، والبيان والتأويل"(3).
وقد قسم الإمام الذهبي المتكلمين في الرجال إلى ثلاثة أقسام، جعل الإمام أحمد في القسم الثالث حيث وصف أصحاب هذا القسم بأنهم:"معتدلون منصفون"(4).
كما قال عنه الحافظ الذهبي: "سأله جماعة من تلامذته عن الرجال، وجوابه بإنصاف، واعتدال، وورع في المقال".
قلت: وكتابيه: "العلل والرجال" و"الأسماء والكنى" يشهدان بتضلع الإمام أحمد في هذا العلم الجليل، وأنه وصل إلى منزلة ليست لكثير من الأئمة.
(1) تقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (ص 302). وانظر: شرح علل الترمذي لابن رجب (ص142).
(2)
مناقب الإمام (ص69). وشرح علل الترمذي لابن رجب (ص141).
(3)
طبقات الحنابلة (1/ 5).
(4)
ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل (ص158) ت. عبد الفتاح أبو غدة.
محنة الإمام أحمد بن حنبل:
ذكرت في بداية حديثي عن الإمام أحمد أنه - رحمه الله تعالى -
عاش في زمن استقرت فيه الأمور للدولة العباسية. ولكن ما لبث أن ظهر اعتماد المأمون على الجيش الفارسي لكي يستطيع التغلب على أخيه الأمين، وتم له ذلك فعلا، ومنذ ذلك الحين بدأ تسرب الأعاجم إلى دار الخلافة، حتى جاء المعتصم من بعده فاعتمد على الترك الذين قوي نفوذهم بمرور الزمن، حتى جاء اليوم الذي اعتدوا فيه على الخلفاء وعاثوا في الأرض الفساد.
وانقسمت الدولة الأم بعد ذلك انقسامات عديدة، كل ذلك بسبب الجهل الشديد بمبدأ من أعظم المبادئ الإسلامية، هو:"مبدأ الولاء والبراء".
وصدق الحق سبحانه وتعالى حينما قال في محكم التنزيل:
وفي عصر المأمون، استطاع المعتزلة التسلل إلى قلب المأمون، وأقنعوه بمسلكهم الفلسفي في التفكير الذي نتج عنه: إنكار صفات الخالق سبحانه وتعالى، ومن بينها صفة الكلام، ومن ثم دعوة المأمون العلماء إلى القول بخلق القرآن.
وأراد المأمون أن يحمل الناس على ذلك، إلا أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أبى واستعصم وثبت على الحق، في الوقت الذي تراجع فيه كثير من أهل العلم عن قول الحق.
ثبت الإمام أحمد رحمه الله تعالى في الساحة وحده، وآثر الباقية على الفانية، وظل صابرا محتسبا، وأصبح بحق رجلا بأمة. فأمر المأمون بضربه وحبسه، وحتى مات المأمون، فأوصى المعتصم من بعده بأن يقول مقالته بخلق القرآن، ومن ثم بدأ المعتصم ينفذ هذه الوصية، فضرب الإمام أحمد بالسياط حتى أغمي عليه، وأهانه أشد الإهانة، واستمر حبسه نحوا
(1) سورة المجادلة الآية 22
من ثمانية وعشرين شهرا، وقيل: بضعة وثلاثين شهرا. وكان يصلي وينام والقيد في رجله.
وفي كل يوم يرسل إليه الخليفة المعتصم من يناظره، وكان كلام الإمام أحمد واحدا لا يتغير. حتى غضب عليه المعتصم وهدده وشتمه، وأمر بالشدة في جلده، وزاد في قيده. والإمام أحمد صابر محتسب ثابت ثبوت الجبال الرواسي.
قال أبو شعيب الحراني: "كنا مع أبي عبيد القاسم بن سلام بباب المعتصم، وأحمد بن حنبل يضرب. قال: فجعل أبو عبيد يقول: أيضرب سيدنا، لا صبر؟! أيضرب سيدنا، لا صبر؟! قال أبو شعيب: فقلت:
ضربوا ابن حنبل بالسياط بظلمهم
…
بغيا فثبت بالثبات الأنور
قال الموفق حين مدد بينهم
…
مد الأديم مع الصعيد القرر
إني أموت ولا أبوء بفجرة
…
تصلى بوائقها محل المفتري
". (1).
