الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعا: لاختلاف الصحابة واجتهادهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره لهم كاختلافهم في مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة (1)» ، فاجتهد بعضهم فصلى العصر في الطريق في وقتها أخذا بحديث الصلاة لوقتها وجعله مخصصا للحديث الأول وصلى بعضهم العصر في بني قريظة بعد أن دخل وقت المغرب تخصيصا للحديث السابق بالأول وقد أقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
خامسا: لأن الحق في الفروع غير متعين عندنا، وقد نصب الشارع عليه أمارات، والأمارات ظنية تختلف الفهوم في دلالتها على الحكم، ونصبها دليل على جواز الاعتماد عليها فيما توصل إليه سواء كان خلافا أو اتفاقا فصار الخلاف في الفروع مباحا.
(1) رواه البخاري، كتاب أبواب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب.
أحاديث الافتراق:
أحاديث الافتراق: هي الأقوال النبوية التي نصت أو أشارت إلى انقسام الأمة الإسلامية إلى فرق شتى في البدع والأهواء، ولقد جاءت الأخبار الصحيحة الصادقة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة المحمدية ستنقسم على نفسها في البدع والأهواء أسوة بانقسام من كان قبلها من بني إسرائيل من اليهود والنصارى، بل إن الحق في هذه الأمة تحمله طائفة وقفت عليه وتحملت مسئوليته فهي عنه مدافعة منافحة وذلك أن مصادر الحق في بني إسرائيل محرفة لا
يمكن الرجوع إليها عند التنازع والاختلاف، وأما في الأمة المحمدية فليس الأمر كذلك فإن مصادرها محفوظة، بل وقامت الدواعي من جهة النقل على صحتها ينقلها الخلف عن السلف كما قال سبحانه:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) والرد إلى الله رد إلى كتابه القرآن الكريم والرد إلى الرسول رد إلى سنته وهما محفوظان بحمد الله ومنته قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2).
وقد رويت أحاديث الافتراق بأسانيد كثيرة عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم كأنس بن مالك وأبي هريرة وأبي الدرداء وجابر وأبي سعيد الخدري وأبي بن كعب، وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي أمامة وغيرهم وهي صحيحة الإسناد من حيث النقل متواترة لفظا ومعنى، ومجملها أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة اثنتان وسبعون فرقة ضلت الحق ولم تصبه وقالت بالباطل، لذا فهي مستحقة للوعيد، وفرقة واحدة تمسكت بالحق فهي به قائمة إلى أن تقوم الساعة، وقد أجمل الإمام أبو بكر الآجري هذه الروايات فقال: (أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أمة موسى عليه الصلاة والسلام أنهم اختلفوا على إحدى وسبعين ملة كلها في النار إلا واحدة، وأخبرنا صلوات الله وسلامه عليه عن أمة عيسى عليه الصلاة والسلام أنهم اختلفوا على اثنتين وسبعين ملة إحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وقال صلى الله عليه وسلم:
(1) سورة النساء الآية 59
(2)
سورة الحجر الآية 9
«وتعلو أمتي على الفريقين جميعا تزيد عليهم فرقة واحدة، اثنتان وسبعون منها في النار، وواحدة في الجنة (1)» ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه سئل عن الناجية فقال عليه الصلاة والسلام في حديث: «ما أنا عليه وأصحابي (2)» ، وفي حديث قال:«السواد الأعظم» ، وفي حديث قال:«واحدة في الجنة (3)» .
وقد اختلف أهل العلم في معنى جملة «كلها في النار إلا واحدة (4)» على قولين:
الأول منهما: أن الأمة الواردة في قوله: «وتفترق أمتي (5)» هي أمة الإجابة وهم المسلمون، فيكون المراد بقوله:«كلها في النار (6)» أن ما عدا الفرقة الناجية مستحق للنار مستوجب للوعيد لا أنه مخلد فيها لأنه لا يخلد أحد من عصاة هذه الأمة في النار.
الثاني: أن المراد بالأمة: هي ما يشمل أمة الدعوة فيدخل في مسمى الأمة المسلمون، وعندئذ يكون معنى «كلها في النار (7)» هم الكفار والناجية هي أمة الإجابة ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يسمع بي أحد من أمتي يهودي أو نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار (8)» .
والقول الراجح والله أعلم هو المعنى الأول، وذلك لأن أمة
(1) الشريعة للآجري ص (14).
(2)
سنن الترمذي الإيمان (2641).
(3)
سنن ابن ماجه الفتن (3992).
(4)
سنن ابن ماجه الفتن (3993)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 120).
