الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقد كان يطبق مبدأ: السمع والطاعة، للخليفة القائم، ولا يرضى بالفتنة ولا يشارك بها بقلبه ولا بلسانه ولا بسيفه، ولا يسكت عن الذين يثيرونها عن حسن نية أو عن سوء نية ويقاومهم ولا يخشى في الحق لومة لائم، فإذا استنفد كل طاقاته في إطفاء نيران الفتنة دون جدوى، اعتزل الفتنة وأصحابها ولو خلف وراءه كل ما يملك من منصب ومال ومتاع، فأصبح فجأة رجلا بلا غد، فذلك أهون عليه من أن يقتل مسلما أو يقاتل مسلما مهما تكن الأسباب الداعية لهذا الاقتتال.
وقد اجتهد أبو موسى لنفسه ولمن حوله، فصدع بالرأي الذي استقر عليه اجتهاده ولم يخفه عن أحد مسئولا أو غير مسئول، وللمجتهد إذا أصاب أجران، فإذا أخطأ فله أجر واحد، فهو مأجور على كل حال.
وما كان أبو موسى يشك لحظة واحدة في أفضلية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا بأحقيته بالخلافة، ولكن كان في نفسه شيء من قضية الاقتتال بين المسلمين.
ولا يمكن لمسلم أن يشك في إخلاص علي للإسلام والمسلمين ولا أن يشكك به، ولكنه كان مجتهدا، فساقه اجتهاده إلى ما ساقه إليه، وللمجتهد أجره في كل حال.
لقد كان أبو موسى على درجة عالية من الذكاء والفطنة، فما غلبه على أمره عمرو بن العاص، ولكنه انصاع لاجتهاده، فكان ما كان.
الإداري
أ- كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن كتابا يخبرهم فيه بشرائع الإسلام وفرائض الصدقة والمواشي والأموال، ويوصيهم بأصحابه
ورسله خيرا، وكان رسوله إليهم معاذ بن جبل ومالك بن مرارة الرهاوي.
وقد حمل معاذ ومالك هذا الكتاب النبوي إلى اليمن في شهر شوال أو شهر ذي القعدة من السنة التاسعة الهجرية.
وبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى مع معاذ أميرا وقاضيا (1)، وقال لهما:«بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا، وتطاوعا ولا تختلفا (2)» . وفي السنة العاشرة الهجرية، أسلم باذان الذي كان عامل كسرى على اليمن، وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه (3)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جمع لباذان الفارسي حين أسلم وأسلمت اليمن، عمل اليمن كلها، وأمره على جميع مخاليفها، فلم يزل عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن أيام حياته، ولم يعزله عنها ولا عن شيء منها، ولا أشرك معه شريكا حتى مات باذان، فلما مات فرق عمل اليمن بين جماعة من أصحابه، وكان ذلك بعد حجة الوداع سنة عشر الهجرية، فكان من عماله عليه الصلاة والسلام أبو موسى الأشعري (4)، وبهذا أصبح أبو موسى عاملا من عمال النبي صلى الله عليه وسلم (5)، بالإضافة إلى واجباته الأخرى فولاه عليه الصلاة والسلام:
(1) أخبار القضاة (1/ 100).
(2)
أخبار القضاة (1/ 101).
(3)
الطبري (3/ 158).
(4)
الطبري (3/ 227 - 228).
(5)
أنساب الأشراف (1/ 529) وجوامع السيرة (23).
زبيد وعدن ورمع (1) والساحل.
ولم يعزل عن عمله في اليمن، كما لم يعزل غيره من عمالها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم (2).
وبقي أبو موسى على زبيد وعدن ورمع والساحل طيلة أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه (3).
