الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع فتاواه ما نصه (1):
(والمقصود هنا الكلام في علة الربا في الدنانير، والأظهر أن العلة في ذلك هو الثمنية لا الوزن، كما قال جمهور العلماء - إلى أن قال- والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب، فإن المقصود من الأثمان أن تكون معيارا يتوصل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بعينها. فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية. واشتراط الحلول والمقابض فيها هو تكميل لمقصودها من التوصل بها إلى تحصيل المطالب، فإن ذلك إنما يحصل بقبضها لا بثبوتها في الذمة، مع أنها ثمن من طرفين، فنهى الشارع أن يباع ثمن بثمن إلى أجل، فإذا صارت الفلوس أثمانا صار فيها المعنى فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل).
(1) ج29 من الفتاوى، ص473، 474.
نقاش هذه الآراء:
لقد استعرضنا بصورة سريعة ومختصرة جدا أشهر آراء العلماء في مناط الربا في النقدين الذهب والفضة، دون مناقشة أي من هذه الآراء، ونحب الآن مناقشة هذه الآراء لتظهر لنا حقيقتها، وليترجح لنا منها ما يتفق مع حكمة حظر الربا على الأمة الإسلامية، لتكون هذه المناقشة عونا ومبررا لنا في توجيهنا ما نراه
علة للربا في الذهب.
لقد أورد بعض أهل العلم على القائلين بالوزن علة لجريان الربا في النقدين إيرادا ملخصه أن العلماء متفقون على جواز إسلام النقدين في الموزونات، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل، وفي جواز ذلك نقض للعلة. قال أبو محمد عبد الله بن قدامة رحمه الله في المغني في معرض توجيهه قول القائلين بالثمنية (1):
(ولأنه لو كانت العلة في الأثمان الوزن لم يجز إسلامهما في الموزونات، لأن أحد وصفي علة ربا الفضل يكفي في تحريم النساء) اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع فتاواه في معرض توجيه القول بالثمنية (2):
(ومما يدل على ذلك اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل. فلو كانت العلة الوزن لم يجز هذا. والمنازع يقول: جواز هذا استحسان وهو نقيض للعلة ويقول: إنه جوز هذا للحاجة مع أن القياس تحريمه) اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) في
(1) ج4 من المغني، ص4.
(2)
ج29 من الفتاوى، ص471.
معرض توجيهه القول بالثمنية وتصحيحه ما نصه (1):
(فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد ونحوهما. فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا. فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النساء. والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها. وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض) اهـ.
وقد أجاب القائلون بهذا من الحنابلة عن إيراد اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات، مع أنه بيع موزون بموزون إلى أجل باستثناء هذه الجزئية من القاعدة للحاجة الماسة إلى الإسلام بأحد النقدين. فقالوا بجريان ربا النسيئة في كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل ليس أحدهما نقدا. أما الحنفية فوضعوا قيدا ليدفعوا به هذا الاعتراض، فقالوا بجريان ربا النسيئة في كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل وطريقته، وقالوا إن مسألة السلم لا تنقض قاعدتنا. حيث إن النقدين موزونان بالميزان، أما ما يسلم فيه مما يوزن فوزنه بالقبان، فاختلف الميزان فجاز (2) ولا يخفى ما في هذا القيد من تكلف ظاهر.
وأورد أيضا على القائلين بالوزن علة لجريان الربا في النقدين إيراد آخر ملخصه: إن حكمة تحريم الربا ليست مقصورة
(1) ج2 من الإعلام، ص 137.
(2)
ج5 من بدائع الصنائع للكاساني، ص 186.
على ما يوزن. بل هي متعدية إلى غيره مما يعد ثمنا كالفلوس والورق النقدي، بل إن الظلم المراعى إبعاده في تحريم الربا في النقدين واقع في التعامل بالورق النقدي، وبشكل واضح في غالبه تتضاءل معه صورة الظلم الواقع في التعامل بالذهب والفضة متفاضلا في الجنس أو نسيئة في الجنسين، نظرا لارتفاع القيمة الثمنية في بعضها كفئات الخمسمائة ريال والألف دولار.
فليس التعليل بالوزن جامعا لأجزاء ما يجري فيه الربا من أنواع الأثمان. فتعين المصير إلى مناط جامع مانع.
