الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَكَفَى بِهِ عُقُوبَةً، فَكَيْفَ؟ وَأَقَلُّ عُقُوبَتِهِ: أَنْ يُبْتَلَى بِصُحْبَةِ الْمُنْقَطِعِينَ وَمُعَاشَرَتِهِمْ وَخِدْمَتِهِمْ. فَتَصِيرُ أَوْقَاتُهُ - الَّتِي هِيَ مَادَّةُ حَيَاتِهِ - وَلَا قِيمَةَ لَهَا، مُسْتَغْرَقَةً فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، وَنَيْلِ أَغْرَاضِهِمْ. وَهَذِهِ عُقُوبَةُ قَلْبٍ ذَاقَ حَلَاوَةَ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ وَالْجَمْعِيَّةِ عَلَيْهِ وَالْأُنْسِ بِهِ. ثُمَّ آثَرَ عَلَى ذَلِكَ سِوَاهُ. وَرَضِيَ بِطَرِيقَةِ بَنِي جِنْسِهِ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ. وَمَنْ لَهُ أَدْنَى حَيَاةٍ فِي قَلْبِهِ وَنُورٍ فَإِنَّهُ يَسْتَغِيثُ قَلْبُهُ مِنْ وَحْشَةِ هَذَا التَّفَرُّقِ. كَمَا تَسْتَغِيثُ الْحَامِلُ عِنْدَ وِلَادَتِهَا.
فَفِي الْقَلْبِ شَعَثٌ، لَا يَلُمُّهُ إِلَّا الْإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ. وَفِيهِ وَحْشَةٌ، لَا يُزِيلُهَا إِلَّا الْأُنْسُ بِهِ فِي خَلْوَتِهِ.
وَفِيهِ حُزْنٌ لَا يُذْهِبُهُ إِلَّا السُّرُورُ بِمَعْرِفَتِهِ وَصِدْقِ مُعَامَلَتِهِ.
وَفِيهِ قَلَقٌ لَا يُسَكِّنُهُ إِلَّا الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ، وَالْفِرَارُ مِنْهُ إِلَيْهِ.
وَفِيهِ نِيرَانُ حَسَرَاتٍ: لَا يُطْفِئُهَا إِلَّا الرِّضَا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَقَضَائِهِ، وَمُعَانَقَةُ الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ إِلَى وَقْتِ لِقَائِهِ.
وَفِيهِ طَلَبٌ شَدِيدٌ: لَا يَقِفُ دُونَ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَحْدَهُ مَطْلُوبَهُ.
وَفِيهِ فَاقَةٌ: لَا يَسُدُّهَا إِلَّا مَحَبَّتُهُ، وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ، وَدَوَامُ ذِكْرِهِ، وَصِدْقُ الْإِخْلَاصِ لَهُ. وَلَوْ أُعْطِيَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَمْ تَسُدَّ تِلْكَ الْفَاقَةَ مِنْهُ أَبَدًا.
فَالتَّفَرُّقُ يُوقِعُ وَحْشَةَ الْحِجَابِ. وَأَلَمُهُ أَشَدُّ مِنْ أَلَمِ الْعَذَابِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 15] . فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ عَذَابُ الْحِجَابِ وَعَذَابُ الْجَحِيمِ.
وَ " الذَّوْقُ " الَّذِي يُذْهِبُ وَحْشَةَ هَذَا التَّفَرُّقِ: هُوَ الذَّوْقُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي قَوْلِهِ: ذَوْقُ الْإِرَادَةِ طَعْمَ الْأُنْسِ. فَلَا يَعْلَقُ بِهِ شَاغِلٌ. وَلَا يُفْسِدُهُ عَارِضٌ. وَلَا تُكَدِّرُهُ تَفْرِقَةٌ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ سُرُورُ شُهُودٍ]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: سُرُورُ شُهُودٍ. كَشَفَ حِجَابَ الْعِلْمِ، وَفَكَّ رِقَّ التَّكْلِيفِ. وَنَفَى صَغَارَ الِاخْتِيَارِ.
يُرِيدُ: أَنَّ الْعِلْمَ حِجَابٌ عَلَى الْمَعْرِفَةِ. فَشُهُودُ كَشْفِ ذَلِكَ الْحِجَابِ، حَتَّى
يُفْضِيَ الْقَلْبُ إِلَى الْمَعْرِفَةِ: يُوجِبُ سُرُورًا.
وَ " الْعِلْمُ " عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ: اسْتِدْلَالٌ. وَالْمَعْرِفَةُ ضَرُورِيَّةٌ. فَالْعِلْمُ: لَهُ الْخَبَرُ. وَالْمَعْرِفَةُ: لَهَا الْعِيَانُ، فَالْعِلْمُ عِنْدَهُمْ حِجَابٌ عَلَى الْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالْعِلْمِ. وَالْعِلْمُ لَهَا كَالصِّوَانِ لِمَا تَحْتَهُ، فَهُوَ حِجَابٌ عَلَيْهِ. وَلَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْهُ.