وآثر أبو موسى بعد وفاة أبي بكر الصديق أن يصبح غازيا على أن يبقى واليا، ولكن لا ندري بالضبط متى ترك ولايته في اليمن، وأول ما ورد اسمه في الولاية، هو توليته البصرة بعد عزل المغيرة بن شعبة عنها، وكان ذلك سنة سبع عشرة الهجرية. فقد بعث عمر بن الخطاب إلى أبي موسى، فقال:" يا أبا موسى! إني مستعملك، إني أبعثك إلى أرض قد باض بها الشيطان وفرخ، فالزم ما تعرف، ولا تستبدل فيستبدل الله بك"، فقال:"يا أمير المؤمنين! أعني بعدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فإني وجدتهم في هذه الأمة وهذه الأعمال كالملح لا يصلح الطعام إلا به"، فقال له:"خذ من أحببت "، فاستعان بتسعة وعشرين رجلا، منهم أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر.
(1) رمع: قرية أبي موسى ببلاد الأشعريين قرب غسان وزبيد، انظر التفاصيل في معجم البلدان (4/ 285).
(2)
الطبري (3/ 229).
(3)
الطبري (3/ 437) وابن الأثير (2/ 421).
وخرج أبو موسى، حتى أناخ بالمربد (1)، فبلغ المغيرة أن أبا موسى قد أناخ بالمربد فقال:"ولله ما جاء أبو موسى زائرا، ولا تاجرا، ولكنه جاء أميرا". وجاء أبو موسى إلى المغيرة بن شعبة ودفع إليه كتابا من عمر، وإنه لأوجز كتاب كتب به أحد من الناس: أربع كلم، عزل فيها، وعاتب، واستحث، وأمر، وهذا نص الكتاب:"أما بعد فإنه بلغني نبأ عظيم فبعثت أبا موسى أميرا، فسلم إليه ما في يدك، والعجل ".
وكتب عمر مع أبي موسى كتابا هذا نصه موجه إلى أهل البصرة: "أما بعد فإني قد بعثت أبا موسى أميرا عليكم، ليأخذ لضعيفكم من قويكم، وليقاتل بكم عدوكم، وليدفع عن ذمتكم، وليحصي لكم فيئكم ثم ليقسمه بينكم، ولينقي لكم طرقكم "(2).
وفي أيام أبي موسى على البصرة، خرج رجل من أهل البصرة، يقال له: أبو عبد الله، وهو نافع أبو عبد الله بن كلدة الثقفي، إلى المدينة المنورة، فقال لعمر بن الخطاب:"إن قبلنا أرضا بالبصرة ليست من أرض الخراج، ولا تضر بأحد من المسلمين، فإن رأيت أن تقطعنيها، واتخذ فيها قضبا (3) لخيلي، فافعل"، وكان أبو عبد الله أول من افتلى الفلا (4)، فكتب عمر إلى أبي موسى:"إن كان كما يقول، فاقطعها له". وفي رواية أن كتاب عمر كان: "إن عبد الله سألني أرضا على شاطئ دجلة، فإن لم تكن أرض جزية ولا أرضا يجري إليها ماء جزية فأعطها إياه".
(1) المربد: موضع سوق الإبل بالبصرة، ثم أصبح سوقا وشارعا، انظر التفاصيل في معجم البلدان (8/ 11 - 13).
(2)
الطبري (4/ 70 - 71 م) وابن الأثير (2/ 540 - 541)، وانظر طبقات ابن سعد (4/ 109) والإصابة (4/ 119).
(3)
القضب: شجرة ترعاه الإبل والخيل.
(4)
افتلى المكان: رعاه. والفلا: جمع فلاة، وهي الأرض الواسعة المقفرة.
وكان أبو موسى قد فتح أصبهان سنة إحدى وعشرين الهجرية برفقة عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فعقدا مع أهلها هذه المعاهدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب من عبد الله للفاذوسفان وأهل أصبهان وحواليها:
إنكم آمنون ما أديتم الجزية بقدر طاقتكم في كل سنة، تؤدونها إلى الذي يلي بلادكم عن كل حالم، ودلالة المسلم، وإصلاح طريقه، وقراه يوما وليلة، وحملان الراجل إلى مرحلة، لا تسلطوا على مسلم، وللمسلمين نصحكم وأداء ما عليكم، ولكم الأمان ما فعلتم، فإذا غيرتم شيئا أو غيره مغير منكم ولم تسلموه، فلا أمان لكم، ومن سب مسلما بلغ منه، فإن ضربه قتلناه، وكتب عبد الله بن قيس وشهد، وعبد الله بن ورقاء، وعصمة بن عبد الله (1).
