الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إدارى حازم حصيف. وجهاد، وفتوح عشر مناطق شاسعة، إحداها الأهواز فهو قائد لامع قدير.
لا عجب أن يقول عمر عن أبي موسى: "إنه كيس (1) "، ويقول عنه الحسن البصري:"ما أتاها راكب -يعني البصرة - خير لأهلها منه (2) ".
ومضت القرون الطويلة، والكلمات التي قيلت في أبي موسى باقية، لأنها كلمات صادقة، ولأن الذي قيلت فيه يستحقها.
إن في ذلك لعبرة، فهل من معتبر!!
(1) طبقات ابن سعد (2/ 745).
(2)
الإصابة (4/ 120).
الورع
صنفان من الناس يصعب الكتابة عنهم: الذين لهم ثروة عظيمة من الأعمال العظيمة، والذين لم يصنعوا شيئا في حياتهم له قيمة مادية أو معنوية. والصعوبة في الصنف الأول الحيرة في انتقاء الأعمال التي يمكن أن توصف، والصعوبة في الصنف الثاني الحيرة في إخفاء الخواء الذي لا يمكن أن يعرف.
وأبو موسى من الصنف الأول الذي تتسم كل حياته بالورع، فما يدري الذي يكتب سيرته ما يأخذ وما يدع، وقد حسبت أن أبسط فقرة من فقرات سيرته هي الحديث عن ورعه، ولكنني احترت حين وصلت هذه الفقرة لتزاحم أعماله التي كانت نتيجة من نتائج ورعه، فما أدري ما أغفل ولا أدري ما أسجل.
لقد كان أبو موسى بعد إسلامه وإقباله على تعلم القرآن الكريم، معلما للقرآن الكريم وللفقه الإسلامي، وظل معلما وهو أمير ومجاهد وقائد، لم
تشغله واجبات الإمارة والجهاد والقيادة عن واجبه الأصلي وهو التعليم، فكان معلما في بيته، معلما في ديوانه، معلما مع رفاقه في السلاح، معلما في قيادته. وكما كان يعلم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والفقه الإسلامي، كان يعلم الورع في بيته وفي ديوانه، ومع المجاهدين، وفي مقر قيادته.
والورع لا يمكن أن يعلم بالأفكار النظرية، بل يعلم بالسلوك العلمي، فهو مما لا يمكن تعليمه بالكتب، بل بالقدوة الحسنة، فتنتقل سمات الورع من نفس إلى نفس بالعدوى التي تنبعث عن القدوة الحسنة، كما ينتقل العلم من عقل إلى عقل بالتلقي الذي يصدر عن الكتب، فكان أبو موسى معلم كتاب يصقل العقول بالعلم، ومعلم تقوى يصقل النفوس بالورع.
ومضى أبو موسى إلى ربه، وبقي منه ورعه المسجل في الكتب، ولا تفيد كتب الورع كما يفيد شيوخ الورع، لأن الكتب تخاطب العقول والشيوخ يناغون القلوب، وليس من رأى كمن سمع، ولكن عسى أن ينتفع بورع أبي موسى المكتوب أهل القلوب، وما لا يدرك كله لا بأس بالانتفاع ببعضه، فشيء مهما يقل أفضل من لا شيء.
فقد جعل أبو موسى من نفسه أسوة حسنة لأهله، قال أنس بن مالك: "قال الأشعري وهو على البصرة: جهزني فإني خارج يوم كذا وكذا، وجعلت أجهزه، فجاء ذلك اليوم وقد بقي من جهازه شيء لم أفرغ منه، فقال: يا أنس! إني خارج. فقلت: لو أقمت حتى أفرغ من بقية جهازك.
فقال: إني قد قلت لأهلي: إني خارج يوم كذا وكذا، وإني إن كذبت أهلي كذبوني، وإن خنتهم خانوني، وإن أخلفتهم أخلفوني، فخرج وقد بقي من حوائجه بعض شيء لم يفرغ منه (1) ".
