الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المحتويات
الافتتاحية
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
موضوع العدد:
قتل الغيلة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 23
الفتاوى:
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 51
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 107
البحوث:
أبو موسى الأشعري الصحابي السفير القائد اللواء محمود شيت خطاب 125
مخطوطة "فصل الجواب عن استحقاق المتأخر فضل الصحاب" تأليف الشيخ حسن بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب
تحقيق / الوليد بن عبد الرحمن الفريان 213
الخلوة وما يترتب عليها من أحكام فقهية د. / عبد الله بن عبد المحسن الطريقي 239
الدفاع عن السنة النبوية وطرق الاستدلال د. / الطبلاوي محمود سعد 285
من قرارات المجمع الفقهي 319
قرار هيئة كبار العلماء في مسألة اعتبار اختلاف مطالع الأهلة من عدمه 321
نداء وتذكير لمساعدة المجاهدين الأفغان والمجاهدين في فلسطين سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 324
صفحة فارغة
الافتتاحية
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فإن من أهم المهمات وأفضل القربات، التناصح والتوجيه إلى الخير، والتواصي بالحق والصبر عليه، والتحذير مما يخالفه ويغضب الله عز وجل، ويباعد من رحمته، وأسأله عز وجل أن يصلح قلوبنا وأعمالنا وسائر المسلمين، وأن يمنحنا الفقه في دينه، والثبات عليه، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح جميع ولاة أمور المسلمين ويوفقهم لكل خير، ويصلح لهم البطانة، ويعينهم على كل ما فيه صلاح العباد والبلاد، ويمنحهم الفقه في الدين، ويشرح صدورهم لتحكيم شريعته، والاستقامة عليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها المسلمون؛ إن موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موضوع عظيم، جدير بالعناية؛ لأن في تحقيقه مصلحة الأمة ونجاتها، وفي إهماله الخطر العظيم والفساد الكبير واختفاء الفضائل وظهور الرذائل. وقد أوضح الله جل وعلا في كتابه العظيم منزلته من الإسلام، وبين سبحانه أن منزلته عظيمة، حتى إنه سبحانه في بعض الآيات قدمه على الإيمان الذي هو أصل الدين وأساس الإسلام، كما في قوله تعالى
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) ولا نعلم السر في هذا التقديم إلا عظم شأن هذا الواجب وما يترتب عليه من المصالح العظيمة العامة، ولا سيما في هذا العصر، فإن حاجة المسلمين وضرورتهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شديدة؛ لظهور المعاصي وانتشار الشرك والبدع في غالب المعمورة، وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه وفي عهد السلف الصالح يعظمون هذا الواجب ويقومون به خير قيام، فالضرورة إليه بعد ذلك أشد وأعظم؛ لكثرة الجهل وقلة العلم وغفلة الكثير من الناس عن هذا الواجب العظيم.
وفي عصرنا هذا صار الأمر أشد والخطر أعظم؛ لانتشار الشرور والفساد، وكثرة دعاة الباطل وقلة دعاة الخير في غالب البلاد كما تقدم، ومن أجل هذا أمر الله سبحانه وتعالى به ورغب فيه، وقدمه في آية آل عمران على الإيمان، وهي قوله سبحانه وتعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (2) الآية - يعني أمة محمد عليه الصلاة والسلام فهي خير الأمم وأفضلها عند الله، كما في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل (3)» .
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موجود في الأمم السابقة، بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب. وأصل المعروف توحيد الله والإخلاص له، وأصل المنكر الشرك بالله وعبادة غيره.
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2)
سورة آل عمران الآية 110
(3)
مسند أحمد بن حنبل (5/ 3).
وجميع الرسل بعثوا يدعون الناس إلى توحيد الله، الذي هو أعظم المعروف، وينهون الناس عن الشرك بالله، الذي هو أعظم المنكر. ولما فرط بنو إسرائيل في ذلك وأضاعوه، قال الله جل وعلا في حقهم:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1) ثم فسر هذا العصيان فقال سبحانه: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2)، فجعل هذا من أكبر عصيانهم واعتدائهم، وجعله التفسير لهذه الآية:{ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (3){كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (4).
وما ذلك إلا لعظم الخطر في ترك هذا الواجب، وأثنى الله جل وعلا على أمة في ذلك منهم فقال سبحانه في سورة آل عمران:{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (5){يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (6){وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (7) هذه طائفة من أهل الكتاب لم يصبها ما أصاب الذين ضيعوه، فأثنى الله عليهم سبحانه وتعالى في ذلك، وفي آية أخرى من كتاب الله عز وجل في سورة التوبة قدم سبحانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وما ذلك إلا لعظم شأنه. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، ومع ذلك قدمه في هذه الآية على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال سبحانه:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (8)
(1) سورة المائدة الآية 78
(2)
سورة المائدة الآية 79
(3)
سورة المائدة الآية 78
(4)
سورة المائدة الآية 79
(5)
سورة آل عمران الآية 113
(6)
سورة آل عمران الآية 114
(7)
سورة آل عمران الآية 115
(8)
سورة التوبة الآية 71
فقدم هنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقام الصلاة، مع أن الصلاة عمود الإسلام، وهي أعظم الأركان بعد الشهادتين، فلأي معنى قدم هذا الواجب؟
لا شك أنه قدم لعظم الحاجة إليه وشدة الضرورة إلى القيام به، ولأن بتحقيقه تصلح الأمة ويكثر فيها الخير وتظهر فيها الفضائل وتختفي منها الرذائل، ويتعاون أفرادها على الخير، ويتناصحون ويجاهدون في سبيل الله، ويأتون كل خير ويذرون كل شر، وبإضاعته والقضاء عليه تكون الكوارث العظيمة والشرور الكثيرة، وتفترق الأمة وتقسو القلوب أو تموت، وتظهر الرذائل وتنتشر وتختفي الفضائل ويهضم الحق، ويظهر صوت الباطل، وهذا أمر واقع، ولا ينهى فيها عن المنكر، فإنه تنتشر فيها الرذائل وتظهر فيها المنكرات، ويسود فيها الفساد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وبين سبحانه أن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمقيمين للصلاة والمؤتين للزكاة والمطيعين لله ولرسوله هم أهل الرحمة، فقال سبحانه وتعالى:{أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (1) فدل ذلك على أن الرحمة إنما تنال بطاعة واتباع شريعته، ومن أخص ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تنال الرحمة بالأماني ولا بالأنساب ككونه من قريش، أو من بني هاشم أو من بني فلان، ولا بالوظائف، ككونه ملكا أو رئيس جمهورية أو وزيرا أو غير ذلك من الوظائف، ولا تنال أيضا بالأموال والتجارات، ولا بوجود كثرة المصانع، ولا بغير هذا من شئون الناس، وإنما تنال الرحمة بطاعة الله ورسوله، واتباع شريعته.