وفي سنة اثنتين وعشرين الهجرية أمره عمر بن الخطاب على الكوفة بطلب من أهلها بعد عمار بن ياسر، فأقام على الكوفة عاما أو بعض عام، ثم عزله وصرفه إلى البصرة (2) من جديد، في سنة اثنتين وعشرين الهجرية (3)، مما يدل على بقائه في الكوفة أقل من عام.
وبقي أبو موسى على البصرة إلى وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة ثلاث وعشرين الهجرية، وقد كتب عمر في وصيته لمن يتولى الخلافة من بعده:"لا يقر لي عامل أكثر من سنة، وأقروا الأشعري أربع سنين (4) "، وهذا دليل على أن عمر كان يثق به ثقة مطبقة، وأن ثقته به أعظم من ثقته بعماله الآخرين.
(1) الطبري (4/ 141).
(2)
ابن الأثير (3/ 32).
(3)
ابن الأثير (3/ 38).
(4)
الإصابة (4/ 120).
وفي سنة تسع وعشرين الهجرية، عزل عثمان بن عفان رضي الله عنه أبا موسى عن البصرة بعبد الله بن عامر بن كريز القرشي العبشمي (1) وقيل كان ذلك لثلاث سنين مضت من خلافة عثمان، وأرجح الرواية الأولى، فقد عمل على البصرة ست سنين، وما كان عثمان ليعزله بعد ثلاث سنين خلافا لوصية عمر.
فلما خرج من البصرة حين نزع عنها، لم يكن معه إلا ستمائة درهم عطاء عياله (2)، ولكن كان معه ما هو أثمن من كل مادة في الدنيا، هي قولة الحسن البصري فيه:"ما أتاها - يعني البصرة - راكب خير لأهلها منه (3) "، فقد ذهبت المادة، وبقي هذا الثناء المستطاب.
ولما عزل عن البصرة سار منها إلى الكوفة، فلم يزل بها حتى أخرج أهل الكوفة سعيد بن العاص، وطلبوا من عثمان أن يستعمله عليهم، فاستعمله (4)، وكان قد سكن الكوفة بعد خروجه من البصرة، فتفقه أهل الكوفة به (5)، وقد استعمله عثمان على الكوفة بعد سعيد بن العاص نزولا عند رغبة أهل الكوفة، وكتب إليهم:
(1) انظر سيرته في: المعارف (320 - 322).
(2)
طبقات ابن سعد (4/ 111).
(3)
الإصابة (4/ 120).
(4)
أسد الغابة (3/ 247) و (5/ 309) والإصابة (4/ 120).
(5)
الإصابة (4/ 120).
"بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، فقد أمرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأفرشنكم (1) عرضي، ولأبذلن لكم صبري ولأستصلحنكم بجهدي، فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه، أنزل فيه عندما أحببتم، حتى لا يكون لكم علي حجة" (2)، وكان ذلك سنة أربع وثلاثين الهجرية (3) ومعنى ذلك أن أبا موسى، بقي بلا عمل للخليفة عثمان نحو أربع سنوات، قضاها في تعليم القرآن وتحفيظه وفي تفقيه أهل الكوفة.
وكان أبو موسى، حين أعاد أهل الكوفة سعيد بن العاص من الطريق قبل دخول الكوفة إلى عثمان، قد جمع أهل الكوفة الحانقين على سعيد وغير الحانقين عليه، وخطبهم، وأمرهم بالجماعة وبلزوم الجماعة وبطاعة عثمان، فأجابوا إلى ذلك، وقالوا:"صل بنا "، فقال:"لا! إلا على السمع والطاعة لعثمان "، قالوا:"نعم"، فصلى بهم، وأتاه ولايتهم من عثمان، فوليهم (4).
ولم يزل أبو موسى على الكوفة، حتى استخلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه سنة خمس وثلاثين الهجرية (5) فأقره علي بن أبي طالب عليها.
