الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فكان بحق كما وصفوه: العامل المعلم صاحب القراءة والمزمار، الرايض نفسه بالسياحة في المضمار.
لقد أتعب أبو موسى نفسه في حياته، وأتعب من جعله أسوة حسنة له في حياته وبعد رحيله، وخسر كل شيء مادي يملكه، ولكنه ربح نفسه، وقد مات كثير من أصحاب السلطان والأموال وهم أحياء، فلا ذكر لهم بالخير والثناء، لأنهم ربحوا السلطة والمال، وخسروا أنفسهم، وبقي ذكر أبي موسى عطرا في التاريخ وبين الناس، وتلك هي عبرته لأصحاب القلوب العامرة بالإيمان ولأصحاب الجيوب المتخمة نفوسهم بالظلام.
وهل يستوى أصحاب القلوب وأصحاب الجيوب؟
الرجل
نزل أبو موسى الكوفة، وابتنى بها دارا، وله بها عقب (1)، وقد نزل الكوفة بعد أن عزله عثمان بن عفان عن البصرة سنة تسع وعشرين الهجرية كما ذكرنا.
وبعد التحكيم الذي كان فيه ممثلا لعلي بن أبي طالب وأهل العراق، وعمرو بن العاص ممثلا لمعاوية بن أبي سفيان وأهل الشام، هرب أبو موسى من مثابة التحكيم مباشرة إلى مكة المكرمة خوفا من أنصار علي المتحمسين له ولكنه عاد إلى الكوفة بعد استشهاد علي بن أبي طالب ومبايعة معاوية بن أبي سفيان بالخلافة ودخوله الكوفة سنة إحدى وأربعين الهجرية (2)، فاستقبل معاوية أبا موسى بالنخيلة، وعلى أبي موسى عمامة سوداء وجبة سوداء ومعه عصا سوداء (3). كما ذكرنا ذلك قبل قليل.
(1) طبقات ابن سعد (6/ 16).
(2)
العبر (1/ 48 - 49).
(3)
طبقات ابن سعد (4/ 113).
ولما حضر أبا موسى الموت، جمع بنيه فقال:"انظروا إذا أنا مت، فلا تؤذنن بي أحدا ولا يتبعني صوت ولا نار، وليكن ممسى أحدكم بحذاء ركبتي من السرير". ولما أغمي عليه بكت ابنة الدومي أم أبي بردة، فقال:"أبرأ إليكم ممن حلق وسلق وخرق (1) وأغمي عليه، فبكوا عليه، فقال: "أما علمتم ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "، فذكروا ذلك لامرأته، فسألته، فقال: "من حلق وخرق وسلق". وأغمي على أبي موسى، فبكوا عليه، فأفاق فقال: "إني أبرأ إليكم مما برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلق وخرق وسلق "، وأغمي عليه في مرضه، فصاحت عليه أم بردة، فأفاق، فقال: إني بريء ممن حلق وسلق وشق "، يقول ذلك للخامشة وجهها. وقال:"إذا حفرتم لي، فأعمقوا لي قعره"، وقال:"أعمقوا لي قبري (2) ".
ومات أبو موسى سنة ثنتين وخمسين الهجرية في خلافة معاوية بن أبي سفيان، وقال بعض أهل العلم: "إنه مات قبل هذا الوقت بعشر سنين، سنة ثنتين وأربعين الهجرية (3). وقيل: مات سنة أربع وأربعين الهجرية (4)، وقيل: سنة خمسين الهجرية أو سنة اثنتين وخمسين الهجرية (5)، وأكثر المصادر تتفق على أن وفاته كانت سنة ثنتين وأربعين الهجرية أو سنة أربع وأربعين الهجرية، وهي المصادر القديمة ومصادر المحدثين: القديمة منها قريبة العهد من الذين سجلت سيرهم، والمحدثون الموثوق بهم معروفون بصدقهم ودقتهم.
(1) حلق الرأس: أزال الشعر عنه. سلق: صاح ورفع صوته. خرق: خرق الشيء: شقه ومزقه.
(2)
طبقات ابن سعد (4/ 115 - 116).
(3)
طبقات ابن سعد (4/ 116) و (6/ 16).
(4)
العبر (1/ 52) وصفة الصفوة (1/ 228).