(1) سورة التوبة الآية 71
ومن أعظم ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله في كل شيء، فهؤلاء هم أهل الرحمة، وهم الذين في الحقيقة يرجون رحمة الله، وهم الذين في الحقيقة يخافون الله ويعظمونه، فما أظلم من أضاع أمره، وارتكب نهيه، وإن زعم أنه يخافه ويرجوه، وإنما الذي يعظم الله حقا، ويخافه ويرجوه حقا، من أقام أمره واتبع شريعته، وجاهد في سبيله، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، قال سبحانه في سورة البقرة:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) فجعلهم سبحانه راجين رحمة الله لما آمنوا وجاهدوا وهاجروا لإيمانهم هجرتهم وجهادهم، ما قال: إن الذين بنوا القصور أو الذين عظمت تجارتهم أو تنوعت أعمالهم، أو الذين ارتفعت أنسابهم هم الذين يرجون رحمة الله، بل قال سبحانه:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) فأبان سبحانه أن هؤلاء الذين هذه صفاتهم وهي: الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هم المفلحون، والمعنى أنهم هم المفلحون على الكمال والتمام، وإن كان غيرهم من المؤمنين مفلحا إذا تخلى عن بعض هذه الصفات لعذر شرعي، لكن المفلحون على الكمال والتمام هم هؤلاء الذين دعوا إلى الخير وأمروا بالمعروف وبادروا إليه ونهوا عن المنكر وابتعدوا عنه.
(1) سورة البقرة الآية 218
(2)
سورة آل عمران الآية 104
أما الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لأغراض أخرى كرياء وسمعة أو خطر عاجل أو أسباب أخرى، أو يتخلفون عن فعل المعروف ويرتكبون المنكر، فهؤلاء من أخبث الناس ومن أسوئهم عاقبة.
وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه- أي: أمعاؤه - فيدور في النار كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع عليه أهل النار، فيقولون: ما لك يا فلان؟! ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! قال: فيقول لهم: بلى ولكني كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه (1)» .
هذه حال من خالف قوله فعله - نعوذ بالله - تسعر به النار، ويفضح على رءوس الأشهاد، يتفرج عليه أهل النار، ويتعجبون كيف يلقى في النار.
هذا ويدور في النار كما يدور الحمار بالرحى، وتندلق أقتاب بطنه، يسحبها، لماذا؟! لأنه كان يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه، فعلم بذلك أن المقصود الأمر بالمعروف مع فعله، والنهي عن المنكر مع تركه.
وهذا هو الواجب على كل مسلم، وهذا الواجب العظيم أوضح الله شأنه في كتابه الكريم ورغب فيه، وحذر من تركه، ولعن من تركه.
فالواجب على أهل الإسلام أن يعظموه وأن يبادروا إليه وأن يلتزموا به طاعة لربهم عز وجل وامتثالا لأمره، وحذرا من عقابه سبحانه وتعالى.
وقد جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤيد هذا الأمر وتبين ذلك أعظم بيان وتشرحه، فيقول المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:«من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (2)» . خرجه الإمام مسلم في صحيحه.
(1) صحيح البخاري كتاب بدء الخلق (3267)، صحيح مسلم الزهد والرقائق (2989)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 207).
(2)
صحيح مسلم الإيمان (49)، سنن الترمذي الفتن (2172)، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009)، سنن أبو داود الصلاة (1140)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 54).
فبين صلى الله عليه وسلم مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الثلاث:
المرتبة الأولى: الإنكار باليد مع القدرة، وذلك بإراقة أواني الخمر، وكسر
آلات اللهو ومنع من أراد الشر بالناس وظلمهم من تنفيذ مراده إن استطاع ذلك كالسلطان ونحوه من أهل القدرة، وكإلزام الناس بالصلاة، وبحكم الله الواجب اتباعه ممن يقدر على ذلك، إلى غير هذا مما أوجب الله.
وهكذا المؤمن من أهله وولده، يلزمهم بأمر الله، ويمنعهم مما حرم الله، باليد إذا لم ينفع فيهم الكلام. وهكذا من له ولاية من أمير أو محتسب، أو شيخ قبيلة أو غيرهم ممن له ولاية من جهة ولي الأمر، أو من جهة جماعته، حيث ولوه عليهم، عند فقد الولاية العامة يقوم بهذا الواجب حسب طاقته، فإن عجز انتقل إلى: المرتبة الثانية: وهي اللسان، يأمرهم باللسان وينهاهم، كأن يقول: يا قوم، اتقوا الله يا إخواني، اتقوا الله، صلوا وأدوا الزكاة، اتركوا هذا المنكر، افعلوا كذا، دعوا ما حرم الله، بروا والديكم، صلوا أرحامكم، إلى غير هذا، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر باللسان، ويعظهم ويذكرهم ويتحرى الأشياء التي يفعلونها حتى ينبههم عليها، ويعاملهم بالأسلوب الحسن، مع الرفق، يقول عليه الصلاة والسلام:«إن الله يحب الرفق في الأمر كله (1)» . ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه (2)» .
وجاء جماعة من اليهود فدخلوا عليه صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا محمد. يعنون الموت، وليس مرادهم السلام،. . فسمعتهم عائشة رضي الله عنها فقالت: عليكم السام واللعنة. وفي لفظ آخر: " ولعنكم الله، وغضب عليكم". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهلا يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله". قالت: " ألم تسمع ما قالوا؟! قال: ألم تسمعي ما قلت لهم؟ قلت لهم: " وعليكم، فإنه يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا (3)» . هذا وهم يهود رفق بهم صلى الله عليه وسلم لعلهم يهتدون ولعلهم ينقادون للحق، ولعلهم يستجيبون لداعي الإيمان.
فهكذا الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الموفق، يتحرى الرفق والعبارات
(1) صحيح البخاري الأدب (6024)، صحيح مسلم السلام (2165)، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2701)، سنن الدارمي الرقاق (2794).
(2)
صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594)، سنن أبو داود الأدب (4808)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 125).
(3)
صحيح البخاري استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6927)، صحيح مسلم السلام (2165)، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2701)، سنن الدارمي الرقاق (2794).
المناسبة، والألفاظ الطيبة عندما يمر على من قصر في ذلك في المجلس أو في الطريق أو في أي مكان يدعوهم بالرفق والكلام الطيب، حتى ولو جادلوه في شيء خفي عليهم أو كابروا فيه يجادلهم بالتي هي أحسن، كما قال سبحانه:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) وقال سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2).
من هم أهل الكتاب؟ هم اليهود والنصارى وهم كفار، ومع ذلك يقول الله عنهم:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (3) والمعنى أن من ظلم منهم وتعدى وأساء الكلام فإنه ينتقل معه إلى علاج آخر غير الجدال بالتي هي أحسن، كما قال تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (4) وقال سبحانه: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (5) لكن ما دام المقام مقام تعليم ودعوة وإيضاح للحق، فإنه يكون بالتي هي أحسن؛ لأن هذا أقرب إلى الخير، قال سفيان الثوري رحمه الله:" ينبغي للآمر والناهي أن يكون رفيقا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهى عنه، عدلا فيما يأمر به، عدلا فيما ينهى عنه، عالما بما يأمر به، عالما بما ينهى عنه ".