فلما سار علي إلى البصرة ليمنع طلحة والزبير عنها، أرسل إلى أهل الكوفة يدعوهم لينصروه، فمنعهم أبو موسى وأمرهم بالقعود في الفتنة، فعزله علي
(1) في ابن الأثير والنويري: "لأقرضنكم ".
(2)
الطبري (4/ 336) وابن الأثير (3/ 148 - 149).
(3)
الطبري (4/ 336) وابن الأثير (3/ 148).
(4)
ابن الأثير (3/ 149).
(5)
الطبري (4/ 427) وابن الأثير (3/ 190).
عنها (1) وكان قد أقره عليها قبل ذلك، بينما عزل غيره من عمال عثمان (2).
ب - فما هي إنجازات أبي موسى، كما يعبر عن ذلك المحدثون؟ كتب أبو موسى إلى عمر:"إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ "، فجمع عمر الناس لمشورة، فقال بعضهم:"أرخ لمبعث النبي ("، وقال بعضهم:"لمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقال عمر:" نؤرخ لمهاجرة رسول الله (فإن مهاجرته فرق بين الحق والباطل (3) ".
لقد كان لأبي موسى فضل المطالبة بوضع التأريخ للمسلمين، فكان التأريخ الهجري الذي بدأ العمل به على عهد عمر بن الخطاب، ولا يزال معمولا به حتى الآن.
وكان عمر بن الخطاب أول من سمي بأمير المؤمنين، وكان أبو موسى أول من دعا له بهذا الاسم على المنبر، وأول من كتب إليه: لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من أبي موسى الأشعري، فلما قرئ ذلك على عمر قال:"إني لعبد الله، وإني لأمير المؤمنين، والحمد لله رب العالمين (4) ".
وأصبحت السنة التي سنها أبو موسى متبعة في الدعاء وفي الأسلوب الكتابي أيضا.
وفي سنة ثماني عشرة الهجرية، أصاب الناس مجاعة شديدة وجدب وقحط، وهو عام الرمادة، وكانت الريح تسفي ترابا كالرماد، فسمي: عام الرمادة، واشتد الجوع حتى جعلت الوحش تأوي إلى الإنس، وحتى جعل الرجل يذبح الشاه فيعافها من قبحها، وإنه لمقفر (5).
(1) ابن الأثير (3/ 231) وأسد الغابة (3/ 246) و (5/ 309)، انظر مروج الذهب (2/ 359).
(2)
اليعقوبي (2/ 155).
(3)
ابن الأثير (1/ 10).
(4)
مروج الذهب للمسعودي (2/ 305) ط2، بيروت - 1393هـ.
(5)
الطبري (4/ 98) ابن الأثير (2/ 555).
وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى وهو على البصرة: "إن العرب هلكت، فابعث إلي بطعام " فبعث إليه بطعام، وكتب إليه:"إني قد بعثت إليك بكذا وكذا من الطعام، فإن رأيت يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الأمصار، فيجتمعون في يوم، فيخرجون فيه، فيستسقون "، فكتب عمر إلى أهل الأمصار، فخرج أبو موسى فاستسقي ولم يصل (1). وهذا دليل على أن الزراعة والإنتاج الزراعي كان بازدهار بحيث يغطي حاجة المنطقة ويفيض على ما تحتاج إليه، فتصدر إلى المناطق الأخرى.
ولا عجب في ازدهار الزراعة والمحاصيل الزراعية في ولاية البصرة على عهد أبي موسى، فقد كان يهتم بالري الذي هو العمود الفقري للزراعة، وبخاصة في الأرض السيحية التي تسقى بمياه النهر ولا تزدهر بدونه، فقد قاد أبو موسى نهر الأبلة من موضع الإجانة إلى البصرة وكان شرب الناس قبل ذلك من مكان يقال له: دير قاووس (2)، فوهته في دجلة فوق الأبلة بأربعة فراسخ، يجري في سباخ لا عمارة على حافته، وكانت الأرواح (3) تدفنه (4).
ولم يقتصر نشاط أبي موسى في الري على حفر نهر الأبلة، بل امتد إلى حفر نهرين آخرين سجلهما له البلدانيون العرب، ولا ندرى عدد الأنهار التي حفرها ولم يسجلها البلدانيون له.
