المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأدلة على صحة هذا المنهج: - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٤٦

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌ مقدمة

- ‌ نصوص من القرآن والسنة يرجع إليها في الحكم بالربا عند تحقيق المناط، والتطبيق على الجزئيات:

- ‌ نصوص من القرآن معها تفسيرها:

- ‌ابن العربي في كتابه أحكام القرآن:

- ‌ أبو الفداء إسماعيل بن كثير في تفسيره:

- ‌ نصوص من أحاديث أحكام الربا مع شرحها

- ‌ نصوص من صحيح البخاري مع شرحها لابن حجر

- ‌الفتاوى

- ‌ حكم الشرع في التفاسير التي تسمى بالتفاسير العلمية

- ‌ إذا مر القارئ على آية سجدة فهل يلزمه أن يكون على طهارة أثناء السجود أم لا

- ‌ هل يجوز كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) في بداية كتابة أي شيء

- ‌شرح الآيات من الآية رقم 115 إلى 119 من سورة المائدة

- ‌ من هو أبو سيدنا إبراهيم عليه السلام

- ‌ تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}

- ‌ لماذا لم تبدأ سورة التوبة بـ بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌ على من أنزل الله سورة التوبة، وما أسباب نزولها

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌ وصف الميت بأنه مغفور له أو مرحوم

- ‌ تقدم الإمام وصلى بعض الصلاة ثم ذكر بأنه لم يتوضأ وانصرف هل يبني المأمومون على ما مضى أو يستأنفون الصلاة

- ‌ يدخل والصلاة تقام ولكنه يعرف من الإمام أنه يطيل في الركعة الأولى فيصلي ركعتي الفجر قبل أن يدخل مع الإمام

- ‌ صحة حديث: ما رفع مسلم منزله فوق سبعة أذرع إلا قيل له: إلى أين يا فاسق

- ‌ هل سجود السهو مشروع في صلاة النفل والسنن الرواتب كالفرض

- ‌ الدعاء في الصلاة

- ‌ الأذان لصلاة الفجر قبل دخول الوقت

- ‌ صلاة المنفرد خلف الصف

- ‌بحث في الربا والصرف

- ‌معنى الربا في اللغة والاصطلاح الشرعي:

- ‌معنى الصرف في اللغة والاصطلاح الشرعي:

- ‌حكم الربا:

- ‌علة الربا في الأموال الربوية:

- ‌نقاش هذه الآراء:

- ‌تقرير عن المنجد في اللغة والأعلام

- ‌من أخطر مساوئ المنجد:

- ‌أمثلة مما جاء في المنجد:

- ‌مصادر العقيدة الإسلامية ودور العقل

- ‌تمهيد:

- ‌ القرآن الكريم:

- ‌ السنة النبوية:

- ‌الأدلة على صحة هذا المنهج:

- ‌آثار هذا المنهج وفوائده:

- ‌دور العقل ومكانته:

- ‌إطلاقات كلمة العقل:

- ‌فروق لغوية في أسماء العقل:

- ‌عناية الإسلام بالعقل:

- ‌العلاقة بين الوحي والعقل:

- ‌المؤلف والرسالة

- ‌بين يدي الرسالة:

- ‌مخطوطات الرسالة:

- ‌النص المحقق

- ‌الاختلاف في أصول الدين وأسبابه وأحكامه

- ‌تعريف الاختلاف في الدين

- ‌الاختلاف في الكتاب والسنة النبوية

- ‌ الاختلاف في القرآن الكريم

- ‌ الاختلاف في السنة النبوية:

- ‌نشأة الخلاف العقدي:

- ‌نشأة الفرق في الأمة المحمدية:

- ‌أنواع المختلفين في العقائد وأحكامهم:

- ‌أسباب الاختلاف في الدين:

- ‌أنواع الاختلاف في الدين من حيث الرتبة:

- ‌أحاديث الافتراق:

- ‌الخاتمة

- ‌الفرقة الناجية صفاتها وخصائصها:

- ‌صفات الفرقة الناجية:

- ‌خصائص الفرقة الناجية:

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌الأدلة على صحة هذا المنهج:

الترجيح عند التعارض مثلا.