(5)
سنن الترمذي الإيمان (2640)، سنن أبو داود السنة (4596)، سنن ابن ماجه الفتن (3991)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 332).
(6)
سنن ابن ماجه الفتن (3993)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 120).
(7)
سنن ابن ماجه الفتن (3993)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 120).
(8)
رواه الإمام أحمد في مسنده (2 - 317) المكتب الإسلامي.
الإجابة ليس العصاة منها محكوم لهم بالنجاة مطلقا، وظاهر الحديث إثبات النجاة على الإطلاق للفرقة الناجية، ولأن الحكم على ما عدا الناجية بالنار يدخل فيه العصاة والكفار من باب أولى فيكون على القول الأول المعنى أشمل، ويستفاد منه معنى أكثر من القول الثاني، ومما يقوى القول الأول حديث أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أني قد رأيت إخواننا، قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطكم على الحوض قالوا: يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيتم لو كان لأحدكم خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلم ألا، فيقال: قد بدلوا بعدك، فأقول: فسحقا فسحقا فسحقا (1)» ووجه دلالة الحديث أن قوله صلى الله عليه وسلم: «فليذادن رجال عن حوضي (2)» . . . إلى قوله: «أناديهم ألا هلم (3)» مشعر بأنهم أمته وأنه عرفهم وقد بين أنهم بالغرر والتحجيل، فدل ذلك على أن هؤلاء الذين دعاهم قد كانوا بدلوا ذوو غرر وتحجيل.
وذلك من خاصية هذه الأمة فبان أنهم معدودون من الأمة
(1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب (52)، ومسلم في كتاب الطهارة حديث (29).
(2)
صحيح البخاري المساقاة (2367)، صحيح مسلم الطهارة (249)، سنن ابن ماجه الزهد (4306)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 300)، موطأ مالك الطهارة (60).
(3)
صحيح مسلم الطهارة (249)، سنن ابن ماجه الزهد (4306)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 300)، موطأ مالك الطهارة (60).
ولو حكم لهم بالخروج من الأمة لم يعرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة أو تحجيل لعدمه عندهم (1).
هذا وقد اختلف أهل العلم في مفهوم العدد في قوله: «وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة (2)» بعد تعيينهم للفرقة الناجية فمنهم من قال: إن المراد بالعدد هو التكثير لا التحديد وأن هذه الأمة سيكثر الافتراق فيها ودليل ذلك حديث: «خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال: هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليها شيطان يدعو إليه ثم قرأ: (4)» .
ولا شك في أن طرق الشيطان وسبله ليست محدودة بعدد، ولكن يكدر عليه مقابلة عدد الأمة بعدد أهل الكتاب، ومنهم من قال: بل إن هذا العدد مقصود وأن المراد أن هذه الفرق أكثرها خطرا وأعظمها شرا هذا العدد، ومنهم من قال: بل إن عدد الفرق محصور في هذا العدد، لكن لم يأت بيان بتعيينها خشية أن تظهر بدع غيرها داخلة في نطاقها ثم يظن أنها ليست ببدع، وبناء على هذا القول الأخير خاض العلماء في تحديد فرق الضلال بحسب ما أداهم إليه اجتهادهم وليس ذلك عن يقين بل عن ظن غالب، وقد رجح الشاطبي رحمه الله القول الأول لعدم الدليل على
(1) الاعتصام (2/ 205).
(2)
سنن الترمذي الإيمان (2640)، سنن أبو داود السنة (4596)، سنن ابن ماجه الفتن (3991)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 332).
(3)
رواه الإمام أحمد في مسنده 1/ 435 وحسنه الألباني في تحقيقه على السند لابن أبي عاصم رقم (17).
(4)
سورة الأنعام الآية 153 (3){وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}
التعيين ولعدم اقتضاء العقل له، إذ لا فائدة في التعيين بل ربما حصلت به مضرة ولما في القول بالتعيين من تكلف ولما يترتب عليه من ذم لما يعين ثم ترتيب الأحكام الشرعية، وقد توج ترجيحه هذا بأن التعيين فيه قبح من جهتين:
الأولى: أن الإشارة إلى الأوصاف كافية في العلم بمجانبتها للحق.
الثانية: لأن في عدم التعيين سترا للأمة وعدم نشر لمساوئها إلا أن الشارع نص على طائفتين وهم الخوارج والقدرية وذلك لعظم الضرر بهم ولدعوتهم لضلالهم وسهولة انخداع العامة بهم والذي يظهر وجاهة ما قاله الشاطبي في الجملة (1) وعليه فيكون الراجح عندنا هو القول الأول.
(1) انظر الاعتصام (2/ 223 - 230).