أما القائلون بغلبة الثمنية علة لجريان الربا في النقدين، فأورد عليهم أن العلة عندكم قاصرة على النقدين الذهب والفضة، والعلة القاصرة لا يصح التعليل بها في اختيار أكثر أهل العلم. قال النووي في مجموعه:(شرح المهذب) في معرض سياقه الرد على الشافعية لقولهم بالعلة القاصرة:
(وعندكم في العلة القاصرة وجهان لأصحاب الشافعي. أحدهما: أنها فاسدة لا يجوز التعليل بها لعدم الفائدة فيها، فإن حكم الأصل قد عرفناه وإنما مقصود العلة أن يلحق بالأصل غيره. والوجه الثاني: أن القاصرة صحيحة ولكن المتعدية أولى. قالوا: فعلتكم مردودة على الوجهين لأن حكم الذهب والفضة عرفناه بالنص. قالوا: ولأن علتكم قد توجد ولا حكم، وقد يوجد الحكم ولا علة كالفلوس بخراسان وغيرها، فإنها أثمان ولا ربا فيها عندكم والثاني كأواني الذهب والفضة يحرم الربا فيها
مع أنها ليست أثمانا) اهـ (1).
وأورد عليهم أيضا ما أورد على القائلين بالوزن علة من أن حكمة تحريم الربا ليست مقصورة على النقدين، بل تتعداهما إلى غيرهما من الأثمان كالفلوس والورق النقدي إلى آخر الاعتراض المتقدم قريبا.
(1) ج 9 من المجموع، ص 445.
أما القائلون بأن علة الربا في النقدين مطلق الثمنية، فقد استخرجوا مناطا جامعا مانعا متفقا مع الحكمة في جريان الربا في الذهب والفضة.
وما ذكره ابن مفلح رحمه الله في كتابه الفروع من قوله، بأنها علة قاصرة لا يصلح التعليل بها في اختيار الأكثر، منقوضة طردا بالفلوس، لأنها أثمان وعكسا بالحلي. فهذا الإيراد لا يتجه إلا على القائلين بغلبة الثمنية، أما القائلون بمطلق الثمنية فلم يخرجوا الفلوس الرائجة عن حكم النقدين بل اعتبروها نقدا يجري فيه الربا بنوعيه كما يجري الربا بنوعيه في الذهب والفضة.
كما أنهم لم يقولوا بجريان الربا في الحلي المصنوع من الذهب أو الفضة لأن الصناعة قد نقلته من مادة الثمنية إلى جنس السلع والثياب. ولهذا لا تجب فيه الزكاة على القول المشهور مع أنه من مادة الذهب والفضة.
وفي امتناع جريان الربا في الحلي المباح من الذهب
والفضة يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين) ما نصه (1):
وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعرايا، فإن ما حرم سدا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد، وعلى هذا فالمصوغ والحلية إن كانت صياغته محرمة، كالآنية حرم بيعه بجنسه وغير جنسه، وبيع هذا هو الذي أنكره علي ومعاوية، فإنه يتضمن، مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان، وهذا لا يجوز كالات الملاهي، وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء، وما أبيح من حلية السلاح وغيرها فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها، فإنه سفه وإضاعة للصنعة، والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك، فالشريعة لا تأتي به ولا تنهى بالمنع من بيع ذلك وشرائه، لحاجة الناس إليه. فلم يبق إلا أن يقال لا يجوز بيعها بجنسها ألبتة، بل بيعها بجنس آخر، وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تنفيه الشريعة، فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك، والبائع لا يسمح ببيعه ببر وشعير وثياب، وتكليف الاستصناع لكل من احتاج إليه إما متعذر أو متعسر، والحيل باطلة في الشرع وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر، لشهوة الرطب. وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه؟ فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع، فلو لم يجز بيعه بالدرهم فسدت مصالح
(1) ج2 من الإعلام، ص140، 141.
الناس. والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها ما هو صريح في المنع. وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة، ولا ينكر تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي، وهي بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في الذهب والفضة، والجمهور يقولون: لم تدخل في ذلك الحيلة. ولا سيما فإن لفظ النصوص في الموضعين قد ذكر تارة بلفظ الدراهم والدنانير، كقوله:«الدراهم بالدراهم والدنانير بالدنانير» . وفي الزكاة قوله: «في الرقة ربع العشر (1)» . والرقة هي الورق، وهي الدراهم المضروبة. وتارة بلفظ الذهب والفضة فإن حمل المطلق على المقيد كان نهيا عن الربا في النقدين، وإيجابا للزكاة فيهما، ولا يقتضي ذلك نفي الحكم عن جملة ما عداهما بل فيه تفصيل. فتجب الزكاة ويجري الربا في بعض صوره لا في كلها، وفي هذا توفية الأدلة حقها، وليس فيه مخالفة شيء لدليل منها.