وفي الصحيحين: البخاري ومسلم، من حديث أبي موسى قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، ونخن ستة نفر على بعير
(1) طبقات ابن سعد (4/ 111) وحلية الأولياء (1/ 259).
نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت: غزوة ذات الرقاع؛ لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق ". قال أبو بردة بن أبي موسى: "فحدث أبو موسى بهذا الحديث، ثم كره ذلك وقال: ما كنت أصنع بأن أذكره، (4)» كأنه كره أن يكون شيئا من عمله أفشاه، وما أفشى أبو موسى شيئا من عمله ليفاخر به أو لينال سمعة وشرفا، فقد كان ذلك معروفا مشهورا، لكنه أراد أن يعلم أهله والمسلمين كيف أصبح حال النبي صلى الله عليه وسلم وحال أصحابه من فقر وتقشف، وكيف أصبح عليه حال المسلمين بعد الفتوح من غنى وترف، فهو يريد لهم التقشف ويحذرهم الترف الذي يؤدي بهم إلى التفسخ والانحلال.
وعن القدوة الحسنة في الجليس الصالح، خطب أبو موسى يوما فقال: إن الجليس الصالح خير من الوحدة، والوحدة خير من الجليس السوء، ومثل الجليس الصالح كمثل صاحب العطر إلا يحذك يعبق بك من ريحه، ألا وإن مثل الجليس السوء كصاحب الكير إلا يحرق ثيابك يعبق من ريحه، ألا وإنما سمي القلب من تقلبه، وإن مثل القلب كمثل ريشة بأرض فضاء تضربها الريح ظهرا لبطن، ألا وإن من ورائكم فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا والقاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب"، قالوا: فما تأمرنا؟ قال:
(1) صحيح البخاري المغازي (4128)، صحيح مسلم الجهاد والسير (1816).
(2)
نعتقبه: أي نركبه عقبة بأن يركب هذا قليلا ثم ينزل، فيركب الآخر بالنوبة، حتى يأتي على آخرهم. (1)
(3)
نقبت أقدامنا: أي رقت، يقال: نقب البعير: إذا رق خفه، وذلك من الخفاء. (2)
(4)
صفة الصفوة (1/ 225 - 226) واللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (474). (3)
"كونوا أحلاس (1) البيوت (2) "، فكل قرين بقرينه يقتدي، منه يقتبس، وبه يتأثر.
وعن أبي بردة بن أبي موسى قال: "حدثتني أمي قالت: خرج أبو موسى حين نزع عن البصرة، وما معه إلا ستمائة درهم عطاء عياله (3) "، وهذا مثال رفيع للنزاهة، ينبغي أن يقتضي به أهله والمسلمون كافة حكاما ومحكومين، وبخاصة وأنه كان أمير البصرة وقائدا لجيوشها في أيام مد الفتح الإسلامي، حيث أصبح المجاهدون في يسر وغنى، بعد أن كان آباؤهم في عسر وفقر.
وكان أبو موسى يقول: "إنما أهلك من كان قبلكم هذا الدينار والدرهم، وهما مهلكاكم "(4) فما خرب ضمائر كثير من الناس غير المال الحرام.
وبلغ أبا موسى أن ناسا يمنعهم من صلاة الجمعة أن لا ثياب لهم، فلبس عباءة ثم خرج فصلى بالناس (5)، وهو أمير.
وعن أنس بن مالك أنه قال: "كنا مع أبي موسى في مسير له، فسمع الناس يتحدثون، فسمع فصاحة، فقال: ما لي يا أنس! هلم فلنذكر ربنا، فإن هؤلاء يكاد أحدهم أن يفري الأديم (6) بلسانه. ثم قال: يا أنس! ما أبطأ بالناس عن الآخرة، وما ثبرهم عنها (7)؟ قلت: الشهوات والشيطان. قال: لا والله! ولكن عجلت لهم الدنيا وأخرت الآخرة، ولو عاينوا ما عدلوا وما ميلوا (8) وصدق أبو موسى، فالناس أو أكثرهم
(1) أحلاس: جميع حلس، يقال: حلس بيته: لا يبرحه.