(1) طبقات ابن سعد (4/ 110).
(2)
لم أجد له ذكرا في المصادر التي تتحدث على الأديرة.
(3)
الأرواح: جمع ريح، وهو الهواء إذا تحرك.
(4)
البلاذري (498).
فقد قدم الأحنف بن قيس التميمي (1) على عمر بن الخطاب في أهل البصرة فجعل عمر يسألهم رجلا رجلا، والأحنف لا يتكلم، فقال له عمر:"ألك حاجة؟ " فقال: "بلى يا أمير المؤمنين! إن مفاتيح الخير بيد الله، وإن إخواننا من أهل الأمصار نزلوا منازل الأمم الخالية بين المياه العذبة والجنان الملتفة، وإنا نزلنا أرضا نشاشة (2) لا يجف مرعاها، ناحيتها من قبل المشرق البحر الأجاج، ومن ناحية المغرب الفلاة العجاج، فليس لنا زرع ولا ضرع، تأتينا منافعنا وميرتنا في مثل مري النعامة، يخرج الرجل الضعيف منا فيستعذب الماء من فرسخين، والمرأة كذلك فتربق (3) ولدها ربق العنز تخاف بادرة العدو وأكل السبع؛ فإلا ترفع خسيستنا وتجبر فاقتنا، نكن كقوم هلكوا"، فألحق عمر ذراري أهل البصرة في العطاء، وكتب إلى أبي موسى يأمره أن يحفر لهم نهرا، فذكر جماعة من أهل العلم أن دجلة العوراء، وهي دجلة البصرة، كانت خورا (4)، والخور طريق للماء لم يحفره أحد، تجري إليه الأمطار ويتراجع ماؤها فيه عند المد وينضب في الجزر، وكان يحده مما يلى البصرة خور واسع كان يسمي في الجاهلية: الإجانة، وتسميه العرب في الإسلام: خزاز، وهو على مقدار ثلاثة فراسخ من البصرة، ومنه يبتدئ النهر الذي يعرف اليوم بنهر الإجانة.
فلما أمر عمر أبا موسى بحفر نهر، ابتدأ بحفر نهر الإجانة، ففأره (5) ثلاثة فراسخ، حتى بلغ به البصرة (6). وكان أهل البصرة قبل حفر هذا
(1) انظر سيرته في: قادة بلاد فارس (217 - 246).
(2)
نش الشيء: جف وذهب ماؤه. ونشاش هو، وهي نشاشة. ويقال سبخة نشاشة: لا يجف ثراها ولا ينبت مرعاها.
(3)
ربقه: ربط بالربق. والربق: حبل ذو عرى، والحبل، والخيط.
(4)
الخور: مصب الماء في البحر، والمنخفض من الأرض بين مرتفعين، والخليج.
(5)
فأر فلان: حفر حفر الفأر.
(6)
معجم البلدان (8/ 334).
النهر يستقون ماءهم من الأبلة، وكان يذهب رسولهم إذا قام المتهجدون من الليل، فيأتي بالماء بعد صلاة العصر (1).
وهكذا يسر أبو موسى ماء الشرب لأهل البصرة من جهة، ويسر لهم ماء السقي من جهة أخرى.
أما النهر الثالث الذي حفره أبو موسى بالبصرة، فهو نهر معقل، نسبة إلى الصحابي الجليل معقل بن يسار بن عبد الله المزني، وهو نهر معروف بالبصرة، فمه عند نهر الإجانة الذي ذكرناه قبل قليل. فقد أمر عمر بن الخطاب أبا موسى أن يحفر نهرا بالبصرة، وأن يجريه على يد معقل بن يسار المزني، فنسب إليه. وفي رواية أخرى أن زياد بن أبي سفيان (2) هو الذي حفره (3)، ولا تناقض بين الروايتين، فأبو موسى حفره، وزياد جدد حفره، لأن الأنهار في تلك المناطق تحتاج إلى إدامة حفرها باستمرار، وإلا طمرت واندرست، فخلط الذين كتبوا على هذا النهر بين الجهدين: جهد أبي موسى، وجهد زياد.