يوضحه أن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع، لا من جنس الأثمان، ولهذا لم تجب فيها الزكاة، فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان، كما لا يجري بين الأثمان وسائر السلع، وإن كانت من غير جنسها، فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان وأعدت للتجارة، فلا محذور في بيعها بجنسها، ولا يدخلها (إما أن تقضي وإما أن تربي). كما لا يدخل في سائر السلع إذا بيعت بالثمن المؤجل. ولا ريب أن هذا قد يقع فيها، لكن لو سد على الناس ذلك لسد عليهم باب الدين، وتضرروا بذلك غاية الضرر. يوضحه أن
(1) صحيح البخاري الزكاة (1454)، سنن النسائي كتاب الزكاة (2455)، سنن أبو داود كتاب الزكاة (1567)، سنن ابن ماجه الزكاة (1800)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 12).
الناس على عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم كانوا يتخذون الحلية، وكان النساء يلبسنها، وكن يتصدقن بها في الأعياد وغيرها. ومن المعلوم بالضرورة أنه كان يعطيها للمحاويج ويعلم أنهم يبيعونها. ومعلوم قطعا أنها لا تباع بوزنها فإنه سفه. ومعلوم أن مثل الحلقة والخاتم والفتخة لا تساوي دينارا، ولم يكن عندهم فلوس يتعاملون بها، وهم كانوا أتقى لله وأفقه في دينه، وأعلم بمقاصد رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرتكبوا الحيل أو يعلموها الناس. يوضحه أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهى أن يباع الحلي إلا بغير جنسه أو بوزنه، والمنقول عنهم إنما هو في الصرف، يوضحه أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدا للذريعة كما تقدم بيانه، وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر، وكما أبيح النظر للخاطب، والشاهد والطبيب، والمعامل من جملة النظر المحرم، وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال، حرم لسد ذريعة التشبه بالنساء الملعون فاعله، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة، وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك إلى آخر ما ذكره.
وقد يرد على ما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله من أن الحلية المصوغة لا يجري فيها الربا، ما رواه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي «عن فضالة بن عبيد قال: اشتريت قلادة يوم خيبر باثني عشر دينارا، فيها ذهب وخرز. ففصلتها فوجدت أكثر من اثني
عشر دينارا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا يباع حتى يفصل (1)». وفي لفظ لأبي داود «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة أو سبعة دنانير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا حتى تميز بينه وبينه " فقال: إنما أردت الحجارة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا حتى تميز بينهما " قال فرده حتى ميز بينهما (2)» .
ووجه الإيراد أن القلادة حلية فيها ذهب، وقد اشتريت بذهب، ومع هذا فقد اعترض صلى الله عليه وسلم على صحة هذا البيع وأمر برده حتى يفصل. وقد يكون من الجواب عليه أن ذهب القلادة كان أكثر من ثمنها، حيث ذكر فضالة أنه فصلها فوجد فيها أكثر من اثني عشر دينارا، وأكثر ما روي في ثمنها أنه اثنا عشر دينارا، وقد روي أنه اشتراها بسبعة دنانير أو تسعة، فإذا كان ما فيها من الذهب أكثر من ثمنها لم يكن للصياغة فيها مقابل. وآل الأمر فيها إلى بيع ذهب بذهب متفاضلا، لم يكن لزيادة بعضه على بعض مقابل. وابن القيم رحمه الله يشترط أن يكون ثمن الحلية أكثر منها وزنا، ليكون الزائد على وزنها من الثمن في مقابلة الصياغة، وقد مر بنا قوله:(وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها). وقال رحمه الله بعد هذا في معرض الدفاع عن هذا الرأي (3):
(فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصناعة) اهـ.
وأجاب بنحو هذا شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض
(1) صحيح مسلم المساقاة (1591)، سنن النسائي البيوع (4573)، سنن أبو داود البيوع (3351)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 19).
(2)
صحيح مسلم المساقاة (1591)، سنن النسائي البيوع (4573)، سنن أبو داود البيوع (3351)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 19).
(3)
ج2 من الإعلام، ص 142.