وأما الأحاديث الضعيفة والموضوعة المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز الاحتجاج بها، بل ولا تجوز روايتها أصلا إلا لبيان حالها، وإنما ينبغي الإعراض عنها، لأن العقيدة لا تثبت بالأحاديث الضعيفة فضلا عن الموضوعة. وإن من أعظم أسباب الضلال والانحراف عن السنة والعقيدة الصحيحة: الاحتجاج بالأحاديث والأخبار الضعيفة والمكذوبة وبناء الاعتقاد عليها، وبخاصة فيما يتعلق بمباحث الألوهية والصفات ونحوها (1)

(1) انظر: الوصية الكبرى لابن تيمية ص (70 - 83).

ص: 260

‌الأدلة على صحة هذا المنهج:

وقد قامت الأدلة الشرعية (من الكتاب والسنة)، والأدلة العقلية، على صحة هذا المنهج، وعليه أجمع الصحابة وسلف الأمة، كما أيدته التجربة والواقع:

فأولا: نطق بذلك القرآن الكريم، في آيات كثيرة تدل على ذلك:

1 -

فقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1).

فإذا أكمل الله تعالى الدين وأتم به النعمة، فإن هذا يقتضي أن لا يترك جانبا من جوانب العقيدة، أو مسألة من

(1) سورة المائدة الآية 3

ص: 260

مسائلها، دون أن يأتي عليها بالبيان. ولذلك كان القرآن كتاب هداية لأقوم طريق في العقيدة، لأنه يهدي إلى صراط مستقيم وإلى سبل السلام:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1)، {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} (2){وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} (3){وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (4)، وقال تعالى:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (5){يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (6).

2 -

وقد وصف الله تعالى الكتاب بأنه تبيان لكل شيء فقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (7)، {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (8).

وإذا كانت العقيدة من أهم ما ينبغي بيانه ومعرفته، فلا بد من أن تكون آيات الله تعالى مبينة لهذا أوضح بيان، إذ لا يقبل العقل أن تبين لنا هذه الآيات أحكام الفروع ثم تترك هذه الأصول الاعتقادية التي هي أساس لتلك الفروع.

(1) سورة الإسراء الآية 9

(2)

سورة النساء الآية 66

(3)

سورة النساء الآية 67

(4)

سورة النساء الآية 68

(5)

سورة المائدة الآية 15

(6)

سورة المائدة الآية 16

(7)

سورة النحل الآية 89

(8)

سورة يوسف الآية 111

ص: 261

3 -

وقد جاءت الآيات الكريمات تبين أن الله تعالى يبين للناس ما يكون سببا لعصمتهم عن الضلال، وذلك يكون باتباع القرآن والسنة ومجانبة الظن وأهواء النفوس:{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (1){وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (2)، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (3)، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (4)، في آيات كثيرة من كتاب الله تنطق بالحق، وتقيم الحجة والبرهان على أن القرآن الكريم هو كتاب العقيدة والإيمان. فليس وراءه مصدر إلا ما كان يخرج من مشكاته، وهو الحكمة أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

4 -

ولذلك أوجب الله تعالى على المسلمين اتباع الرسول فيما يأمر وينهى، وقرن طاعة الرسول بطاعته - سبحانه - في آيات كثيرة من القرآن فقال:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (5).

وحث على الاستجابة لما يدعو إليه من الحياة

(1) سورة طه الآية 123

(2)

سورة طه الآية 124

(3)

سورة التوبة الآية 115

(4)

سورة القصص الآية 50

(5)

سورة آل عمران الآية 132

ص: 262

الكريمة التي تتمثل في الاعتقاد الصحيح وفي التمسك بالدين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (1).

وجعل طاعة الرسول طاعة لله تعالى، وعلامة على محبته:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (2).

كما جعل مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم سببا للفتنة تصيب الإنسان، أو سببا لعذاب أليم:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3).

ويؤيد هذا أن رجلا قال لمالك بن أنس رحمه الله: من أين أحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأعاد عليه مرارا قال: فإن زدت على ذلك؟ قال: فلا تفعل، فإني أخاف عليك الفتنة! قال: وما في هذه من الفتنة، إنما هي أميال أزيدها؟ قال: فإن الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) قال: وأي فتنة في هذا؟ قال مالك: وأي فتنة أعظم من أن ترى أن اختيارك لنفسك خير من اختيار الله ورسوله؟ (5).