وهذا معنى كلام السلف رحمهم الله، تحري الرفق مع العلم والحلم والبصيرة، لا يأمر ولا ينهى إلا عن علم، لا عن جهل، ويكون مع ذلك رفيقا عاملا بما يدعو إليه، تاركا ما ينهى عنه، حتى يقتدى به.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له
(1) سورة النحل الآية 125
(2)
سورة العنكبوت الآية 46
(3)
سورة العنكبوت الآية 46
(4)
سورة الشورى الآية 40
(5)
سورة البقرة الآية 194
من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (1)».
وهذا الحديث مثل حديث أبي سعيد السابق المتضمن الإنكار باليد، ثم اللسان ثم القلب. فالخلوف التي تخلف بعد الأنبياء هذا حكمهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويعلمون أحكام الله، ويجاهدون في ذلك باليد، ثم اللسان ثم القلب.
وهكذا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم يجب على علمائهم وأمرائهم وأعيانهم وفقهائهم أن يتعهدوا بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل وإرشاد الضال، وإقامة الحدود والتعزيرات الشرعية؛ حتى يستقيم الناس ويلزموا الحق، ويقيموا عليهم الحدود الشرعية ويمنعوهم من ارتكاب ما حرم الله؛ حتى لا يتعدى بعضهم على بعض أو ينتهكوا محارم الله.
وقد ثبت عن عثمان بن عفان رضي الله عنه الخليفة الراشد أنه قال: " إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". ويروى عن عمر رضي الله عنه أيضا.
وهذا صحيح، فكثير من الناس لو جئته بكل آية، لم يمتثل، لكن إذا جاءه وازع السلطان بالضرب والسجن ونحو ذلك أذعن، وترك باطله. لماذا؟ لأن قلبه مريض، ولأنه ضعيف الإيمان أو معدوم الإيمان. . فلهذا لا يتأثر بالآيات والأحاديث. . لكن إذا خاف من السلطان ارتدع ووقف عند حده، ووازع السلطان له شأن عظيم، ولهذا شرع الله لعباده القصاص والحدود والتعزيزات؛ لأنها تردع عن الباطل وأنواع الظلم، ولأن الله يقيم بها الحق، فوجب على ولاة الأمور أن يقيموها، وأن يعينوا من يقيمها، وأن يلاحظوا الناس ويلزموهم بالحق، ويوقفوهم عند حدهم حتى لا يهلكوا، وينقادوا مع
(1) صحيح مسلم الإيمان (50)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 458).
تيار الباطل، ويكونوا عونا للشيطان وجنده علينا.
المرتبة الثالثة: إذا عجز المؤمن عن الإنكار باليد واللسان انتهى إلى القلب، يكره المنكر بقلبه ويبغضه، ولا يكون جليسا لأهله. وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال له بعض الناس: هلكت إن لم آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. فقال له رضي الله عنه: هلكت إن لم يعرف قلبك المعروف وينكر المنكر.
فلا بد يا أخي أن تعرف المعروف بالتعلم والتفقه في الدين، ولا بد أن تعرف المنكر بذلك، ثم تقوم بالواجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالتبصر والتفقه في الدين من علامات السعادة ودلائل أن الله أراد بالعبد خيرا، كما في الصحيحين عن معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1)» . فإذا رأيت الرجل يتبع حلقات العلم، ويسأل عن العلم، ويتفقه ويتبصر فيه، فذلك من علامات أن الله أراد به خيرا، فليلزم ذلك، وليجتهد ولا يمل ولا يضعف. يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:«من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (2)» رواه الإمام مسلم في صحيحه.
فطلب العلم له شأن عظيم، ومن الجهاد في سبيل الله، ومن أسباب النجاة والدلائل على الخير، ويكون بحضور حلقات العلم، ويكون بمراجعة الكتب المفيدة، إذا كان ممن يفهمها، ويكون بسماع الخطب والمواعظ، ويكون بسؤال أهل العلم. . كل ذلك من الطرق المفيدة، ويكون أيضا بحفظ القرآن الكريم، وهو الأصل في العلم، فالقرآن رأس كل علم، وهو الأساس العظيم، وهو حبل الله المتين، وهو أعظم كتاب وأشرف كتاب، وهو أعظم قائد إلى الخير، وأعظم ناه عن الشر.
فوصيتي لكل مؤمن، ولكل مؤمنة، العناية بالقرآن، والإكثار من تلاوته، والحرص على حفظه، أو ما تيسر منه، مع التدبر والتعقل، ففيه الهدى
(1) صحيح البخاري العلم (71)، صحيح مسلم الإمارة (1037)، سنن ابن ماجه المقدمة (221)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 93)، موطأ مالك كتاب الجامع (1667)، سنن الدارمي المقدمة (226).
(2)
صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699)، سنن الترمذي القراءات (2945)، سنن ابن ماجه المقدمة (225)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 252)، سنن الدارمي المقدمة (344).
والنور، كما قال سبحانه:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) وقال عز من قائل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) ويقول تبارك وتعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (3).
فعلينا أن نعنى بكتاب الله تلاوة وحفظا، وتدبرا وتفقها، وعملا وسؤالا عما أشكل، وهكذا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم هي الوحي الثاني، وهي الأصل الثاني، وهي المفسرة لكتاب الله والدالة عليه، فعلى طالب العلم وعلى كل مسلم أن يعنى بذلك حسب طاقته وحسب علمه بالحفظ والمراجعة، كحفظ الأربعين النووية، وتكملتها لابن رجب خمسين حديثا، وهي من أجمع الأحاديث وأنفعها، وهي من جوامع الكلم، فينبغي حفظها للرجل والمرأة.
ومثل ذلك عمدة الحديث للحافظ عبد الغني المقدسي، كتاب جمع أربعمائة حديث وزيادة يسيرة من أصح الأحاديث في أبواب العلم. . فإذا تيسر حفظها فذلك من نعم الله العظيمة.
وهكذا بلوغ المرام للحافظ ابن حجر، كتاب عظيم مختصر، ومفيد محرر، فإذا تيسر لطالب العلم حفظه فذلك خير عظيم. ومما يتعلق بكتب العقيدة: كتابان جليلان للشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، هما: كتاب التوحيد، وكتاب كشف الشبهات. ومن كتب العقيدة المهمة كتاب العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، فهو كتاب جليل مختصر عظيم الفائدة في مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة، وكتاب الإيمان لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب كتاب عظيم جمع فيه جملة من الأحاديث المتعلقة بالإيمان. فينبغي لطالب العلم وطالبة العلم أن
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2)
سورة ص الآية 29
(3)
سورة محمد الآية 24
يحفظا ما تيسر من هذه الكتب المفيدة وأشباهها، مع العناية بالقرآن الكريم والإكثار من تلاوته وحفظه، أو ما تيسر منه كما تقدم، ومع العناية بالمذاكرة مع الزملاء وسؤال المدرسين والعلماء الذين يعتقد فيهم الخير والعلم عما أشكل عليه، وسأل ربه التوفيق والإعانة، ولا يضعف ولا يكسل ويحفظ وقته ويجعله أجزاء: جزء من يومه وليله لتلاوة القرآن الكريم وتدبره، وجزء لطلب العلم والتفقه في الدين، وحفظ المتون ومراجعة ما أشكل عليه، وجزء لحاجته مع أهله، وجزء لصلاته وعبادته وأنواع الذكر والدعاء.
