الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
نصوص من أحاديث أحكام الربا مع شرحها
أ-
نصوص من صحيح البخاري مع شرحها لابن حجر
رحمه الله:
باب بيع التمر بالتمر:
حدثنا أبو الوليد حدثنا الليث، عن ابن شهاب عن مالك بن أوس سمع عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«البر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء (1)» .
قوله: (باب بيع التمر بالتمر) أورد فيه حديث عمر مختصرا. وسيأتي الكلام عليه بعد باب بيع الزبيب بالزبيب، والطعام بالطعام.
حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة. والمزابنة بيع التمر بالتمر كيلا وبيع الزبيب بالكرم كيلا (2)» .
حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة. قال: والمزابنة أن يبيع التمر بكيل: إن زاد فلي وإن نقص فعلي (3)». قال: وحدثني زيد بن ثابت «أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا بخرصها (4)» .
(1) صحيح البخاري البيوع (2170)، صحيح مسلم المساقاة (1586)، سنن الترمذي البيوع (1243)، سنن النسائي البيوع (4558)، سنن أبو داود البيوع (3348)، سنن ابن ماجه التجارات (2253)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 45)، موطأ مالك البيوع (1333)، سنن الدارمي البيوع (2578).
(2)
صحيح البخاري كتاب البيوع (2171)، صحيح مسلم البيوع (1542)، سنن الترمذي البيوع (1300)، سنن النسائي البيوع (4549)، سنن ابن ماجه التجارات (2265)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 123)، موطأ مالك كتاب البيوع (1317).
(3)
صحيح البخاري البيوع (2173)، صحيح مسلم البيوع (1542)، سنن الترمذي البيوع (1300)، سنن النسائي البيوع (4533)، سنن ابن ماجه التجارات (2265)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 108)، موطأ مالك كتاب البيوع (1317).
(4)
صحيح البخاري البيوع (2173)، سنن الترمذي البيوع (1300).
قوله: (باب بيع الزبيب بالزبيب والطعام بالطعام): ذكر فيه حديث ابن عمر في النهي عن المزابنة من طريقين: وسيأتي الكلام عليه بعد خمسة أبواب. وفي الطريق الثانية حديث ابن عمر عن زيد بن ثابت في العرايا وسيأتي الكلام عليه بعد سبعة أبواب. وذكر في الترجمة الطعام بالطعام وليس في الحديث الذي ذكره للطعام ذكر. وكذلك ذكر فيها الزبيب بالزبيب والذي في الحديث الزبيب بالكرم. قال الإسماعيلى: (لعله أخذ ذلك من جهة المعنى قال: ولو ترجم للحديث ببيع التمر في رءوس الشجر بمثله من جنسه يابسا لكان أولى) انتهى.
ولم يخل البخاري بذلك كما سيأتي بعد ستة أبواب، وأما هنا فكأنه أشار إلى ما وقع في بعض طرقه من ذكر الطعام. وهو في رواية الليث عن نافع كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وروى مسلم من حديث معمر بن عبد الله مرفوعا:«الطعام بالطعام مثلا بمثل (1)» .
باب بيع الشعير بالشعير:
حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس أخبره أنه التمس صرفا بمائة دينار. فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا، حتى اصطرف مني، فأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع ذلك. فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء
(1) صحيح مسلم المساقاة (1592)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 401).
وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء (1)».
وقوله: (باب بيع الشعير بالشعير) أي ما حكمه؟ قوله: (إنه التمس صرفا) بفتح الصاد المهملة أي من الدراهم بذهب كان معه، وبين ذلك الليث في روايته عن ابن شهاب، ولفظه عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: أقبلت أقول: من يصطرف الدراهم؟ قوله: (فتراوضنا) بضاد معجمة أي تجارينا الكلام في قدر العوض بالزيادة والنقص، كأن كلا منهما كان يروض صاحبه ويسهل خلفه. وقيل: المراوضة هنا: المواصفة بالسلعة. وهو أن يصف كل منهما سلعته لرفيقه.
قوله: (فأخذ الذهب يقلبها) أي الذهبة. والذهب يذكر ويؤنث فيقال ذهب وذهبة. أو يحمل على أنه ضمن الذهب معنى العدد المذكور وهو المائة فأنثه لذلك. وفي رواية الليث، فقال طلحة:(إذا جاء خادمنا نعطيك ورقك) ولم أقف على تسمية الخازن الذي أشار إليه طلحة.
قوله: (من الغابة) بالغين المعجمة وبعد الألف موحده يأتي شرح أمرها في أواخر الجهاد في قصة تركة الزبير بن العوام، وكأن طلحة كان له بها مال من نخل وغيره، وأشار إلى ذلك ابن عبد البر.
قوله: (حتى تأخذ منه) أي عوض الذهب، في رواية الليث: (والله لتعطينه ورقه أو لتردن إليه ذهبه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) صحيح البخاري البيوع (2134)، صحيح مسلم المساقاة (1586)، سنن الترمذي البيوع (1243)، سنن النسائي البيوع (4558)، سنن أبو داود البيوع (3348)، سنن ابن ماجه التجارات (2253)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 45)، موطأ مالك البيوع (1333)، سنن الدارمي البيوع (2578).
قال: فذكره).
قوله: (الذهب بالورق ربا) قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك فيه وحمله عنه الحفاظ حتى رواه يحيى بن أبي كثير عن الأوزاعي عن مالك، وتابعه معمر والليث وغيرهما. وكذلك رواه الحفاظ عن ابن عيينة. وشذ أبو نعيم عنه فقال:(الذهب بالذهب)، كذلك رواه ابن إسحاق عن الزهري. ويجوز في قوله:(الذهب بالورق) الرفع أي بيع الذهب بالورق فحذف المضاف للعلم به أو البعض الذهب يباع بالذهب، ويجوز النصب أي بيعوا الذهب، والذهب يطلق على جميع أنواعه المضروبة وغيرها، والورق: الفضة، وهو بفتح الواو وكسر الراء وبإسكانها على المشهور، ويجوز فتحهما. وقيل: بكسر الواو المضروبة وبفتحها المال. والمراد هنا جميع أنواع الفضة مضروبة وغير مضروبة.
قوله: (إلا هاء وهاء) بالمد فيهما وفتح الهمزة، وقيل: بالكسر، وقيل: السكون، وحكي القصر بغير همز وخطأها الخطابي، ورد عليه النووي، وقال: هي صحيحة لكن قليلة والمعنى خذ وهات. وحكي (هاك) بزيادة كاف مكسورة، ويقال:(هاء بكسر الهمزة بمعنى هات، وبفتحها بمعنى خذ بغير تنوين)، وقال ابن الأثير:(هاء وهاء هو أن يقول كل واحد من البيعين هاء فيعطيه ما في يده، كالحديث الآخر (إلا يدا بيد) يعني مقابضه في المجلس. وقيل: معناه خذ وأعط. قال: وغير
الخطابي يجيز فيها السكون على حذف العوض ويتنزل منزلة (ها) التي للتنبيه.
وقال ابن مالك: ها اسم فعل بمعنى خذ. وإن رفعت بعد إلا فيجب تقدير قول قبله يكون به محكيا، فكأنه قيل:(ولا الذهب بالذهب إلا مقولا عنده من المتبايعين هاء وهاء).
وقال الخليل: كلمة تستعمل عند المناولة.
والمقصود من قوله: (هاء وهاء) أن يقول كل واحد من المتعاقدين لصاحبه هاء فيتقابضان في المجلس. قال ابن مالك: حقها أن لا تقع بعد إلا كما لا يقع بعدها خذ، قال: فالتقدير لا تبيعوا الذهب بالورق إلا مقولا بين المتعاقدين هاء وهاء. واستدل به على اشتراط التقابض في الصرف في المجلس وهو قول أبي حنيفة والشافعي.
وعن مالك: لا يجوز الصرف إلا عند الإيجاب بالكلام ولو انتقلا من ذلك الموضع إلى آخر لم يصح تقابضهما. ومذهبه: أنه لا يجوز عنده تراخي القبض في الصرف سواء كانا في المجلس أو تفرقا. وحمل قول عمر: (لا يفارقه) على الفور حتى لو أخر الصيرفي القبض حتى يقوم إلى قعو دكانه ثم يفتح صندوقه لما جاز.
قوله: (البر بالبر) بضم الموحدة ثم راء من أسماء الحنطة، والشعير بفتح أوله معروف، وحكي جواز كسره.
واستدل به على أن البر والشعير صنفان وهو قول الجمهور. وخالف في ذلك مالك، والأوزاعي فقالوا: هما صنف واحد.
قال ابن عبد البر: في هذا الحديث أن الكبير يلي البيع والشراء لنفسه وإن كان له وكلاء وأعوان يكفونه، وفيه المماكسة في البيع والمراوضة وتقليب السلعة، وفائدته الأمن من الغبن، وأن من العلم ما يخفى على الرجل الكبير القدر حتى يذكره غيره. وأن الإمام إذا سمع أو رأى شيئا لا يجوز، ينهى عنه ويرشد إلى الحق، وأن من أفتى بحكم حسن أن يذكر دليله، وأن يتفقد أحوال رعيته ويهتم بمصالحهم. وفيه اليمين لتأكيد الخبر، وفيه الحجة بخبر الواحد، وأن الحجة على من خالف في حكم من الأحكام التي في كتاب الله أو حديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وفيه أن النسيئة لا تجوز في بيع الذهب بالورق، وإذا لم يجز فيهما مع تفاضلهما بالنسيئة، فأحرى أن لا يجوز في الذهب بالذهب وهو جنس واحد، وكذا الورق بالورق.
يعنى إذا لم تكن رواية ابن إسحاق ومن تابعه محفوظة، فيؤخذ الحكم من دليل الخطابي، وقد نقل ابن عبد البر وغيره الإجماع على هذا الحكم، أي التسوية في المنع بين الذهب بالذهب وبين الذهب بالورق فيستغنى حينئذ بذلك عن القياس.
باب بيع الذهب بالذهب:
حدثنا صدقة بن الفضل، أخبرنا إسماعيل ابن علية، قال:
حدثني يحيى بن أبي إسحاق، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: قال أبو بكرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء والفضة بالفضة إلا سواء بسواء وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم (1)» .
قوله: (باب بيع الذهب بالذهب) تقدم حكمه في الباب الذي قبله، وذكر المصنف فيه حديث أبي بكرة، ثم أورده بعد ثلاثة أبواب من وجه آخر عن يحيى بن أبي إسحاق، ورجال الإسنادين بصريون كلهم، وأخذ حكم بيع الذهب بالورق من قوله:«وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم (2)» ، وفي الرواية الأخرى:«وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا (3)» . . الحديث، وسيأتي الكلام عليه.
باب بيع الفضة بالفضة:
حدثنا عبيد الله بن سعد، حدثنا عمي، حدثنا ابن أخي الزهري عن عمه قال: حدثني سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أبا سعيد الخدري حدثه مثل ذلك حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه عبد الله بن عمر فقال:(يا أبا سعيد، ما هذا الذي تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) فقال أبو سعيد في الصرف: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الذهب بالذهب مثلا بمثل، والورق بالورق مثلا بمثل (4)» .
حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن نافع عن أبي سعيد
(1) صحيح البخاري البيوع (2175)، صحيح مسلم المساقاة (1590)، سنن النسائي البيوع (4579)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 38).
(2)
صحيح البخاري البيوع (2175)، صحيح مسلم المساقاة (1590)، سنن النسائي البيوع (4579)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 38).
(3)
صحيح البخاري كتاب البيوع (2182)، صحيح مسلم المساقاة (1590)، سنن النسائي البيوع (4578)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 38).
(4)
صحيح البخاري البيوع (2176)، صحيح مسلم المساقاة (1584)، موطأ مالك البيوع (1324).
الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز (1)» .
قوله: (باب بيع الفضة بالفضة) تقدم حكمه أيضا. قوله: (حدثني عبيد الله بن سعد) زاد في رواية المستملي. وهو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. وابن أخي الزهري هو محمد بن عبد الله بن مسلم.
قوله: (عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أبا سعيد الخدري حدثه مثل ذلك حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيه عبد الله بن عمر فقال: (يا أبا سعيد، ما هذا الذي تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، فقال أبو سعيد في الصرف: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. .) فذكر الحديث. هكذا ساقه وفيه اختصار وتقديم وتأخير، وقد أخرجه الإسماعيلي من وجهين عن يعقوب بن إبراهيم شيخ شيخ البخاري فيه بلفظ أن أبا سعيد حدثه حديثا مثل حديث عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصرف، فقال أبو سعيد فذكره فظهر بهذه الرواية معنى قوله:(مثل ذلك) أي مثل حديث عمر، أي حديث عمر الماضي قريبا في قصة طلحة بن عبيد الله. وتكلف الكرماني هنا فقال: قوله: (مثل ذلك) أي مثل حديث أبي بكرة في وجوب المساواة ولو وقف على رواية
(1) صحيح البخاري البيوع (2177)، صحيح مسلم المساقاة (1584)، سنن الترمذي البيوع (1241)، سنن النسائي البيوع (4570)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 4)، موطأ مالك البيوع (1324).
الإسماعيلي لما عدل عنها. وقوله: (فلقيه عبد الله) أي بعد أن كان سمع منهم الحديث فأراد أن يستثبته فيه، وقد وقع لأبي سعيد مع ابن عمر في هذا الحديث قصة وهي هذه، ووقعت له فيه مع ابن عباس قصة أخرى كما في الباب الذي بعده.
فأما قصته مع ابن عمر فانفرد بها البخاري عن طريق سالم، وأخرجها مسلم من طريق الليث عن نافع ولفظه: أن ابن عمر قال له رجل من بني ليث: إن أبا سعيد الخدري يأثر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نافع: فذهب عبد الله وأنا معه والليث حتى دخل على أبي سعيد الخدري فقال: إن هذا أخبرني أنك تخبر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الورق بالورق إلا مثلا بمثل (1)» . الحديث فأشار أبو سعيد بإصبعيه إلى عينيه وأذنيه فقال: (أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل (2)» الحديث، ولمسلم من طريق أبي نضرة في هذه القصة لابن عمر مع أبي سعيد أن ابن عمر نهى عن ذلك بعد أن كان أفتى به لما حدثه أبو سعيد بنهي النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما قصة أبي سعيد مع ابن عباس فسأذكرها في الباب الذي يليه.
قوله في الرواية الأولى (الذهب بالذهب) يجوز في الذهب الرفع والنصب وقد تقدم توجيهه، ويدخل في الذهب جميع أصنافه من مضروب ومنقوش، وجيد ورديء، وصحيح ومكسر، وحلي وتبر، وخالص ومغشوش، ونقل النووي تبعا لغيره في
(1) صحيح البخاري البيوع (2176)، صحيح مسلم المساقاة (1584)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 51).
(2)
صحيح البخاري البيوع (2177)، صحيح مسلم المساقاة (1584)، سنن النسائي البيوع (4570)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 73)، موطأ مالك البيوع (1324).
ذلك الإجماع.
قوله: (مثل بمثل) كذا في رواية أبي ذر بالرفع، ولغير أبي ذر:(مثلا بمثل) وهو مصدر في موضع الحال أي الذهب يباع بالذهب موزونا بموزون. أو مصدر مؤكد أي يوزن وزنا بوزن، وزاد مسلم في رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه:«إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء (1)» .
قوله: (ولا تشفوا) بضم أوله وكسر الشين المعجمة وتشديد الفاء أي تفضلوا، وهو رباعي من أشف والشف بالكسر الزيادة، وتطلق على النقص.
قوله: (ولا تبيعوا منها غائبا بناجز) بنون وجيم وزاي مؤجلا بحال، أي المراد بالغائب أعم من المؤجل كالغائب عن المجلس مطلقا مؤجلا كان أو حالا، والناجز الحاضر، قال ابن بطال: فيه حجة للشافعي في قوله: من كان له على رجل دراهم ولآخر عليه دنانير لم يجز أن يقاص أحدهما الآخر بما له لأنه يدخل في معنى بيع الذهب بالورق دينا لأنه إذا لم يجز غائب بناجز فأحرى أن لا يجوز غائب بغائب، وأما الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن عن ابن عمر قال:«كنت أبيع الإبل بالبقيع: أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير. فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " لا بأس به إذا كان بسعر يومه ولم تفترقا وبينكما شيء (2)» فلا يدخل في بيع الذهب بالورق دينا، لأن النهي بقبض الدراهم عن الدنانير لم
(1) صحيح مسلم المساقاة (1584)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 9).
