الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان يستشير رجاله بكل أمر من أموره وبكل موقف من مواقفه، فإذا استقر الرأي على قرار، عمل بمشورتهم وعزا الفضل لذوي الفضل.
لقد كان أبو موسى قائدا لامعا حقا.
السفير
كان أبو موسى من سفراء النبي صلى الله عليه وسلم أرسله ومعاذ بن جبل إلى جملة اليمن داعين إلى الإسلام، فأسلم عامة أهل اليمن: ملوكهم، وسوقتهم (1)، وكان إرسالهما إلى اليمن معا في وقت واحد (2)، وروى الإمام أحمد بن حنبل، «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن فقال لهما: " بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا، وتطاوعا ولا تختلفا (3)»، وقصدا اليمن في شهر شوال أو ذي القعدة من السنة التاسعة الهجرية، كما ذكرنا ذلك من قبل.
فما هي المزايا التي اجتمعت في أبي موسى، فأهلته ليصبح سفيرا نبويا؟ من مزاياه الإيمان الراسخ بالإسلام، والانتماء القاطع لهذا الدين، وإثبات إيمان أبي موسى وانتمائه حديث معاذ، فهو معروف بإيمانه، ولا يجادل في صدق إيمانه اثنان، ويتفق من يحبه ومن لا يحبه بأنه مؤمن صادق الإيمان، وأنه ربط مصيره بالإسلام، يخلص له أكثر مما لأمه وأبيه وذويه وفصيلته التي تؤويه، وولاؤه كله للإسلام، فإذا تعارض ولاؤه لدينه بولائه لأقرب المقربين إليه، فضل دون تردد ولاءه للإسلام على ولائه لأقرب المقربين إليه: بل إذا تناقض ولاؤه لمصلحته الذاتية بولائه لدينه لم يختر إلا الولاء لدينه حتى إذا سحقت مصلحته الذاتية من أجل المصلحة العامة للمسلمين فإنه لا يتردد لحظة في سحق مصلحته الذاتية إعلاء لكلمة الله، لتكون كلمة الله هي العليا.
(1) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 30).
(2)
أخبار القضاة (1/ 100 - 101).
(3)
انظر أخبار القضاة (1/ 101).
ومن مزاياه سفيرا نبويا، الفصاحة، والعلم، وحسن الخلق، وقد كانت الفصاحة في أيام أبي موسى، وهو من العرب الذين نشئوا في محيط عربي خالص، بعيد عن الاختلاط بالعجم، هي السائدة بين العرب، وكان اللحن قليلا بينهم، وهو الذي قيل في وصف فصاحته:" ما كنا نشبه كلام أبي موسى إلا بالجزار الذي لا يخطئ المفصل "(1).
وكتب أبو موسى إلى رجل من المسلمين: " أما بعد، فإني عاهدتك على أمر وبلغني أنك تغيرت، فإن كنت على ما عهدتك فاتق الله ودم، وإن كنت على ما بلغني فاتق الله وعد "(2) وفصاحته بالإضافة إلى حكمته واضحة في هذا الكتاب.
وقال أحدهم لأبي موسى في طاعون وقع: " اخرج بنا إلى وابق نبدو بها "، فقال:" إلى الله آبق لا إلى وابق "(3)، وفصاحته في هذا الخطاب واضحة وإيجازه البليغ واضح أيضا.
وقد كان أبو موسى عالما كما فصلنا ذلك في فقرة: (العالم) خلال الحديث عنه إنسانا، وقد كان من علماء الأمة المعدودين، ومن الذين يفتون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن قضاته وقضاة الخلفاء الراشدين الأربعة ومن أبرز معلمي القرآن الكريم والفقهاء والمحدثين، وقد خلفه النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بعد غزوة الطائف يعلم أهلها القرآن ويفقههم في الدين، وبعثه إلى اليمن داعيا وقاضيا، وكان يفتي في المدينة ويقتدي به على عهد رسول صلى الله عليه وسلم (4)، وكل ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على علمه وفضله، فقد كان من قادة الفكر الإسلامي الأولين الذين بنوا صرحه العظيم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
(1) طبقات بن سعد (4/ 111).
(2)
العقد الفريد (3/ 151).
(3)
طبقات ابن سعد (4/ 111) /.
(4)
طبقات ابن سعد (2/ 334 - 354) وانظر أصحاب الفتيا لابن حزم -ملحق بجوامع السيرة - (320).
وخدموه بكل أمانة وصدق وإخلاص فانتشر الذين تلقوا العلم عليهم في البلاد ونشروا عملهم شرقا وغربا.