ومما يفيد طالب العلم وطالبة العلم فائدة عظيمة الاستماع لبرنامج نور على الدرب، فهو برنامج مفيد لطالب العلم، وعامة المسلمين وغيرهم؛ لأن فيه أسئلة وأجوبة مهمة لجماعة من المشايخ المعروفين بالخير والعلم، فينبغي العناية بهذا البرنامج واستماع ما فيه من فائدة، وهو يذاع مرتين في كل ليلة بين المغرب والعشاء من نداء الإسلام، والساعة التاسعة والنصف من إذاعة القرآن الكريم.
ومما يتعلق بموضوعنا: موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما ورد في الحديث أيضا عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: يقول الله عز وجل: «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أستجيب لكم، وقبل أن تسألوني فلا أعطيكم، وقبل أن تستنصروني فلا أنصركم (1)» . وفي لفظ آخر من حديث حذيفة يقول عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعونه فلا يستجيب لكم (2)» . رواه الإمام أحمد.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المهمات العظيمة كما سبق، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وأبي داود والترمذي يقول عليه الصلاة والسلام: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم، فلم ينتهوا، فجالسوهم وآكلوهم وشاربوهم، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب
(1) سنن ابن ماجه الفتن (4004)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 159).
(2)
مسند أحمد بن حنبل (5/ 389).
بعضهم ببعض، ثم لعنهم الله على لسان أنبيائهم داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (1)». وفي لفظ آخر:«إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تفعل من المعاصي، ثم يلقاه في الغد فلا يمنعه ما رآه منه أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض ثم لعنهم (2)» .
فعلينا أن نحذر من أن يصيبنا ما أصاب أولئك، وقد جاء في بعض الأحاديث أن إهمال هذا الواجب، وعدم العناية به، أعني واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب رد الدعاء وعدم النصر كما تقدم.
ولا شك أن هذه مصيبة عظيمة من عقوبات ترك هذا الواجب أن يخذل المسلمون وأن يتفرقوا وأن يسلط عليهم أعداؤهم، وأن لا يستجاب دعاؤهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقد يكون هذا الواجب فرض عين على بعض الناس، إذا رأى المنكر وليس عنده من يزيله غيره، فإنه يجب أن يزيله مع القدرة، لما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم:«من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (3)» خرجه مسلم في الصحيح.
أما إن كانوا جماعة، فإنه يكون في حقهم فرض كفاية في البلد أو القرية أو القبيلة، كسائر فروض الكفايات، وإذا لم يكن في البلد أو القبيلة إلا عالم واحد وجب عليه عينا أن يعلم الناس، ويدعوهم إلى الله، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر حسب طاقته، لما تقدم من الأحاديث، ولقوله سبحانه وتعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (4)
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3047)، سنن أبو داود الملاحم (4336)، سنن ابن ماجه الفتن (4006).
(2)
سنن الترمذي تفسير القرآن (3047)، سنن أبو داود الملاحم (4336)، سنن ابن ماجه الفتن (4006).
(3)
صحيح مسلم الإيمان (49)، سنن الترمذي الفتن (2172)، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009)، سنن أبو داود الصلاة (1140)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 54).
(4)
سورة التغابن الآية 16
ومن وفقه الله للصبر والاحتساب من العلماء والدعاة، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والإخلاص لله، نجح ووفق وهدي ونفع الله به كما قال سبحانه وتعالى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (2) وقال تبارك وتعالى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (3) وقال عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (4) وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ} (5){إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (6){إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (7).
فالرابحون الناجون في الدنيا والآخرة هم أهل الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. ومعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق والتواصي بالصبر من جملة التقوى، ولكن الله سبحانه خصها بالذكر لمزيد من الإيضاح والترغيب.
والمقصود أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ودعا إلى الله وصبر على ذلك، فهو من أهل هذه الصفات العظيمة، الفائزين بالربح الكامل والسعادة الأبدية إذا مات على ذلك. ومما يؤكد الالتزام بهذه الصفات العظيمة قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (8) وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا وجميع المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يمنحنا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يرزقنا جميعا القيام بهذا الواجب حسب الطاقة والإمكان، وأن يوفق ولاة أمور
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2)
سورة الطلاق الآية 3
(3)
سورة الطلاق الآية 4
(4)
سورة محمد الآية 7
(5)
سورة العصر الآية 1
(6)
سورة العصر الآية 2
(7)
سورة العصر الآية 3
(8)
سورة المائدة الآية 2
المسلمين للقيام بهذا الواجب، والصبر عليه، وأن يوفق من أسند إليه هذا الواجب أن يقوم به على خير ما يرام، وأن يعين الجميع على أداء حقه والنصح له ولعباده، إنه تعالى جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
صفحة فارغة
قتل الغيلة
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد،
فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة السادسة المنعقدة في شهر صفر عام 1395هـ من إعداد بحث في قتل الغيلة ليدرج في جدول أعماله بالدورة السابعة، أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ضمنته بيان معنى قتل الغيلة في اللغة، وخلاف الفقهاء في ضابطه شرعا، وخلافهم فيما يوجبه من القتل حدا أو قودا، وبيان ما يترتب على هذا الخلاف من قبول العفو عن القاتل وعدم قبوله، مع ذكر أدلة القولين ومناقشتها، وختمت البحث بخلاصة عن ذلك. والله الموفق.
معنى قتل الغيلة في اللغة وضابطه عند الفقهاء:
أ- قتل الغيلة لغة:
قال الإمام اللغوي إسماعيل بن حمد الجوهري: (غاله الشيء واغتاله إذا
أخذه من حيث لم يدر) (1) قال: (واغتاله قتله غيلة، والأصل الواو)(2) هكذا ذكر الجوهري في مادة (غول) المعتلة العين بالواو، وقال في مادة:(غيل) المعتلة بالياء (والغيلة بالكسر الاغتيال، يقال: قتله غيلة، وهو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع، فإذا صار إليه قتله)(3) وقال أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا في مادة (غول): (الغين والواو واللام أصل صحيح يدل على ختل وأخذ من حيث لا يدري، يقال: غاله يغوله؛ أخذه من حيث لم يدر. قالوا: والغول بعد المفازة. لأنه يغتال من مر به. قال: به تمطت غول كل ميل.
والغول من السعالي، سميت لأنها تغتال. والغيلة الاغتيال، والياء واو في الأصل، والمغول سيف دقيق له قفا، وأظنه سمي مغولا لأنه ستر بقراب حتى لا يدرى ما فيه (4).
وقال الزمخشري في (الغيلة)(هي فعلة من الاغتيال، وياؤها عن واو؛ لأن الاغتيال من " غالته الغول" وتغوله غولا، وأورد هناك أثرا (أن صبيا قتل بصنعاء غيلة، فقتل به عمر سبعة، وقال: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم)(5) وقال المجد الفيروز آبادي (والغول الهلاك والإهلاك خفية، غاله واغتاله بمعنى)(6) وقال المجد الفيروز آبادي في معاني الغيلة بكسر الغين: والخديعة والاغتيال، وقتله غيلة خدعه فذهب به إلى موضع فقتله. وعلق الزبيدي على هذه العبارة بقوله: (نقله الجوهري، وقد اغتيل. وقال أبو بكر: الغيلة في كلام
(1) الصحاح جـ 5 ص 1785 طبعة دار الكتاب العربي مصر.