ثم أطلق سراح الإمام أحمد، فعاد رحمه الله تعالى إلى التدريس بالمسجد بعد أن شفاه الله من جراحاته إلى أن مات المعتصم.
ثم تولى الخلافة من بعده ابنه الواثق الذي أظهر ما أظهر من المحنة والميل إلى ابن أبي دؤاد - رأس المعتزلة - وأصحابه. واشتد الأمر على أهل بغداد، فمنع الإمام أحمد من الخروج للدرس والاجتماع للناس، فانقطع الإمام أحمد عن التدريس مدة تزيد على خمس سنوات، حتى توفي الواثق (232هـ).
ثم تولى الخلافة المتوكل رحمه الله تعالى، الذي أعاد الحق إلى نصابه،
(1) مناقب الإمام (ص336).
ونصر الله على يديه السنة وأعز الله به أهلها، حتى قيل:" أبو بكر في الردة، وعمر بن عبد العزيز في رده المظالم، والمتوكل في إحياء السنة وإماتة التجهم"(1).
وأمر المتوكل المحدثين بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية. وقال في ذلك أبو بكر بن الخبازة:
وبعد فإن السنة اليوم أصبحت
…
معززة حتى كأن لم تذلل
تصول وتسطو إذا أقيم منارها
…
وحط منار الإفك والزور من عل
وولى أخو الإبداع في الدين هاربا
…
إلى النار يهوي مدبرا غير مقبل
شفى الله منهم بالخليفة جعفر
…
خليفته ذي السنة المتوكل
خليفة ربي وابن عم نبيه
…
وخير بني العباس من منهم ولي
وجامع شمل الدين بعد تشتت
…
وفاري رؤوس المارقين بمنصل
" (2).
هذا ملخص المحنة التي مر بها الإمام أحمد بن حنبل. وكما نرى فإن الإمام أحمد وقف موقفا عظيما لا يناله إلا أهل العزم من الرجال المخلصين. يقول الشيخ أحمد شاكر في موقف الإمام أحمد: "أما أولو العزم من الأئمة الهداة، فإنهم يأخذون بالعزيمة، ويحتملون الأذى ويثبتون،
(1) البداية والنهاية (10/ 337).
(2)
تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص230).
وفي سبيل الله ما يلقون. ولو أنهم أخذوا بالتقية، واستساغوا الرخصة لضل الناس من ورائهم يقتدون بهم ولا يعلمون أن هذه تقية، وقد أتي المسلمون من ضعف علمائهم في مواقف الحق. . لا يجاملون الملوك والحكام فقط! بل يجاملون كل من طلبوا منه نفعا أو خافوا ضرا في الحقير والجليل من أمر الدنيا. ولقد قال رجل من أئمة هذا العصر المهتدين: كأن المسلمين لم يبلغهم من هداية كتابهم فيما يغشاهم من ظلمات الحوادث غير قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} (1).
ثم أصيبوا بجنون التأويل فيما سوى ذلك. . . " (2).
وقف الإمام أحمد هذا الموقف في الوقت الذي أحجم فيه عامة العلماء عن الحق، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه:«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون (3)» . وفي لفظ: «لا يزال ناس من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله عز وجل (4)» .
وبعد أن ثبت الله الإمام أحمد على الحق، نسب إليه مذهب أهل السنة؛ لأنه صبر على الذب عنها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وأحمد بن حنبل وإن كان قد اشتهر بإمامة السنة والصبر في المحنة، فليس ذلك لأنه انفرد بقول، أو ابتدع قولا، بل لأن السنة التي كانت موجودة معروفة قبله، علمها ودعا إليها، وصبر على من امتحنه ليفارقها، وكان الأئمة قبله قد ماتوا قبل المحنة، فلما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل المائة الثالثة - على عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق - ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات الله تعالى، وهو المذهب الذي ذهب إليه متأخرو الرافضة، وكانوا قد أدخلوا معهم من أدخلوه من ولاة الأمور، فلم
(1) سورة آل عمران الآية 28
(2)
مقدمة المسند (1/ 98) الهامش.
(3)
صحيح مسلم الإمارة (1920)، سنن الترمذي الفتن (2229)، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4252)، سنن ابن ماجه المقدمة (10)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 279).
(4)
حديث صحيح متواتر، تقدم تخريجه (ص251).