(1) سورة الأنفال الآية 24

(2)

سورة آل عمران الآية 31

(3)

سورة النور الآية 63

(4)

سورة النور الآية 63

(5)

انظر: الباعث على إنكار البدع والحوادث، لابن أبي شامة ص (21، 22)، الإبانة لابن بطة: 1/ 261.

ص: 263

ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: (تضمن الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. ثم قرأ: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (1)(2).

وتواترت الأحاديث النبوية توجب العمل بالسنة والتمسك بها، وتبين أنها سبب النجاة، بما يدل دلالة قاطعة على أن المنهج الصحيح في استلهام العقيدة - مع سائر الأحكام - إنما يكون بالعودة إلى الصادق المصدوق، المبلغ عن ربه تبارك وتعالى.

وما ورد من هذه الأحاديث أنواع كثيرة يمكن إدخالها تحت أنواع ثلاثة:

النوع الأول: إخباره صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم من الكذب - بأنه قد أوحي إليه القرآن وغيره، وأن ما بينه وشرعه

(1) سورة طه الآية 123

(2)

تفسير الطبري: 16/ 225 (طبع الحلبي).

ص: 265

من الأحكام، إنما هو بتشريع الله تعالى ومن عنده، وليس من عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يمكن فهم الأحكام من القرآن وحده، بل لا بد من الاستعانة بالسنة، وأن العمل بها عمل بالقرآن نفسه، وأن الأمة قد أمرها الله تعالى بالأخذ بقوله صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباع سنته، وأن من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله، وأن الإيمان لا يتم إلا باتباع جميع ما جاء به.

وهذا النوع من الأحاديث يعز على الحصر، وقد تقدمت الإشارة إلى بعضها في مناسبات سابقة، كحديث:«ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه (1)»

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله. . (2)» .

والنوع الثاني: أمره صلى الله عليه وسلم بالتمسك بالسنة، وهو لا يأمر إلا بما أوجبه الله تعالى، ولا ينهى إلا عما حظره الله، كما في حديث العرباض بن سارية، وفيه: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة،. . . فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات

(1) روي من طرق، فرواه أبو داود: 7/ 7، 8، والترمذي 7/ 426، والإمام أحمد: 4/ 131، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه: 1/ 89. وانظر: تفسير ابن كثير: 1/ 9، بتخريج مقبل بن هادي.

(2)

أخرجه البخاري: 6/ 11، ومسلم: 3/ 1466.

ص: 266

الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (1)» إلخ.

والنوع الثالث: أمره صلى الله عليه وسلم باستماع حديثه وحفظه وتبليغه إلى من لم يسمعه، وذلك يستلزم حجية قوله صلى الله عليه وسلم، كقوله صلى الله عليه وسلم:«بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (2)»

ثالثا: وعلى هذا المنهج سار الصحابة - رضوان الله عليهم -، فكانوا يتلقون من النبي صلى الله عليه وسلم ما أوحاه الله تعالى إليه: قرآنا ناطقا وسنة حادثة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيتعرفون- بذلك- على وحدانية الله تعالى، وعلى صفاته، وعلى نبوته عليه الصلاة والسلام، وعلى المبدأ والمعاد، وكل ما يتصل بأمور العقيدة بخاصة والدين كله بعامة.

فلم يكن عندهم ما يستدلون به على ذلك سوى كتاب الله تعالى، يتلقونه بالتسليم، فيفهمون معناه، ويلتزمون بما فيه، لا يتنازعون في شيء من ذلك، ولا يتعمقون في البحث الذي لا طائل تحته، وكانوا يرون الجدل في أمور العقيدة مؤديا إلى الانسلاخ من الدين. فلذلك أجمعت كلمتهم على أن القرآن فيه

(1) أخرجه أبو داود: 7/ 11، 12، والترمذي: 7/ 438 - 441 وقال: " هذا حديث حسن صحيح "، وابن ماجه: 1/ 16، والدارمي: 1/ 44، 45، وصححه ابن حبان ص (56)، والحاكم: 1/ 95 ووافقه الذهبي.

(2)

أخرجه البخاري: 6/ 496.

ص: 267

كل الغناء وفيه علم الأولين والآخرين، وأن من جمع القرآن فقد حمل أمرا عظيما وقد أدرجت النبوة بين جنبيه، إلا أنه لا يوحى إليه - كما قال ابن عمر رضي الله عنهما وما ذاك إلا لأنه جامع لمعاني النبوة.