(2)
صفة الصفوة (1/ 266).
(3)
طبقات ابن سعد (1/ 111).
(4)
حلية الأولياء (1/ 261).
(5)
طبقات ابن سعد (4/ 112 - 113) وحلية الأولياء (1/ 259).
(6)
يفري الشيء: شقه، فتته. الأديم: الجلد. ويفرى الأديم: يشقه، يفتته.
(7)
ثبرهم عنها: صدهم عنها ومنعهم من طاعة الله، والثبر: الحبس.
(8)
حلية الأولياء (1/ 259).
يحبون العاجلة، وقديما قالوا:"عصفور في اليد، خير من عشرة على الشجرة "، والمؤمن كأبي موسى يؤثر الآخرة على الدنيا، وما عند الله على ما عند الناس.
وذكر أحد الثقاة الذين صاحبوا أبا موسى في سفره، فقال:"كنا مع أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه في سفر، فآوانا الليل إلى بستان حرث فنزلنا فيه، فقام أبو موسى من الليل يصلى- وذكر من حسن صوته ومن حسن قراءته- ثم قال: وجعل لا يمر بشيء إلا قاله ثم قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام، وأنت المؤمن تحب المؤمن، وأنت المهيمن تحب المهيمن، وأنت الصادق تحب الصادق (1) "، وقد كان أبو موسى مؤمنا صادقا حقا.
وكان أبو موسى يتوخى اليوم الحار الشديد الذي يكاد ينسلخ فيه الإنسان، فيصومه (2)، تقربا إلى الله.
وصام أبو موسى حتى عاد كأنه خلال (3)، فقيل له:"لو أجممت (4) نفسك "، فقال:"أيهات (5)، إنما يسبق من الخيل المضمرة (6) "، وربما خرج من منزله فيقول لامرأته:"شدي رحلك فليس على جسر جهنم معبر "(7)، يريد: أن العمل الصالح هو السبيل للنجاة من جهنم، ولا يكون إلا بالتعب والدأب والإيمان.
وكان إذا نام، لبس ثيابا عند النوم مخافة أن تنكشف عورته (8)، وكان
(1) حلية الأولياء (1/ 259)، وقد ذكر ذلك مسروق.
(2)
حلية الأولياء (1/ 260) وصفة الصفوة (1/ 227).
(3)
الخلال: العود الذي يتخلل به، أي أنه أصبح ضعيفا كالخلال.
(4)
أجممت نفسك: أراح نفسه فذهب إعياؤه.
(5)
أيهات: هيهات.
(6)
ضمر: هزل وقل لحمه. وأضمر: جعله يضمر.
(7)
صفة الصفوة (1/ 227). والمعبر: الشط المهيأ للعبور. والمعبر: ما يعبر به النهر من قنطرة أو سفينة.
(8)
طبقات ابن سعد (4/ 111).
يقول: "إني لأغتسل في البيت المظلم، فأحني ظهري حياء من ربي "، وكان إذا صلى في بيت مظلم، تجاذب وحنى ظهره حتى يأخذ ثوبه ولا ينتصب قائما، وكان يقول:"إني لأغتسل في البيت الخالي، فيمنعني الحياء من ربى أن أقيم صلبي". ورأى قوما يقفون في الماء بغير أزر، فقال:"لأن أموت ثم أنشر، أحب إلى من أن أفعل مثل هذا"(1)، وهذا دليل على شدة حيائه.