(2)
الصحاح جـ 5 ص 1786.
(3)
الصحاح جـ 5 ص 1787.
(4)
معجم مقاييس اللغة جـ 4 ص 402 طبعة دار إحياء الكتاب العربي الأولى.
(5)
الفائق في غريب الحديث جـ 2 ص 118 طبعة حيدر أباد.
(6)
بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز جـ 4 ص 154.
العرب إيصال الشر أو القتل إليه من حيث لا يعلم ولا يشعر. وقال أبو العباس: قتله غيلة إذا قتله من حيث لا يعلم. وفتك به إذا قتله من حيث تراه وهو غار غافل غير مستعد) (1)
(1) القاموس وشرحه تاج العروس جـ 8 ص 53.
ب- قتل الغيلة شرعا
اختلف العلماء في ضابط قتل الغيلة، هل يخص القتل عمدا عدوانا على مال ونحوه، أو يعم كل قتل عمد عدوان على غرة أو مع خداع بحيث يتعذر معه الخلاص، وفيما يأتي أقوال الفقهاء في ذلك:
قال العلامة علي بن سلطان القاري في قتل الغيلة: (هو أن يخدع ويقتل في موضع لا يراه فيه أحد، والغيلة فعلة من الاغتيال، وفي المغرب الغيلة القتل خفية، وفي القاموس: الغيلة بالكسر الذريعة والاغتيال، وقتله غيلة أي خدعه فذهب به إلى موضع فقتله)(1) وقال القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي (أصحابنا -أي المالكية - يوردونه - أي: قتل الغيلة - على وجهين: أحدهما القتل على وجه التحيل والخديعة، والثاني على وجه القصد الذي لا يجوز عليه الخطأ)(2) وقال العلامة قاسم بن عيسى بن ناجي التنوخي القروي (قال الفاكهاني عن أهل اللغة: قتل الغيلة هو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع خفي، فإذا صار فيه قتله) ومر إلى أن قال: (ونقل عن بعض أصحابنا، وأظنه البوني رحمه الله تعالى أنه اشترط في ذلك أن يكون القتل على مال، وأما الثائرة، وهي العداوة بينهما، فيجوز العفو فيه. قلت: ما ظنه عن البوني مثله نقل الباجي عن العتبية والموازية، قال: قتل الغيلة حرابة، وهو قتل الرجل خفية لأخذ ماله. قال: (ومن أصحابنا من يقول: هو القتل على وجه القصد الذي لا يجوز عليه الخطأ، وقبله ابن زرقون)(3).
(1) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 4 ص 19 طبعة بمبي.
(2)
المنتقى شرح الموطأ للباجي جـ 7 ص 116 طبعة مطبعة العادق الأولى.
(3)
شرح الرسالة لابن ناجي بهامش شرح زروق جـ 2 ص228 - 229.
و [قال الشيخ أحمد بن أحمد بن عيسى البرنس الفاسي المعروف بزورق: (قال أهل اللغة: قتل الغيلة أن يخدعه بالقول حتى يأمن فيمشي به إلى موضع فيقتله، يريد لأخذ ماله، لا لثأرة بينهما، وإلا فليس بغيلة، وفي النوادر عن الموازية: قتل الغيلة من الحرابة، أن يغتال رجلا أو صبيا فيخدعه حتى يدخل موضعا فيقتله ويأخذ ما معه. وقال اللخمي: من أخذ مال رجل بالقهر ثم قتله خوفا من أن يطلبه بما أخذ لم يكن محاربا، وإنما هو مغتال، ثم هذا إذا فعل ذلك خفية وإلا فليس بغيلة. اهـ (1).
وقال الحطاب: (قال - أي خليل - في التواضيح في باب الحرابة: الغيلة أن يخدع غيره ليدخله موضعا ويأخذ ماله. وقال أيضا: قال ابن رشد في رجل مرض وله أم ولد من سماع ابن القاسم من كتاب المحاربين: إن قتل الغيلة هو القتل على مال.
وقال القاضي علي بن عبد السلام التسولي (فأما الغيلة فهي من أنواع الحرابة وهي أن يقتله لأخذ ماله أو زوجته أو ابنته وكذا لو خدع كبيرا أو صغيرا فيدخله موضعا خاليا ليقلته ويأخذ ماله أو يخادع الصبي أو غيره ليأخذ ما معه)(2) وقال الشيخ محمد عرفة الدسوقي في شرح قول خليل في باب الحرابة من مختصره: (ومخادع أو غيره ليأخذ ما معه). قال الدسوقي بعد أن ذكر أن هذا القتل قتل غيلة: (وقتل الغيلة من الحرابة، ونص الجواهر قتل الغيلة من الحرابة، وهي أن يغتال رجلا أو صبيا فيخدعه حتى يدخله موضعا فيأخذ ما معه، فهو كالحرابة اهـ.
(1) شرح الرسالة لزروق جـ 2 ص 228 - 229 طبعة الطبعة الجمالية.
(2)
البهجة في شرح التحفة جـ2 ص 342.
قال طغى: تفسيرها بما ذكر يدل على أن القتل ليس شرطا فيها، وأن قتل الغيلة من الحرابة اهـ وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني:(قوله: " قتل غيلة" بكسر أوله أي: خديعة. والاغتيال: الأخذ على غفلة)(1) وقال الفقيه الشيخ مصطفى السيوطي الرحيباني: (وقتل الغيلة بكسر الغين المعجمة وهو القتل على غرة، كالذي يخدع إنسانا فيدخله بيتا أو نحوه أو غيره)(2) وقال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية: (أما إذا كان يقتل النفوس سرا لأخذ المال مثل الذي يجلس في خان يكريه لأبناء السبيل، فإذا انفرد بقوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم، أو يدعو إلى منزله من يستأجره لخياطة أو طب أو نحو ذلك فيقتله ويأخذ ماله، فهذا يسمى القتل غيلة)(3) 2 - خلاف الفقهاء فيما يوجبه من القتل حدا أو قودا وبيان ما يترتب على الخلاف من قبول العفو عن القاتل وعدمه:
اختلف أهل العلم فيما يوجبه قتل الغيلة ولمن الأمر فيه على قولين، أحدهما: القصاص أو الدية على حسب اختيار أولياء المقتول. والثاني: القتل، ويرجع فيه إلى السلطان. وفيما يلي ذكر نقول عن بعض من قال بكل واحد منهما، وأثر الخلاف مع الأدلة والمناقشة.
المذهب الأول: أن من قتل رجلا عمدا غيلة أو غير غيلة، فذلك إلى أولياء القتيل، فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا، وبهذا قال أبو حنيفة (4)
(1) هدي الساري جـ 1 ص 123 طبعة المنار.
(2)
مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهي جـ 6 ص 39.
(3)
السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ص 84 طبعة دار الكتاب العربي بمصر ط الثالثة.