رابعا: وعلى هذا أيضا أجمعت كلمة علماء الإسلام- بعد عصر الصحابة - من جميع الطوائف، فإن القرآن عندهم يفيد معرفة أدلة التوحيد من غير ظن ولا تقليد، ومنه تعلم المتكلمون (علماء الكلام) النظر والأدلة، ولكنهم غالوا في النظر، ولم يقتصروا على القدر النافع المذكور في كتاب الله تعالى.

وجميع ما هو صحيح من الأدلة عند المتكلمين يمكن رده إلى القرآن الكريم. بل هو في القرآن الكريم، فجميع أدلتهم- مثلا- في وحدانية الله تعالى لا تخرج عن قوله سبحانه:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (1).

وهكذا في سائر أبواب الاعتقاد ومسائله. وقد ألمحنا إلى شيء من هذا عند الحديث عن منهج الصحابة في التلقي.

ولئن كانت أدلة المتكلمين والفلاسفة مقصورة الفائدة على طائفة من الناس الذين يتأثرون بالدليل العقلي المجرد الذي قد لا يدل دلالة قطعية على مدلوله إلا بتأمل كبير وتعمق وتكلف؛ فإن أدلة

(1) سورة الأنبياء الآية 22

ص: 268

الكتاب والسنة أدلة قاطعة جلية، تسبق إلى الأفهام ببادي الرأي وأول النظر، ويشترك كافة الخلق في إدراكها وفهمها. وهي بذلك مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان، بل كالماء الذي ينتفع به الصبي، والرضيع، والرجل القوي. ولهذا كانت أدلة القرآن سائغة جلية.

ألا ترى أن من قدر على ابتداء الخلق فهو على الإعادة أقدر؟ {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (1) وأن التدبير لا ينتظم في دار واحدة بمدبرين، فكيف ينتظم جميع العالم؟ وأن من خلق علم ما خلق؟، كما قال سبحانه:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (2).

فهذه أدلة تجري مجرى الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي، ينتفع به الجميع بيسر وسهولة، فتؤدي إلى معرفة وقناعة، ثم إلى التزام وطاعة (3).

خامسا: فإذا تجاوزنا الدليل الشرعي والإجماع، وجدنا التجربة والواقع العلمي شاهدين عدلين على صحة المنهج الذي سلف، في العودة إلى القرآن والسنة لنستمد منهما أصول العقيدة، إذ لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن الكريم في مسألة إلا وجد لها فيه أصلا (4) ولذلك كان فيه الكفاية والغناء.

يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: (إننا نعتقد - بالدراسة

(1) سورة الروم الآية 27

(2)

سورة الملك الآية 14

(3)

ترجيح أساليب القرآن، لابن الوزير، ص (15، 16، 22).

(4)

الموافقات، للشاطبي: 3/ 371.

ص: 269

الطويلة - أن هذا القرآن فيه غناء كامل في بيان الحقائق التي يقوم عليها التصور الإسلامي، فلا يحتاج إلى إضافة من خارجه في هذا البيان "باعتبار أن السنة إنما هي تفصيل وبيان لما في القرآن " ونحب أن يتعود القارئ أن يلجأ إلى القرآن ليجد فيه تبيانا لكل شيء، ومن ثم فإن النصوص القرآنية هنا "في بحث موضوعات العقيدة الإسلامية" هي الموضوع ذاته، وليست عنصرا مساعدا كما اعتاد الناس أن يجدوها في كثير من البحوث الإسلامية. . .) (1).

ولا أدل على صحة هذا القول من واقع أولئك الذين حاولوا أن يتلمسوا الأدلة العقلية على صحة الاعتقاد، فأطلقوا العنان لعقولهم في البحث والتفكير، بمعزل عن الوحي، متأثرين في ذلك بمنطق اليونان وفلسفتهم، ولكنهم عادوا بالخيبة والخسران، بعد أن بددوا جهدهم، وأضاعوا في البحث عمرهم، ثم وقفوا حائرين، لا يجدون دلالة إلا في كتاب الله الكريم، وفي سنة نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم.

فهذا إمام الحرمين الجويني (ت 478 هـ) وهو الأصولي الجدلي النظار، يقول: " قرأت خمسين ألفا، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها، وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام عنه، كل ذلك في طلب الحق. وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد. والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق. عليكم بدين العجائز، فإن لم

(1) مقومات التصور الإسلامي، ص (86) بتصرف يسير.

