الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكمة التشريع الإلهي
من المعلوم أن الشرائع السماوية يقصد بها عدة أمور من أهمها أربعة، هي:
الأول: معرفة الله وتوحيده وتمجيده ووصفه بصفات الكمال وتنزيهه عما لا يليق بجلاله وعظمته.
الثاني: معرفة كيفية أداء عبادته المحتوية على تعظيمه وشكر نعمه التي لا تعد ولا تحصى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} (1).
الثالث: الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتحلي بالأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، والمزايا التي تسمو بالمرء إلى مراتب الشرف والرفعة.
الرابع: إيقاف المتعدي عند حده بوضع الأحكام المقررة في المعاملات والحدود والعقوبات والزواجر والتعزيرات الرادعة لمن يخالف ما قرره الشرع في ذلك.
(1) سورة إبراهيم الآية 34
الحكمة من إقامة الحدود
إن الله سبحانه وتعالى وإن كان قد جعل لمن يرتكب الذنوب والآثام، ويعمل المعاصي عقابا يوم القيامة، إلا أن ذلك لا يمنع أهل الشر وأصحاب النفوس الضعيفة عن ارتكاب ما يضر بالمصلحة العامة والخاصة في الحياة الدنيا.
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
…
ذا عفة فلعلة لا يظلم
وأيضا فإن من الناس من له قوة وسلطان لا يقدر المظلوم الضعيف
على أخذ حقه منه وبذلك تضيع الحقوق ويعم الفساد.
وهدف الشريعة الإسلامية من فرض العقوبة هو إصلاح النفوس وتهذيبها والعمل على سعادة الجماعة البشرية؛ ذلك لأن للإسلام في العقاب رأيا ينفرد به.
من أجل ذلك وضع الله الحدود وضعا شرعيا كافلا لراحة البشر في كل زمان ومكان؛ حتى يكون الناس في مأمن وتمتنع الجرائم التي ترتكب، فكل فعل سيئ يحدث في الأرض لا يمكن إصلاحه إلا بالعقوبة.
فالعقوبة إذا مصلحة للمجتمع، وليس في الشريعة ما يمنع من أن تكون أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها أو تباح لا لكونها مفاسد، بل لكونها مؤدية إلى المصالح، بل إن دفع الضرر مقدم على جلب المنافع.
يقول العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: (ربما كانت أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها أو تباح، لا لكونها مفاسد، بل لكونها مؤدية إلى المصالح، وذلك كقطع الأيدي المتآكلة حفظا للأرواح، وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد، وكذلك العقوبات الشرعية كلها ليست مطلوبة لكونها مفاسد، بل لكون المصلحة هي المقصودة من شرعها كقطع يد السارق وقاطع الطريق، وقد سميت مصالح من قبيل المجاز بتسمية السبب باسم المسبب)(1).
ويقول في موضع آخر منها: (الأطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما، ويجلبون أعلى السلامتين والصحتين ولا يبالون بفوات أدناهما، وأن الطب كالشرع وضع لجلب مصلحة السلامة والعافية ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام، ولدرء ما أمكن درؤه من ذلك ولجلب ما أمكن.
(1) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، جزء (1)، ص 12.
فالعقوبات شرعت لمصلحة تعود إلى كافة الناس) (1).
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (إن الله أوجب الحدود على مرتكبي الجرائم التي تتقاضاها الطباع، وليس عليها وازع طبيعي، والحدود عقوبات لأرباب الجرائم في الدنيا كما جعلت عقوبتهم في الآخرة بالنار إذا لم يتوبوا، ثم إن الله تعالى جعل التائب من الذنب كمن لا ذنب له، فمن لقيه تائبا توبة نصوحا لم يعذبه مما تاب منه)(2) ويقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: (شرعت العقوبات رحمة من الله تعالى بعباده، فهي صادرة عن رحمة الخلق وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة بهم كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض)(3).
ويقول الدهلوي رحمه الله تعالى في كتابه حجة الله البالغة: (اعلم أن من المعاصي ما شرع الله فيه الحد وذلك كل معصية جمعت وجوها من المفسدة، بأن كانت فسادا في الأرض واقتضابا على طمأنينة المسلمين، وكانت لها داعية في نفوس بني آدم لا تزال تهيج فيها، ولها ضراوة لا يستطيع الإقلاع منها بعد أن أشربت قلوبهم بها وكان فيه ضرر لا يستطيع المظلوم دفعه عن نفسه في كثير من الأحيان، وكان كثير الوقوع فيما بين الناس، فمثل هذه المعاصي لا يكفي فيها الترهيب بعذاب الآخرة، بل لا بد من إقامة ملامة شديدة عليها وإيلام ليكون بين أعينهم ذلك فيردعهم عما يريدونه. ثم مثل ببعض المعاصي، إلى أن قال: وكالسرقة؛ فإن الإنسان كثيرا ما لا يجد كسبا صالحا فينحدر إلى السرقة
(1) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، جزء (1)، ص 4.
(2)
أعلام الموقعين، جزء (3)، ص 156.
(3)
اختيارات ابن تيمية، ص 593.