جوابه عن جواز بيع الأكاديس الإفرنجية بالدراهم الإسلامية مع القطع بأن بينهما تفاوتا في الوزن فقال رحمه الله في مجموع فتاواه ما نصه (1):
(وكذلك إذا لم يعلم مقدار الربوي بل يخرص خرصا، مثل القلادة التي بيعت يوم حنين، وفيها خرز معلق بذهب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تباع حتى تفصل (2)» فإن تلك القلادة لما فصلت كان ذهب الخرز أكثر من ذلك الذهب المفرد. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا بهذا حتى تفصل لأن الذهب المفرد يجوز أن يكون أنقص من الذهب المقرون، فيكون قد باع ذهبا بذهب مثله (3) وزيادة خرز وهذا لا يجوز.
وإذا علم المأخذ فإن كان المقصود بيع دراهم بدراهم مثلها، وكان المفرد أكثر من المخلوط كما في الدراهم الخالصة بالمغشوشة، بحيث تكون الزيادة في مقابلة الخلط، لم يكن في هذا من مفسدة الربا شيء، إذ ليس المقصود بيع دراهم بدراهم أكثر منها، ولا هو بما يحتمل أن تكون فيه ذلك فيجوز التفاوت) اهـ.
ومما أجيب به عن هذا الحديث أن فيه اضطرابا واختلافا، يوجب ترك الاحتجاج به، فقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه " تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير " ما نصه (4):
(1) ج 29، ص453.
(2)
صحيح مسلم المساقاة (1591)، سنن الترمذي البيوع (1255)، سنن النسائي البيوع (4573)، سنن أبو داود البيوع (3352)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 21).
(3)
هكذا في المطبوع ولعل الصواب " قد باع ذهبا بذهب مثله وزيادة وخرز ".
(4)
ج 3، ص 9.
(وله عند الطبراني في الكبير طرق كثيرة جدا. في بعضها: قلادة فيها خرز وذهب. وفي بعضها: ذهب وجوهر. وفي بعضها: خرز وذهب. وفي بعضها: خرز معلق بذهب، وفي بعضها: باثني عشر دينارا. وفي أخرى: تسعة دنانير، وفي أخرى: بسبعة دنانير. وأجاب البيهقي عن هذا الاختلاف بأنها كانت بيوعا شهدها فضالة) اهـ.
وذكر الحافظ ابن حجر أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفا، بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل. وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحالة ما يوجب الحكم بالاضطراب. اهـ.
قلت: قد رأيت لبعض المتأخرين من محدثي الهند تعقيبا على ابن حجر رحمه الله في جوابه هذا، فقد ذكر المفتي عبد اللطيف الرحماني في شرحه:(جامع الترمذي) الجزء الثاني ص 709 ما نصه:
(وأما ما أجاب به الحافظ بأن المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل، ففيه أيضا أنه غير محفوظ بما روى البيهقي في السنن عن فضالة بن عبيد، قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود الأوقية
من الذهب بالدينارين والثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا بوزن (1)» ففي هذا الحديث ليس للقلادة ذكر، ولي فيه النهي عن بيع ما لم يفصل، بل فيه النهي عن بيع الذهب بالدينار إلا مماثلا. وأما ما قال الحافظ من أنه ينبغي الترجيح بين رواتها، وإن كان الجميع ثقات، فنحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم؛ ففيه أنهم إذا كانوا كلهم سواء في الحفظ والضبط فكيف الترجيح؟ وأيضا لا يجوز تغليط ثقة؛ لأن عليه الاعتماد.
فعلى هذا لا حجة في هذا الحديث لاضطرابه، وكيف وفيه حرج عظيم ومشقة على الأمة، إذا حكم بفصل الذهب والفضة عن الأشياء التي تحلى بالذهب والفضة؛ لأن بعض الأشياء بعد نزوع الذهب والفضة منها تنقص قيمتها كثيرا، بل بعضها لا يكون لها قيمة، فكيف يحكم بهذا الشارع ويحكم بإبطال الصنع وهو حكيم؟) اهـ.
أقول: في اعتراضه رحمه الله بقوله: ففيه أنهم إذا كانوا كلهم سواء في الحفظ والضبط فكيف الترجيح؟. في قوله هذا نظر ملخصه: هل تحقق أن رواة هذه الروايات المختلفة كلهم سواء في الحفظ والضبط؟ كما أن قوله: لا يجوز تغليط ثقة لأن عليه الاعتماد. ليس على إطلاقه بل إذا روى الثقة حديثا يخالف ما روى الناس اعتبرت روايته هذه شاذة، وتعين التوقف فيها وعدم الاحتجاج بها. قال ابن كثير رحمه الله في كتابه (الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث) في معرض تعريفه الشاذ ما نصه (2):
(1) صحيح مسلم المساقاة (1591)، سنن النسائي البيوع (4573)، سنن أبو داود البيوع (3353)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 22).