(4)
الأم جـ 7 ص 299.
والشافعي (1) وابن قدامة (2) وابن حزم ومن وافقهم من أهل العلم. واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والأثر والمعنى.
(1) الأم جـ 7 ص 29.
(2)
المغني جـ 7 ص 648 وما بعدها.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (1) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (2) قال محمد بن الحسن الشيباني في توجيه الاستدلال بالآيتين قال: فلم يسم في ذلك قتل الغيلة ولا غيرها.
وقال ابن حزم بعد ذكره للآيتين وحديث من قتل له قتيل: بعد مقالتي هذه فأهله بين خيرتين، قال: إن الله تعالى لو أراد أن يختص من ذلك قتل الغيلة أو الحرابة لما أغفله ولا أهمله ولبينه صلى الله عليه وسلم (3) أما السنة فما أخرجه الترمذي بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لما فتح الله على رسوله مكة، قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يعفو، وإما أن يقتل (4)» . وقال الترمذي: وفي الباب عن وائل بن حجر وأنس وأبي شريح خويلد بن عمرو. ثم ساق بسنده إلى أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسفكن فيها دما - إلى أن قال: - ثم إنكم يا معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل وإني عاقله، فمن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين
(1) سورة الإسراء الآية 33
(2)
سورة البقرة الآية 178
(3)
المحلى جـ 7 ص 521.
(4)
سنن الترمذي الديات (1405).
إما أن يقتلوا أو يأخذوا العقل (1)» قال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.
وقال السهيلي في حديث أبي شريح: حديث صحيح، وإن اختلف الرواة (2) وممن استدل بحديث أبي شريح ابن حزم وابن قدامة. قال ابن حزم في توجيه الاستدلال: فذكر الدية أو القود أو المفاداة والدية لا تكون إلا بالعفو عن القود بلا شك، فعمم عليه الصلاة والسلام ولم يخص -وذكر أيضا - أن قتل الغيلة لو كان مخصوصا من ذلك لبينه صلى الله عليه وسلم (3) وما أخرجه البخاري وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كان في بني إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدية، فقال الله لهذه الأمة:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (4) إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (5) فالعفو أن تقبل الدية في العمد {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (6) يتبع الطالب بالمعروف ويؤدي إليه المطلوب بإحسان {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (7) مما كتب على من كان قبلكم {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} (8) قتل بعد قبوله الدية {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (9)
وجه الدلالة: قال ابن حجر العسقلاني في كلامه على رواية البخاري لهذا الحديث: استدل به الجمهور على جواز أخذ الدية في قتل العمد، ولو كان غيلة. . . (10) ويمكن أن الجمهور استدلوا بالحديث لما ذكره ابن حجر أخذا من عمومه في قتل الغيلة وغيره، وأنهم لم يطلعوا على مخصص يخرج قتل الغيلة من هذا العموم، فبقي العموم على أصله.
(1) صحيح البخاري العلم (104)، صحيح مسلم الحج (1354)، سنن الترمذي الديات (1406)، سنن النسائي مناسك الحج (2876)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 32).
(2)
الروض الأنف جـ 2 ص 278.
(3)
المحلى جـ 10 ص 520.
(4)
سورة البقرة الآية 178
(5)
سورة البقرة الآية 178
(6)
سورة البقرة الآية 178
(7)
سورة البقرة الآية 178
(8)
سورة البقرة الآية 178
(9)
سورة البقرة الآية 178
(10)
فتح الباري جـ 12 ص 176 وما بعدها.
وأما الأثر فما رواه الإمام الشافعي عن محمد عن محمد بن الحسن قال: أخبرنا أبو حنيفة رحمه الله عن حماد عن إبراهيم، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي برجل قد قتل عمدا، فأمر بقتله، فعفا بعض الأولياء، فأمر بقتله، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: كانت لهم النفس، فلما عفا هذا أحيا النفس، فلا يستطيع أن يأخذ حقه حتى يأخذ غيره. قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تجعل الدية عليه في ماله وترفع حصة الذي عفا. فقال عمر: وأنا أرى ذلك (1) أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن النخعي قال: من عفا من ذي سهم فعفوه عفو.
وجه الدلالة ما قاله الشافعي عن محمد بن الحسن: فقد أجاز عمر وابن مسعود العفو من أحد الأولياء، ولم يسألوا: أقتل غيلة كان ذلك أو غيره (2) وقال الشافعي بعد سياقه لهذين الأثرين ولكلام محمد بن الحسن: كل من قتل في حرابة أو صحراء أو مصر أو مكابرة أو قتل غيلة على مال أو غيره، أو قتل ثائرة فالقصاص والعفو إلى الأولياء وليس إلى السلطان من ذلك شيء إلا الأدب إذا عفا الولي (3).
وأما المعنى فقال ابن قدامة: إنه قتيل في غير المحاربة، فكان أمره إلى وليه كسائر القتل (4).
المذهب الثاني أنه لا يجوز العفو في قتل الغيلة، وإذا عفا الأولياء قتله السلطان، وممن قال بهذا القول مالك ومن وافقه على ذلك، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد أخذ سماحة مفتي الديار السعودي رحمه الله بهذا القول، وفيما يلي ذكر طائفة من النقول في ذلك عن بعض أهل العلم نذكر بعدها الأدلة.
(1) الرد على محمد بن الحسن للشافعي ضمن كتاب الأم جـ 7 ص 299.
(2)
الرد على محمد بن الحسن للشافعي ضمن كتاب الأم جـ 7 ص 299.
(3)
الرد على محمد بن الحسن للشافعي ضمن كتاب الأم جـ 7 ص 299.
(4)
المغني جـ 7 ص649.
قال الشافعي: وقال أهل المدينة: إذا قتله غيلة من غير ثائرة ولا عداوة فإنه يقتل، وليس لولاة المقتول أن يعفوا عنه، وذلك إلى السلطان يقتل فيه القاتل (1) وقال ابن حجر: وألحقه مالك بالمحارب؛ فإنه الأمر فيه إلى السلطان، وليس للأولياء العفو عنه، وهذا على أصله في أن حد المحارب القتل إذا رآه الإمام (2) وقال ابن القاسم:(قتل الغيلة أيضا من الحرابة، مثل أن يغتال رجل صبيا فيخدعه حتى يدخله موضعا فيأخذ ما معه فهو كالحرابة) وقال سحنون: (قلت - أي لابن القاسم -: أرأيت إن قتل رجل وليا لي قتل غيلة فصالحته على الدية، أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: لا، إنما ذلك إلى السلطان، ليس لك هاهنا شيء، وترد ما أخذت منه، ويحكم عليه السلطان بحكم المحارب. قلت: وهذا قول مالك. قال: أما في القتل فكذلك قال لي مالك وفي الصلب. وأما في الصلح فإنه لا يجوز، وهو رأي؛ لأن مالكا قال: ليس لولاة الدم فيه قيام بالدم مثل العمد، وإنما ذلك إلى الإمام يرى فيه رأيه، يقتله على ما يرى من أشنع ذلك).
(1) الرد على محمد بن الحسن للشافعي ضمن كتاب الأم جـ 7 ص 299.