(2)
سنن الترمذي البيوع (1242)، سنن النسائي البيوع (4582)، سنن أبو داود البيوع (3354)، سنن الدارمي البيوع (2581).
يقصد إلى التأخير في الصرف قاله ابن بطال، واستدل بقوله:(مثلا بمثل) على بطلان البيع بقاعدة مد عجوة، وهو أن يبيع مد عجوة ودينارا بدينارين مثلا، وأصرح من ذلك في الاستدلال على المنع حديث فضالة بن عبيد عند مسلم في رد البيع في القلادة التي فيها خرز وذهب حتى تفصل أخرجه مسلم. وفي رواية أبي داود فقلت: إنما أردت الحجارة، ففال: لا، حتى تميز بينهما.
باب بيع الدينار بالدينار نساء:
حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا الضحاك بن مخلد، قال: أخبرني عمرو بن دينار أن أبا صالح الزيات أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم، فقلت له: فإن ابن عباس لا يقوله، فقال أبو سعيد: سألته فقلت سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم أو وجدته في كتاب الله؟ قال: كل ذلك لا أقول، وأنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولكن أخبرني أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا ربا إلا في النسيئة (1)» .
قوله: (باب بيع الدينار بالدينار نساء) بفتح النون المهملة والمد والتنوين منصوبا. أي مؤجلا مؤخرا. يقال أنساه نساء ونسيئة، قوله:(الضحاك بن مخلد) هو أبو عاصم شيخ البخاري، وقد حدث في مواضع عنه بواسطة كهذا الموضع. قوله:(سمع أبا سعيد الخدري يقول: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم) كذا وقع في هذه الطريق. وقد أخرجه مسلم من طريق
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596)، سنن النسائي البيوع (4580)، سنن ابن ماجه التجارات (2257)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 209)، سنن الدارمي البيوع (2580).
ابن عيينة، عن عمرو بن دينار فزاد فيه:(مثلا بمثل) من زاد أو ازداد فقد أربى.
قوله: (إن ابن عباس لا يقوله) في رواية مسلم: (يقول غير هذا).
قوله: (فقال أبو سعيد سألته) في رواية مسلم: (لقد لقيت ابن عباس فقلت له). قوله: (فقال كل ذلك لا أقول) بنصب (كل) على أنه مفعول مقدم، وهو في المعنى نظير قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين:«كل ذلك لم يكن (1)» فالمنفي هو المجموع وفي رواية مسلم: (فقال: لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا وجدته في كتاب الله عز وجل، ولمسلم من طريق عطاء (أن أبا سعيد لقي ابن عباس) فذكر نحوه وفيه: (فقال: كل ذلك لا أقول) أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم أعلم به، وأما كتاب الله فلا أعلمه) أي لا أعلم هذا الحكم فيه. وإنما قال لأبي سعيد أنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم مني لكون أبي سعيد وأنظاره كانوا أسن منه وأكثر ملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي السياق دليل على أن أبا سعيد وابن عباس متفقان على أن الأحكام الشرعية لا تطلب إلا من الكتاب والسنة.
قوله: «لا ربا إلا في النسيئة (2)» في رواية مسلم: «الربا في النسيئة (3)» وله من طريق عبيد الله بن أبي يزيد وعطاء جميعا عن ابن عباس: «إنما الربا في النسيئة (4)» زاد في رواية عطاء: «ألا إنما الربا (5)» ، وزاد في رواية طاوس عن ابن عباس: «لا ربا فيما كان
(1) صحيح البخاري الصلاة (482)، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (573)، سنن الترمذي الصلاة (399)، سنن النسائي السهو (1226)، سنن أبو داود الصلاة (1008)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1214)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 460)، موطأ مالك النداء للصلاة (211).
(2)
صحيح مسلم المساقاة (1596)، سنن النسائي البيوع (4580)، سنن ابن ماجه التجارات (2257)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 209)، سنن الدارمي البيوع (2580).
(3)
صحيح مسلم المساقاة (1596)، سنن النسائي كتاب البيوع (4581)، سنن ابن ماجه التجارات (2257)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 200)، سنن الدارمي البيوع (2580).
(4)
صحيح مسلم المساقاة (1596)، سنن النسائي كتاب البيوع (4581)، سنن ابن ماجه التجارات (2257)، سنن الدارمي البيوع (2580).
(5)
صحيح مسلم المساقاة (1596)، سنن النسائي كتاب البيوع (4581)، سنن ابن ماجه التجارات (2257)، سنن الدارمي البيوع (2580).
يدا بيد (1)» وروى مسلم من طريق أبي نظرة قال: (سألت ابن عباس عن الصرف فقال: أيدا بيد؟ قلت نعم، قال: فلا بأس، فأخبرت أبا سعيد فقال: أوقال ذلك؟ إنا سنكتب إليه فلا يفتيكموه)، وله من وجه آخر عن أبي نضرة: سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا، فإني لقاعد عند أبي سعيد فسألته عن الصرف فقال: ما زاد فهو ربا. فأنكرت ذلك لقولهما، فذكر الحديث قال:(فحدثني أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس عنه بمكة فكرهه).
والصرف بفتح المهملة؛ دفع ذهب وأخذ فضة وعكسه، وله شرطان: منع النسيئة مع اتفاق النوع واختلافه وهو المجمع عليه، ومنع التفاضل في النوع الواحد منهما وهو قول الجمهور. وخالف فيه ابن عمر ثم رجع، وابن عباس واختلف في رجوعه. وقد روى الحاكم من طريق حيان العدوي وهو بالمهملة والتحتانية:(سألت أبا مجلز عن الصرف فقال: كان ابن عباس لا يرى به بأسا زمانا من عمره ما كان منه عينا بعين يدا بيد، وكان يقول: إنما الربا في النسيئة، فلقيه أبو سعيد فذكر القصة والحديث وفيه: «التمر بالتمر والذهب بالذهب والفضة بالفضة يدا بيد مثلا بمثل، فمن زاد فهو ربا (2)»، فقال ابن عباس: أستغفر الله وأتوب إليه، فكان ينهى عنه أشد النهي) واتفق العلماء على صحة حديث أسامة. واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد فقيل: منسوخ، لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وقيل المعنى في قوله:(لا ربا) الربا الأغلظ الشديد التحريم المتوعد
(1) صحيح البخاري البيوع (2176)، صحيح مسلم المساقاة (1596)، سنن النسائي كتاب البيوع (4581)، سنن ابن ماجه التجارات (2257)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 200)، سنن الدارمي البيوع (2580).
(2)
مسند أحمد بن حنبل (2/ 262).
عليه بالعقاب الشديد، كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد مع أن فيها علماء غيره. وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل، وأيضا فنفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم. فيقدم عليه حديث أبي سعيد؛ لأن دلالته بالمنطوق ويحمل حديث أسامة على الربا الأكبر كما تقدم والله أعلم.
وقال الطبري: معنى حديث أسامة: «لا ربا إلا في النسيئة (1)» إذا اختلفت أنواع البيع والفضل فيه يدا بيد ربا، جمعا بينه وبين حديث أبي سعيد.
(تنبيه): وقع في نسخة الصنعاني هنا: (قال أبو عبد الله) يعني البخاري (سمعت سليمان بن حرب يقول: لا ربا إلا في النسيئة هذا عندنا في الذهب بالورق والحنطة بالشعير متفاضلا ولا بأس به يدا بيد ولا خير فيه نسيئة) قلت: وهذا موافق. وفي قصة أبي سعيد مع ابن عمر ومع ابن عباس أن العالم يناظر العالم، ويوقعه على معنى قوله، ويرده من الاختلاف إلى الاجتماع، ويحتج عليه بالأدلة، وفيه إقرار الصغير للكبير بفضل التقدم.
باب بيع الورق بالذهب نسيئة:
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة قال: أخبرني حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت أبا المنهال قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله عنهما عن الصرف، فكل واحد منهما يقول: هذا خير مني، فكلاهما يقول: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596)، سنن النسائي البيوع (4580)، سنن ابن ماجه التجارات (2257)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 209)، سنن الدارمي البيوع (2580).
الذهب بالورق دينا (1)».
قوله: (باب بيع الورق بالذهب نسيئة) البيع كله إما بالنقد أو بالعرض حالا أو مؤجلا، فهي أربعة أقسام: فبيع النقد إما بمثله وهو المراطلة، أو بنقد غيره وهو الصرف. وبيع العرض بنقد يسمى النقد ثمنا والعرض عوضا، وبيع العرض بالعرض يسمى مقايضة. والحلول في جميع ذلك جائز، وأما التأجيل فإن كان النقد بالنقد مؤخرا فلا يجوز، وإن كان العرض جاز، وإن كان العرض مؤخرا فهو السلم، وإن كانا مؤخرين فهو بيع الدين بالدين وليس بجائز إلا في الحوالة عند من يقول إنها بيع، والله أعلم.
قوله: (عن الصرف) أي بيع الدراهم بالذهب أو عكسه، وسمي به لصرفه عن مقتضى البياعات من جواز التفاضل فيه، وقيل من الصريف وهو تصويتهما في الميزان. وسيأتي في أوائل الهجرة من طريق سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي المنهال قال: (باع شريك لي دراهم أي بذهب في السوق نسيئة. فقلت: سبحان الله أيصلح هذا؟ فقال: لقد بعتها في السوق فما عابه علي أحد. فسألت البراء بن عازب فذكره.
قوله: (هذا خير مني) في رواية سفيان المذكورة، قال: فالق زيد بن أرقم فاسأله فإنه كان أعظمنا تجارة، فسألته، فذكره. وفي رواية الحميدي في مسنده من هذا الوجه عن سفيان. فقال صدق البراء، وقد تقدم في (باب التجارة في البر)
(1) صحيح البخاري البيوع (2181)، صحيح مسلم كتاب المساقاة (1589)، سنن النسائي كتاب البيوع (4575)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 289).
من وجه آخر عن أبي المنهال بلفظ (إن كان يدا بيد فلا بأس، وإن كان نسيئا فلا يصلح). وفي الحديث ما كان عليه الصحابة من التواضع. وإنصاف بعضهم بعضا. ومعرفة أحدهم حق الآخر. واستظهار العالم في الفتيا بنظيره في العلم. وسيأتي بعد الكلام على هذا الحديث في الشركة إن شاء الله تعالى.
باب بيع الذهب بالورق يدا بيد:
حدثنا عمران بن ميسرة، حدثنا عباد بن العوام، أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه قال:«نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا والفضة بالذهب كيف شئنا (1)» .
قوله: (باب الذهب بالورق يدا بيد) ذكر فيه حديث أبي بكرة الماضي قبل بثلاثة أبواب وليس فيه التقييد بالحلول. وكأنه أشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقه: فقد أخرجه مسلم عن أبي الربيع عن عباد الذي أخرجه البخاري من طريقه وفيه: (فسأله رجل فقال: يدا بيد. . فقال: هكذا سمعت)، وأخرجه مسلم من طريق يحيى بن أبي كثير عن يحيى بن أبي إسحاق فلم يسق لفظه فساقه أبو عوانة في مستخرجه فقال في آخره:«والفضة بالذهب كيف شئتم يدا بيد (2)» ، واشتراط القبض في الصرف متفق عليه، وإنما وقع الاختلاف في التفاضل بين الجنس الواحد واستدل به على بيع الربويات بعضها ببعض إذا كان يدا بيد.
(1) صحيح البخاري كتاب البيوع (2182)، صحيح مسلم المساقاة (1590)، سنن النسائي البيوع (4578)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 38).
(2)
صحيح البخاري البيوع (2175)، صحيح مسلم المساقاة (1590)، سنن النسائي البيوع (4579)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 38).
وأصرح منه حديث عبادة بن الصامت عند مسلم بلفظ: «فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم (1)» .
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن ابن ماجه التجارات (2254).
نصوص أخرى منه مع الشرح المذكور:
حدثني عمرو بن زرارة، أخبرنا إسماعيل ابن علية، أخبرنا ابن أبي نجيح. عن عبد الله بن كثير، عن أبي المنهال، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم المدينة والناس يسلفون في التمر العام والعامين- أو قال عامين أو ثلاثة- شك إسماعيل فقال صلى الله عليه وسلم: من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم (1)» .
حدثنا محمد، أخبرنا إسماعيل، عن ابن أبي نجيح بهذا:«في كيل معلوم ووزن معلوم (2)» .
قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب السلم في كيل معلوم)، كذا في رواية المستملي وبالبسملة متقدمة عنده ومتوسطة في رواية الكشميهني بين كتاب وباب، وحذف النسفي كتاب السلم وأثبت الباب وأخر البسملة عنه. والسلم بفتحتين: السلف وزنا ومعنى. وذكر الماوردي: أن السلف لغة أهل العراق والسلم لغة أهل الحجاز - وقيل: السلف: تقديم رأس المال، والسلم: تسليمه في المجلس. فالسلف أعم.
والسلم شرعا: بيع موصوف في الذمة، ومن قيده بلفظ السلم زاده في الحد ومن زاد فيه ببدل يعطى عاجلا، فيه نظر
(1) صحيح البخاري السلم (2239)، صحيح مسلم المساقاة (1604)، سنن الترمذي البيوع (1311)، سنن النسائي البيوع (4616)، سنن أبو داود البيوع (3463)، سنن ابن ماجه التجارات (2280)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 217)، سنن الدارمي البيوع (2583).
(2)
صحيح البخاري السلم (2239)، صحيح مسلم المساقاة (1604)، سنن الترمذي البيوع (1311)، سنن النسائي البيوع (4616)، سنن أبو داود البيوع (3463)، سنن ابن ماجه التجارات (2280)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 358)، سنن الدارمي البيوع (2583).
لأنه ليس داخلا في حقيقته.
واتفق العلماء على مشروعيته إلا ما حكي عن ابن المسيب. واختلفوا في بعض شروطه. واتفقوا على أنه يشترط له ما يشترط للبيع، وعلى تسليم رأس المال في المجلس. واختلفوا هل هو عقد غرر جوز للحاجة أم لا؟
وقول المصنف: (باب السلم في كيل معلوم) أي فيما يكال، واشتراط تعيين الكيل فيما يسلم فيه من المكيل متفق عليه من أجل اختلاف المكاييل، إلا أن لا يكون في البلد سوى كيل واحد فإنه ينصرف إليه عند الإطلاق.
ثم أورد حديث ابن عباس مرفوعا: «من أسلف في شيء (1)» . .) الحديث عن طريق ابن علية. وفي الباب الذي بعده من طريق ابن عيينة كلاهما عن ابن أبي نجيح. وذكره بعد من طرق أخرى عنه، ومداره على عبد الله بن كثير وقد اختلف فيه، فجزم القابسي، وعبد الغني، والمزي بأنه المكي القارئ المشهور، وجزم الكلاباذي، وابن طاهر، والدمياطي بأنه ابن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي. وكلاهما ثقة. والأول أرجح فإنه مقتضى صنيع المصنف في تاريخه. وأبو المنهال شيخه هو عبد الرحمن بن مطعم الذي تقدمت روايته قريبا عن البراء وزيد بن أرقم.
قوله: (عامين أو ثلاثة شك إسماعيل) يعني ابن علية، ولم يشك سفيان فقال:(وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث)،
(1) صحيح البخاري السلم (2241)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 222).
وقوله: عامين، وقوله: السنتين، منصوب إما على نزع الخافض أو على المصدر.
قوله: (من سلف في تمر) كذا لابن علية. بالتشديد. وفي رواية ابن عيينة: (من أسلف في شيء) وهي أشمل.
وقوله: (ووزن معلوم) الواو بمعنى أو (والمراد اعتبار الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن).
قوله: (حدثنا محمد أخبرنا إسماعيل) هو ابن علية، واختلف في محمد، فقال الجياني: لم أره منسوبا، وعندي أنه ابن سلام وبه جزم الكلاباذي، زاد السفيانان:(إلى أجل معلوم) وسيأتي البحث فيه في بابه.
