الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقد كان أبو موسى من قضاة المسلمين الأولين الذين أصبحت أقضيتهم أسوة حسنة لقضاء المسلمين والقضاء المثالي العادل، وحسبه أن يعمل في القضاء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه: أبي بكر وعمر وعثمان، فلما تولى علي تولى في عهده أعظم مهمة قضائية في حينه، هي مهمة: التحكيم، وهي مهمة قضائية في جوهرها بلا مراء.
3 -
الحكم
بدأت معركة صفين بين قوات علي بن أبي طالب من جهة وقوات معاوية بن أبي سفيان من جهة ثانية في اليوم الأول من شهر صفر من سنة سبع وثلاثين الهجرية (1)، واستمر القتال بين الطرفين عنيفا تساقط خلاله القتلى والجرحى من الطرفين، فقتل في الحرب بينهما سبعون ألفا، منهم من أصحاب علي خمسة وعشرون ألفا، ومن أصحاب معاوية خمسة وأربعون ألفا، وقتل مع علي خمسة وعشرون صحابيا بدريا، وكان مدة المقام بصفين مائة يوم وعشرة أيام، وكانت الوقائع تسعين وقعة (2).
ولما رأى عمرو بن العاص أن أمر العراق قد اشتد، وأن كفة أصحاب علي في القتال هي الراجحة، قال لمعاوية:"هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعا ولا يزيدهم إلا فرقة؟ "، قال:"نعم"، قال: نرفع المصاحف ثم نقول لما فيها: هذا حكم بيننا وبينكم، فإن أبي بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول: ينبغي لنا أن نقبل، فتكون فرقة بينهم، وإن قبلوا ما فيها رفعنا القتال عنا إلى أجل (3).
(1) الطبري (5/ 12) وابن الأثير (3/ 294).
(2)
معجم البلدان (5/ 370) والتنبيه والأشراف للمسعودي (256) ومروج الذهب (2/ 352).
(3)
انظر التفاصيل في الطبري (5/ 48 - 63) وابن الأثير (3/ 316 - 326).
وحين وافق أصحاب علي على التحكيم، اختلفوا على الحكم الذي يمثلهم، وكان أبو موسى مرشح الأكثرية، فنزل علي على رأيهم واختار أبا موسى حكما (1)، كما اختار معاوية عمرو بن العاص عن أهل الشام حكما (2).
وكان نص وثيقة التحكيم
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضي علي على أهل الكوفة ومن معهم، وقاضي معاوية مع أهل الشام ومن معهم، إننا ننزل عند حكم الله وكتابه، وأن لا يجمع بيننا غيره، وأن كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان في كتاب الله، وهما أبو موسى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص، عملا به، وما لم يجداه في كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة. وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين من العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهليهما، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه. وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة لا يرداها في حرب ولا فرقة حتى يعصيا، وأجل القضاء إلى رمضان، وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه، وإن مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام (3) ".
ولما جاء وقت اجتماع الحكمين: أرسل علي مع أبي موسى أربعمائة رجل، وأرسل معهم عبد الله بن عباس ليصلي بالناس ويلي أمورهم.
(1) الطبري (5/ 51) وابن الأثير (3/ 319).
(2)
الطبري (5/ 52) وابن الأثير (7/ 318).
(3)
الطبري (5/ 53 - 54) وابن الأثير (3/ 320)، وانظر الأخبار الطوال للدينوري (196 - 199).
وأرسل معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام، حتى توافوا من دومة الجندل (1) بأذرح.
واجتمع الحكمان، فقال عمرو لأبي موسى:"ألست تعلم أن معاوية وآل معاوية أولياء عثمان؟ "، فقال:"بلى"، فما يمنعك منه، وبيته في قريش كما قد علمت؟ فإن خفت أن يقول الناس: ليست له سابقة، فقل: وجدته ولي عثمان الخليفة المظلوم والطالب بدمه، الحسن السياسة والتدبير، وهو أخو أم حبيبة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاتبة، وقد صحبه"، وعرض لأبي موسى بسلطان.