وَمِثَالُ هَذَا: أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ فِي حَوْمَةِ ثَلْجٍ ثُقْبًا خَالِيًا: اسْتَدْلَلْتَ بِهِ عَلَى أَنَّ تَحْتَهُ حَيَوَانًا يَتَنَفَّسُ، فَهَذَا عِلْمٌ. فَإِذَا حَفَرْتَهُ، وَشَاهَدْتَ الْحَيَوَانَ. فَهَذِهِ مَعْرِفَةٌ.
قَوْلُهُ " وَفَكَّ رِقَّ التَّكْلِيفِ " عِبَارَةٌ قَلِقَةٌ، غَيْرُ سَدِيدَةٍ. وَ " رِقُّ التَّكْلِيفِ " لَا يُفَكُّ إِلَى الْمَمَاتِ. وَكُلَّمَا تَقَدَّمَ الْعَبْدُ مَنْزِلًا شَاهَدَ مِنْ رَقِّ تَكْلِيفِهِ مَا لَمْ يَكُنْ شَاهَدَهُ مِنْ قَبْلُ، فَرِقُّ التَّكْلِيفِ: أَمْرٌ لَازِمٌ لِلْمُكَلَّفِ مَا بَقِيَ فِي هَذَا الْعَالَمِ.
وَالَّذِي يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ: أَنَّ السُّرُورَ بِالذَّوْقِ - الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ - يُعْتِقُ الْعَبْدَ مِنْ رِقِّ التَّكْلِيفِ، بِحَيْثُ لَا يَعُدُّهُ تَكْلِيفًا. بَلْ تَبْقَى الطَّاعَاتُ غِذَاءً لِقَلْبِهِ، وَسُرُورًا لَهُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ فِي حَقِّهِ، وَنَعِيمًا لِرُوحِهِ. يَتَلَذَّذُ بِهَا، وَيَتَنَعَّمُ بِمُلَابَسَتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا يَتَنَعَّمُ بِمُلَابَسَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ. فَإِنَّ اللَّذَّاتِ الرُّوحَانِيَّةَ الْقَلْبِيَّةَ أَقْوَى وَأَتَمُّ مِنَ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ. فَلَا يَجِدُ فِي أَوْرَادِ الْعِبَادَةِ كُلْفَةً. وَلَا تَصِيرُ تَكْلِيفًا فِي حَقِّهِ. فَإِنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْمُحِبُّ الصَّادِقُ، وَيَأْتِي بِهِ فِي خِدْمَةِ مَحْبُوبِهِ: هُوَ أَسَرُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ. وَأَلَذُّهُ عِنْدَهُ. وَلَا يَرَى ذَلِكَ تَكْلِيفًا، لِمَا فِي التَّكْلِيفِ: مِنْ إِلْزَامِ الْمُكَلَّفِ بِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا سَمَّى أَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَهُ: وَصِيَّةً، وَعَهْدًا، وَمَوْعِظَةً، وَرَحْمَةً وَلَمْ يُطْلِقْ عَلَيْهَا اسْمَ التَّكْلِيفِ إِلَّا فِي جَانِبِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . وَوُقُوعُ الْوُسْعِ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ التَّكْلِيفِ لَا يُوجِبُ وُقُوعَ الِاسْمِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا. فَهَذَا أَقْرَبُ مَا يُؤَوَّلُ بِهِ كَلَامُهُ.
عَلَى أَنَّ لِلْمُلْحِدِ هَاهُنَا مَجَالًا. وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَ: إِنَّمَا هِيَ لِأَقْوَامٍ انْتَقَلَتْ عِبَادَاتُهُمْ مِنْ ظَوَاهِرِهِمْ إِلَى بَوَاطِنِهِمْ. فَانْتَقَلَ حُكْمُ أَوْرَادِهِمْ إِلَى وَارِدَاتِهِمْ. فَاسْتَغْنَوْا بِالْوَارِدَاتِ عَنِ الْأَوْرَادِ، وَبِالْحَقَائِقِ عَنِ الرُّسُومِ، وَبِالْمَعَانِي عَنِ الصُّوَرِ. فَخَلَصُوا مِنْ رِقِّ التَّكْلِيفِ الْمُخْتَصِّ بِالْعِلْمِ، وَقَامُوا بِالْحَقِيقَةِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْحُكْمُ. وَهَكَذَا الْأَلْفَاظُ الْمُجْمَلَةُ عُرْضَةٌ لِلْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ.
قَوْلُهُ: " وَنَفْى صَغَارَ الِاخْتِيَارِ " يُرِيدُ بِهِ: أَنَّ الْعَبْدَ مَتَى كَانَ مَرْبُوطًا بِاخْتِيَارَاتِهِ،
مَحْبُوسًا فِي سِجْنِ إِرَادَاتِهِ، فَهُوَ فِي ذُلٍّ وَصَغَارٍ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ: انْتَفَى عَنْهُ صَغَارُ الِاخْتِيَارِ. وَبَقِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْرَارِ.