باب السلم في وزن معلوم:
حدثنا صدقة أخبرنا ابن عيينة أخبرنا ابن أبي نجيح عن عبد الله بن كثير عن أبي المنهال عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (1)» .
حدثنا علي حدثنا سفيان قال: حدثني ابن أبي نجيح وقال: «فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم (2)» .
حدثنا قتيبة، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عبد الله بن كثير، عن أبي المنهال قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما
(1) صحيح البخاري السلم (2241)، سنن النسائي البيوع (4616)، سنن أبو داود البيوع (3463)، سنن ابن ماجه التجارات (2280)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 358)، سنن الدارمي البيوع (2583).
(2)
صحيح البخاري السلم (2241)، صحيح مسلم المساقاة (1604)، سنن الترمذي البيوع (1311)، سنن النسائي البيوع (4616)، سنن أبو داود البيوع (3463)، سنن ابن ماجه التجارات (2280)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 217)، سنن الدارمي البيوع (2583).
يقول: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: «في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (1)».
حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة عن ابن أبي المجالد، وحدثنا يحيى حدثنا وكيع، عن شعبة، عن محمد بن أبي المجالد، حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة قال: أخبرني محمد أو عبد الله بن أبي المجالد قال: (اختلف عبد الله بن شداد بن الهاد وأبو بردة في السلف فبعثوني إلى ابن أبي أوفى رضي الله عنه فسألته فقال: «إنا كنا نسلف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الحنطة والشعير والزبيب والتمر (2)» وسألت ابن أبزى فقال مثل ذلك.
قوله: (باب السلم في وزن معلوم) أي فيما يوزن، وكأنه يذهب إلى أن ما يوزن لا يسلم فيه مكيلا وبالعكس، وهو أحد الوجهين والأصح عند الشافعية الجواز، وحمله إمام الحرمين على ما يعد الكيل في مثله ضابطا، واتفقوا على اشتراط تعيين المكيل فيما يسلم فيه من الكيل كصاع الحجاز، وقفيز العراق وإردب مصر، بل مكاييل هذه البلاد في نفسها مختلفة، فإذا أطلق صرف إلى الأغلب، وأورد فيه حديثين: أحدهما حديث ابن عباس الماضي في الباب قبله ذكره عن ثلاثة من مشايخه. حدثوه به عن ابن عيينة. قال في الأولى: «من أسلف في شيء ففي كيل معلوم (3)» الحديث. وقال في الثانية: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم (4)» ولم يذكر الوزن.
(1) صحيح البخاري السلم (2241)، صحيح مسلم المساقاة (1604)، سنن الترمذي البيوع (1311)، سنن النسائي البيوع (4616)، سنن أبو داود البيوع (3463)، سنن ابن ماجه التجارات (2280)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 222)، سنن الدارمي البيوع (2583).
(2)
صحيح البخاري السلم (2243)، سنن النسائي البيوع (4615)، سنن أبو داود البيوع (3464)، سنن ابن ماجه التجارات (2282).
(3)
صحيح البخاري السلم (2241)، صحيح مسلم المساقاة (1604)، سنن الترمذي البيوع (1311)، سنن النسائي البيوع (4616)، سنن أبو داود البيوع (3463)، سنن ابن ماجه التجارات (2280)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 358)، سنن الدارمي البيوع (2583).
(4)
صحيح البخاري السلم (2241).
وذكره في الثالثة.
وصرح في الطريق الأولى بالإخبار بين ابن عيينة وابن أبي نجيح، وقوله:(في شيء) أخذ منه جواز السلم في الحيوان إلحاقا للعدد بالكيل والمخالف فيه الحنفية. وسيأتي القول بصحته عن الحسن بعد ثلاثة أبواب.
ثانيهما: حديث ابن أبي أوفى. قوله: (عن ابن أبي المجالد) كذا أبهمه أبو الوليد عن شعبة وسماه غيره عنه محمد بن أبي المجالد، ومنهم من أورده على الشك، محمد أو عبد الله، وذكر البخاري الروايات الثلاث، وأورده النسائي من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة عن عبد الله، وقال مرة (محمدا)، وقد أخرجه البخاري في الباب الذي يليه من رواية عبد الواحد بن زياد وجماعة عن أبي إسحاق الشيباني فقال:(عن محمد بن أبي المجالد)، ولم يشك في اسمه، وكذلك ذكره البخاري في تاريخه في المحمدين، وجزم أبو داود بأن اسمه عبد الله، وكذا قال ابن حبان ووصفه بأنه كان صهر مجاهد، وبأنه كوفي ثقة وكان مولى عبد الله بن أبي أوفى، وثقه أيضا يحيى ابن معين وغيره، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد.
قوله: (اختلف عبد الله بن شداد) أي ابن الهاد الليثي، وهو من صغار الصحابة (وأبو بردة) أي ابن أبي موسى الأشعري. قوله:(في السلف) أي هل يجوز السلم إلى من ليس عنده
السلم فيه في تلك الحالة أم لا؟ وقد ترجم له كذلك في الباب الذي يليه.
قوله: (وسألت ابن أبزى) هو عبد الرحمن الخزاعي أحد صغار الصحابة. ولأبيه أبزى صحبة على الراجح. وهو بالموحدة والزاي وزن أعلى، ووجه إيراد هذا الحديث في باب السلم في وزن معلوم، الإشارة إلى ما في بعض طرقه وهو في الباب الذي يليه بلفظ:(فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت؛ لأن الزيت من جنس ما يوزن) قال ابن بطال: (أجمعوا على أنه إن كان في السلم ما يكال أو يوزن فلا بد فيه من ذكر الكيل المعلوم والوزن المعلوم، فإن كان فيما لا يكال ولا يوزن فلا بد فيه من عدد معلوم). قلت: أو ذرع معلوم، والعدد والذرع ملحق بالكيل والوزن للجامع بينهما، وهو عدم الجهالة بالمقدار. ويجري في الذرع ما تقدم شرطه في الكيل والوزن من تعيين الذراع لأجل اختلافه في الأماكن، وأجمعوا على أنه لا بد من معرفة صفة الشيء المسلم فيه صفة تميزه عن غيره وكأنه لم يذكر في الحديث لأنهم كانوا يعملون به وإنما تعرض لذكر ما كانوا يهملونه.
باب السلم إلى من ليس عنده أصل:
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الشيباني، حدثنا محمد بن أبي المجالد قال: (بعثني عبد الله بن شداد، وأبو بردة إلى عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما فقالا:
سله هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون في الحنطة؟ قال عبد الله: كنا نسلف نبيط أهل الشام في الحنطة والشعير والزبيب في كيل معلوم إلى أجل معلوم. قلت: إلى من كان أصله عنده؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك. ثم بعثاني إلى عبد الرحمن بن أبزى فسألته، فقال:«كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم نسألهم ألهم حرث أم لا؟ (1)» . حدثنا إسحاق، حدثنا خالد بن عبد الله عن الشيباني عن محمد بن أبي مجالد بهذا وقال:(فنسلفهم في الحنطة والشعير) وقال: عبد الله بن الوليد عن سفيان، حدثنا الشيباني وقال:(والزيت) حدثنا قتيبة، حدثنا جرير عن الشيباني وقال:(في الحنطة والشعير والزبيب).
حدثنا آدم، حدثنا شعبة، أخبرنا عمرو قال: سمعت أبا البختري الطائي، قال:(سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن السلم في النخل فقال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يؤكل منه وحتى يوزن (2)». فقال رجل: وأي شيء يوزن؟ قال رجل إلى جانبه: حتى يحرز) وقال معاذ: حدثنا شعبة عن عمرو، قال أبو البختري: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما (نهى النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
قوله: (باب السلم إلى من ليس عنده أصل) أي مما أسلم فيه، وقيل: المراد بالأصل أصل الشيء الذي يسلم فيه، فأصل الحب مثلا الزرع، وأصل الثمر مثلا الشجر، والغرض من
(1) صحيح البخاري السلم (2245)، سنن النسائي البيوع (4615)، سنن أبو داود البيوع (3464)، سنن ابن ماجه التجارات (2282)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 380).
(2)
صحيح البخاري السلم (2248)، صحيح مسلم البيوع (1537)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 341).
الترجمة أن ذلك لا يشترط، وأورد المصنف حديث ابن أبي أوفى من طريق الشيباني فأورده أولا من طريق عبد الواحد وهو ابن زياد عنه، فذكر الحنطة والشعير والزيت، ومن طريق خالد عن الشيباني ولم يذكر الزيت، ومن طريق جرير عن الشيباني فقال الزبيب بدل الزيت، ومن طريق سفيان عن الشيباني فقال- وذكره بعد ثلاثة أبواب من وجه آخر عن سفيان - كذلك.
قوله: (نبيط أهل الشام) في رواية سفيان: (أنباط من أنباط الشام) وهم قوم من العرب دخلوا في العجم والروم واختلطت أنسابهم وفسدت ألسنتهم، وكان الذين اختلطوا بالعجم منهم ينزلون البطائح بين العراقين، والذين اختلطوا بالروم ينزلون في بوادي الشام، ويقال لهم النبط، بفتحتين والنبيط بفتح أوله وكسر ثانيه وزيادة تحتانية، والأنباط قيل: سموا بذلك لمعرفتهم بإنباط الماء أي استخراجه لكثرة معالجتهم الفلاحة. قوله: (قلت إلى من كان أصله عنده) أي المسلم فيه، وسيأتي من طريق سفيان بلفظ:(قلت: أكان لهم زرع أو لم يكن لهم؟).
قوله: (ما كنا نسألهم عن ذلك) كأنه استفاد الحكم من عدم الاستفصال وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
قوله: (وقال عبد الله بن الوليد) وهو العدني. وسفيان هو الثوري. وطريقه موصولة في (جامع سفيان) من طريق علي بن
الحسن الهلالي، عن عبد الله بن الوليد المذكور. واستدل بهذا الحديث على صحة السلم إذا لم يذكر مكان القبض، وهو قول أحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وبه قال مالك وزاد: ويقبضه في مكان السلم، فإن اختلفا فالقول قول البائع. وقال الثوري، وأبو حنيفة، والشافعي: لا يجوز السلم فيما له حمل ومئونة إلا أن يشترط في تسليمه مكانا معلوما. واستدل به على جواز السلم فيما ليس موجودا في وقت السلم إذا أمكن وجوده في وقت حلول السلم وهو قول الجمهور. ولا يضر انقطاعه قبل المحل وبعده عندهم. وقال أبو حنيفة: لا يصح فيما ينقطع قبله ولو أسلم فيما يعم فانقطع في محله لم ينفسخ البيع عند الجمهور. وفي وجه الشافعية ينفسخ واستدل به على جواز التفرق في السلم قبل القبض لكونه لم يذكر في الحديث، وهو قول مالك إن كان بغير شرط، وقال الشافعي والكوفيون: يفسد بالافتراق قبل القبض لأنه يصير من باب بيع الدين بالدين. وفي حديث ابن أبي أوفى جواز مبايعة أهل الذمة والسلم إليهم، ورجوع المختلفين عند التنازع إلى السنة. والاحتجاج بتقرير النبي صلى الله عليه وسلم، وأن السنة إذا وردت بتقرير حكم كان أصلا برأسه لا يضره مخالفة أصل آخر.
ثم أورد المصنف في الباب حديث ابن عباس الآتي في الباب الذي يليه، وزعم ابن بطال أنه غلط من الناسخ وأنه لا مدخل له في هذا الباب إذ لا ذكر للسلم فيه، وغفل عما وقع في السياق من قول الراوي أنه سأل ابن عباس عن السلم في النخل، وأجاب ابن المنير: أن الحكم مأخوذ بطريق المفهوم، وذلك أن ابن عباس
لما سئل عن السلم مع من له نخل في ذلك النخل رأى أن ذلك من قبيل بيع الثمار قبل بدو الصلاح، فإذا كان السلم في النخل المعين لا يجوز تعين جوازه في غير المعين للأمن فيه من غائلة الاعتماد على ذلك النخل بعينه لئلا يدخل في باب بيع الثمار قبل بدو الصلاح، ويحتمل أن يريد بالسلم معناه اللغوى: أي السلف لما كانت الثمرة قبل بدو صلاحها، فكأنها موصوفة في الذمة.
قوله: (أخبرنا عمرو) في رواية مسلم: (عمرو بن مرة) وكذلك أخرجه الإسماعيلي من طرق عن شعبة. قوله: (فقال رجل: ما يوزن) لم أقف على اسمه، وزعم الكرماني أنه أبو البختري نفسه؛ لقوله في بعض طرقه:(فقال له الرجل، بالتعريف).
قوله: (فقال له رجل إلى جانبه) لم أقف على اسمه، وقوله:(حتى يحرز) بتقديم الراء على الزاي أي يحفظ ويصان، وفي رواية الكشميهني، بتقديم الزاي على الراء أو يوزن أو يخرص، وفائدة ذلك معرفة كمية حقوق الفقراء قبل أن يتصرف فيه المالك، وصوب عياض الأول ولكن الثاني أليق بذكر الوزن. ورأيته في رواية النسفي:(حتى يحرر) براءين الأولى ثقيلة ولكنه رواه بالشك.
قوله: (وقال معاذ حدثنا شعبة) وصله الإسماعيلي، عن يحيى بن محمد، عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه به.
باب السلم في النخل:
حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن عمرو، عن أبي البختري قال:(سألت ابن عمر رضي الله عنهما عن السلم في النخل فقال: «نهي عن بيع النخل حتى يصلح، وعن بيع الورق نساء بناجز (1)» وسألت ابن عباس عن السلم في النخل فقال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يؤكل منه أو يأكل منه حتى يوزن (2)» . حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة عن عمرو عن أبي البختري (سألت ابن عمر رضي الله عنهما عن السلم في النخل فقال:«نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى يصلح، ونهى عن الورق بالذهب نساء بناجز (3)» . وسألت ابن عباس فقال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يأكل أو يؤكل وحتى يوزن (4)» . قلت: وما يوزن؟ قال رجل عنده: حتى يحرز).
قوله: (باب السلم في النخل) أي في ثمر النخل. قوله: (فقال) أي ابن عمر (نهي عن بيع النخل حتى يصلح) أي نهي عن بيع ثمر النخل. واتفقت الروايات في هذا الموضع على أنه نهي على البناء للمجهول واختلف في الرواية الثانية وهي رواية غندر: فعند أبي ذر وأبي الوقت فقال: (نهى عمر عن بيع الثمر) الحديث وفي رواية غيرهما (نهى النبي صلى الله عليه وسلم، واقتصر مسلم على حديث ابن عباس.
قوله: (وعن بيع الورق) أي بالذهب كما في الرواية
(1) صحيح البخاري السلم (2248)، صحيح مسلم البيوع (1537)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 341)، موطأ مالك البيوع (1303).
(2)
صحيح مسلم البيوع (1537)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 341).
(3)
صحيح البخاري السلم (2250).
(4)
صحيح البخاري السلم (2246)، صحيح مسلم البيوع (1537)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 341).
الثانية. قوله: (نساء) بفتح النون والمهملة والمد أي تأخيرا. تقول: نسأت الدين أي أخرته نساء أي تأخيرا وسيأتي البحث في اشتراط الأجل في السلم في الباب الذي يليه.
وحديث ابن عمر إن صح فمحمول على السلم الحال عند من يقول به أو ما قرب أجله. واستدل به على جواز السلم في النخل المعين من البستان المعين لكن بعد بدو صلاحه وهو قول المالكية. وقد روى أبو داود وابن ماجه من طريق النجراني عن ابن عمر قال: «لا يسلم في نخل قبل أن يطلع، فإن رجلا أسلم في حديقة نخل قبل أن تطلع فلم تطلع ذلك العام شيئا، فقال المشتري: هو لي حتى تطلع، وقال البائع: إنما بعتك هذه السنة، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اردد عليه ما أخذت منه ولا تسلموا في نخل حتى يبدو صلاحه (1)» ، وهذا الحديث فيه ضعف، ونقل ابن المنذر اتفاق الأكثر على منع السلم في بستان معين لأنه غرر، وقد حمل الأكثر الحديث المذكور على السلم الحال، وقد روى ابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث عبد الله بن سلام في قصة إسلام زيد بن سعنة بفتح السين المهملة وسكون العين المهملة بعدها نون، أنه «قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك أن تبيعني تمرا معلوما إلى أجل معلوم من حائط بني فلان؟ قال صلى الله عليه وسلم: " لا أبيعك من حائط مسمى بل أبيعك أوسقا مسماة إلى أجل مسمى (2)».