(2)
فتح الباري جـ 12 ص 210.
وقال أحمد بن غنيم بن سالم بن مهنا النغراوي المالكي على قول ابن أبي زيد: " لا عفو فيه " قال: لا للأولياء ولا للسلطان ولا للمقتول أيضا، ولو بعد إنفاذ مقاتله، ولو كان المقتول كافرا والقاتل حرا مسلما (1).
وقال الشيخ علي الصعيدي العدوي في شرح الرسالة على قوله: (وقتل الغيلة لا عفو فيه) قال: لا للمقتول ولا للأولياء ولا للسلطان، ظاهر كلامه، ولو كان المقتول كافرا، وهو كذلك في المدونة (2).
وقال به أحمد بن جزي (3) وأحمد الدردير (4) وأحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي المعروف بزروق (5) ونقل ابن مفلح عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا يصح العفو في قتل الغيلة لتعذر الاحتراز كالقتل (6).
وقال ابن القيم: قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا، فلا يسقطه العفو ولا تعتبر فيه المكافأة - قال أيضا: - وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد، اختاره شيخنا وأفتى به (7) وأما سماحة مفتي الديار السعودية رحمه الله فقد كتب في قضية امرأة قتلت زوجها غيلة خطابا إلى إمارة منطقة الرياض بعدد 365 وتاريخ 21/ 6 / 79 جاء فيه ما نصه: إنه بناء على اعترافها وكون قتلها للرجل، فإنه يتحتم قتلها، وحيث الحال ما ذكره فإنه لا يلتفت إلى ما أبداه الأولياء ووكيل الأم، بل لا بد من قتلها شرعا لأجل حق الله - ثم ساق كلام شيخ الإسلام وابن القيم السابق. واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والأثر والمعنى.
(1) كفاية الطالب شرح رسالة بن أبي زيد جـ 2.
(2)
شرح الرسالة ابن أبي زيد لزروق ج 2 ص 299.
(3)
قوانين الأحكام ص 375.
(4)
شرح مختصر خليل جـ 4 ص 211 ومعه حاشية الدسوقي.
(5)
شرح رسالة ابن أبي زيد جـ 2 ص 299.
(6)
الفروع جـ 5 ص 69.
(7)
زاد المعاد جـ 3 ص 79.
أما الكتاب فقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (1) الآية. قال ابن القاسم: وقتل الغيلة من الحرابة (2) وهو قول مالك.
وقد أجاب ابن حزم عن ذلك فقال: وجدنا أن الله تعالى قد حد الحرابة أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض. فلا تخلو هذه الآية أن تكون على الترتيب أو التخيير، فإن كانت على الترتيب فالمالكيون لا يقولون بهذا، وإن كانت على التخيير وهو قولهم فليس في الآية ما يدعونه من أن قاتل الحرابة والغيلة لا خيار فيه لولي القتيل، فخرج قولهم أن يكون له متعلق أو سبب يصح، فبطل ما قالوه (3)
(1) سورة المائدة الآية 33
(2)
تبصرة الحكام جـ 2 ص 243.
(3)
المحلى جـ 10 ص 520.
وأما السنة فمن ذلك ما يلي:
أ- ما أخرجه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال «لما قدم رهط من عرينة وعكل على النبي صلى الله عليه وسلم اجتووا المدينة، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو خرجتم إلى إبل الصدقة فشربتم من أبوالها وألبانها. ففعلوا، فلما صحوا عمدوا إلى الرعاة فقتلوهم واستاقوا الإبل وحاربوا الله ورسوله، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فأخذوا، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم في الشمس حتى ماتوا (1)» .
قال ابن القيم: وهذا الحديث - أيضا - يدل على أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا، فلا يسقطه العفو ولا تعتبر فيه المكافأة (2).
(1) صحيح البخاري الحدود (6802)، صحيح مسلم كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671)، سنن الترمذي الطهارة (72)، سنن النسائي تحريم الدم (4025)، سنن أبو داود الحدود (4364)، سنن ابن ماجه الحدود (2578)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 198).
(2)
زاد المعاد جـ 3 ص 79.
وقد أجاب ابن حزم عن الاستدلال بهذا الحديث بعد جوابه عن حديث اليهودي الذي رض رأس الجارية بين حجرين فقال: وأما حديث العرنيين فلا حجة لهم فيه أيضا؛ لما ذكرنا في هذا الخبر سواء بسواء من أنه ليس فيه أنه ليس فيه أنه عليه الصلاة والسلام لم يشاور أولياء الرعاء إن كان لهم أولياء، ولا أنه قال: لا خيار في هذا لولي المقتول، فإذا ليس فيه شيء من هذا، فلا حجة لهم ولا لنا بهذا الخبر في هذا المسألة خاصة، فوجب علينا طلب حكمها بموضع آخر.
ثم هذا الخبر حجة عليهم لما روينا من طريق مسلم، نا يحيى بن يحيى التميمي، نا هشيم، عن عبد العزيز بن صهيب، وحميد عن أنس، أن أناسا من عرينة قدموا. وذكر الحديث، وفيه أنهم «قتلوا الرعاء وارتدوا عن الإسلام - وساقوا ذود رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا (1)» .
قال أبو محمد: فهؤلاء ارتدوا عن الإسلام، والمالكيون هم على خلاف هذا الحكم من وجوه ثلاثة: أحدها أنه لا يقتل المرتد عندهم ولا عندنا هذه القتلة أصلا. والثاني: لا يقتص عندهم من المرتد وإنما هو عندهم القتل أو الترك إن تاب. والثالث: أنهم يقولون باستتابة المرتد، وليس في هذا الحديث ذكر استتابته ألبتة، فعاد حجة عليهم ومخالفا لقولهم في هذه المسألة وغيرها (2) وذكر جوابا آخر بقوله: قد يمكن أن يكونوا غرباء لا ولي لهم (3) ب - ما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك «أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين على أوضاح لها أو حلي، فأخذ واعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين (4)» .
قال ابن القيم في أثناء الكلام على فقه هذا الحديث قال: وإن قتل الغيلة لا يشترط فيه إذن الولي؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدفعه إلى
(1) صحيح البخاري الديات (6899)، صحيح مسلم كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671)، سنن الترمذي الطهارة (72)، سنن النسائي الطهارة (305)، سنن أبو داود الحدود (4364)، سنن ابن ماجه الحدود (2578)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 163).
(2)
المحلى جـ 10 ص 520.
(3)
المحلى جـ 10 ص 521.
(4)
صحيح البخاري الخصومات (2413)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1672)، سنن الترمذي كتاب الديات (1394)، سنن النسائي القسامة (4779)، سنن أبو داود الديات (4529)، سنن ابن ماجه الديات (2666)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 203)، سنن الدارمي الديات (2355).
أوليائها، ولم يقل: إن شئتم فاقتلوه، وإن شئتم فاعفوا عنه، بل قتله حتما. وأورد رحمه الله اعتراضا وأجاب عنه فقال: ومن قال: إنه فعل ذلك لنقض العهد لم يصح؛ فإن ناقض العهد لا يرض رأسه بالحجارة، بل يقتل بالسيف (1) وقد يقال: إن هذا الحديث يدل على قتل الرجل بالمرأة قصاصا.
