الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (1)».
ولم يتوعد الله على شيء من المنكرات والموبقات كما توعد على أكل الربا، فقد آذن الله ورسوله بحرب من لم يرتدع ويجتنب أكل الربا. فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2){فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (3) وقد جعل الله تعالى من أسباب عقوبة بني إسرائيل ومسخهم قردة وخنازير وأن الله أعد للكافرين منهم عذابا أليما جعل من أسباب ذلك أخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل. وجعل أكلة الربا في وضع متدن من الهوان والهوس وشبه الجنون قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (4).
لقد تناولت أبحاث الفقهاء قديما وحديثا العلة المناسبة لجريان الربا بنوعيه في المعاملات التبادلية على سبيل البيع والصرف. ونظرا لأهمية العلة في إدراك صور المعاملات الربوية فسيكون من تمام البحث التوسع في الحديث عنها.
(1) صحيح البخاري الوصايا (2767)، صحيح مسلم الإيمان (89)، سنن النسائي الوصايا (3671)، سنن أبو داود الوصايا (2874).
(2)
سورة البقرة الآية 278
(3)
سورة البقرة الآية 279
(4)
سورة البقرة الآية 275
علة الربا في الأموال الربوية:
لا أدري لعل غيري كان يتساءل كما كان مني التساؤل منذ كنت في المرحلة الثانوية أدرس ضمن دراستي مادة الفقه مسائل الربا، وذلك حينما أجد الفقهاء رحمهم الله يعبرون عن ضابط ما يجري فيه الربا بالعلة فيقولون: علة الربا في النقدين الوزن،
وفي غيرهما الكيل، فأي مناسبة في الوزن لجريان الربا في النقدين، وفي الكيل لجريانه في غيرهما من الأصناف الأربعة الواردة في حديث عبادة بن الصامت؟. الواقع أن التعليل بالوزن أو الكيل لجريان الربا تعليل بوصف طردي لا حكمة فيه، والتعليل بالوصف الطردي ممتنع لدى جمهور علماء الأصول ومحققيهم. قال الآمدي في كتابه الأحكام في بحثه القياس وشروطه (1):
(اختلفوا في جواز كون العلة في الأصل بمعنى الأمارة المجردة، والمختار أنه لا بد أن تكون العلة في الأصل بمعنى الباعث. أي مشتملة على حكمة صالحة أن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم، وإلا فلو كانت وصفا طرديا لا حكمة فيه، بل أمارة مجردة فالتعليل بها في الأصل ممتنع لوجهين:
الأول: أنه لا فائدة في الأمارة سوى تعريف الحكم، والحكم في الأصل معروف بالخطاب، لا بالعلة المستنبطة منه. الثاني: أن علة الأصل مستنبطة من حكم الأصل ومتفرعة عنه، فلو كانت معرفة لحكم الأصل لكان متوقفا عليها ومتفرعا عنها وهذا دور ممتنع) اهـ.
وقال الأستاذ علي حسب الله في كتابه (أصول التشريع الإسلامي) نقلا عن صاحب (شرح التلويح) ما نصه (2):
(إن جمهور العلماء على أن الوصف لا يصير علة بمجرد الاطراد، بل لا بد لذلك من معنى يعقل بأن يكون صالحا لبناء
(1) ج3 ص12
(2)
ص22 من الكتاب
الحكم عليه) اهـ.
وفي مسودة آل تيمية جاء ما نصه (1):
(مسألة: قال ابن برهان: لا يجوز القياس والإلحاق إلا بعلة مناسبة أو شبه يغلب على الظن عند أصحابنا وأكثر الحنفية - إلى أن قال- وكذلك ذكر المسألة أبو الخطاب صاحبنا والقاضي، وهو منصوص أحمد ولفظه في المجرد: ولا يجوز رد الفرع إلى أصل حتى تجمعها علة معينة تقتضي إلحاقه، فأما أن يعتبر ضرب من التنبيه فلا) اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) في معرض انتقاده التعليل بالوزن لجريان الربا في النقدين ما نصه (2):
(وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض) اهـ
ففي انتقاده التعليل بالوزن لعدم وجود مناسبة، إشارة إلى أنه رحمه الله يشترط المناسبة في العلة كغيره من محققي علماء الأصول، وفي انتقاد القول بأن علة الربا في النقدين الوزن وفي غيرهما الكيل، يقول الأستاذ محمد رشيد رضا في كتابه (يسر الإسلام وأصول التشريع العام) ما نصه (3):
(ولم أر مثلا لجعل الكيل والوزن علة الربا بأظهر من جعل
(1) ص 377 من المسودة.
(2)
ج2 من الإعلام ص 137.
(3)
ص 62 من الكتاب.