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2284).
(2)
سنن ابن ماجه التجارات (2281).
باب الكفيل في السلم:
حدثني محمد بن سلام، حدثنا يعلى، حدثنا الأعمش عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت:«اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما من يهودي بنسيئة ورهنه درعا له من حديد (1)» .
باب الرهن في السلم:
حدثني محمد بن محبوب حدثنا عبد الواحد، حدثنا الأعمش قال: تذاكرنا عند إبراهيم الرهن في السلف فقال: حدثني الأسود عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما إلى أجل معلوم، وارتهن منه درعا من حديد (2)» .
قوله: (باب الكفيل في السلم) أورد فيه حديث عائشة: «اشترى النبي صلى الله عليه وسلم طعاما من يهودي نسيئة ورهنه درعا من حديد (3)» ، ثم ترجم له:(باب الرهن في السلم) وهو ظاهر فيه وأما الكفيل فقال الإسماعيلى: ليس في هذا الحديث ما ترجم به، ولعله أراد إلحاق الكفيل بالرهن؛ لأنه حق ثبت الرهن به فيجوز أخذ الكفيل فيه.
قلت: هذا الاستنباط بعينه سبق إليه إبراهيم النخعي راوي الحديث، وإلى ذلك أشار البخاري في الترجمة فسيأتي في الرهن (عن مسدد، عن عبد الواحد، عن الأعمش قال: تذاكرنا عند إبراهيم الرهن والكفيل في السلف، فذكر إبراهيم هذا الحديث فوضح أنه هو المستنبط لذلك. وأن البخاري أشار بالترجمة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث على عادته وفي الحديث الرد
(1) صحيح البخاري السلم (2251)، صحيح مسلم المساقاة (1603)، سنن النسائي البيوع (4650)، سنن ابن ماجه الأحكام (2436)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 42).
(2)
صحيح البخاري السلم (2252)، صحيح مسلم المساقاة (1603)، سنن النسائي البيوع (4650)، سنن ابن ماجه الأحكام (2436)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 42).
(3)
صحيح البخاري البيوع (2068)، صحيح مسلم المساقاة (1603)، سنن النسائي البيوع (4650)، سنن ابن ماجه الأحكام (2436)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 42).
على من قال: إن الرهن في السلم لا يجوز. وقد أخرح الإسماعيلي من طريق ابن نمير عن الأعمش أن رجلا قال لإبراهيم النخعي: إن سعيد بن جبير يقول: إن الرهن في السلم هو الربا المضمون، فرد عليه إبراهيم بهذا الحديث، وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في كتاب الرهن إن شاء الله تعالى.
قال الموفق: رويت كراهة ذلك عن ابن عمر، والحسن، والأوزاعي، وإحدى الروايتين عن أحمد، ورخص فيه الباقون، والحجة فيه قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) إلى قوله {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (2)، واللفظ عام فيدخل السلم في عمومه، لأنه أحد نوعي البيع، واستدل لأحمد بما رواه أبو داود من حديث أبي سعيد:«من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (3)» ، وجه الدلالة منه: أنه لا يأمن هلاك الرهن في يده بعدوان فيصير مستوفيا لحقه من غير المسلم فيه، وروى الدارقطني من حديث ابن عمر رفعه:«من أسلف في شيء فلا يشترط على صاحبه غير قضائه (4)» ، وإسناده ضعيف ولو صح فهو محمول على شرط ينافي مقتضى العقد. والله أعلم.
باب السلم إلى أجل معلوم:
وبه قال ابن عباس، وأبو سعيد، والحسن، والأسود، قال ابن عمر: لا بأس في الطعام الموصوف بسعر معلوم إلى أجل
(1) سورة البقرة الآية 282
(2)
سورة البقرة الآية 283
(3)
سنن أبو داود البيوع (3468)، سنن ابن ماجه التجارات (2283).
(4)
سنن أبو داود البيوع (3468)، سنن ابن ماجه التجارات (2283).
معلوم ما لم يكن ذلك في زرع لم يبد صلاحه.
حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح، عن عبد الله بن كثير، عن أبي المنهال عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث فقال: " أسلفوا في الثمار في كيل معلوم إلى أجل معلوم (1)» . وقال عبد الله بن الوليد: حدثنا سفيان، حدثنا ابن أبي نجيح وقال:«في كيل معلوم ووزن معلوم (2)» .
حدثنا محمد بن مقاتل، أخبرنا عبد الله، أخبرنا سفيان، عن سليمان الشيباني، عن محمد بن أبي مجالد قال:(أرسلني أبو بردة، وعبد الله بن شداد إلى عبد الرحمن بن أبزي، وعبد الله بن أبي أوفى فسألتهما عن السلف؟ فقالا: «كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت إلى أجل مسمى. قال: قلت: أكان لهم زرع، أو لم يكن لهم زرع؟ قالا: ما كنا نسألهم من ذلك (3)». قوله: (باب السلم إلى أجل معلوم) يشير إلى الرد على من أجاز السلم الحال، وهو قول الشافعية، وذهب الأكثر إلى المنع وحمل من أجاز الأمر في قوله:(إلى أجل معلوم) على العلم بالأجل فقط، فالتقدير عندهم من أسلم إلى أجل فليسلم إلى أجل معلوم لا مجهول.
وأما السلم لا إلى أجل فجوازه بطريق الأولى، لأنه إذا جاز
(1) صحيح البخاري السلم (2253)، سنن النسائي البيوع (4616)، سنن أبو داود البيوع (3463)، سنن ابن ماجه التجارات (2280)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 358)، سنن الدارمي البيوع (2583).
(2)
صحيح البخاري السلم (2239)، صحيح مسلم المساقاة (1604)، سنن الترمذي البيوع (1311)، سنن النسائي البيوع (4616)، سنن أبو داود البيوع (3463)، سنن ابن ماجه التجارات (2280)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 358)، سنن الدارمي البيوع (2583).
(3)
صحيح البخاري السلم (2255)، سنن النسائي البيوع (4614، 4615)، سنن أبو داود البيوع (3464، 3466)، سنن ابن ماجه التجارات (2282)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 354، 4/ 380).
مع الأجل وفيه الغرر فمع الحال أولى لكونه أبعد عن الغرر. وتعقب بالكتابة، وأجيب بالفرق لأن الأجل في الكتابة شرع لعدم قدرة العبد غالبا.
قوله: (وبه قال ابن عباس) أي باختصاص السلم بالأجل، وقوله:(وأبو سعيد) هو الخدري، والحسن (أي البصري) والأسود (أي ابن يزيد النخعي) فأما قول ابن عباس فوصله الشافعي من طريق أبي حسان الأعرج عن ابن عباس قال:(أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه ثم قرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) وأخرجه الحاكم من هذا الوجه وصححه، وروى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس، قال:(لا تسلف إلى العطاء ولا إلى الحصاد واضرب أجلا).
ومن طريق سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس بلفظ آخر سيأتي. وأما قول أبي سعيد فوصله عبد الرزاق من طريق نبيح بنون وموحدة ومهملة مصغر وهو العنزي بفتح المهملة والنون ثم الزاي الكوفي عن أبي سعيد الخدري قال: السلم بما يقوم به السعر ربا ولكن أسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم).
وأما قول الحسن فوصله سعيد بن منصور من طريق يونس بن عبيد عنه: (أنه كان لا يرى بأسا بالسلف في الحيوان إذا
(1) سورة البقرة الآية 282
كان شيئا معلوما إلى أجل معلوم).
وأما قول الأسود: فوصله ابن أبي شيب من طريق الثوري، عن أبي إسحاق عنه قال:(سألته عن السلم في الطعام فقال: لا بأس به. كيل معلوم إلى أجل معلوم).
ومن طريق سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس قال: (إذا سميت في السلم قفيزا وأجلا فلا بأس)، وعن شريك، عن أبي إسحاق، عن الأسود مثله. واستدل بقول ابن عباس الماضي:(لا تسلف إلى العطاء) لاشتراط تعيين وقت الأجل بشيء لا يختلف فإن زمن الحصاد يختلف ولو بيوم وكذلك خروج العطاء، ومثله قدوم الحاج، وأجاز ذلك مالك، ووافقه أبو ثور. واختار ابن خزيمة من الشافعية تأقيته إلى الميسرة، واحتج بحديث عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهودي ابعث لي ثوبين إلى الميسرة (1)» ، وأخرجه النسائي. وطعن ابن المنذر في صحته بما وهم فيه. والحق أنه لا دلالة فيه على المطلوب؛ لأنه ليس في الحديث إلا مجرد الاستدعاء فلا يمتنع أنه إذا وقع العقد قيد بشروطه، ولذلك لم يصف الثوبين.
قوله: (وقال ابن عمر: لا بأس في الطعام الموصوف بسعر معلوم إلى أجل معلوم ما لم يكن ذلك في زرع لم يبد صلاحه)، وصله مالك في (الموطأ) عن نافع، عنه قال:(لا بأس أن يسلف الرجل في الطعام الموصوف) فذكر مثله وزاد (أو ثمرة لم يبد صلاحها) وأخرجه ابن أبي شيبة، من طريق عبيد الله بن
(1) سنن الترمذي البيوع (1213)، سنن النسائي البيوع (4628)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 147).
عمر، عن نافع نحوه. وقد مضى حديث ابن عمر في ذلك مرفوعا في الباب الذي قبله، ثم أورد المصنف حديث ابن عباس المذكور في أول أبواب السلم.
قوله: (وقال عبد الله بن الوليد: حدثنا سفيان، حدثنا ابن أبي نجيح) هو موصول في (جامع سفيان) من طريق عبد الله بن الوليد المذكور وهو العدني عنه، وأراد المصنف بهذا التعليق بيان التحديث، لأن الذي قبله مذكور بالعنعنة، ثم أورد حديث ابن أبي أوفى وابن أبزى، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى عن قريب.
باب السلم إلى أن تنتج الناقة:
حدثني موسى بن إسماعيل أخبرنا جويرية، عن نافع، عن عبد الله رضي الله عنه قال:«كانوا يتبايعون الجزور إلى حبل الحبلة فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه (1)» فسره نافع: إلى أن تنتج الناقة ما في بطنها.
قوله: (باب السلم إلى أن تنتج الناقة) أورد فيه حديث ابن عمر في النهي عن بيع حبل الحبلة وقد تقدمت مباحثه في كتاب البيوع. ويؤخذ منه ترك جواز السلم إلى أجل غير معلوم ولو أسند إلى شيء يعرف بالعادة، خلافا لمالك ورواية عن أحمد
(خاتمة) اشتمل كتاب السلم على واحد وثلاثين حديثا، المعلق منها أربعة والبقية موصولة، الخالص منها خمسة أحاديث والبقية مكررة، وافقه مسلم على تخريج حديثي ابن عباس خاصة، وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين ستة آثار.
(1) صحيح البخاري السلم (2256)، صحيح مسلم البيوع (1514)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 144).
ب- أحاديث من منتقى الأخبار لأبي البركات ابن تيمية معها شرحها من نيل الأوطار للشوكاني:
عن ابن مسعود «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه (1)» رواه الخمسة وصححه الترمذي غير أن لفظ النسائي «آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه إذا علموا ذلك ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة (2)» .
وعن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية (3)» ، رواه أحمد.
حديث ابن مسعود أخرجه أيضا ابن حبان، والحاكم وصححاه، وأخرجه مسلم من حديث جابر بلفظ:«أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن آكل الربا، ومؤكله، وشاهديه هم سواء (4)» .
وفي الباب عن علي عليه السلام عند النسائي، وعن أبي جحيفة تقدم في أوله البيع، وحديث عبد الله بن حنظلة، وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط والكبير قال في مجمع الزوائد:(ورجال أحمد رجال الصحيح). ويشهد له حديث البراء عند ابن جرير بلفظ: «الربا اثنان وستون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمه (5)» ، وحديث أبي هريرة عند البيهقي بلفظ:«الربا سبعون بابا أدناها الذي يقع على أمه (6)» ، وأخرج ابن جرير عنه نحوه، وكذلك
(1) صحيح مسلم المساقاة (1597)، سنن الترمذي البيوع (1206)، سنن أبو داود البيوع (3333)، سنن ابن ماجه التجارات (2277)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 465)، سنن الدارمي البيوع (2535).
(2)
سنن النسائي الزينة (5102)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 465).
(3)
مسند أحمد بن حنبل (5/ 225).
(4)
صحيح مسلم المساقاة (1598)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 304).
(5)
سنن ابن ماجه التجارات (2274).
(6)
سنن ابن ماجه التجارات (2274).
أخرج عنه نحوه ابن أبي الدنيا. وحديث عبد الله بن مسعود عند الحاكم وصححه بلفظ: «الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم (1)» .
وقوله: (آكل الربا) بمد الهمزة، ومؤكله بسكون الهمزة بعد الميم، ويجوز إبدالها واوا: أي ولعن مطعمه غيره، وسمي آخذ المال آكلا ودافعه مؤكلا؛ لأن المقصود منه الأكل وهو أعظم منفعة وسببه إتلاف أكثر الأشياء.
قوله: (وشاهديه) رواية أبي داود بالإفراد والبيهقي (وشاهديه أو شاهده).
قوله: (وكاتبه) فيه دليل على تحريم كتابة الربا إذا علم ذلك وكذلك الشاهد لا يحرم عليه الشهادة إلا مع العلم، فأما من كتب أو شهد غير عالم فلا يدخل في الوعيد، ومن جملة ما يدل على تحريم كتابة الربا وشهادته وتحليل الشهادة، والكتابة في غيره قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (3) أمر بالكتابة والإشهاد فيما أحله وفهم منه تحريمها فيما حرمه.
قوله: (أشد من ست وثلاثين. . إلخ) يدل على أن معصية الربا من أشد المعاصي لأن المعصية التي تعدل معصية الزنا هي في غاية الفظاعة والشناعة بمقدار العدد المذكور بل أشد منها.
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2275).
(2)
سورة البقرة الآية 282
(3)
سورة البقرة الآية 282
ولا شك أنها قد تجاوزت الحد في القبح، وأقبح منها استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم ولهذا جعلها الشارع أربى الربا. وبعد فالرجل يتكلم بالكلمة التي لا يجد لها لذة ولا تزيد في ماله ولا جاهه فيكون إثمه عند الله أشد من إثم من زنى ستا وثلاثين زنية. هذا ما لا يصنعه بنفسه عاقل، نسأل الله تعالى السلامة آمين آمين.
باب ما يجري فيه الربا:
عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض. ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض. ولا تبيعوا منهما غائبا بناجز (1)» متفق عليه، وفي لفظ:«الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل يدا بيد. فمن زاد أو استزاد فقد أربى. الآخذ والمعطي فيه سواء (2)» رواه أحمد والبخاري. وفي لفظ: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، إلا وزنا بوزن مثلا بمثل، سواء بسواء (3)» رواه أحمد ومسلم.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال.
«الذهب بالذهب وزنا بوزن، مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن، مثلا بمثل (4)» رواه أحمد ومسلم والنسائي.
وعن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(1) صحيح البخاري البيوع (2177)، صحيح مسلم المساقاة (1584)، سنن الترمذي البيوع (1241)، سنن النسائي البيوع (4570)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 4)، موطأ مالك البيوع (1324).
(2)
صحيح البخاري البيوع (2176، 2202)، صحيح مسلم المساقاة (1584، 1584)، سنن الترمذي البيوع (1241، 1241)، سنن النسائي البيوع (4565، 4565)، سنن ابن ماجه التجارات (2257)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 50، 3/ 97)، موطأ مالك البيوع (1324، 1324).
(3)
صحيح البخاري البيوع (2177)، صحيح مسلم المساقاة (1584)، سنن الترمذي البيوع (1241)، سنن النسائي البيوع (4570)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 4)، موطأ مالك البيوع (1324).