(2)
ص61 من الكتاب.
(قال الشافعي: وهو أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس، وليس من ذلك أن يروي ما لم يرو غيره. وقد حكاه الحافظ أبو يعلى الخليل القزويني عن جماعة من الحجازيين أيضا، قال: والذي عليه حفاظ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد، يشذ به ثقة أو غير ثقة، فيتوقف فيما شذ به الثقة، ولا يحتج به، ويرد ما شذ به غير الثقة - إلى أن قال: - فإذن الذي قاله الشافعي أولا هو الصواب: أنه إذا روى الثقة شيئا قد خالفه فيه الناس فهو الشاذ. يعني: المردود) اهـ.
ومن المسائل التطبيقية لهذه المسألة ما ذكره ابن حجر رحمه الله في كتابه: (هدي الساري) مقدمة فتح الباري: من قوله (1):
(قال الدارقطني: أخرجا جميعا حديث مالك عن الزهري عن أنس قال: كنا نصلي العصر، ثم يذهب الذاهب منا إلى قباء فيأتيهم والشمس مرتفعة. وهذا مما ينتقد به على مالك؛ لأنه رفعه، وقال فيه إلى قباء. وخالفه عدد كثير، منهم شعيب بن أبي حمزة، وصالح بن كيسان، وعمرو بن الحارث، ويونس بن يزيد، ومعمر، والليث بن سعد، وابن أبي ذئب وآخرون) انتهى.
وقد تعقبه النسائي أيضا على مالك، وموضع التعقب منه قوله: إلى قباء، والجماعة كلهم قالوا: إلى العوالي. ومثل هذا الوهم اليسير لا يلزم منه القدح في صحة الحديث لا سيما وقد
(1) ج1 من هدي الساري، ص111.
أخرجا الرواية المحفوظة) اهـ.
فقول ابن حجر رحمه الله: ومثل هذا الوهم اليسير لا يلزم منه القدح في صحة الحديث يدل على أنه يرى كغيره من حفاظ الحديث أن الثقة إذا شذ عن الجماعة برواية خالفهم فيها وترتب على هذه الرواية وهم غير يسير؛ لزم من ذلك القدح في صحة الرواية، وإن كان الثقة مالكا أو من يدانيه، فضلا عمن هو دونه.
كما أنه قد يورد مورد اعتراض على القائلين بمطلق الثمنية، بأن إجماع العلماء منعقد على جريان الربا بنوعيه، في الذهب والفضة، سواء أكانا سبائك أو كانا مسكوكين، فما سك منهما نقدا فلا إشكال في جريان الربا فيه لكونه ثمنا، وإنما الإشكال في جريان الربا بنوعيه في سبائكهما، مع أنهما في حال كونهما سبائك ليسا ثمنا، إلا أنه يمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض بأن الثمنية في الذهب والفضة موغلة فيهما، وشاملة لسبائكهما ومسكوكهما، بدليل أن السبائك الذهبية كانت تستعمل نقدا قبل سكها نقودا. وقد كان تقدير ثمنيتها بالوزن، ومن ذلك ما رواه الخمسة وصححه الترمذي عن سويد بن قيس قال.
«جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر، فأتينا به مكة، فجاءنا رسول الله يمشي، فساومنا سراويل فبعناه، وثم رجل يزن بالأجرة، فقال له: زن وأرجح (1)» . ومثله حديث جابر في بيعه جمله على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: «يا بلال اقضه وزده. فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا (2)» . وقد أشار شيخ الإسلام ابن
(1) سنن الترمذي البيوع (1305)، سنن النسائي البيوع (4592)، سنن أبو داود البيوع (3336)، سنن ابن ماجه التجارات (2220)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 352)، سنن الدارمي البيوع (2585).
(2)
صحيح البخاري كتاب الوكالة (2309)، صحيح مسلم المساقاة (715)، سنن الترمذي النكاح (1100)، سنن النسائي البيوع (4639)، سنن أبو داود النكاح (2048)، سنن ابن ماجه النكاح (1860)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 314)، سنن الدارمي النكاح (2216).
تيمية رحمه الله إلى هذا فجاء في مجموع الفتاوى (1):
(إن الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتعاملون بالدراهم والدنانير تارة عددا وتارة وزنا) اهـ.