يوافقهم أهل السنة حتى تهددوا بعضهم بالقتل، وقيدوا بعضهم، وعاقبوهم وأخذوهم بالرهبة والرغبة. وثبت الإمام أحمد على ذلك الأمر حتى حبسوه مرة، ثم طلبوا أصحابهم لمناظرته، فانقطعوا معه في المناظرة يوما بعد يوم. . . (وذكر خبر المحنة).
إلى أن قال ابن تيمية: ". . . ثم صارت هذه الأمور سببا في البحث عن مسائل الصفات وما فيها من النصوص والأدلة والشبهات من جانبي المثبتة والنفاة. وصنف الناس في ذلك مصنفات. وأحمد وغيره من علماء السنة والحديث، ما زالوا يعرفون فساد مذهب الروافض والخوارج والقدرية والجهمية والمرجئة، ولكن بسبب المحنة كثر الكلام، ورفع الله قدر هذا الإمام، فصار إماما من أئمة السنة وعلما من أعلامها، لقيامه بإعلامها وإظهارها، واطلاعه على نصوصها وآثارها، وبيانه لخفي أسرارها، لا لأنه أحدث مقالة أو ابتدع رأيا.
ولهذا قال بعض شيوخ المغرب: المذهب لمالك والشافعي، والظهور لأحمد. يعني أن مذهب الأئمة في الأصول مذهب واحد، وهو كما قال" (1).
وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: ". . . وأحمد إنما اشتهر أنه إمام أهل السنة، والصابر على المحنة، لما ظهرت محن الجهمية الذين ينفون صفات الله تعالى، ويقولون: إن الله لا يرى في الآخرة، وإن القرآن ليس هو كلام الله، بل هو مخلوق من المخلوقات، وإنه تعالى ليس فوق السماوات، وإن محمدا لم يعرج إلى الله، وأضلوا بعض ولاة الأمر، فامتحنوا الناس بالرغبة والرهبة، فمن الناس من أجابهم رغبة، ومن الناس من أجابهم رهبة، ومنهم من اختفى فلم يظهر لهم. وصار من لم يحبهم قطعوا رزقه وعزلوه عن ولايته، وإن كان أسيرا لم يفكوه ولم يقبلوا شهادته، وربما قتلوه أو حبسوه.
(1) منهاج السنة النبوية (2/ 482 - 486) ت. محمد رشاد سالم.
والمحنة مشهورة معروفة، كانت في إمارة المأمون، والمعتصم، والواثق. ثم رفعها المتوكل، فثبت الله الإمام أحمد فلم يوافقهم على تعطيل صفات الله تعالى، وناظرهم في العلم فقطعهم، وعذبوه فصبر على عذابهم، فجعله الله من الأئمة الذين يهدون بأمره. كما قال تعالى:
فمن أعطي الصبر واليقين جعله الله إماما في الدين، وما تكلم به من السنة فإنما أضيف له لكونه أظهره وأبداه لا لكونه أنشأه وابتدأه، وإلا فالسنة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فأصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وما قاله الإمام أحمد هو قول الأئمة قبله، كمالك والثوري، والأوزاعي، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وقول التابعين قبل هؤلاء، وقول الصحابة الذين أخذوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأحاديث السنة معروفة في الصحيحين وغيرهما من كتب الإسلام.
والنقل عن أحمد وغيره من أئمة السنة متواتر بإثبات صفات الله تعالى، وهؤلاء متبعون في ذلك ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأما أن المسلمين يثبتون عقيدتهم في أصول الدين بقوله - أي: بقول الإمام أحمد - أو بقول غيره من العلماء، فهذا لا يقوله إلا جاهل" (2).
هذا الثبات العظيم الذي ثبته الإمام أحمد رحمه الله تعالى، جعل علماء عصره يثنون عليه ثناء كثيرا لشدة إعجابهم به ولاعترافهم بشجاعته وقدرته. وإليك ثناء بعض منهم: قال إسحاق بن راهويه: "لولا أحمد وبذل نفسه لما بذلها لذهب الإسلام"(3).
وحينما عوتب يحيى بن معين في المحنة، قال: "أراد الناس منا أن
(1) سورة السجدة الآية 24
(2)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (6/ 214 - 215). وانظر لوامع الأنوار البهية (1/ 65).
(3)
الحلية (9/ 171) ومناقب الإمام (ص116) وتاريخ الإسلام (ص13) وطبقات الحنابلة (1/ 13).