(4)
صحيح مسلم المساقاة (1588)، سنن النسائي البيوع (4559)، سنن ابن ماجه التجارات (2255)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 232)، موطأ مالك البيوع (1323).
قال: «التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والملح بالملح مثلا بمثل، يدا بيد. فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه (1)» رواه مسلم.
وعن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن (2)» رواه مسلم والنسائي وأبو داود.
قوله: (الذهب بالذهب) يدخل في الذهب جميع أنواعه من مضروب ومنقوش، وجيد ورديء، وصحيح ومكسر، وحلي وتبر، وخالص ومغشوش، وقد نقل النووي وغيره الإجماع على ذلك.
قوله: (إلا مثلا بمثل) هو مصدر في موضع الحال: أي الذهب يباع بالذهب موزونا بموزون، أو مصدر مؤكد: أي يوزن وزنا بوزن. وقد جمع بين المثل والوزن في رواية مسلم المذكورة.
قوله: (ولا تشفوا) بضم أوله وكسر الشين المعجمة وتشديد الفاء رباعي من أشف والشف بالكسر: الزيادة، ويطلق على النقص والمراد هنا: لا تفضلوا.
قوله: (بناجز) بالنون والجيم والزاي أي لا تبيعوا مؤجلا بحال، ويحتمل أن يراد بالغائب أهم من المؤجل كالغائب عن المجلس مطلقا مؤجلا كان أو حالا، والناجز: الحاضر.
(1) صحيح مسلم المساقاة (1588)، سنن النسائي البيوع (4559)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 232).
(2)
صحيح مسلم المساقاة (1591)، سنن النسائي البيوع (4573)، سنن أبو داود البيوع (3353)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 22).
قوله: (والفضة بالفضة) يدخل في ذلك جميع أنواع الفضة كما سلف في الذهب.
قوله: (والبر بالبر) بضم الباء وهو الحنطة، والشعير بفتح أوله ويجوز الكسر، وهو معروف، وفيه رد على من قال: إن الحنطة والشعير صنف واحد، وهم: مالك، والليث، والأوزاعي. وتمسكوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«الطعام بالطعام (1)» كما سيأتي، ويأتي الكلام على ذلك.
قوله: (فمن زاد. . إلخ) فيه التصريح بتحريم ربا الفضل وهو مذهب الجمهور للأحاديث الكثيرة المذكورة في الباب وغيرها فإنها قاضية بتحريم بيع هذه الأجناس بعضها ببعض متفاضلا.
وروي عن ابن عمر أنه كان يجوز ربا الفضل ثم رجع عن ذلك، وكذلك روي عن ابن عباس، واختلف في رجوعه فروى الحاكم أنه رجع عن ذلك لما ذكر له أبو سعيد حديثه الذي في الباب واستغفر الله، وكان ينهى عنه أشد النهي، وروي مثل قولهما عن أسامة بن زيد، وابن الزبير، وزيد بن أرقم، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير واستدلوا على جواز ربا الفضل بحديث أسامة عند الشيخين وغيرهما بلفظ:«إنما الربا في النسيئة (2)» . زاد مسلم في رواية عن ابن عباس: «ولا ربا فيما كان يدا بيد (3)» . وأخرج الشيخان والنسائي عن أبي المنهال قال: سألت زيد بن أرقم، والبراء بن عازب، عن الصرف؟ فقالا: «نهى
(1) صحيح مسلم المساقاة (1592)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 401).
(2)
صحيح مسلم المساقاة (1596)، سنن النسائي كتاب البيوع (4581)، سنن ابن ماجه التجارات (2257)، سنن الدارمي البيوع (2580).
(3)
صحيح البخاري البيوع (2176)، صحيح مسلم المساقاة (1596)، سنن النسائي كتاب البيوع (4581)، سنن ابن ماجه التجارات (2257)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 200)، سنن الدارمي البيوع (2580).
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا (1)». وأخرج مسلم عن أبي نضرة قال: سألت ابن عباس عن الصرف؟ فقال: (إلا يدا بيد) قلت: نعم، قال:(فلا بأس)، فأخبرت أبا سعيد فقال:(أوقال ذلك، إنا سنكتب إليه فلا يفتيكموه).
وله من وجه آخر عن أبي نضرة: سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا، وإني لقاعد عند أبي سعيد، فسألته عن الصرف فقال:(ما زاد فهو ربا) فأنكرت ذلك لقولهما فذكر الحديث قال: فحدثني أبو الصبياء، أنه سأل ابن عباس عنه فكرهه.
قال في الفتح: (واتفق العلماء على صحة حديث أسامة، واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد فقيل: إن حديث أسامة منسوخ، لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وقيل: المعنى في قوله: (لا ربا)، الربا الأغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه العقاب الشديد كما تقول العرب:(لا عالم في البلد إلا زيد) مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل، وأيضا نفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم، فيقدم عليه حديث أبي سعيد لأن دلالته بالمنطوق، ويحمل حديث أسامة على الربا الأكبر) اهـ.
ويمكن الجمع أيضا بأن يقال: مفهوم حديث أسامة عام؛ لأنه يدل على نفي ربا الفضل عن كل شيء سواء كان من الأجناس المذكورة في أحاديث الباب أم لا، فهو أعم منها مطلقا
(1) صحيح البخاري البيوع (2181)، صحيح مسلم كتاب المساقاة (1589)، سنن النسائي كتاب البيوع (4575)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 289).
فيخصص هذا المفهوم بمنطوقها، وأما ما أخرجه مسلم عن ابن عباس (أنه لا ربا فيما كان يدا بيد) كما تقدم فليس ذلك مرويا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى تكون دلالته على نفي ربا الفضل منطوقه، ولو كان مرفوعا لما رجع ابن عباس واستغفر لما حدثه أبو سعيد كما تقدم. وقد روى الحازمي رجوع ابن عباس واستغفاره عندما سمع عمر بن الخطاب وابنه عبد الله يحدثان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما يدل على تحريم ربا الفضل وقال:(حفظتما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم أحفظ).
وروى عنه الحازمي أيضا أنه قال: (كان ذلك برأيى، وهذا أبو سعيد الخدري يحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتركت رأيي إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعلى تسليم أن ذلك الذي قاله ابن عباس مرفوع فهو عام مخصص بأحاديث الباب؛ لأنها أخص منه مطلقا، وأيضا الأحاديث القاضية بتحريم ربا الفضل ثابتة عن جماعة من الصحابة في الصحيحين أو غيرهما.
قال الترمذي بعد أن ذكر حديث أبي سعيد: (وفي الباب عن أبي بكر وعمر وعثمان وأبي هريرة وهشام بن عامر والبراء وزيد بن أرقم وفضالة بن عبيد وأبي بكرة وابن عمر وأبي الدرداء وبلال) اهـ.
وقد ذكر المصنف بعض ذلك في كتابه هذا، وخرج الحافظ
في التلخيص بعضها، فلو فرض معارضة حديث أسامة لها من جميع الوجوه وعدم إمكان الجمع أو الترجيح بما سلف لكان الثابت عن الجماعة أرجح من الثابت عن الواحد.
قوله: (ولا الورق بالورق) بفتح الواو وكسر الراء وبإسكانها على المشهور ويجوز فتحهما كذا في الفتح وهو الفضة، وقيل: بكسر الواو المضروبة وبفتحها المال، والمراد هنا جميع أنواع الفضة مضروبة وغير مضروبة.
قوله: (إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء) الجمع بين هذه الألفاظ لقصد التأكيد أو للمبالغة.
قوله: (إلا ما اختلفت ألوانه) المراد: أنهما اختلفا في اللون اختلافا يصير به كل واحد منهما جنسا غير جنس مقابله، فمعناه معنى ما سيأتي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم (1)» وسنذكر- إن شاء الله- ما يستفاد منه.
عن أبي بكرة قال: «نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا (2)» أخرجاه، وفيه دليل على جواز الذهب بالفضة مجازفة.
وعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي كتاب البيوع (4563)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).
(2)
صحيح البخاري كتاب البيوع (2182)، صحيح مسلم المساقاة (1590)، سنن النسائي البيوع (4579)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 38).
إلا هاء وهاء (1)» متفق عليه.
وعن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد. فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (2)» رواه أحمد ومسلم. وللنسائي وابن ماجه وأبي داود نحوه. وفي آخره: «وأمرنا أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر يدا بيد كيف شئنا (3)» ، وهو صريح في كون البر والشعير جنسين.
وعن معمر بن عبد الله قال: «كنت أسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (4)» الطعام بالطعام مثلا بمثل «وكان طعامنا يومئذ الشعير (5)» رواه أحمد ومسلم.
وعن الحسن عن عبادة، وأنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:«ما وزن مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا، وما كيل فمثل ذلك، فإذا اختلف النوعان فلا بأس به» رواه الدارقطني.
حديث أنس وعبادة أشار إليه في التلخيص ولم يتكلم عليه، وفي إسناده الربيع بن صبيح وثقه أبو زرعة وغيره وضعفه جماعة، وقد أخرج هذا الحديث البزار أيضا، ويشهد لصحته حديث عبادة المذكور أولا وغيره من الأحاديث.
قوله: (كيف شئنا)، هذا الإطلاق مقيد بما في حديث
(1) صحيح البخاري البيوع (2134، 2134)، صحيح مسلم المساقاة (1586، 1586)، سنن الترمذي البيوع (1243، 1243)، سنن النسائي البيوع (4558، 4558)، سنن أبو داود البيوع (3348، 3348)، سنن ابن ماجه التجارات (2253، 2253)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 45، 1/ 45)، موطأ مالك البيوع (1333، 1333)، سنن الدارمي البيوع (2578، 2578).
(2)
صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي البيوع (4561)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).
(3)
صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي البيوع (4561)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).
(4)
صحيح مسلم المساقاة (1592)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 401).
(5)
صحيح البخاري الزكاة (1510).
عبادة، من قوله:(إذا كان يدا بيد)، فلا بد في بيع بعض الربويات من التقابض ولا سيما في الصرف وهو بيع الدراهم بالذهب وعكسه فإنه متفق على اشتراطه. وظاهر هذا الإطلاق والتفويض إلى المشيئة أنه يجوز بيع الذهب بالفضة والعكس، وكذلك سائر الأجناس الربوية إذا بيع بعضها ببعض من غير تقييد بصفة من الصفات غير صفة القبض، ويدخل في ذلك بيع الجزاف وغيره.
قوله: (إلا هاء وهاء) بالمد فيهما وفتح الهمزة، وقيل: بالكسر، وقيل بالسكون، وحكي القصر بغير همزة وخطأها الخطابي، ورد عليه النووي وقال: هي صحيحة لكن قليلة، والمعنى: خذ وهات، وحكي بزيادة كاف مكسورة ويقال: هاء بكسر الهمزة بمعنى هات، وبفتحها بمعنى خذ. وقال ابن الأثير: هاء وهاء: هو أن يقول كل واحد من البيعين: هاء فيعطيه ما في يده، وقيل: معناهما: خذ وأعط. قال: وغير الخطابي يجيز فيه السكون، وقال ابن مالك: هاء اسم فعل بمعنى خذ. وقال الخليل: هاء كلمة تستعمل عند المناولة. والمقصود من قوله هاء وهاء أن قول كل واحد من المتعاقدين لصاحبه هاء فيتقابضان في المجلس. قال: فالتقدير: لا تبيعوا الذهب بالورق إلا مقولا بين المتعاقدين هاء وهاء.
قوله: (فإذا اختلفت هذه الأصناف. . إلخ) ظاهر هذا أنه لا يجوز بيع جنس ربوي بجنس آخر إلا مع القبض، ولا يجوز
مؤجلا ولو اختلفا في الجنس والتقدير كالحنطة والشعير بالذهب والفضة، وقيل: يجوز مع الاختلاف المذكور وإنما يشترط التقابض في الشيئين المختلفين جنسا المتفقين تقديرا، كالفضة بالذهب، والبر بالشعير.
إذا لا يعقل التفاضل والاستواء إلا فيما كان كذلك، ويجاب بأن مثل هذا لا يصلح لتخصيص النصوص وتقييدها، وكون التفاضل والاستواء لا يعقل في المختلفين جنسا وتقديرا ممنوع، والسند أن التفاضل معقول لو كان الطعام يوزن أو النقود تكال ولو في بعض الأزمان والبلدان، ثم إنه قد يبلغ ثمن الطعام إلى مقدار من الدراهم كثير عند شدة الغلاء بحيث يعقل أن يقال: الطعام أكثر من الدراهم وما المانع من ذلك؟ وأما الاستدلال على جواز ذلك بحديث عائشة عند البخاري ومسلم وغيرهما قالت: «اشترى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يهودي طعاما بنسيئة. وأعطاه درعا له رهنا (1)» فلا يخفى أن غاية ما فيه أن يكون مخصصا للنص المذكور لصورة الرهن. فيجوز في هذه الصورة لا في غيرها لعدم صحة إلحاق ما لا عوض فيه عن الثمن بما فيه عوض عنه وهو الرهن. نعم إن صح الإجماع الذي حكاه المغربي في شرح بلوغ المرام فإنه قال: (وأجمع العلماء على جواز بيع الربوي بربوي لا يشاركه في العلة متفاضلا أو مؤجلا كبيع الذهب بالحنطة، وبيع الفضة بالشعير، وغيره من المكيل) اهـ.
كان ذلك هو الدليل على الجواز عند من كان يرى حجية
(1) صحيح البخاري البيوع (2068)، صحيح مسلم المساقاة (1603)، سنن النسائي البيوع (4650)، سنن ابن ماجه الأحكام (2436)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 42).
الإجماع، وأما إذا كان الربوي يشارك مقابله في العلة. فإن كان بيع الذهب بالفضة أو العكس فقد تقدم أنه يشترط التقابض إجماعا، وإن كان في غير ذلك من الأجناس كبيع البر بالشعير أو بالتمر أو العكس فظاهر الحديث عدم الجواز وإليه ذهب الجمهور.
وقال أبو حنيفة وأصحابه وابن علية: لا يشترط. والحديث يرد عليه. وقد تمسك مالك بقوله: (إلا يدا بيد)، وبقوله:«الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء (1)» على أنه يشترط القبض في الصرف عند الإيجاب بالكلام، ولا يجوز التراخي ولو كانا في المجلس. وقال الشافعي وأبو حنيفة والجمهور: إن المعتبر التقابض في المجلس وإن تراخى عن الإيجاب، والظاهر الأول: لكن أخرج عبد الرزاق وأحمد وابن ماجه عن ابن عمر أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «اشتر الذهب بالفضة فإذا أخذت واحدا منهما فلا تفارق صاحبك وبينكما لبس (2)» فيمكن أن يقال: إن هذه الرواية تدل على اعتبار المجلس.
قوله: (إن بيع البر بالشعير. . إلخ) فيه كما قال المصنف تصريح بأن البر والشعير جنسان وهو مذهب الجمهور، وحكي عن مالك والليث والأوزاعي كما تقدم أنها جنس واحد. وبه قال معظم علماء المدينة وهو محكي عن عمر وسعد وغيرهما من السلف وتمسكوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«الطعام بالطعام (3)» ، كما في حديث معمر بن عبد الله المذكور.
ويجاب عنه بما في آخر الحديث من قوله: (كان طعامنا
(1) صحيح البخاري البيوع (2134)، صحيح مسلم المساقاة (1586)، سنن الترمذي البيوع (1243)، سنن النسائي البيوع (4558)، سنن أبو داود البيوع (3348)، سنن ابن ماجه التجارات (2253)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 45)، موطأ مالك البيوع (1333)، سنن الدارمي البيوع (2578).
(2)
سنن الترمذي البيوع (1242)، سنن النسائي البيوع (4582)، سنن أبو داود البيوع (3354)، سنن ابن ماجه التجارات (2262)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 139)، سنن الدارمي البيوع (2581).
(3)
صحيح مسلم المساقاة (1592)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 401).
يومئذ الشعير)، فإنه في حكم التقييد لهذا المطلق، وأيضا التصريح بجواز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا كما في حديث عبادة، وكذلك عطف أحدهما على الآخر كما في غيره من أحاديث الباب مما لا يبقى معه ارتياب في أنهما جنسان.