فَيَا لَهَا مِنْ عُبُودِيَّةٍ أَوْجَبَتْ حُرِّيَّةً، وَحُرِّيَّةٍ كَمَّلَتْ عُبُودِيَّةً.
فَيَصِيرُ وَاقِفًا مَعَ مَا يَخْتَارُ اللَّهُ لَهُ، لَا مَعَ مَا يَخْتَارُهُ هُوَ لِنَفْسِهِ. بَلْ يَصِيرُ مَعَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا اخْتِيَارَ لَهُ أَلْبَتَّةَ. فَمَنْ كَانَ مَحْجُوبًا بِالْعِلْمِ عَنِ الْمَعْرِفَةِ: نَازَعَتْهُ اخْتِيَارَاتُهُ، وَنَازَعَهَا، فَهُوَ مَعَهَا فِي ذُلٍّ وَصَغَارٍ. وَمَتَى أَفْضَى إِلَى الْمَعْرِفَةِ، وَكُشِفَ لَهُ عَنْ حِجَابِهَا: شَاهَدَ الْبَلَاءَ نَعِيمًا، وَالْمَنْعَ عَطَاءً، وَالذُّلَّ عِزًّا، وَالْفَقْرَ غِنًى. فَانْقَادَ بَاطِنُهُ لِأَحْكَامِ الْمَعْرِفَةِ، وَظَاهِرُهُ لِأَحْكَامِ الْعِلْمِ.
عَلَى أَنَّ لِلْمُلْحِدِ هَاهُنَا مَجَالًا، قَدْ جَالَ فِيهِ هُوَ وَطَائِفَتُهُ. فَقَالَ: هَذَا يُوجِبُ الِانْقِيَادَ لِأَحْكَامِ الْمَعْرِفَةِ، وَالتَّخَلُّصَ وَالرَّاحَةَ مِنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْعَالِمَ يُسْعِطُكَ الْخَلَّ وَالْخَرْدَلَ. وَالْعَارِفَ يُنْشِقُكَ الْمِسْكَ وَالْعَنْبَرَ.
قَالَ: وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّكَ مَعَ الْعَالِمِ فِي تَعَبٍ. وَمَعَ الْعَارِفِ فِي رَاحَةٍ. لِأَنَّ الْعَارِفَ يَبْسُطُ عُذْرَ الْعَوَالِمِ وَالْخَلَائِقِ. وَالْعَالِمَ يَلُومُ. وَقَدْ قِيلَ: مَنْ نَظَرَ إِلَى النَّاسِ بِعَيْنِ الْعِلْمِ مَقَتَهُمْ. وَمَنْ نَظَرَ إِلَيْهِمْ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ عَذَرَهُمْ.
فَانْظُرْ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي مَلْمَسُهُ نَاعِمٌ. وَسُمُّهُ زُعَافٌ قَاتِلٌ، مِنَ الِانْحِلَالِ عَنِ الدِّينِ وَدَعْوَى الرَّاحَةِ مِنْ حُكْمِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْتِمَاسِ الْأَعْذَارِ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَعُبَّادِ الْأَوْثَانِ وَالظَّلَمَةِ وَالْفَجَرَةِ، وَأَنَّ أَحْكَامَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ - الْوَارِدَيْنِ عَلَى أَلْسُنِ الرُّسُلِ - لِلْقُلُوبِ بِمَنْزِلَةِ سَعْطِ الْخَلِّ وَالْخَرْدَلِ، وَأَنَّ شُهُودَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الشَّامِلَةِ لِلْخَلَائِقِ، وَالْوُقُوفَ مَعَهَا، وَالِانْقِيَادَ لِحُكْمِهَا: بِمَنْزِلَةِ تَنْشِيقِ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ.
فَلْيَهْنِ الْكُفَّارَ وَالْفُجَّارَ وَالْفُسَّاقَ: انْتِشَاقُ هَذَا الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ، إِذَا شَهِدُوا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ وَانْقَادُوا لِحُكْمِهَا.
وَيَا رَحْمَةً لِلْأَبْرَارِ الْمُحَكِّمِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ كَثْرَةِ سُعُوطِهِمْ بِالْخَلِّ وَالْخَرْدَلِ.
فَإِنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: هَذَا يَجُوزُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَهَذَا حَلَالٌ، وَهَذَا حَرَامٌ. وَهَذَا يُرْضِي اللَّهَ وَهَذَا يُسْخِطُهُ: خَلٌّ وَخَرْدَلٌ، عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ. وَإِلَّا فَالْحَقِيقَةُ تُشْهِدُكَ الْأَمْرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ إِذَا نَظَرْتَ - عِنْدَهُمْ - إِلَى الْخَلْقِ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ: عَذَرْتَ الْجَمِيعَ. فَتَعْذِرُ مَنْ تَوَعَّدَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْظَمَ الْوَعِيدِ. وَتَهَدَّدَهُ أَعْظَمَ التَّهْدِيدِ.