تلك ثلاثة أنهار للبصرة عرفت لأبي موسى، حفرها على عهد الفاروق عمر وحده، وقد كان على البصرة في عهد عمر خمس سنوات امتدت من سنة سبع عشرة الهجرية إلى سنة ثلاث وعشرين الهجرية، أمضى منها سنة على الكوفة بعيدا عن البصرة، وقد بقي على البصرة ست سنوات في عهد عثمان بن عفان، ولا بد أنه بذل نشاطا باهرا في حفر أنهار جديدة وفي تطهير أنهار قديمة، ولا عبرة بسكوت الذين سجلوا نشاط أبي موسى في حفر الأنهار عن تسجيل ما حفره من أنهار، فما كل شيء جرى سجل
(1) معجم البلدان (8/ 335).
(2)
زياد بن أبي سفيان: انظر سيرته في تهذيب ابن عساكر (5/ 409).
(3)
معجم البلدان (8/ 345 - 346).
ولكن إذا افترضنا أن هذه الأنهار الثلاثة هي كل ما حفره أبو موسى في سني ولايته على عهد عمر، وأنه لم يحفر أنهارا إضافية بعد عمر لسبب أو لآخر، فإن حفر ثلاثة أنهار ليس قليلا، وبخاصة إذا تذكرنا الوسائل البدائية المستعملة أيام أبي موسى بالحفر، وأن القادرين على الحفر في شغل شاغل عن الحفر بالجهاد والفتوح.
وكان من ثمرات نشاط أبي موسى في حفر الأنهار، أن البصرة أصبحت مصدرة للطعام إلى المسلمين المحتاجين إليه، واكتفى المسلمون ذاتيا بما لديهم، ولم يبقوا محتاجين إلى استيراد الطعام من الأجانب، فلا شيء بلا ثمن، وثمنه الضغط السياسي كما هو معلوم، كما كان يمارسه الأجانب على العرب في الجاهلية، وبخاصة في سنوات القحط والجفاف.
ولم يكن أبو موسى متفرغا للقضايا الإدارية في البصرة، بل كان مسئولا مسئولية مباشرة عن الجهاد والفتوح بما فيه حشد الرجال وقيادتهم فالأمير يومها إداري قائد.
فقد تولى البصرة سنة سبع عشرة الهجرية لعمر، فحشد الرجال بأمر عمر لفتوح المشرق، فشاركوا في فتح رامهرمز، بقيادة أحد قادته المرءوسين، ثم شهد فتح تستر قائدا لمجاهدي البصرة، فلما فتحت المدينة انصرف أبو موسى إلى البصرة.
وبقي سنة ثماني عشرة الهجرية وتسع عشرة الهجرية وعشرين الهجرية يحشد الرجال لفتوح أرض فارس في المشرق، وفي سنة إحدي وعشرين شهد معركة نهاوند وهي معركة فتح الفتوح، على أهل البصرة، فلما فتح المسلمون نهاوند، انصرف أبو موسى ففتح الدينور صلحا وسيروان صلحا أيضا، ووجه أحد رجاله ففتح الصميرة مدينة مهرجان قذق صلحا. كما شارك أبو موسى في هذه السنة، أي سنة إحدى وعشرين الهجرية في فتح أصبهان، كما فتح قم وقاشان قبل عودته إلى البصرة.
ونقل أبو موسى إلى الكوفة سنة اثنتين وعشرين الهجرية، فبقي فيها عاما أو بعض عام، ثم أعيد سنة اثنتين وعشرين الهجرية أيضا إلى البصرة.
وفي سنة ثلاث وعشرين الهجرية، شارك أبو موسى في فتح شيراز وأرجان وسينيز، واستعاد فتح مدينة سابور سنة ست وعشرين الهجرية على عهد عثمان.
لقد فتح أبو موسى الأهواز والسوس وأصبهان والدينور وماسبذان وسيروان وقم وقاشان، وشارك في فتح تستر ونهاوند، واستعاد فتح سابور.
ويتضاعف إعجابنا بأبي موسى وتقديرنا لنشاطه في خدمة الإسلام والمسلمين، إذا ذكرنا فتوحه الواسعة إلى جانب أعماله الإدارية، فنحير بأيهما نكون أكثر إعجابا: بأعماله العسكرية، أم بأعماله الإدارية.