واعلم أنه قد اختلف هل يلحق بهذه الأجناس المذكورة في الأحاديث غيرها؟ فيكون حكمه حكمها في تحريم التفاضل والنساء من الاتفاق في الجنس. وتحريم النساء فقط من الاختلاف في الجنس والاتفاق في العلة.
فقالت الظاهرية: إنه لا يلحق بها غيرها في ذلك، وذهب من عداهم من العلماء إلى أنه يلحق بها ما يشاركها في العلة، ثم اختلفوا في العلة ما هي؟
وقال الشافعي: هي الاتفاق في الجنس والطعم فيما عدا النقدين، وأما هما فلا يلحق بهما غيرهما من الموزونات، واستدل على اعتبار الطعم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«الطعام بالطعام (1)» .
وقال مالك في النقدين كقول الشافعي وفي غيرهما العلة: الجنس والتقدير والاقتيات، وقال ربيعة: بل اتفاق الجنس ووجوب الزكاة، وقالت العترة جميعا: بل العلة في جميعها اتفاق الجنس والتقدير بالكيل والوزن، واستدلوا على ذلك بذكره صلى الله عليه وآله وسلم للكيل وللوزن في أحاديث الباب، ويدل على ذلك أيضا حديث أنس المذكور فإنه حكم فيه على
(1) صحيح مسلم المساقاة (1592)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 401).
كل موزون مع اتحاد نوعه. وعلى كل مكيل كذلك بأنه مثل بمثل. فأشعر بأن الاتفاق في أحدهما مع اتحاد النوع موجب لتحريم التفاضل بعموم النص لا بالقياس، وبه يرد على الظاهرية؛ لأنهم إنما منعوا من الإلحاق لنفيهم للقياس، ومما يؤيد ذلك ما سيأتي في حديث أبي سعيد وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الميزان مثل ما قال في المكيل على ما سيبينه المصنف- إن شاء الله تعالى- وإلى مثل ما ذهبت إليه العترة ذهب أبو حنيفة وأصحابه كما حكى ذلك عنه المهدي في البحر وحكي عنه أنه يقول العلة في الذهب الوزن، وفي الأربعة الباقية كونها مطعومة موزونة أو مكيلة.
والحاصل أنه قد وقع الاتفاق بين من عدا الظاهرية بأن جزء العلة الاتفاق في الجنس واختلفوا في تعيين الجزء الآخر على تلك الأقوال، ولم يعتبر أحد منهم للعدد جزءا من العلة مع اعتبار الشارع له كما في روايته من حديث أبي سعيد (ولا درهمين بدرهم)، وفي حديث عثمان عند مسلم:«لا تبيعوا الدينار بالدينارين (1)» .
(وعن أبي سعيد وأبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءهم بتمر جنيب، فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة فقال: "لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا (2)»، وقال في الميزان مثل ذلك رواه البخاري. الحديث أخرجه أيضا مسلم.
(1) صحيح مسلم المساقاة (1585).
(2)
صحيح البخاري الوكالة (2303)، صحيح مسلم المساقاة (1593)، سنن النسائي البيوع (4553)، سنن ابن ماجه التجارات (2256)، موطأ مالك البيوع (1315)، سنن الدارمي البيوع (2577).
قوله: (رجلا) صرح أبو عوانة والدارقطني أن اسمه سواد بن غزية بمعجمة فزاي فياء مشددة كعطية.
قوله: (جنيب) بفتح الجيم وكسر النون وسكون التحتية وآخره موحدة. اختلف في تفسيره فقيل: هو الطيب، وقيل: الصلب، وقيل: ما أخرج منه حشفه ورديئه، وقيل: ما لا يختلط بغيره، وقال في القاموس: إن الجنيب تمر جيد.
قوله: (بع الجمع) بفتح الجيم وسكون الميم. قال في الفتح: هو التمر المختلط بغيره. وقال في القاموس: هو الدقل أو صنف من التمر، والحديث يدل على أنه لا يجوز بيع رديء الجنس بجيده متفاضلا، وهذا أمر مجمع عليه لا خلاف بين أهل العلم فيه، وأما سكوت الرواة عن فسخ المذكور فلا يدل على عدم الوقوع إما ذهولا وإما اكتفاء بأن ذلك معلوم، وقد ورد في بعض طرق الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:«هذا هو الربا» فرده كما نبه على ذلك في الفتح.
وقد استدل أيضا بهذا الحديث على جواز بيع العينة، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يشتري بثمن الجمع جنيبا، ويمكن أن يكون بائع الجنيب منه هو الذي اشترى منه الجمع. فيكون قد عادت إليه الدراهم التي هي عين ماله، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمره بأن يشتري الجنيب من غير من باع منه الجمع وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم.
قال في الفتح: (وتعقب بأنه مطلق والمطلق لا يشمل فإذا
عمل به في صورة سقط الاحتجاج به في غيرها فلا يصح الاستدلال به على جواز الشراء ممن باع منه تلك السلعة بعينها) انتهى. وسيأتي الكلام على بيع العينة.
قوله: (وقال في الميزان مثل ذلك) أي مثل ما قال في المكيل من أنه لا يجوز بيع بعض الجنس منه ببعضه متفاضلا، وإن اختلفا في الجودة والرداءة بل يباع رديئه بالدراهم ثم يشترى بهذا الجيد، والمراد بالميزان هنا الموزون، وقال المصنف رحمه الله: وهو حجة في جريان الربا في الموزونات كلها: لأن قوله: (في الميزان) أي في الموزون وإلا فنفس الميزان ليست من أموال الربا) انتهى.
باب في أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل:
عن جابر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر (1)» رواه مسلم والنسائي، وهو يدل بمفهومه على أنه لو باعها بجنس غير التمر لجاز.
قوله: (الصبرة) قال في القاموس: الصبرة بالضم: ما جمع من الطعام بلا كيل ووزن. انتهى.
قوله: (لا يعلم كيلها) صفة كاشفة للصبرة: لأنه لا يقال لها صبرة إلا إذا كانت مجهولة الكيل، والحديث فيه دليل على أنه لا يجوز أن يباع جنس بجنسه. وأحدهما مجهول المقدار؛
(1) صحيح مسلم البيوع (1530)، سنن النسائي البيوع (4547).
لأن العلم بالتساوي مع الاتفاق في الجنس شرط لا يجوز البيع بدونه. ولا شك أن الجهل بكلا البدلين أو بأحدهما فقط مظنة للزيادة والنقصان. وما كان مظنة للحرام وجب تجنبه وتجنب هذه المظنة إنما يكون بكيل المكيل ووزن الموزون من كل واحد من البدلين.
باب من باع ذهبا وغيره بذهب:
عن فضالة بن عبيد قال: «اشتريت قلادة يوم خيبر باثني عشر دينارا، فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لا يباع حتى يفصل (1)» رواه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه، وفي لفظ «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو سبعة دنانير فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"لا حتى تميز بينه وبينة" فقال: إنما أردت الحجارة. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا حتى تميز بينهما" قال: فرده حتى ميز بينهما (2)» رواه أبو داود. الحديث قال في التلخيص: له عند الطبراني في الكبير طرق كثيرة جدا في بعضها: (قلادة فيها خرز وذهب)، وفي بعضها:(ذهب وجوهر)، وفى بعضها:(خرز وذهب)، وفي بعضها:(خرز معلقة بذهب)، وفي بعضها:(باثني عشر دينارا)، وفي بعضها:(بتسعة دنانير)، وفي أخرى:(بسبعة دنانير)، وأجاب البيهقي عن هذا الاختلاط بأنها كانت بيوعا شهدها فضالة.
(1) صحيح مسلم المساقاة (1591)، سنن النسائي البيوع (4573)، سنن أبو داود البيوع (3351)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 21).
(2)
صحيح مسلم المساقاة (1591)، سنن النسائي البيوع (4573)، سنن أبو داود البيوع (3351)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 19).
قال الحافظ: (والجواب المسدد عندي أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفا، بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه وهو النهي عن بيع ما لم يفصل. وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحال ما يوجب الحكم بالاضطراب، وحينئذ ينبغي الترجيح بين رواتها، وإن كان الجميع ثقات فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم فتكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة) انتهى، وبعض هذه الروايات التي ذكرها الطبراني في صحيح مسلم وسنن أبي داود.
قوله: (ففصلتها) بتشديد الصاد. الحديث استدل به على أنه لا يجوز بيع الذهب مع غيره بذهب حتى يفصل من ذلك الغير ويميز عنه ليعرف مقدار الذهب المتصل بغيره، ومثله الفضة مع غيرها بفضة، وكذلك سائر الأجناس الربوية لاتحادها في العلة وهي تحريم بيع الجنس بجنسه متفاضلا، ومما يرشد إلى استواء الأجناس الربوية في هذا ما تقدم من النهي عن بيع الصبرة من التمر بالكيل المسمى من التمر، أو كذلك نهيه عن بيع التمر بالرطب خرصا لعدم التمكن من معرفة التساوي على التحقيق وكذلك في مثل مسألة القلادة يتعذر الوقوف على التساوي من دون فصل، ولا يكفي مجرد الفصل بل لا بد من معرفة مقدار المفصول والمقابل له من جنسه.
وإلى العمل بظاهر الحديث ذهب عمر بن الخطاب، وجماعة من السلف، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بن الحكم المالكي، وقالت الحنفية، والثوري، والحسن بن صالح، والعترة:
إنه يجوز إذا كان الذهب تابعا لغيره بأن يكون الثلث فما دون، وقال حماد بن أبي سليمان: إنه يجوز بيع الذهب مع غيره بالذهب مطلقا سواء كان المنفصل مثل المتصل أو أقل أو أكثر، واعتذرت الحنفية ومن قال بقولهم عن الحديث: بأن الذهب كان أكثر من المنفصل واستدلوا بقوله: (ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا) والثمن إما سبعة أو تسعة، وأكثر ما روي أنه اثنا عشر، وأجيب عن ذلك بما تقدم عن البيهقي من أن القصة التي شهدها فضالة كانت متعددة فلا يصح التمسك بما وقع في بعضها وإهدار البعض الآخر، وأجيب أيضا: بأن العلة هي عدم الفصل، وظاهر ذلك عدم الفرق بين المساوي والأقل والأكثر والغنيمة وغيرها، وبهذا يجاب عن الخطابي حيث قال: إن سبب النهي كون تلك القلادة كانت من الغنائم مخافة أن يقع المسلمون في بيعها.
وقد أجاب الطحاوي عن الحديث بأنه مضطرب. قال السبكي: وليس ذلك باضطراب قادح ولا ترد الأحاديث الصحيحة بمثل ذلك. انتهى.
وقد عرفت مما تقدم أنه لا اضطراب في محل الحجة والاضطراب في غيره لا يقدح فيه. وبهذا يجاب أيضا على ما قاله مالك.
وأما ما ذهب إليه حماد بن أبي سليمان فمردود بالحديث على جميع التقادير. ولعله يعتذر عنه بمثل ما قال الخطابي أو لم يبلغه. قوله: (حتى تميز) بضم تاء المخاطب في أوله وتشديد
الياء المكسورة بعد الميم.
قوله: (إنما أردت الحجارة) يعني الخرز الذي في القلادة ولم أرد الذهب.
باب مرد الكيل والوزن:
وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «المكيال مكيال أهل المدينة والوزن وزن أهل مكة (1)» رواه أبو داود والنسائي. الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وأخرجه أيضا البزار، وصححه ابن حبان، والدارقطني، وفي رواية عن ابن عباس مكان ابن عمر.
قوله: (المكيال مكيال أهل المدينة. . إلخ) فيه دليل على أنه يرجع عند الاختلاف في الكيل إلى مكيال المدينة. وعند الاختلاف في الوزن إلى ميزان مكة، أما مقدار ميزان مكة فقال ابن حزم: بحثت غاية البحث عن كل من وثقت بتمييزه فوجدت كلا يقول: إن دينار الذهب بمكة وزنه اثنتان وثمانون حبة وثلاثة أعشار حبة بالحب من الشعير، والدرهم سبعة أعشار المثقال. فوزن الدرهم سبع وخمسون حبة وستة أعشار حبة وعشر حبة. فالرطل: مائة وثمانية وعشرون درهما بالدرهم المذكور، وأما مكيال المدينة فقد قدمنا تحقيقه في الفطرة. ووقع في رواية لأبي داود من طريق الوليد بن مسلم عن حنظلة بن أبي سفيان الجهمي قال: وزن المدينة ومكيال مكة. والرواية المذكورة في الباب من طريق سفيان الثوري عن حنظلة عن طاوس عن ابن عمر وهي
(1) سنن النسائي الزكاة (2520)، سنن أبو داود البيوع (3340).
أصح. وأما الرواية التي ذكرها أبو داود، عن ابن عباس فرواها أيضا الدارقطني من طريق أبي أحمد الزبيري، عن سفيان، عن حنظلة، عن طاوس، عن ابن عباس، ورواه من طريق أبي نعيم، عن الثوري، عن حنظلة، عن سالم بدل طاوس، عن ابن عباس قال الدارقطني: أخطأ أبو أحمد فيه.
ومن أحاديثه أيضا مع شرحها من نيل الأوطار:
عن ابن عباس قال: «قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (1)» رواه الجماعة، وهو حجة في السلم في منقطع الجنس حالة العقد. قوله:(كتاب السلم) هو بفتح السين المهملة واللام كالسلف وزنا ومعنى، وحكي في الفتح عن الماوردي أن السلف لغة أهل العراق، والسلم لغة أهل الحجاز. وقيل: السلف: تقديم رأس المال. والسلم: تسليمه في المجلس. فالسلف أعم.
قال في الفتح: والسلم شرعا: (بيع موصوف في الذمة) وزيد في الحد (ببدل يعطى عاجلا) وفيه نظر؛ لأنه ليس داخلا في حقيقته. قال: واتفق العلماء على مشروعيته إلا ما حكي عن ابن المسيب. واختلفوا في بعض شروطه. واتفقوا على أنه يشترط له ما يشترط للبيع وعلى تسلم رأس المال في المجلس. واختلفوا هل هو عقد غرر جوز للحاجة أم لا؟ ا. هـ.
قوله: (يسلفون) بضم أوله. قوله: (السنة والسنتين)
(1) صحيح البخاري السلم (2253)، صحيح مسلم المساقاة (1604)، سنن الترمذي البيوع (1311)، سنن النسائي البيوع (4616)، سنن أبو داود البيوع (3463)، سنن ابن ماجه التجارات (2280)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 358)، سنن الدارمي البيوع (2583).
في رواية البخاري: (عامين أو ثلاثة) والسنة: بالنصب على الظرفية أو المصدر، وكذلك لفظ سنتين وعامين.
قوله: (في كيل معلوم) احترز بالكيل عن السلم في الأعيان وبقوله: (معلوم) عن المجهول من المكيل والموزون. وقد كانوا في المدينة حين قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسلمون في ثمار نخيل بأعيانها فنهاهم عن ذلك لما فيه من الغرر. إذ قد تصاب تلك النخيل بعاهة فلا تثمر شيئا.
قال الحافظ: (واشتراط تعيين الكيل فيما يسلم فيه من المكيل متفق عليه من أجل اختلاف المكاييل إلا أن لا يكون في البلد سوى كيل واحد فإنه ينصرف إليه عند الإطلاق).
قوله: (إلى أجل معلوم) فيه دليل على اعتبار الأجل في السلم. وإليه ذهب الجمهور. وقالوا: (لا يجوز السلم حالا) وقالت الشافعية: (يجوز قالوا: لأنه إذا جاز مؤجلا مع الغرر فجوازه حالا أولى وليس ذكر الأجل في الحديث لأجل الاشتراط بل معناه إن كان لأجل فليكن معلوما وتعقب بالكتابة فإن التأجيل شرط فيها) وأجيب بالفرق؛ لأن الأجل في الكتابة شرع لعدم قدرة العبد غالبا، واستدل الجمهور على اعتبار التأجيل بما أخرجه الشافعي والحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل قد أحله الله في كتابه وأذن فيه ثم قرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1).
(1) سورة البقرة الآية 282
يجاب: بأن هذا يدل على جواز السلم إلى أجل، ولا يدل على أنه لا يجوز إلا مؤجلا، وبما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه قال:(لا تسلف إلى العطاء ولا إلى الحصاد واضرب أجلا) ويجاب بأن هذا ليس بحجة لأنه موقوف عليه.