وقال أبو موسى: " يا عمرو! اتق الله! فأما ما ذكرت من شرف معاوية، فإن هذا ليس على الشرف تولاه أهله، ولو كان على الشرف لكان لآل أبرهة بن الصباح (2)، وإنما هو لابن الدين والفضل، مع أني لو كنت معطيه أفضل قريش شرفا أعطيته علي بن أبي طالب. وأما قولك: إن معاوية ولي دم عثمان فوله هذا الأمر، فلم أكن لأوليه وأدع المهاجرين الأولين. وأما تعريضك لي بالسلطان، فوالله لو خرج لي معاوية من سلطانه كله لما وليته، وما كنت لأرتشي في حكم الله! ولكنك إن شئت أحيينا اسم عمر بن الخطاب رحمه الله ".
فقال له عمرو: "فما يمنعك من ابني، وأنت تعلم فضله وصلاحه؟ "، فقال:"إن ابنك رجل صدق، ولكنك قد غمسته في هذه الفتنة".
وجرت المناقشة على هذا المنوال، مما لا مجال لذكره هنا، وقد ذكرت ما ذكرت لأبرز اتجاه موسى في حرصه على المصلحة العليا للمسلمين، وخلوه من كل اتجاه آخر.
(1) دومة الجندل: حصن وقرى بين الشام والمدينة، انظر التفاصيل في معجم البلدان (4/ 106 - 109).
(2)
انظر نسبه في جمهرة أنساب العرب (435)، وهو من حمير بن سبأ.
وكان عمرو قد عود أبا موسى أن يقدمه في الكلام، يقول له:"أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسن مني، فتكلم "، وتعود ذلك أبو موسى، وأراد عمرو بذلك كله أن يقدمه في خلع علي.
ولما أراده عمرو على ابنه وعلى معاوية، فأبى، وأراد أبو موسى ابن عمر، فأبى عمرو، قال له عمرو:"خبرني ما رأيك؟ "، قال:"أرى أن نخلع هذين الرجلين، ونجعل الأمر شورى، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا". فقال عمرو: "الرأي ما رأيت ".
وأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فقال عمرو:"يا أبا موسى! أعلمهم أن رأينا قد اتفق".
وتكلم أبو موسى فقال: "إن رأينا قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به أمر هذه الأمة"، فقال عمرو:"صدق وبر، تقدم يا أبا موسى فتكلم ".
وتقدم أبو موسى، فقال:"أيها الناس! إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة، فلم نر أصلح لأمرهم ولا ألم لشعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع عليا ومعاوية ويولي الناس أمرهم من أحبوا، وإني قد خلعت عليا ومعاوية، فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه أهلا"، ثم تنحى.
وأقبل عمرو، فقام وقال:"إن هذا قد قال ما سمعتموه وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي ابن عفان، والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه ".
والتمس أهل الشام أبا موسى، فهرب إلى مكة، ثم انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية، فسلموا عليه بالخلافة.
ورجع ابن عباس ومن معه من أهل العراق إلى علي في الكوفة انظر التفاصيل في الطبري (5/ 67 - 71)(1)
(1) وابن الأثير (3/ 329 - 334). .
وقد غمز أبا موسى كثيرون، ولكي ننصفه بالحكم له أو عليه، لا بد من معرفة ظروفه التي أحاطت به، وموقفه منها.
لقد بقي أبو موسى واليا على البصرة حتى مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأقره عثمان عليها ثم صرفه (1) ثم عاد فولاه الكوفة نزولا عند رغبة أهلها (2).
وعندما أثار الشغب على عثمان قسم من أهل الكوفة، قام أبو موسى فيهم خطيبا فقال:"لا تنفروا في مثل هذا، ولا تعودوا لمثله، الزموا جماعتكم والطاعة، وإياكم والعجلة"، فقال الذين شغبوا على عثمان:"فصل بنا "، فقال:"لا! إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان "، فقالوا:"السمع والطاعة لعثمان "(3).