وكان أبو موسى ممن يتقنون قراءة القرآن من الصحابة، ويتميز بحسن صوته في القراءة، وقد «مر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عائشة رضي الله عنها ذات ليلة، وأبو موسى يقرأ القرآن في بيته، فقاما فاستمعا لقراءته، ثم إنهما مضيا فلما أصبح لقي أبو موسى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: "يا أبا موسى! مررت بك البارحة ومعي عائشة وأنت تقرأ في بيتك، فقمنا فاستمعنا لقراءتك "، فقال أبو موسى: "يا نبي الله! أما إني لو علمت بمكانك، لحبرت لك القرآن تحبيرا (3)» ، وقد أصبح معلما للقرآن الكريم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده، وأصبحت له مدرسة في القراءة القرآنية في البصرة، يتمسكون بها، ويدافعون عنها، ويتحيزون لها.
وكان لشدة ورعه يقول: "لئن يمتلئ منخري من ريح جيفة، أحب إلى من أن يمتلئ من ريح امرأة (4) "، بالحرام طبعا، أما بالحلال فالأمر مختلف جدا. وقال أبو موسى لرجل:"ما لي أرى عينك نافرة؟! "، فقال: "إني التفت التفاتة، فرأيت جارية لبعض الجيش، فلحظتها لحظة فصككتها (5)
(1) طبقات ابن سعد (4/ 113 - 114).
(2)
حلية الأولياء (1/ 258).
(3)
حبر الشيء: زينه ونقمه. (2)
(4)
طبقات ابن سعد (4/ 114).
(5)
صكه: دفعه بقوة، ويريد: نظرت إليها بقوة. وفي التنزيل العزيز: فصكت وجهها لطمته تعجبا.
صكة، فنفرت، فصارت إلى ما ترى"، فقال: "استغفر ربك، ظلمت عينك، إن لها أول نظرة، وعليك ما بعدها (1) "، يريد الابتعاد عن إمعان النظر في أعراض الناس خوف الفتنة، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
وقال أبو بردة بن قيس أخو أبي موسى: "قلت لأبي موسى الأشعري في طاعون وقع: اخرج بنا إلى وابق (2) نبدو (3) بها، فقال أبو موسى: "إلى الله آبق (4)، لا إلى وابق (5) "، فهو متوكل على الله وهو حسبه، والتوكل مزية من مزايا الورع، والورع حال من أحواله.
وطالما أتحف الناس من حوله بوعظه ومواعظه في دروسه وخطبه، فمن خطبه في البصرة قوله:"أيها الناس، ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون الدموع حتى تنقطع، ثم يبكون الدماء حتى لو أجري فيها السفن لسارت"(6)، يريد أن يخوفهم من أهوال النار ليشجعهم على العمل الصالح الذي يدخلهم الجنة.
وجمع أبو موسى القراء يوما، فقال:"لا تدخلوا علي إلا من جمع القرآن "، فدخل عليه زهاء ثلاثمائة من القراء، فوعظهم قائلا:"أنتم قراء أهل البلدة فلا يطولن عليكم الأمد، فتقسو قلوبكم كما قست قلوب أهل الكتاب "(7)، فقد نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم، لما تطاول عليهم الأمد، بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم واشتروا به ثمنا قليلا، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء
(1) حلية الأولياء (1/ 261).
(2)
وابق: لم أجد لها ذكرا في معجم البلدان، ويبدو أنها اسم موضع في البادية القريبة.
(3)
نبدو: نخرج إلى البادية.
(4)
أبق: هرب، فهو آبق وأبوق.
(5)
طبقات ابن سعد (4/ 111).
(6)
طبقات ابن سعد (4/ 110).
(7)
حلية الأولياء (1/ 257).
المختلفة والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد (1)، فهو يشير بموعظته إلى الآية الكريمة:{كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (2).