وكذلك يجاب من قول أبي سعيد الذي علقه البخاري ووصله عبد الرزاق بلفظ: (السلم بما يقوم به السعر ربا ولكن السلف في كيل معلوم إلى أجل وقد اختلف الجمهور في مقدار الأجل فقال أبو حنيفة: لا فرق بين الأجل القريب والبعيد، وقال أصحاب مالك: لا بد من أجل تتغير فيه الأسواق وأقله عندهم ثلاثة أيام، وكذا عند الهادوية، وعند ابن القاسم خمسة عشر يوما، وأجاز مالك السلم إلى العطاء والحصاد ومقدم الحاج، ووافقه أبو ثور، واختار ابن خزيمة تأقيته إلى الميسرة، واحتج بحديث عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث إلى يهودي: ابعث إلي ثوبين إلى الميسرة (1)» وأخرجه النسائي، وطعن ابن المنذر في صحته وليس في ذلك دليل على المطلوب؛ لأن التنصيص على نوع من أنواع الأجل لا ينفى غيره، وقال المنصور بالله: أقله أربعون يوما، وقال الناصر: أقله ساعة. والحق ما ذهبت إليه الشافعية من عدم اعتبار الأجل لعدم ورود دليل يدل عليه فلا يلزم التعبد بحكم بدون دليل، وأما ما يقال من أنه يلزم مع عدم الأجل أن يكون بيعا للمعدوم ولم يرخص فيه إلا في السلم ولا فارق بينه وبين البيع إلا الأجل، فيجاب عنه: بأن الصيغة فارقة وذلك كاف.
(1) سنن الترمذي البيوع (1213)، سنن النسائي البيوع (4628).
واعلم أن للسلم شروطا غير ما اشتمل عليه الحديث مبسوطة في كتب الفقه، ولا حاجة لنا في التعرض لما لا دليل عليه إلا أنه وقع الإجماع على اشتراط معرفة صفة الشيء المسلم فيه على وجه يتميز بتلك المعرفة عن غيره.
(وعن عبد الرحمن بن أبزى، وعبد الله بن أبي أوفى قالا: «كنا نصيب المغانم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت إلى أجل مسمى، قيل: أكان لهم زرع أو لم يكن؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك (1)» رواه أحمد والبخاري، وفي رواية:«كنا نسلف على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر في الحنطة والشعير والزيت والتمر وما نراه عندهم (2)» رواه الخمسة إلا الترمذي.
(وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (3)» رواه أبو داود وابن ماجه.
(وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من أسلف شيئا فلا يشرط على صاحبه غير قضائه» . وفي لفظ: «من أسلف في شيء فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه أو رأس ماله» رواهما الدارقطني. واللفظ الأول: دليل امتناع الرهن والضمين فيه، والثاني: يمنع الإقالة في البعض.
حديث أبي سعيد في إسناده عطية بن سعد العوفي. قال
(1) صحيح البخاري السلم (2255)، سنن النسائي البيوع (4615)، سنن أبو داود البيوع (3464)، سنن ابن ماجه التجارات (2282)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 380).
(2)
صحيح البخاري السلم (2243)، سنن النسائي البيوع (4614)، سنن أبو داود البيوع (3464)، سنن ابن ماجه التجارات (2282)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 380).
(3)
سنن أبو داود البيوع (3468)، سنن ابن ماجه التجارات (2283).
المنذري: لا يحتج بحديثه.
قوله: (ابن أبزى) بالموحدة والزاي على وزن أعلى وهو الخزاعي أحد صغار الصحابة ولأبيه أبزى صحبة، (قوله: أنباط) جمع نبط: وهم قوم معروفون كانوا ينزلون بالبطائح من العراق قاله الجوهري، وأصلهم قوم من العرب دخلوا في العجم واختلطت أنسابهم وفسدت ألسنتهم، ويقال لهم: النبط بفتحتين والنبيط بفتح أوله وكسر ثانيه وزيادة تحتانية وإنما سموا بذلك لمعرفتهم بإنباط الماء؛ أي استخراجه لكثرة معالجتهم الفلاحة، وقيل هم نصارى الشام، وهم عرب دخلوا في الروم ونزلوا بوادي الشام، ويدل على هذا قوله:(من أنباط الشام) وقيل: هم الطائفتان: طائفة اختلطت بالعجم ونزلوا البطائح، وطائفة اختلطت بالروم ونزلوا الشام.
قوله: (فنسلفهم) بضم النون وإسكان السين المهملة وتخفيف اللام من الإسلاف. وقد تشدد اللام مع فتح السين من التسليف. قوله: (ما كنا نسألهم عن ذلك) فيه دليل على أنه لا يشترط في المسلم فيه أن يكون عند المسلم إليه وذلك مستفاد من تقريره صلى الله عليه وآله وسلم مع ترك الاستفصال. قال ابن رسلان: وأما المعدوم عند المسلم إليه وهو موجود عند غيره فلا خلاف في جوازه.
قوله: (وما نراه عندهم) لفظ أبي داود: (إلى قوم ما هو عندهم) أي ليس عندهم أصل من أصول الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وقد اختلف العلماء في جواز السلم فيما ليس بموجود
في وقت السلم إذا أمكن وجوده في وقت حلول الأجل، فذهب إلى جوازه الجمهور قالوا: ولا يضر انقطاعه قبل الحلول، وقال أبو حنيفة: لا يصح فيما ينقطع قبله، بل لا بد أن يكون موجودا من العقد إلى المحل، ووافقه الثوري والأوزاعي فلو أسلم في شيء فانقطع في محله لم ينفسخ عند الجمهور، وفي وجه للشافعية ينفسخ. واستدل أبو حنيفة ومن معه بما أخرجه أبو داود عن ابن عمر.
«أن رجلا أسلف رجلا في نخل فلم يخرج تلك السنة شيئا فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فقال: "بم تستحل ماله؟ اردد عليه ماله، ثم قال لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه (1)» . وهذا نص في التمر. وغيره قياس عليه. ولو صح هذا الحديث لكان المصير إليه أولى؛ لأنه صريح في الدلالة على المطلوب، بخلاف حديث عبد الرحمن بن أبزى، وعبد الله بن أبي أوفى فليس فيه إلا مظنة التقرير منه صلى الله عليه وآله وسلم مع ملاحظة تنزيل ترك الاستفصال منزلة العموم، ولكن حديث ابن عمر هذا في إسناده رجل مجهول فإن أبا داود رواه، عن محمد بن سفيان، عن كثير عن أبي إسحاق عن رجل نجراني عن ابن عمر، ومثل هذا لا تقوم به حجة، قال القائلون بالجواز: ولو صح هذا الحديث لحمل على بيع الأعيان أو على السلم الحال عند من يقول به أو على ما قرب أجله. قالوا: ومما يدل على الجواز ما تقدم من أنهم كانوا يسلفون في الثمار السنتين والثلاث، ومن المعلوم أن الثمار لا تبقى هذه المدة، ولو اشترط الوجود لم يصح السلم في الرطب إلى هذه المدة، وهذا أولى ما يتمسك به في الجواز.
(1) صحيح البخاري السلم (2248)، سنن أبو داود البيوع (3467)، موطأ مالك البيوع (1344).
قوله: (فلا يصرفه إلى غيره) الظاهر أن الضمير راجع إلى المسلم فيه لا إلى ثمنه الذي هو رأس المال، والمعنى: أنه لا يحل جعل المسلم فيه ثمنا لشيء قبل قبضه ولا يجوز بيعه قبل القبض: أي لا يصرفه إلى شيء غير عقد السلم، وقيل: الضمير راجع إلى رأس مال السلم، وعلى ذلك حمله ابن رسلان في شرح السنن وغيره. أي ليس له صرف رأس المال في عوض آخر كأن يجعله ثمنا لشيء آخر. فلا يجوز له ذلك حتى يقبضه. وإلى ذلك ذهب مالك، وأبو حنيفة، والهادوية، والمؤيد بالله، وقال الشافعي وزفر: يجوز ذلك؛ لأنه عوض عن مستقر في الذمة فجاز كما لو كان قرضا، ولأنه مال عاد إليه بفسخ العقد على فرض تعذر السلم فيه فجاز أخذ العوض عنه، كالثمن في المبيع إذا فسخ العقد.
قوله: (فلا يشرط على صاحبه غير قضائه) فيه دليل على أنه لا يجوز شيء من الشروط في عقد السلم غير القضاء. واستدل به المصنف على امتناع الرهن. وقد روي عن سعيد بن جبير أن الرهن في المسلم هو الربا المضمون. وقد روي نحو ذلك عن ابن عمر، والأوزاعي، والحسن، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ورخص فيه الباقون. واستدلوا بما في الصحيح من حديث عائشة «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترى طعاما من يهودي نسيئة ورهنه درعا من حديد (1)». وقد ترجم عليه البخاري: باب الرهن في السلم، وترجم عليه أيضا في كتاب السلم: باب الكفيل في السلم، واعترض عليه الإسماعيلي بأنه
(1) صحيح البخاري البيوع (2068)، صحيح مسلم المساقاة (1603)، سنن النسائي البيوع (4650)، سنن ابن ماجه الأحكام (2436)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 42).
ليس في هذا الحديث ما ترجم به ولعله أراد إلحاق الكفيل بالرهن؛ لأنه حق ثبت الرهن به فجاز أخذ الكفيل به. والخلاف في الكفيل كالخلاف في الرهن.
قوله: (فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه. . إلخ) فيه دليل لمن قال: إنه لا يجوز صرف رأس المال إلى شيء آخر، وقد تقدم الخلاف في ذلك.
ومن أحاديث المنتقى مع شرحها من نيل الأوطار:
(باب النهي عن بيع ما لا يملكه ليمضي فيشتريه ويسلمه)
عن حكيم بن حزام قال: «قلت: يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه ثم أبتاعه من السوق فقال: لا تبع ما ليس عندك (1)» رواه الخمسة.
الحديث أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي:(حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن حكيم) انتهى.
وفي بعض طرقه عبد الله بن عصمة. زعم عبد الحق أنه ضعيف جدا، ولم يتعقبه ابن القطان، بل نقل عن ابن حزم أنه مجهول. وقال الحافظ:(وهو جرح مردود فقد روى عنه ذلك ثلاثة كما في التلخيص. وقد احتج به النسائي. وفي الباب عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عند أبي داود والترمذي، وصححه، والنسائي، وابن ماجه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك (2)».
(1) سنن الترمذي البيوع (1232)، سنن النسائي البيوع (4613)، سنن أبو داود البيوع (3503)، سنن ابن ماجه التجارات (2188)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 402)، سنن الدارمي البيوع (2560).
(2)
سنن الترمذي البيوع (1234)، سنن النسائي البيوع (4611)، سنن أبو داود البيوع (3504)، سنن ابن ماجه التجارات (2188)، سنن الدارمي البيوع (2560).
قوله: (ما ليس عندك) أي ما ليس في ملكك وقدرتك، والظاهر أنه يصدق على العبد المغصوب الذي لا يقدر على انتزاعه ممن هو في يده، وعلى الآبق الذي لا يعرف مكانه، والطير المنفلت الذي لا يعتاد رجوعه. ويدل على ذلك معنى (عند) لغة قال الرضي:(إنها تستعمل في الحاضر القريب وما هو في حوزتك وإن كان بعيدا) انتهى.
فيخرج عن هذا ما كان غالبا خارجا عن الملك أو داخلا فيه خارجا عن الحوزة، وظاهره أنه يقال لما كان حاضرا وإن كان خارجا عن الملك. فمعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«لا تبع ما ليس عندك (1)» أي ما ليس حاضرا عندك ولا غائبا في ملكك وتحت حوزتك.
قال البغوي: النهي في هذا الحديث عن بيوع الأعيان التي لا يملكها، أما بيع شيء موصوف في ذمته فيجوز فيه السلم بشروط، فلو باع شيئا موصوفا في ذمته عام الوجود عند المحل المشروط في البيع جاز، وإن لم يكن المبيع موجودا في ملكه حالة العقد كالسلم.
قال: وفي معنى بيع ما ليس عنده في الفساد بيع الطير المنفلت الذي لا يعتاد رجوعه إلى محله فإن اعتاد الطائر أن يعود ليلا لم يصح عند الأكثر إلا النحل، فإن الأصح فيه الصحة كما قاله النووي في زيادات الروضة، وظاهر النهي تحريم ما لم يكن في ملك الإنسان ولا داخلا تحت مقدرته، وقد استثنى من ذلك السلم فتكون أدلة جوازه مخصصة لهذا العموم، وكذلك إذا كان
(1) سنن الترمذي البيوع (1232)، سنن النسائي البيوع (4613)، سنن أبو داود البيوع (3503)، سنن ابن ماجه التجارات (2188)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 402).
المبيع في ذمة المشتري إذ هو كالحاضر المقبوض.
ثم قال: باب النهي عن بيع الدين بالدين وجوازه بالعين ممن هو عليه:
عن ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» رواه الدارقطني، وعن ابن عمر قال «أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير. فقال: "لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء (1)» رواه الخمسة. وفي لفظ بعضهم: «أبيع بالدنانير، وآخذ مكانها الورق، وأبيع بالورق، وآخذ مكانها الدنانير (2)» وفيه دليل على جواز التصرف في الثمن قبل قبضه، وإن كان في مدة الخيار وعلى أن خيار الشرط لا يدخل الصرف.
الحديث الأول صححه الحاكم على شرط مسلم وتعقب بأنه تفرد به موسى بن عبيدة الربذي كما قال الدارقطني وابن عدي، وقد قال فيه أحمد: لا تحل الرواية عنه عندي ولا أعرف هذا الحديث عن غيره، وقال: ليس في هذا أيضا حديث يصح. ولكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين.
وقال الشافعي: (أهل الحديث يوهنون هذا الحديث) اهـ. ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم «نهى عن بيع كالئ بكالئ دين بدين» ولكن في إسناده موسى المذكور فلا يصلح شاهدا.
(1) سنن الترمذي البيوع (1242)، سنن النسائي البيوع (4582)، سنن أبو داود البيوع (3354)، سنن ابن ماجه التجارات (2262)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 139)، سنن الدارمي البيوع (2581).
(2)
سنن الترمذي البيوع (1242)، سنن النسائي البيوع (4582)، سنن أبو داود البيوع (3354)، سنن ابن ماجه التجارات (2262)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 84)، سنن الدارمي البيوع (2581).
والحديث الثاني صححه الحاكم، وأخرجه ابن حبان، والبيهقي وقال الترمذي: "لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث سماك بن حرب وذكر أنه روي عن ابن عمر موقوفا)، وأخرجه النسائي موقوفا عليه أيضا.
قال البيهقي: (والحديث تفرد برفعه سماك بن حرب) وقال شعبة: (رفعه لنا سماك وأنا أفرقه).
قوله: (الكالئ بالكالئ) وهو مهموز. قال الحاكم عن أبي الوليد حسان: هو بيع النسيئة بالنسيئة، كذا نقله أبو عبيد في الغريب، وكذا نقله الدارقطني عن أهل اللغة وروى البيهقي عن نافع قال:(هو بيع الدين بالدين).
وفيه دليل على عدم جواز بيع الدين بالدين، وهو إجماع كما حكاه أحمد في كلامه السابق، وكذا لا يجوز بيع كل معدوم بمعدوم.
قوله: (بالبقيع) قال الحافظ: (بالباء الموحدة كما وقع عند البيهقي في بقيع الغرقد)، قال النووي:(ولم يكن إذ ذلك قد كثرت فيه القبور). وقال ابن باطيش: (لم أر من ضبطه والظاهر أنه بالنون) حكي ذلك عنه في التلخيص وابن رسلان في شرح السنن.
قوله: (لا بأس. . إلخ) فيه دليل على جواز الاستدلال عن الثمن الذي في الذمة بغيره، وظاهره أنهما غير حاضرين جميعا
بل الحاضر أحدهما وهو غير اللازم فيدل على أن ما في الذمة كالحاضر.