وأجاب عن ذلك الأبي فقال: في الاحتجاج به على ذلك ضعف؛ لأن قتله لها إنما كان غيلة، وقتل الغيلة حرابة (2).
وقد أجاب ابن حزم أيضا عن الاحتجاج بهذا الحديث فقال: أما حديث اليهودي الذي رضخ رأس الجارية على أوضاحها فليس فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشاور وليها ولا أنه شاوره ولا أنه قال اختار لولي المقتول في الغيلة أو الحرابة، فإذا لم يقل ذلك عليه الصلاة والسلام فلا يحل لمسلم أن ينسب ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكذب عليه ويقول عليه ما لم يقل، فكيف وهذا الخبر حجة عليهم، فإنهم لا يختلفون في أن قاتل الغيلة أو الحرابة لا يجوز ألبتة أن يقتل رضخا بالحجارة وحدها، وهذا لا يقوله أحد من الناس، فصح يقينا إذ قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم رضخا بالحجارة أنه إنما قتله قودا بالحجارة وإذا قتله قودا بها فحكم قتل القود أن يكون بالخيار في ذلك أو العفو للولي. وإذ ذلك كذلك بلا شك فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين (3)» . إلى آخره، فنحن على يقين من أن فرضا على كل أحد أن يضم هذا الحكم إلى هذا الخبر، وليس سكوت الرواة عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وليه يسقط ما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتل من تخيير وليه، بل بلا شك في أنه عليه الصلاة والسلام لم يخالف ما أمر به. ولا يخلو هذا مما ذكرنا من قبول الزيادة المروية في سائر النصوص أصلا. ولو كان هذا الفعل تخصيصا أو فسخا لبينه عليه الصلاة والسلام،
(1) زاد المعاد جـ 3 ص200.
(2)
إكمال أكمل المعلم شرح صحيح مسلم جـ 4 ص 413 - 414.
(3)
سنن الترمذي الديات (1406)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 32).
فبطل تعلقهم به (1). وذكر جوابا آخر بقوله: قد يكون للأنصارية ولي صغير لا خيار له فاختار النبي صلى الله عليه وسلم القود، لو صح أنه عليه الصلاة والسلام لم يخير الولي فكيف وهو لا يصح أبدا (2).
جـ - ما رواه البيهقي بسنده إلى الواقدي، وسنده عند الواقدي: حدثني اليمان بن معن، عن أبي وجزة في ذكر من قتل بأحد من المسلمين، قال: مجذر بن زياد قتله الحارث بن سويد غيلة، «وكان من قصة مجذر بن زياد أنه قتل سويد بن الصامت في الجاهلية، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم الحارث بن سويد بن الصامت فشهدا بدرا، فجعل الحارث يطلب مجذرا ليقتله بأبيه، فلم يقدر عليه يومئذ، فلما كان يوم أحد وجال المسلمون تلك الجولة، أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم خرج إلى حمراء الأسد، فلما رجع أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أن الحارث بن سويد قتل مجذر بن زياد غيلة، وأمره بقتله، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء، فلما رآه دعا عويم بن ساعدة فقال: قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد فاضرب عنقه بالمجذر بن زياد؛ فإنه قتله يوم أحد غيلة. فأخذه عويم، فقال الحارث: دعني أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى عليه عويم فجابده يريد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يركب - إلى أن قال -: حتى إذا استوعب كلامه قال: قدمه يا عويم فاضرب عنقه. فضرب عنقه (3)» .
وقد اعترض على الاستدلال بهذا الحديث بقول الشافعي: ولو كان حديثه
(1) المحلى جـ 10 ص 520
(2)
المحلى جـ 10 ص 521
(3)
السنن الكبرى جـ 8 ص 57 وقد بسطت القصة في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم للواقدي ص 234 - 236
- أي حديث مجذر هذا - مما يثبت قلنا به، فإن ثبت فهو كما قال، ولا أعرفه إلى يومي هذا (1) وقول البيهقي: إنما بلغنا قصة مجذر بن زياد من حديث الواقدي منقطعا وهو ضعيف (2).
وأما الآثار فمن ذلك ما يلي: أ- ما روى مالك عن يحيى بن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه غيلة، وقال عمر: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا (3). وقد ذكره البخاري من طريق آخر فقال: قال لي ابن بشار: حدثنا يحيى بن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن غلاما قتل غيلة، فقال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به.
ب - ما رواه ابن حزم قال: وذكروا ما حدثناه أحمد بن عمر نا الحسين بن يعقوب نا سعيد بن فلحون نا يوسف بن يحيى المعافري نا عبد الملك بن حبيب عن مطرف عن ابن أبي ذئب عن مسلم بن جندب الهذلي أن عبد الله بن عامر كتب إلى عثمان بن عفان أن رجلا من المسلمين عدا على دهقان فقتله على ماله، فكتب إليه عثمان أن اقتله به؛ فإن هذا قتل غيلة على الحرابة. جـ - وبه - أي بالسند السابق - إلى عبد الملك بن حبيب عن مطرف عن خاله الحارث بن عبد الرحمن أن رجلا مسلما في زمان أبان بن عثمان بن عفان قتل نبطيا بذي حميت على مال معه، فرأيت أبان بن عثمان أمر بالمسلم فقتل بالنبطي لقتله إياه غيلة، فرأيته حتى ضرب عنقه.
(1) السنن الكبرى جـ 8 ص 56.
(2)
السنن الكبرى جـ 8 ص 57.
(3)
الموطأ رواية يحيى بن يحيى الليثي بشرح الباجي جـ 7 ص 115
د- وعن عبد الملك بن حبيب، عن مطرف بن أبي الزناد، عن أبيه أنه شهد أبان بن عثمان إذ قتل مسلما بنصراني قتله غيلة.
وقد أجاب ابن حزم عن أثر عثمان بقوله: وأما الرواية عن عثمان فضعيفة جدا؛ لأنها عن عبد الملك بن حبيب، وهو ساقط الرواية جدا، ثم عن مسلم بن جندب، ولم يدرك عثمان، وأيضا فلا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فكم قصة خالفوا فيها عثمان رضي الله عنه بأصح من هذا السند كقضائه في ثلث الدية فيمن ضرب آخر حتى سلح، ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة رضي الله عنهم ومن المحال أن يكون ما لم يصح عنه حجة في إباحة الدماء ولا يكون ما صح عنه حجة في غير ذلك (1).
وأما المعنى فإن قتل الغيلة حق لله، وكل حق تعلق به حق الله تعالى فلا عفو فيه كالزكاة وغيرها (2). ولأنه يتعذر الاحتراز منه كالقتل مكابرة (3). وقد تبين مما تقدم أن أثر الخلاف بين الفريقين قبول العفو من أولياء الدم بناء على القول بأنه يقتل قصاصا، وعدم قبول العفو بناء على القول بأنه يقتل حدا.
(1) المحلى جـ 10 ص 521
(2)
شرح الرسالة لابن أبي زيد القيراوني لزروق جـ 2 ص 229
(3)
الفروع جـ 5 ص 669