(5)
الطبري (5/ 240) وابن الأثير (3/ 471) وانظر البداية والنهاية (8/ 60).
يؤيد ذلك ما جاء في مصادر المحدثين، أنه مات وهو ابن ثلاث وستين سنة (1)، ولو مات في الخمسينات، لكان مولده سنة ثلاث عشرة قبل الهجرة، فمتى أسلم في مكة، والمعروف أنه أسلم قديما، فإذا قدرنا أنه أسلم في السنة الخامسة من الرسالة، أو السنة الثامنة قبل الهجرة، فمعنى ذلك أنه أسلم وهو في الخامسة من عمره، وهذا غير منطقي ولا معقول. فلا بد أنه توفي في سنة اثنتين وأربعين الهجرية أو سنة أربع وأربعين الهجرية (2)، وأرجح ما اقتنع به البخاري من أن وفاته سنة أربع وأربعين الهجرية، لأن البخاري شيخ المحدثين وأكثرهم دقة وتوثيقا، فيكون مولد أبي موسى سنة تسع عشرة قبل الهجرة، أي قبل البعثة النبوية بست سنوات، فإذا أسلم في الخامسة من البعثة، فمعنى ذلك أنه أسلم في الحادية عشرة من عمره، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن في السنة التاسعة الهجرية وهو ابن ثمان وعشرين سنة وأنه عاش ثلاثا وستين سنة قمرية، وعاش إحدى وستين سنة شمسية (603م-664م).
ويبدو أنه كان ميسور الحال في مكة، فقد كان يمتلك بئرا فيها بالمعلاة، ولم يكن في حينه يمتلك بئرا من الآبار المعدودة غير الميسورين.
تزوج أم كلثوم بنت الفضل بن العباس بن عبد المطلب (3)، كما تزوج ابنة الدومي (4)، ولا نعرف عن زوجاته الأخريات شيئا.
وأكبر أولاده: إبراهيم، «قال أبو موسى: "ولد لي غلام، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسماه: إبراهيم، وحنكه بتمرة (5)».
(1) تهذيب التهذيب (5/ 363) وتهذيب الأسماء واللغات (2/ 269).
(2)
تهذيب الأسماء واللغات (2/ 269).
(3)
المعارف (121) والمحبر (439).
(4)
طبقات ابن سعد (4/ 115).
(5)
طبقات ابن سعد (4/ 107).
وأبو بكر بن أبي موسى، واسمه كنيته، وكان أسن من أبي بردة. وأبو بردة بن أبي موسى، وأمه ابنة الدومي. وموسى بن أبي موسى، وأمه أم كلثوم بنت الفضل بن العباس بن عبد المطلب (1)، وكان أبو بكر أحول، فهو معدود من الحولان الأشراف (2)، وكان أبو بردة بن أبي موسى قاضيا للحجاج بن يوسف الثقفي، ولاه بعد شريح (3)، واسم أبي بردة عامر. ومحمد بن أبي موسى، وعبد الله بن أبي موسى، ولأولاد أبي موسى في البصرة والكوفة عدد، ومنهم بالأندلس (4).
وأبو موسى رجل خفيف الجسم، قصير، أثط.
وقد مات أبو موسى بالكوفة، وقيل: إنه مات بمكة (5)، والأول أصح، لأنه لقي معاوية بالنخيلة قبل موته بقليل، والنخيلة قريبة من الكوفة كما ذكرنا، وقد مات بداره في الكوفة (6)، ودفن بـ (الثوية) بالكوفة.
وكان قد نزل الكوفة، وابتنى بها دارا (7)، ليأوي إليها أهله وولده، ولا نعلم أنه خلف غير هذه الدار في الكوفة، ويبدو أنه كان ميسورا قبل إسلامه، فقد كان من أصحاب الآبار المعروفة في حينه، وكانت في تلك الأيام غالية الثمن، تدر على صاحبها المال الوفير، مما يدل على أنه لم يزدد بعد إسلامه غنى، بل أنفق ما كان يملك قبل إسلامه بعد إسلامه في
(1) المعارف (267).
(2)
المحبر (303).
(3)
المحبر (378).
(4)
جمهرة أنساب العرب (397 - 398).
(5)
أسد الغابة (5/ 309) والاستيعاب (3/ 981).
(6)
الاستيعاب (3/ 980).
(7)
طبقات ابن سعد (6/ 16).