ويمكن أن يجاب أيضا بما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) في معرض توجيهه جريان الربا في الأصناف الستة الواردة في حديث عبادة بن الصامت وغيره فقال (2):
(وسر المسألة أنهم منعوا من التجارة في الأثمان بجنسها؛ لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان، ومنعوا من التجارة في الأقوات بجنسها، لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأقوات. وهذا المعنى بعينه موجود في بيع التبر والعين، لأن التبر ليس فيه صنعة لأجلها، فهو بمنزلة الدراهم التي قصد الشارع ألا يفاضل بينها، ولهذا قال: تبرها وعينها سواء) اهـ.
ولابن القيم رحمه الله توجيه رائع للتعليل بالثمنية يحسن بنا ونحن نرى أن التعليل بالثمنية أصوب الأقوال وأصحها أن نذكره كختام لمبحثنا هذا. قال رحمه الله في كتابه: (إعلام الموقعين) ما نصه (3):
(وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة: العلة فيهما كونهما
(1) ج19، ص 248.
(2)
ج 2 من الإعلام، ص 140.
(3)
ج 2 من الإعلام، ص137.
موزونين، وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه، ومذهب أبي حنيفة. وطائفة قالت: العلة: فيهما الثمنية. وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى. وهذا هو الصحيح بل الصواب.
فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما، فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا، فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النساء.
والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها.
وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية.
فإن الدراهم والدنانير أثمان مبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدودا مضبوطا، لا يرتفع ولا ينخفض؛ إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجات الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره. إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس - إلى أن قال: - فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير، مثل أن يعطي صحاحا ويأخذ مكسرة، أو خفافا ويأخذ ثقالا أكثر منها، لصارت متجرا،
وجر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولا بد. فالأثمان لا تقصد لأعيانها، بل يقصد التوصل بها إلى السلع، فإذا صارت في نفسها سلعا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس، وهذا معنى معقول مختص بالنقود ولا يتعدى إلى سائر الموزونات) اهـ.
ومن خلاصة البحث في علة الربا وما تم ارتضاؤه والاطمئنان إلى إصابته الحق أو أنه أقرب الأقوال إلى ذلك من خلاصة ذلك القول بأن علة الربا في الأثمان مطلق الثمنية، وفي غيرها من الأموال الربوية الطعم مع صلاحه للادخار.
والأثمان جمع ثمن، وقد تعددت تعريفاته من قبل بعض أهل العلم، إلا أن أقرب تعريف له من حيث الجمع والمنع والشمول هو: الثمن: كل شيء يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل مهما كان ذلك الشي وعلى أي حال يكون (1).
وهذا التعريف يتفق مع ما ذكره مجموعة من أهل العلم فقد جاء في المدونة الكبرى للإمام مالك رحمه الله من كتاب الصرف ما نصه:
(ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نسيئة) اهـ.
وفي مجموع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما نصه (2):
(وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي
(1) انظر الورق النقدي لمؤلفه الشيخ عبد الله المنيع، ص 19 - 20.
(2)
ج19، ص 251 من الفتاوى.
بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به بل الغرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به.
والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل بها ولهذا كانت أثمانا- إلى أن قال- والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت) اهـ.
ففي قوله رحمه الله: والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت، في قوله هذا إشارة إلى أن الثمن هو ما يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل على أي صورة كان ومن أي مادة اتخذ، وعلى هذا فإن من الأثمان الذهب والفضة والفلوس والأوراق النقدية. وحيث إن صحة الصرف تستلزم تحقق شرطين في حال اتحاد الجنس بين العوضين هما التماثل والتقابض في مجلس العقد. وفي حال اختلاف العوضين جنسا فتصح المصارفة بشرط التقابض في مجلس العقد، والأصل في ذلك أحاديث أبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت وغيرهما:«الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (1)» .
هذا الحكم في الصرف يقتضي منا البحث في الأثمان من حيث الجنس.
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي البيوع (4561)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).
لا شك أن الذهب جنس مغاير لجنس الفضة، وأن الأثمان المعدنية من نحاس أو نيكل أو غيرهما جنس مغاير لجنسي الذهب والفضة، وهذا من الوضوح بحال لا يحتاج منا إلى مزيد بيان لوضوح اختلاف بعضها عن بعض من حيث الجنس. وعليه فتجوز مصارفة الذهب بالفضة والعكس أو بأي ثمن من الأثمان المعدنية - الفلوس- متماثلا في الوزن أو متفاضلا بشرط الحلول والتقابض في مجلس العقد.