ومن مواعظه قوله: "تخرج نفس المؤمن وهي أطيب ريحا من المسك، فتصعد بها الملائكة الذين يتوفونها، فتلقاهم ملائكة دون السماء، فيقولون: من هذا معكم؟ فيقولون: فلان، ويذكرونه بأحسن عمله، فيقولون: حياكم الله وحيا من معكم، فتنفتح له أبواب السماء، فيشرق وجهه، فيأتي الرب عز وجل ولوجهه برهان مثل الشمس. وأما الآخر، فتخرج روحه وهي أنتن من الجيفة، فتصعد بها الملائكة الذين يتوفونها، فتلقاهم ملائكة دون السماء، فيقولون: من هذا معكم؟! فيقولون: فلان، ويذكرونه بأسوأ عمله، فيقولون: ردوه فما ظلمه الله شيئا "(3)، وقرأ أبو موسى:{وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} (4).
وصلى أبو موسى يوما، ثم خرج إلى الناس، فقال:"يا أيها الناس! إنكم اليوم في زمان للعامل فيه لله تعالى أجر، وسيكون بعدكم زمان يكون للعامل فيه لله تعالى أجران (5) "، يريد: أنكم من التابعين قريبون من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ورأيتم قسما من أصحابه، فأنتم متأثرون بذلك فلكم أجر واحد، لأن ظروفكم أفضل من زمان يدب إليه الفساد، فيكون للعامل فيه أجران، لقلة العاملين، وسوء ظروفهم، وفساد الناس.
(1) تفسير ابن كثير (8/ 232 - 233).
(2)
سورة الحديد الآية 16
(3)
حلية الأولياء (1/ 262).
(4)
سورة الأعراف الآية 40
(5)
حلية الأولياء (1/ 264).
وكثيرا ما كان يعتمد الأسلوب القصصي في مواعظه، ليعمق تأثيرها في العقول والنفوس معا، فلما حضرته الوفاة قال:"يا بني! اذكروا صاحب الرغيف! كان رجل يتعبد في صومعة إزاء سبعين سنة، لا ينزل إلا في يوم واحد فشبه الشيطان في عينه امرأة، فكان معها سبعة أيام أو سبع ليال، ثم كشف عن الرجل غطاؤه فخرج تائبا، فكان كلما خطا خطوة صلى وسجد. فآواه الليل إلى دكان كان عليه اثنا عشر مسكينا، فأدركه العياء، فرمى بنفسه بين رجلين منهم، وكان ثم راهب يبعث إليهم كل ليلة بأرغفة، فيعطي كل إنسان رغيفا، فجاء صاحب الرغيف فأعطي كل إنسان رغيفا، ومر على ذلك الرجل الذي خرج تائبا، فظن أنه مسكين، فأعطاه فقال المتروك لصاحب الرغيف: ما لك لم تعطني رغيفي ما كان بك عنه غنى؟ فقال: أتراني أمسكته عنك، والله لا أعطيك شيئا، فعمد التائب إلى الرغيف الذي دفعه إليه، فدفعه إلى الرجل الذي ترك، فأصبح التائب ميتا، فوزنت السبعون سنة. . بالسبع الليالي، فرجحت السبع الليالي، ثم وزنت السبع الليالي بالرغيف، فرجح الرغيف! فيا بني! اذكروا صاحب الرغيف! "(1).
ومن أقواله: "ومن ينتظر من الدنيا، إلا كلا محزنا، أو فتنة تنتظر (2) "، في وصف الدنيا التي لا تأتي إلا بالمصائب والأحزان، ولا يجدي معها إلا الصبر الجميل.
ولا يمكن التخلي عن فقرة ورعه، دون تذكر موقفه من الفتنة الكبرى واعتزاله القتال دون أن يتخلى عن علي بن أبي طالب لأنه الخليفة، ولا عن الكوفة لأنها مقر الخلافة، فكان ولاؤه لعلي في كل شيء إلا القتال، لأن الاقتتال كان بين المسلمين، وورعه يحول دون أن يقاتل مسلما أو يقتل
(1) حلية الأولياء (1/ 263) وصفة الصفوة (1/ 227 - 228).
(2)
حلية الأولياء (1/ 260).
مسلما، أو يشجع على الاقتتال بين المسلمين، أو يسكت عن هذا الاقتتال ولا يأمر بأعلى صوته وبأصرح عبارته بالكف عن الاقتتال.