قوله: (ما لم تفترقا وبينكما شيء) فيه دليل على أن جواز الاستدلال مقيد بالتقابض في المجلس؛ لأن الذهب والفضة مالان ربويان فلا يجوز أحدهما بالآخر إلا بشرط وقوع التقابض في المجلس وهو محكي عن عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهما، والحسن، والحكم، وطاوس، والزهري، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي، وأحمد وغيرهم، وروي عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب، وهو أحد قولي الشافعي أنه مكروه: أي الاستبدال المذكور، والحديث يرد عليهم.
واختلف الأولون فمنهم من قال: (يشترط أن يكون بسعر يومها كما وقع في الحديث) وهو مذهب أحمد، وقال أبو حنيفة والشافعي:(إنه يجوز بسعر يومها وأغلى أو أرخص) وهو خلاف ما في الحديث من قوله: "بسعر يومها" وهو أخص من حديث: «إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (1)» فيبنى العام على الخاص.
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي كتاب البيوع (4563)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).
باب نهي المشتري عن بيع ما اشتراه قبل قبضه:
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه (1)» رواه أحمد ومسلم.
وعن أبي هريرة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وآله
(1) صحيح مسلم البيوع (1529)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 327).
وسلم أن يشترى الطعام ثم يباع حتى يستوفى (1)» رواه أحمد ومسلم، ولمسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:«من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله (2)» ، وعن حكيم بن حزام قال:«قلت: يا رسول الله، إني أشتري بيوعا، فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال: "إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه (3)» رواه أحمد.
وعن زيد بن ثابت: «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحرزها التجار إلى رحالهم (4)» رواه أبو داود والدارقطني.
وعن ابن عمر قال: «كانوا يبتاعون الطعام جزافا بأعلى السوق فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه (5)» رواه الجماعة إلا الترمذي وابن ماجه. وفي لفظ في الصحيحين: (حتى يحولوه) والجماعة إلا الترمذي: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (6)» ولأحمد: «من اشترى طعاما بكيل ووزن فلا يبعه بقبضه (7)» ولأبي داود، والنسائي:«نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه (8)» .
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه (9)» قال ابن عباس: (ولا أحسب كل شيء إلا مثله) رواه الجماعة إلا الترمذي، وفي لفظ في الصحيحين:«من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يكتاله (10)» .
حديث حكيم بن حزام أخرجه أيضا الطبراني في الكبير وفي
(1) صحيح مسلم البيوع (1528)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 329).
(2)
صحيح مسلم البيوع (1528)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 349).
(3)
سنن الترمذي البيوع (1232)، سنن النسائي البيوع (4603)، سنن أبو داود البيوع (3503)، سنن ابن ماجه التجارات (2187)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 402).
(4)
صحيح البخاري البيوع (2124)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4606)، سنن أبو داود البيوع (3499)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56)، موطأ مالك البيوع (1337)، سنن الدارمي البيوع (2559).
(5)
صحيح البخاري البيوع (2167)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4606)، سنن أبو داود البيوع (3499)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56)، موطأ مالك العتق والولاء (1520)، سنن الدارمي البيوع (2559).
(6)
صحيح البخاري البيوع (2133)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4596)، سنن أبو داود البيوع (3499)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56)، موطأ مالك البيوع (1336)، سنن الدارمي البيوع (2559).
(7)
صحيح البخاري البيوع (2124)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4604)، سنن أبو داود البيوع (3495)، سنن ابن ماجه التجارات (2226)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 111)، موطأ مالك البيوع (1335)، سنن الدارمي البيوع (2559).
(8)
صحيح البخاري البيوع (2124)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4604)، سنن أبو داود البيوع (3495)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56)، موطأ مالك البيوع (1337)، سنن الدارمي البيوع (2559).
(9)
صحيح البخاري البيوع (2124)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4606)، سنن أبو داود البيوع (3499)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 22)، موطأ مالك البيوع (1337)، سنن الدارمي البيوع (2559).
(10)
صحيح البخاري البيوع (2126)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4596)، سنن أبو داود البيوع (3492)، سنن ابن ماجه التجارات (2226)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56)، موطأ مالك البيوع (1335)، سنن الدارمي البيوع (2559).
إسناده العلاء بن خالد الواسطي، وثقه ابن حسان، وضعفه موسى بن إسماعيل، وقد أخرج النسائي بعضه وهو طرف من حديثه المتقدم في باب النهي عن بيع ما لا يملكه. وحديث زيد بن ثابت أخرجه أيضا الحاكم وصححه، وابن حبان وصححه أيضا.
قوله: (إذا ابتعت طعاما) وكذا قوله في الحديث الثاني: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. . إلخ) وكذا قوله: (من اشترى طعاما) وكذلك بقية فيه التصريح بمطلق الطعام في حديث الباب في جميعها دليل على أنه لا يجوز لمن اشترى طعاما أن يبيعه حتى يقبضه من غير فرق بين الجزاف وغيره، وإلى هذا ذهب الجمهور، وروي عن عثمان البتي أنه يجوز بيع كل شيء قبل قبضه، والأحاديث ترد عليه، فإن النهي يقتضي التحريم بحقيقته، ويدل على الفساد المرادف للبطلان كما تقرر في الأصول.
وحكي في الفتح عن مالك في المشهور عنه الفرق بين الجزاف وغيرهن فأجاز بيع الجزاف قبل قبضه، وبه قال الأوزاعي وإسحاق، واحتجوا بأن الجزاف يرى فيكفي فيه التخلية، والاستبقاء إنما يكون في مكيل أو موزون. وقد روى أحمد من حديث ابن عمر مرفوعا:«من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبيعه حتى يقبضه (1)» رواه أبو داود، والنسائي بلفظ:«نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه (2)» كما ذكره المصنف.
وللدارقطني من حديث جابر: «نهى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع
(1) صحيح البخاري البيوع (2124)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4604)، سنن أبو داود البيوع (3495)، سنن ابن ماجه التجارات (2226)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 111)، موطأ مالك البيوع (1335)، سنن الدارمي البيوع (2559).
(2)
صحيح البخاري البيوع (2124)، صحيح مسلم البيوع (1526)، سنن النسائي البيوع (4604)، سنن أبو داود البيوع (3495)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 56)، موطأ مالك البيوع (1337)، سنن الدارمي البيوع (2559).
البائع وصاع المشتري (1)» ونحوه للبزار من حديث أبي هريرة، قال في الفتح: بإسناد حسن. قالوا: وفي ذلك دليل على أن القبض إنما يكون شرطا في المكيل والموزون دون الجزاف، واستدل الجمهور بإطلاق أحاديث الباب وبنص حديث ابن عمر فإنه صرح فيه بأنهم كانوا يبتاعون جزافا الحديث- ويدل لما قالوا حديث حكيم بن حزام المذكورة لأنه يعم كل مبيع، ويجاب عن حديث ابن عمر وجابر اللذين احتج بهما مالك ومن معه: بأن التنصيص على كون الطعام المنهي عن بيعه مكيلا أو موزونا لا يستلزم عدم ثبوت الحكم في غيره. نعم لو لم يوجد في الباب إلا الأحاديث التي فيها إطلاق لفظ الطعام لأمكن أن يقال إنه يحمل المطلق على المقيد بالكيل والوزن. وأما بعد التصريح بالنهي عن بيع الجزاف قبل قبضه كما في حديث ابن عمر فيحتم المصير إلى أن حكم الطعام متحد من غير فرق بين الجزاف وغيره، ورجح صاحب (ضوء النهار) أن هذا الحكم: أعني تحريم بيع الشيء قبل قبضه مختص بالجزاف دون المكيل والموزون وسائر المبيعات من غير الطعام، وحكي هذا عن مالك.
ويجاب عنه بما تقدم من إطلاق الطعام والتصريح بما هو أعم منه كما في حديث حكيم، والتنصيص على تحريم بيع المكيل من الطعام والموزون كما في حديث ابن عمر وجابر، وما حكاه عن مالك خلاف ما حكاه عنه غيره، فإن صاحب الفتح حكي عنه ما تقدم، وهو مقابل لما حكاه عنه، وكذلك يروي عن مالك ما يخالف ذلك ابن دقيق العيد، وابن القيم، وابن رشد في
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2228).
بداية المجتهد وغيرهم. وقد سبق صاحب (ضوء النهار) إلى هذا المذهب ابن المنذر، ولكنه لم يخصص بعض الطعام دون بعض. بل سوى بين الجزاف وغيره، ونفى اعتبار القبض عن غير الطعام. وقد حكى ابن القيم في:(بدائع الفوائد) عن أصحاب مالك، كقول ابن المنذر، ويكفي في رد هذا المذهب حديث حكيم فإنه يشمل بعمومه غير الطعام، وحديث زيد بن ثابت فإنه مصرح بالنهي في السلع، وقد استدل من خصص هذا الحكم بالطعام لما في البخاري من حديث ابن عمر:«أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترى من عمر بكرا كان ابنه راكبا عليه، ثم وهبه لابنه قبل قبضه» ويجاب عن هذا بأنه خارج عن محل النزاع لأن البيع معاوضة بعوض، وكذلك الهبة إذا كانت بعوض وهذه الهبة الواقعة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليست على عوض. وغاية ما في الحديث جواز التصرف في المبيع قبل قبضه بالهبة بغير عوض، ولا يصح الإلحاق للبيع وسائر التصرفات بذلك؛ لأنه مع كونه فاسد الاعتبار قياس مع الفارق، وأيضا قد تقرر في الأصول أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمر الأمة أو نهاها أمرا أو نهيا خاصا بها ثم فعل ما يخالف ذلك ولم يقم دليل يدل على التأسي في ذلك الفعل بخصوصه كان مختصا به لأن هذا الأمر أو النهي الخاصين بالأمة في مسألة مخصوصة هما أخص من أدلة التأسي العامة مطلقا فيبنى العام على الخاص، وذهب بعض المتأخرين إلى تخصيص التصرف الذي نهى عنه قبل القبض بالبيع دون غيره، قال:(فلا يحل البيع ويحل غيره من التصرفات) وأراد بذلك الجمع بين
أحاديث الباب وحديث شرائه صلى الله عليه وآله وسلم للبكر ولكنه يعكر عليه أن ذلك يستلزم إلحاق جميع التصرفات التي بعوض وبغير عوض، كالهبة بغير عوض، وهو إلحاق مع الفارق، وأيضا إلحاقها بالهبة المذكورة دون البيع الذي وردت بمنعه الأحاديث تحكم، والأولى الجمع بإلحاق التصرفات بعوض بالبيع، فيكون فعلها قبل القبض غير جائز، وإلحاق التصرفات والتي لا عوض فيها بالهبة المذكورة وهذا هو الراجح.
ولا يشكل عليه ما قدمنا من أن ذلك الفعل مختص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم: لأن ذلك إنما هو على طريق التنزل مع ذلك القائل، بعد فرض أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم يخالف ما دلت عليه أحاديث الباب، وقد عرفت أنه لا مخالفة فلا اختصاص.
ويشهد لما ذهبنا إليه إجماعهم على صحة الوقف والعتق قبل القبض.
ويشهد له أيضا ما علل به النهي فإنه أخرج البخاري عن طاوس قال: (قلت لابن عباس: كيف ذلك؟ قال: دراهم بدراهم، والطعام مرجا) استفهمه عن سبب النهي، فأجابه بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باع دراهم بدراهم، ويبين ذلك ما أخرجه مسلم عن ابن عباس أنه قال لما سأله طاوس:(ألا تراهم يبتاعون بالذهب والطعام مرجا)؛ وذلك لأنه إذا اشترى طعامه بمائة دينار ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام، ثم باع الطعام إلى آخر بمائة وعشرين مثلا فكأنه اشترى بذهبه ذهبا أكثر منه، ولا يخفى أن مثل هذه العلة لا تنطبق على ما كان من التصرفات
بغير عوض، وهذا التعليل أجود ما علل به النهى؛ لأن الصحابة أعرف بمقاصد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا شك أن المنع من كل تصرف قبل القبض من غير فرق بين ما كان بعوض وما لا عوض فيه لا دليل عليه إلا الإلحاق لسائر التصرفات بالبيع، وقد عرفت بطلان إلحاق ما لا عوض فيه بما فيه عوض، ومجرد صدق اسم التصرف على الجميع لا يجعله مسوغا للقياس عارف بعلم الأصول.
قوله: (حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) فيه دليل على أنه لا يكفي مجرد القبض، بل لا بد من تحويله إلى المنزل الذي يسكن فيه المشتري أو يضع فيه بضاعته، وكذلك يدل على هذا قوله في الرواية الأخرى:(حتى يحولوه)، وكذلك ما وقع في بعض طرق مسلم عن ابن عمر بلفظ:«كنا نبتاع الطعام فبعث علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه (1)» وقد قال صاحب الفتح أنه لا يعتبر الإيواء إلى الرحال، لأن الأمر به خرج مخرج الغالب، ولا يخفى أن هذه دعوى تحتاج إلى برهان، لأنه مخالفة لما هو الظاهر، ولا عذر لمن قال: أنه يحمل المطلق على المقيد من المصير إلى ما دلت إليه هذه الروايات.
قوله: (جزافا) بتثليث الجيم والكسر أفصح من غيره وهو ما لم يعلم قدره على التفصيل، قال ابن قدامة:(يجوز بيع الصبرة جزافا لا نعلم فيه خلافا إذا جهل البائع والمشتري قدرها).
(1) صحيح البخاري البيوع (2124)، صحيح مسلم البيوع (1527)، سنن النسائي البيوع (4605)، سنن أبو داود البيوع (3493)، سنن ابن ماجه التجارات (2229)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 113)، موطأ مالك البيوع (1337)، سنن الدارمي البيوع (2559).
قوله: (ولا أحسب كل شيء إلا مثله) استعمل ابن عباس القياس، ولعله لم يبلغه النص المقتضي لكون سائر الأشياء كالطعام كما سلف.
قوله: (حتى يكتاله) قيل: المراد بالاكتيال: القبض والاستيفاء كما في سائر الروايات، ولكنه لما كان الأغلب في الطعام ذلك صرح بلفظ الكيل وهو خلاف الظاهر كما عرفت، والظاهر أن من اشترى شيئا مكايلة أو موازنة فلا يكون قبضه إلا بالكيل والوزن فإن قبضه جزافا كان فاسدا، وبهذا قال الجمهور كما حكاه الحافظ عنهم في الفتح، ويدل عليه حديث اختلاف الصاعين.
باب النهي عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان:
عن جابر قال: «نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع وصاع المشتري (1)» رواه ابن ماجه، والدارقطني.
وعن عثمان قال: «كنت أبتاع التمر من بطن من اليهود يقال لهم بنو قينقاع وأبيعه بربح فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "يا عثمان، إذا ابتعت فاكتل إذا بعت فكل (2)» رواه أحمد، وللبخاري مثله بغير إسناد كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. حديث جابر أخرجه أيضا البيهقي، وفي إسناده ابن أبي ليلى قال البيهقي:(وقد روي من وجه آخر).
وفي الباب عن أبي هريرة عند البزار بإسناد حسن، وعن أنس، وابن عباس عند ابن عدي بإسنادين ضعيفين جدا كما قال الحافظ.
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2228).
(2)
سنن ابن ماجه التجارات (2230)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 62).
وحديث عثمان أخرجه عبد الرزاق، ورواه الشافعي، وابن أبي شيبة، والبيهقي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا، قال البيهقي:(روي موصولا من أوجه إذا ضم بعضها إلى بعض قوي) وقال في (مجمع الزوائد): إسناده حسن. واستدل بهذه الأحاديث على أن من اشترى شيئا مكايلة وقبضه ثم باعه إلى غيره لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله على من اشتراه ثانيا. وإليه ذهب الجمهور كما حكاه في الفتح عنهم.
قال: (وقال عطاء: يجوز بيعه بالكيل الأول مطلقا) وقيل: إن باعه بنقد جاز بالكيل الأول، وإن باعه بنسيئة لم يجز بالأول. والظاهر ما ذهب إليه الجمهور من غير فرق بين بيع وبيع للأحاديث المذكورة في الباب التي تفيد بمجموعها ثبوت الحجة، وهذا إنما هو إذا كان الشراء مكايلة، وأما إذا كان جزافا فلا يعتبر الكيل المذكور عندما يبيعه المشتري.
(انتهى القسم الأول ويليه القسم الثاني في العدد 47)