وهكذا ضرب أبو موسى مثلا رائعا رفيعا في العمل للمصلحة العامة الإسلامية ونكران الذات، إذ لم يفكر لحظة واحدة في الشغب على عثمان انتقاما منه على عزله عن البصرة دون مسوغ لهذا العزل، وبذل غاية جهده لعدم إشعال نيران الفتنة بين المسلمين. ولما علم بتجمع الحاقدين على عثمان من الأمصار في المدينة المنورة، أرسل القعقاع بن عمرو التميمي (4) على رأس جيش من أهل الكوفة لإنقاذ عثمان مما حاق به من أخطار (5).
ولكن عثمان قتل قبل أن يدركه جيش القعقاع أو تدركه جيوش الأمصار الأخرى (6)، فسبق السيف العذل (7).
(1) أسد الغابة (3/ 246) والإصابة (4/ 120) والاستيعاب (3/ 930)، وانظر ابن الأثير (3/ 99).
(2)
الطبري (4/ 336) وابن الأثير (3/ 148).
(3)
الطبرى (4/ 332) وابن الأثير (3/ 149).
(4)
انظر سيرته المفصلة في: قادة فتح العراق والجزيرة (331 - 355).
(5)
الطبري (4/ 352) و (4/ 385).
(6)
الطبرى (4/ 385).
(7)
مثل عربي يضرب لما قد فات ولا يستدرك.
وكان أبو موسى على الكوفة حين قتل عثمان (1)، فكتب إلى علي بن أبي طالب بطاعة أهل الكوفة وبيعتهم له، وبين الكاره منهم للذي كان والراضي ومن بين ذلك، حتى كأن علي بن أبي طالب يشاهدهم (2).
ومع ذلك، كان من رأي أبي موسى القعود عن الفتنة الكبرى، وقد سأل علي رجلا قدم من الكوفة عن أبي موسى، فقال الرجل: إن أردت الصلح فأبو موسى صاحبه، وإن أردت القتال فليس بصاحبه (3).
وسأل أهل الكوفة أبا موسى عن رأيه في الاقتتال، فقالوا:"ما ترى في الخروج؟ "فأجابهم: "القعود سبيل الآخرة، والخروج سبيل الدنيا، فاختاروا "(4).
وخطب بالكوفة، فكان مما قاله:"هذه فتنة صماء، النائم فيها خير من اليقظان واليقظان خير من القاعد، والقاعد خير من القائم والقائم خير من الراكب، والراكب خير من الساعي، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب، فاغمدوا السيوف، وانصلوا الأسنة، واقطعوا الأوتار،، وآووا المظلوم والمضطهد حتى يلتئم هذا الأمر، وتنجلي هذه الفتنة "(5) وأرسل علي بن أبي طالب ابنه الحسن وعمار بن ياسر إلى أبي موسى، فخرج أبو موسى ولقي الحسن فضمه إليه، فقال الحسن لأبي موسى:"لم تثبط عنا؟! فوالله ما أردنا إلا الإصلاح، ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء "، فقال أبو موسى: "صدقت بأبي أنت وأمي، ولكن المستشار مؤتمن، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من
(1) الطبري (4/ 422) وابن الأثير (3/ 186).
(2)
الطبري (4/ 443) وابن الأثير (3/ 202).
(3)
الطبري (4/ 480) وابن الأثير (3/ 225).
(4)
الطبري (4/ 481) وابن الأثير (3/ 227).
(5)
الطبري (4/ 482) وابن الأثير (3/ 227). .
الراكب (1)». وقد جعلنا الله عز وجل إخوانا، وحرم علينا أموالنا ودماءنا، وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًًا} (2) وقال عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (3)، فعزل علي بن أبي طالب أبا موسى عن الكوفة (4)، وكان قد أقره قبل ذلك، بينما عزل غيره من عمال عثمان (5). .