وكان على جانب عظيم من حسن الخلق، تتمثل فيه المثل العليا الإسلامية التي وردت في الكتاب العزيز والسنة النبوية، فكان أبو موسى حسن الحلق تمثل بشرا سويا، يمشي على الأرض، ويرتاد الأسواق، ويأكل الطعام ولكنه أسوة حسنة لغيره في الخلق الكريم.
ومن مزاياه سفيرا نبويا، الصبر الجميل، والحكمة البالغة لقد وردت كلمة: صبر، ومشتقاتها في أربع ومائة آية من آيات الذكر الحكيم (1)، ومن الطبيعي أن يتأثر أبو موسى بتعاليم القرآن التي تأمر بالصبر وتبشر الصابرين، وتنهى عن الجزع واليأس والقنوط وتخوف الذين يجزعون وييأسون ويقنطون، وسيرته تدل على أنه كان من أكابر الصابرين، فقد صبر على أيام العسر والشدة في حياته، وما أكثرها وأعسرها وأشدها، ولا نعلم في سيرته موقفا واحدا انهار فيه، فقد صبر في الضراء صبر المؤمنين المحتسبين الشاكرين، فكان شاكرا في السراء والضراء وحين البأس لأنه كان من الصابرين.
ويبدو أنه بالإضافة إلى تأثره البالغ بتعاليم الإسلام في الصبر الجميل، كان بطبيعته له استعداد على الصبر، فهو هادئ الطبع رضي النفس غير متسرع ولا عصبي المزاج، فهو من أولئك النفر الصابرين بطبعهم، فزادته تعاليم الإسلام في الصبر نورا على نور.
أما تمتعه بالحكمة البالغة، فيكفي أن ندلل على ذلك بنجاحه الباهر في أعماله الكثيرة داعيا وقاضيا وواليا ومعلما ومرشدا ومجاهدا وجنديا وإنسانا، وفي السلم والحرب.
فقد بعثه الني صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيا وأميرا ومعلما، وبعد
(1) انظر التفاصيل في المعجم المفهرس (399 - 401).
عام تقريبا أضاف إليه واجبا جديدا هو توليته جزءا من اليمن، ولو لم ينجح في واجباته الأولى لما أضاف إليه واجبات جديدة، وبقي على عمله في اليمن أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم أصبح قاضيا لعمر بن الخطاب وواليا على البصرة وعلى الكوفة ثم على البصرة، فلما رحل عمر كان في وصيته إ قرار أبي موسى أربع سنوات على عمله وإقرار عماله الآخرين سنة واحدة، وهذا التمييز في المدة دلالة على نجاحه في عهد عمر بن الخطاب نجاحا لم يصل إليه غيره من الولاة.
وبقي على البصرة أيام عثمان بن عفان، فلما أعفي من ولاية البصرة وأوى إلى الكوفة، اختاره أهل الكوفة أميرا عليهم وحملوا عثمان على إقرار اختيارهم له، وهو أول وال في الإسلام يولى باختيار الناس له لا بتوليته من الخليفة.
وكان بإمكانه أن يبقى على الكوفة في عهد علي بن أبي طالب، ولكنه اختار لنفسه الاعتزال عن الفتنة، فنحي عن الكوفة، ولكن أهل الكوفة اختاروه ليمثلهم في التحكيم، وحملوا عليا على إقرار هذا الاختيار.
أما نجاحه في القتال، فيكفي أن نذكر، أنه فتح تسع مناطق بالصلح، وفتح منطقة واحدة بالقتال.
ونجاح أبي موسى في أعماله الكثيرة في أيام السلام، وبخاصة في البصرة والكوفة، وهما المصران اللذان لا يرضيان عن وال ولا يرضى عنهما وال وإدارتهما من أصعب الأمور وأعقدها، دليل على حكمته البالغة.
ونجاحه في أعماله العسكرية حشدا وجهادا وقيادة، وتحقيق أهدافه بالصلح في تسعين بالمائة من المناطق التي فتحها، وبذلك أنجز فتوحه بخسائر في الأرواح لا تكاد تذكر، دليل على حكمته البالغة.
ومن مزاياه سفيرا نبويا، سعة الحيلة، فقد كان ألمعي الذكاء، متزن العقل، سديد الرأي، يتسم بالأناة والصبر والحكمة، لذلك كان واسع الحيلة، يجد لكل معضلة مخرجا، ولكل مشكلة حلا مناسبا، وبخاصة وهو يستعين بالشورى على إيجاد الحلول المناسبة، فلا يستقل بإعطاء القرار دون