ص: 270

يدركني الحق بلطف بره- فأموت على دين العجائز، وتختم عاقبة أمري عند الرحيل على نزهة أهل الحق وكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله- فالويل لابن الجويني ".

وأما حجة الإسلام، أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ) الذي ابتدأ البحث في علم الكلام فحصله، وطالع كتب المحققين من علمائه، وصنف فيه ما أراد أن يصنف، فينتهي إلى أن يقول عن هذا العلم:(وهذا العلم قليل النفع في حق من لا يسلم سوى الضروريات شيئا أصلا، فلم يكن الكلام في حقي كافيا، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافيا. . .)(1).

وكانت خاتمة أمره إقباله على طلب الحديث ومجالسة أهله ومطالعة " الصحيحين "(2) وبذلك عرف الحق وفاء إليه، فكان عاقبة أمره حسنا!

وأما الفيلسوف القاضي، أبو الوليد محمد بن رشد الحفيد

(1) المنقذ من الضلال للغزالي، ص (81) نقلا عن الحقيقة في نظر الغزالي، د. سليمان دنيا ص (34).

(2)

سير أعلام النبلاء: 19/ 325 - 326.

ص: 271

(ت 520 هـ)، وهو من أعلم الناس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم، فيقول في كتابه " تهافت التهافت) (1):

(لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولا يعتد به، وليس يعصم أحد من الخطأ إلا من عصمه الله تعالى بأمر إلهي خارج عن طبيعة الإنسان، وهم الأنبياء).

وأما إمام المتكلمين، فخر الدين الرازي، الشهير بابن خطيب الري (604 هـ) فيقول في وصيته التي أوصى بها تلميذه إبراهيم بن أبي بكر الأصبهاني:(. . . ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية. فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال لله، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذلك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى في تلك المضايق العمقية، والمناهج الخفية. . .).

ثم يعلن عزوفه عن علم الكلام، الذي كتب فيه ما كتب، فيقول:(وأقول: ديني متابعة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وكتابي القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما)(2).

(1) تهافت التهافت: 2/ 547، تحقيق د. سليمان دنيا.

(2)

طبقات الشافعية الكبرى: 8/ 90 - 91، وانظر: سير أعلام النبلاء: 21/ 501.

ص: 272

وقال في كتابه " أقسام اللذات ":

نهاية إقدام العقول عقال

وغاية سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه: قيل وقالوا

فكم قد رأينا من رجال ودولة

فبادوا جميعا مسرعين وزالوا

وكم من جبال قد علت شرفاتها

رجال ، فزالوا ، والجبال جبال

لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق: طريقة القرآن: اقرأ في الإثبات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1)، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (2) واقرأ في النفي:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3)، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (4)

(1) سورة طه الآية 5

(2)

سورة فاطر الآية 10

(3)

سورة الشورى الآية 11

(4)

سورة طه الآية 110

ص: 273

ثم قال: (ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي).

وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله، محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، حيث قال:

لعمري لقد طفت المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر

على ذقن أو قارعا سن نادم (1)

وهذا العلامة ابن أبي الحديد المعتزلي - مع توغله في علم الكلام - يقول:

تاه الأنام بأسرهم

فاليوم صاحي القوم عربد

والله ما موسى ولا

عيسى المسيح ولا محمد

عرفوا ، ولا جبريل وهو

إلى محمل القدس يصعد

(1) شرح الطحاوية، ص (209)، إيثار الحق على الخلق، لابن الوزير، ص (140).

ص: 274

من كنه ذاتك غير أنك

واحد في الذات سرمد

عرفوا إضافات ونفيا

والحقيقة ليس توجد

فليخسأ الحكماء عن

حرم له الأملاك سجد

من أنت يا رسطو ومن

أفلاط مثلك يا مبلد؟

ومن ابن سينا حيث قرر

ما هذيت به وشيد؟

هل أنتم إلا الفراش

رأى السراج وقد توقد

فدنا فأحرق نفسه

ولو اهتدى رشدا لأبعد

ويقول أيضا:

فيك يا أغلوطة الفكر

تاه عقلي وانقضى عمري

سافرت فيك العقول فما

ربحت إلا عنا السفر

ص: 275