وما يخطر على البال هو: كيف تيسر له الوقت الكافي للنهوض بكل هذه الأعمال الكبيرة؟! لقد كان أبو موسى حصيفا في إدارته وقيادته، ويتمتع بعقلية متزنة وفكر صائب ورأي سديد، يدلنا على ذلك ما رواه عنه طارق بن شهاب البجلي قال:"أتينا أبا موسى، وهو بداره بالكوفة لنتحدث عنده، فلما جلسنا قال: لا عليكم أن تخفوا، فقد أصيب في الدار إنسان بهذا السقم، ولا عليكم أن تنزهوا عن هذه القرية، فتخرجوا في فسيح بلادكم ونزهها حتى يرفع هذا الوباء. سأخبركم بما يكره مما يتقى، من ذلك أن يظن من خرج أنه لو أقام مات، ويظن من أقام فأصابه ذلك لو أنه خرج لم يصبه فإذا لم يظن هذا المرء المسلم فلا عليه أن يخرج، وأن يتنزه عنه (1) "، فهو يفسح المجال للابتعاد عن المرض والأخذ بالوسائل، مع الثقة المطلقة بقضاء الله عز وجل وقدره.
ومما يدل على عقليته المتزنة الراجحة، بقاؤه في البصرة والكوفة بدون مشاكل خطيرة مع أهل هذين البلدين، وقد كان لهما مشاكل - وبخاصة الكوفة - مع من سبق أبا موسى في ولايتهما ومع من لحقه أيضا كما هو معروف.
(1) الطبري (4/ 60) وابن الأثير (2/ 558).
ولم تخل إمارته على البصرة والكوفة من مشاكل فحسب، بل العكس هو الذي حدث، فقد كان أهل البلدين يطالبون الخليفة بعودته إليهما كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
فقد سأل عمر أهل الكوفة: "من تريدون؟ "، فقالا:"أبا موسى "، فأمره عليهم بعد عمار بن ياسر، وكان ذلك في سنة اثنتين وعشرين الهجرية (1).
وقد اختاره أهل الكوفة واليا عليهم في عهد عثمان، فنزل عثمان على إرادة أهل الكوفة، وولى على الكوفة أبا موسى (2)، وكان ذلك سنة أربع وثلاثين الهجرية (3)، ومن النادر أن يرضى أهل الكوفة عن أمير!! ولما بعث علي بن أبي طالب عمارة بن شهاب (4) وكانت له هجرة، واليا على الكوفة خلفا لأبي موسى، علم وهو في طريقه إليها، أن أهلها لا يريدون بأميرهم أبي موسى بديلا، فرجع عمارة إلى علي بن أبي طالب بالخبر (5)، كما اختير من الناس ليمثل أهل العراق في التحكيم، ولم يكن اختياره من علي كما ذكرنا، كل ذلك يدل على مبلغ ثقة الناس بأبي موسى ومقدار شعبيته القوية، فهو أمير وقائد شعبي بحق، كما نعبر عن أمثاله اليوم، إن كان له أمثال! تلك هي مجمل إنجازات أبي موسى إداريا: تعليم للقرآن والحديث النبوي والفقه، وتحفيظ للقرآن الكريم حتى بلغ الحفاظ عشرات المئات، فهو قائد مدرسة علمية فذة، وإصلاح زراعي، وتعمير، وإرواء، وبناء: بنى أبو موسى مسجد البصرة ودار الإمارة بلبن وطين (6)، وعدل، واستقرار، فهو
(1) الطبري (4/ 164) وابن الأثير (3/ 32).
(2)
الطبري (4/ 336) وابن الأثير (3/ 148) وانظر أسد الغابة (3/ 247) و (5/ 309) والإصابة (4/ 120).
(3)
العبر (1/ 34 - 35).
(4)
عمارة بن شهاب: انظر سيرته في الإصابة (6/ 276).
(5)
الطبري (4/ 442 - 443) وابن الأثير (3/ 202).
(6)
البلاذري (488).