الدخول في الجوف علة لتحريم الأكل والشرب على الصائم، في كون كل من العلتين لا يدل عليهما الشرع ولا اللغة ولا العقل المدرك للحكم والمصالح) اهـ.
وهناك من العلماء من أجاز التعليل بالوصف الطردي، واعتبره بمثابة المناط. ففي المستصفى للغزالي ما نصه (1):
(لا معنى لعلة الحكم إلا أنها علامة منصوبة على الحكم، ويجوز أن ينصب الشرع السكر علامة لتحريم الخمر، ويقول اتبعوا هذه العلامة واجتنبوا كل مسكر. ويجوز أن ينصبه علامة للتحليل أيضا، ويجوز أن يقول: من ظن أنه علامة للتحليل فقد حللت له كل مسكر ومن ظن أنه علامة للتحريم فقد حرمت عليه كل مسكر) اهـ.
وقال في موضع آخر في المستصفى (2): (وأما الفقهيات فمعنى العلة فيها العلامة) اهـ.
وقال في كتابه شفاء العليل حسبما نقله عنه الدكتور سعيد رمضان في كتابه (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية) ما نصه (3):
(فكل ما جعل علة للحكم فإنما جعل علة لأن الشارع جعله علة لا لمناسبة) اهـ.
(1) ج2 من المستصفي، ص57.
(2)
ج2، ص 93.
(3)
ص 92
وقال ابن قدامة رحمه الله في كتابه (روضة الناظر) ما نصه (1):
(ومعنى العلة الشرعية العلامة. ويجوز أن تكون حكما شرعيا - إلى أن قال - وتكون مناسبا وغير مناسب) اهـ.
على أي حال فليس هذا موضوع بحثنا، وإنما ذكرنا ذلك استطرادا وتبريرا لتساؤلنا. وعلى أي حال فسواء أكثر القائلون بجواز التعليل بالوصف الطردي أم قلوا؛ فإن هذا لا يغير ما نحن بصدده من ذكر أقوال الفقهاء رحمهم الله في علة الربا في النقدين، ومناقشتهما واختيار ما نراه أقرب إلى الصواب منها.
لقد اختلف العلماء في تعليل تحريم الربا في الذهب والفضة، نتيجة اختلاف مفاهيمهم في حكمة تحريمه فيهما. فمن تعذر عليه إقامة دليل يرضاه على حكمة التحريم، قصر العلة فيهما مطلقا. سواء أكانا تبرا أو مسكوكين أو مصنوعين. وهذا مذهب أهل الظاهر، ونفاة القياس، وابن عقيل من الحنابلة حيث إنه يرى العلة فيهما ضعيفة لا يقاس عليها. فلا ربا عند هؤلاء في الفلوس، ولا في الأوراق النقدية، ولا في غيرهما مما يعد نقدا، والأمر في تحريم الربا فيهما أمر تعبدي.
وغير أهل الظاهر ومن قال بقولهم فهموا للتحريم حكمة تتفق مع مراعاة الشريعة بتحقيق العدل والرحمة والمصلحة بين العباد في الأحكام، وتتفق مع ما لهذه الشريعة من شمول
(1) ج2 من الروضة، ص313.
واستقصاء، فاعتبروا النص على جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة من قبيل التمثيل بهما لما ينتج التعامل به في حال التفاضل أو الإنظار من الفساد والظلم والقسوة بين العباد، فاستخرجوا مناطا تنضبط به قاعدة ما يجري فيه الربا، إلا أنهم اختلفوا في تخريج المناط.
فذهب بعضهم إلى أن علة الربا في النقدين الوزن، فطردوا القاعدة في جريان الربا في كل ما يوزن، كالحديد والنحاس والرصاص والذهب والفضة والصوف والقطن والكتان وغيرها. وهذا هو المشهور عن الإمام أحمد وهو قول النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي. وقد اختلفوا فيما أخرجته الصناعة عن الوزن ما لم يكن ذهبا أو فضة، كاللجم والإبر والأسطال والقدور والسكاكين والألبسة من قطن أو حرير أو كتان، وكالفلوس، فذهب جمهورهم إلى عدم جريان الربا فيها. وذهب بعض العلماء إلى أن علة الربا في الذهب والفضة غلبة الثمنية. وهذا الرأي هو المشهور عن الإمامين مالك والشافعي. فالعلة عندهما في الذهب والفضة قاصرة عليهما. والقول بالغلبة احتراز عن الفلوس إذا راجت رواج النقدين فالثمنية عندهما طارئة عليها فلا ربا فيها. وذهب فريق ثالث إلى أن العلة فيهما مطلق الثمنية، وهذا القول إحدى الروايات عن الإمام مالك وأبي حنيفة وأحمد. قال أبو بكر: روى ذلك عن أحمد جماعة. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من محققي العلماء.