واعتزل أبو موسى الفتنة الكبرى، ولكنه لم يفارق عليا، ولم يغادر الكوفة إلى مكان آخر، بل بقي مع علي وفي ظله وسلطته، مقرا له بالخلافة، ولكنه لا يقاتل مسلما ولا يرضى بقتل مسلم، فاعتزل الفتنة كما اعتزلها غيره من كبار الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأسامة بن زيد حب رسول الله وابن حبه ومحمد بن مسلمة، وهذا هو سر اعتزال أبي موسى: لا يقتل مسلما، ولا يرضى بقتل مسلم.
لقد كان أبو موسى، يحرص أشد الحرص، على إخماد نيران الفتنة بين المسلمين، فدم المسلم على المسلم حرام، وهو يريد أن تكون سيوف المسلمين على أعدائهم لا عليهم، وأن يكون المسلمون إخوة في الله، يحب الأخ لأخيه ما يحبه لنفسه. ولست أشك في أنه كان يعمل لآخرته أكثر مما كان يعمل لدنياه، وكان راغبا عن الفتنة كارها لقتال المسلمين، وكانت حجته الواضحة لتسويغ موقفه الجازم الحازم الصلب الذي لا يتزعزع عنه قيد أنملة، هو أنه لا يمكن أن يقاتل قوما يؤمنون بالله ورسوله، وأن السبيل
(1) سنن الترمذي الفتن (2194)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 169).
(2)
سورة النساء الآية 29
(3)
سورة النساء الآية 93
(4)
ابن الأثير (3/ 231) وأسد الغابة (3/ 246).
(5)
اليعقوبي (2/ 155)
لوضع حد للاختلاف، هو التفاوض بين الأطراف المختلفة وليس أن يقتل الأخ أخاه.
ولا مجال أبدا، لزعم قسم من المؤرخين، أن أبا موسى كان مغفلا لا علم له بالسياسة، لذلك غدر به عمرو بن العاص، فقد كانت القضية مكشوفة للغاية وليست معقدة، كما أنه كان يعرف عمرو بن العاص ويعرف دهاءه، ولم يكن يجهل مكانه ومكانته، ولكن أبا موسى كان يريد الله بكل أعماله، وكان يرى أن إيقاف الاقتتال بين المسلمين ووضع حد لنزيف دماء المسلمين بأيديهم لا بأيدي أعدائهم، أهم بكثير من مصير رجلين من المسلمين، هما: علي ومعاوية. لقد كان يعتقد أن مصير الإسلام والمسلمين، أهم بكثير من مصير شخصين، وأن المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، أهم بكثير من المصلحة الشخصية، ولو كان غير عمرو بن العاص معه في التحكيم، لما تبدل موقفه، فهذا هو موقفه الذي لم يفرضه عليه عمرو ولا غيره، بل فرضه عليه إيمانه الراسخ بتعاليم الإسلام، وحرصه الشديد على اتباع التعاليم نصا وروحا، حتى ولو لحق الضرر بمصالحه الشخصية، فخسر منصبه، وخسر مكانته، وخسر حتى متاعه الذي نهبه الناس (1)، ولكنه ربح نفسه، ولا يمكن أن تعتبر الخسارة المادية إلى جانب الخسارة المعنوية عند أصحاب المبادئ والمثل العليا شيئا مذكورا. إن دراسة حياة هذا الصحابي الجليل بإمعان، تؤكد أنه لم يكن مغفلا وتنفي عنه الغفلة نفيا قاطعا، وإلا لما ولاه الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان، ولولا موقفه من الفتنة لما تخلى عن الاستعانة بكفايته علي أيضا، ولما اختاره أهل الكوفة لولاية مصرهم في عهد عثمان حين بدأت بوادر الفتنة، ولكنه كان رجلا ورعا تقيا سمح النفس رضي الخلق، لا يبيع دينه بدنياه، ولا يفرط بمصلحة المسلمين من أجل مصلحته.
(1) الطبري (4/ 487) وابن الأثير (3/ 231).