وأما مصارفة هذه الأثمان المعدنية بأي ثمن من الأثمان الورقية أو مصارفة هذه الأثمان الورقية بعضها ببعض فإن معرفة حكم ذلك يحتاج إلى تمهيد تتضح منه حقيقة هذه الأثمان الورقية وتصور واقعها.
لقد مر بنا تعريف النقد، وأنه أي شيء يلقى قبولا عاما للتبادل، وعلمنا أن الورق النقدي مر بمراحل كانت نهايتها اعتباره نقدا قائما، يحمل قوة مطلقة للإبراء العام. وأن التعهد المسجل على كل ورقة نقدية منه بتسليم مقدار ما اعتبرت إبراء عنه لحاملها عند طلبه لفظ لا يعني معناه، وإنما هو بقية باقية لمرحلة من مراحل حياة الورق النقدي، يعني التمسك به الآن تذكير المسئولين عن إصداره بمسئوليتهم تجاهه، والحد من الإفراط في الإصدار بدون استكمال لأسباب إحلال الثقة به كنقد يحمل قوة مطلقة للإبراء العام، وكمستودع للثروة تطيب النفس باختزانه للحاجة.
ولا شك أن قانون إصدار الأوراق النقدية لا يحتم على
مصدريها تغطيتها جميعها. وإنما يكفي تغطية بعضها بغطاء مادي ذي قيمة، على أن يكون الباقي مما لم يغط أوراقا وثيقية على جهات إصدارها، وأن التغطية لا يلزم أن تكون ذهبا أو فضة، بل يجوز أن تكون عقارا أو أوراقا مالية كالأسهم والسندات. وأن سر قبول النقد أيا كان قبولا عاما للتداول والتمول، هو الثقة به كقوة شرائية وكمستودع أمين للادخار، لا أن سر قبوله محصور في كونه ذا قيمة في ذاته أو أن القانون فرضه وألزم التعامل به.
ولا شك أن ذات الورقة النقدية لا قيمة لها مطلقا، بعد أن صارت مجرد قصاصات صغيرة فاقدة عموم وجوه الانتفاع، وأنها بذلك ليست من عروض التجارة، وإنما قيمتها في أمر خارج عن ذاتها، ولا شك أن الحكمة في جريان الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة كونهما محلا للظلم والعدوان، حينما يكونان أو أحدهما سلعا تباع وتشترى، والحال أنهما وحدة للمحاسبة والتقويم، فزيادة أحدهما بعضه على بعض في غير مقابلة مشروعة ظلم وعدوان، كما أن مصارفة أحدهما بالآخر بدون تقابض في مجلس العقد مظنة ذلك، وذريعة إليه وفي اتخاذهما سلعا تباع وتشترى تعطيل لهما عما اتخذا له، وإفساد على المسلمين قيم سلعهم، حينما تكون هذه القيم عرضة للزيادة والنقصان. وفي هذا تعد على المجتمع وعدوان، وقد مر بنا أن أقرب الأقوال إلى الصحة في علة الربا في النقدين مطلق الثمنية، وأن الحكمة إذا كانت ظاهرة ومنضبطة جاز التعليل بها في القياس.
وعليه فحيث إن الورق النقدي نقد قائم بذاته، لم يكن سر
قبوله للتداول والتمول والإبراء المطلق التعهد المسجل على كل ورقة نقدية منه، بتسليم حاملها محتواها عند الطلب، ولا أنه جميعه مغطى بذهب أو فضة، ولا أن السلطان فرضه وألزم التعامل به، وإنما سر قبوله ثقة الناس به كقوة شرائية مطلقة، بغض النظر عن أسباب حصول الثقة به.
وحيث إن الورق النقدي له خصائص النقدين الذهب والفضة من أنه ثمن، وبه تقوم الأشياء والنفوس تطمئن بتموله وادخاره وفي اتخاذه سلعا تباع وتشترى ما في اتخاذ النقدين سلعا تباع وتشترى، من الظلم والضرر والعدوان. وحيث إن التحقيق في علة جريان الربا في النقدين مطلق الثمنية.
لهذه الحيثيات فإن الورق النقدي ثمن قائم بذاته، له حكم النقدين الذهب والفضة في جريان الربا بنوعيه فيه، كما يجري فيهما قياسا عليهما، ولاندراجه تحت مناط الربا في النقود وهو الثمنية.