وقد ضحى بسبب اعتزاله الفتنة، وأمره بالابتعاد عنها ومقاومتها، بمنصبه وحظوته وبكل المظاهر الدنيوية، لأن التزامه بالورع كان أغلى عليه من كل ما في الدنيا من مناصب ومظاهر ومتاع.
كما أن موقفه في التحكيم، أملاه عليه ورعه، وما غلبه عمرو بن العاص، بل غلبه ورعه، فخسر كل ما يملك، وهام على وجهه هاربا، حتى استقر في مكة مبتعدا عن العدو والصديق، إن كان قد أبقى له قول الحق صديقا.
ولم يحقد معاوية على أبي موسى، أنه كان متيقنا أنه كان يتصرف بوحي ورعه، فحفظ له حرمته في حياته وبعد موته. قال أبو بردة (1):"دخلت على معاوية بن أبي سفيان حين أصابته قرحته، فقال: هلم يا ابن أخي، تحول فانظر، فتحولت فنظرت فإذا هي قد سبرت (2) -يعنى قرحته- فقلت: ليس عليك بأس يا أمير المؤمنين، فدخل يزيد بن معاوية، فقال له معاوية: إن وليت من أمر الناس شيئا، فاستوص بهذا، فإن أباه كان أخا لي، غير أني قد رأيت من القتال ما لم ير"(3).
وهذا هو منتهى الاستقامة والثبات على المبدأ، لا يميل مع الريح حيث تميل، ولكن يبقى مع الحق وحده، مهما يتحمل في سبيل الحق من أهوال.
هذا هو مبلغ ورع أبي موسى، لذلك كان موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده، وقد كتب عمر في وصيته: "أن لا يقر لي عامل
(1) أبو بردة بن أبي موسى الأشعري.
(2)
سبرت: غارت.
(3)
طبقات ابن سعد (4/ 112).
أكثر من سنة، إلا أبا موسى فليقر أربع سنين (1) ". كما كان موضع ثقة الناس به. وقد يكون أول عامل اختاره الناس عاملا على بلدهم بعد أن رفضوا استقبال عاملهم السابق، وحملوا الخليفة على توليته عليهم وإعفاء عاملهم الذي كان قبله.
والقول بأن المناصب تولى لذوي الكفايات العالية، بحيث يكون الرجل المناسب في المنصب المناسب، قول لا غبار عليه، يتفق اتفاقا كاملا مع ما كان عليه الأمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده.
ولكن هذا القول لا يغني عن كل قول، فالواقع أن الذي يولى لا بد أن يتيسر فيه شرطان: الكفاية العالية، والورع المطلق، فلا بد من أن يكون الوالي ذا كفاية وورعا.
وهذان الشرطان في أبي موسى، هما اللذان جعلاه موضع ثقة رؤسائه ومرءوسيه في وقت واحد، ولم ييسرا له النجاح في واجباته الكثيرة المتشابكة فحسب، بل يسرا له التميز في النجاح.
وقد ذكرنا ما فيه الكفاية عن كفاية أبي موسى في الحديث عن أبي موسى: الإدراي، وبقي أن نتحدث عن ورع أبي موسى بإيجاز شديد، بعد أن تحدثنا على أدلة ذلك الورع الأصيل.
إن الورع درجات، أعلاها هو أن يطبق الورع على نفسه أولا أحوال الورع، وأن يأمر به غيره من الناس ويكون مثالا شخصيا يقتدى به في اقتباس أحوال الورع، وأن يكون مستعدا أن يضحي بكل ما يملك من غال ونفيس من أجل ورعه، ولا يضحي بورعه من أجل ما يملك من غال ونفيس.
ذلك هو الورع في أعلى درجاته، وهذا هو ما طبقه أبو موسى على نفسه حاكما ومحكوما، ورئيسا ومرءوسا، وقائدا وجنديا، ومرشدا وقاضيا،
(1) البداية والنهاية (8/ 60).