وإلى نحو هذا أشار الأستاذ محمد رشيد رضا في كتابه (يسر الإسلام وأصول التشريع)، في معرض نقاشه آراء العلماء في علة جريان الربا في الأصناف الستة المذكورة في حديث عبادة حيث قال (1):
(والمذهب الوسط أن الأجناس الستة المذكورة في الحديث كانت ولا تزال معيارا لأثمان وأصول الأقوات لأكثر البشر- إلى أن قال: - فإذا وجدت العلة في نقد آخر غير الذهب والفضة، وقوت آخر غير البر والشعير والتمر والملح، صح قياسهما على
(1) انظر ص61.
الأجناس الستة، لحلولهما محلها، وانطباق حكمة التشريع على ذلك) اهـ.
وحيث إن قيمة الورقة النقدية ليست في ذاتها، كما هو الشأن في النقود المعدنية من ذهب أو فضة أو فلوس، وإنما قيمتها في أمر خارج عن ذاتها. هذه القيمة الخارجة عن ذاتها هي سر مناطها بالثمنية، وحيث إن هذه القيمة الخارجة عن ذوات الأوراق النقدية تختلف بعضها عن بعض. وحيث إن لهذا الاختلاف أثرا في اعتبارها أجناسا متعددة، بتعدد جهات إصدارها.
لهذه الحيثيات فإني أرى أن العملات الورقية أجناس تتعدد بتعدد جهات إصدارها، بمعنى أن الورق النقدي السعودي مثلا جنس، والورق النقدي الكويتي جنس، والورق النقدي الأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، حكمها حكم الذهب والفضة في جواز بيع بعضها ببعض، من غير جنسها مطلقا إذا كان ذلك يدا بيد، لما روى الإمام أحمد ومسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (1)» .
فكما أن الذهب والفضة جنسان لاختلاف أحدهما عن الآخر في قيمتهما الذاتية، فكذلك العملات الورقية أجناس
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي البيوع (4561)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).
لاختلاف بعضها عن بعض فيما تقدرها به جهات إصدارها، وفيما تتخذه من أسباب لقبولها وإحلال الثقة بها، وفيما تكون عليه هذه الجهات من قوة وضعف وسعة سلطان وتقلصه.
مستلزمات هذا الرأي:
الواقع أن القول باعتبار الورق النقدي ثمنا قائما بذاته كقيام الثمنية في كل من الذهب والفضة وغيرهما من النقود المعدنية، وأن العملات الورقية أجناس تتعدد بتعدد جهات إصدارها، هذا القول يستلزم أحكاما شرعية أشير إلى بعضها فيما يأتي:
1 -
جريان الربا بنوعيه فيه كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وما أجري مجراهما في الثمنية كالفلوس لدى المحققين من أهل العلم.
وهذا يقتضي ما يأتي:
أ- لا يجوز بيع بعضه ببعض، أو بغيره من الأجناس الثمنية الأخرى من ذهب أو فضة أو فلوس نسيئة مطلقا. أي لا يجوز مثلا بيع ريال ورق بريال فضة أو بعشرين قرشا نسيئة، كما لا يجوز بيع الدولار الأمريكي بخمسة أريل سعودية مثلا أو أقل منها أو أكثر نسيئة، ولا يجوز بيع خمسين ريالا بجنيه ذهب نسيئة.
ب- لا يجوز بيع الجنس الواحد منه بعضه ببعض متفاضلا، سواء كان ذلك نسيئة أو يدا بيد، فلا يجوز مثلا بيع خمسة عشر ريالا سعوديا ورقا بستة عشر ريالا سعوديا ورقا.
ج- يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقا، إذا كان ذلك يدا بيد، فيجوز بيع الريال الفضة السعودي بريالين أو أكثر أو أقل من الورق النقدي السعودي، وبيع الليرة السورية أو اللبنانية مثلا بريال سعودي فضة كان أو ورقا، وبيع الدولار الأمريكي بخمسة أريل سعودية مثلا أو أقل منها أو أكثر إذا كان بيع ذلك يدا بيد.
2 -
وجوب زكاتها إذا بلغت ثمنيتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان أو مع العروض المعدة للتجارة إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها.
3 -
جواز جعلها رأس مال في السلم والشركات.
وبعد فقد وصلت ببحثي إلى نقطة أعتبرها خاتمة ذلك البحث، فإن كان ما قدمته صوابا فذلك من الله وحده، وأسأله تعالى أن يديم توفيقي وأن يمدني بعونه ورعايته، وأن لا يحرمني أجر الإصابة وأجر الاجتهاد. وإن كان ما قدمته خطأ فمني ومن الشيطان، والله بريء من ذلك، وأرجوه تعالى أن يثيبني على اجتهادي ويغفر لي خطيئتي يوم الدين، فهو حسبي ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.