الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ هَذَا اللَّحْظَ يَبْسُطُهُ لِلشُّكْرِ الَّذِي هُوَ وَصْفُهُ وَفِعْلُهُ. لَا الشُّكْرُ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّبِّ جل جلاله وَفِعْلُهُ. فَإِنَّهُ سَمَّى نَفْسَهُ بِالشَّكُورِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147] وَقَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34] فَهَذَا الشُّكْرُ الَّذِي هُوَ وَصْفُهُ سُبْحَانَهُ لَا يَقُومُ إِلَّا بِهِ. وَلَا يَبْعَثُ الْعَبْدَ عَلَى الْمُلَاحَظَةِ الْمَذْكُورَةِ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ أَنَّهُ: إِذَا لَاحَظَ سَبْقَ الْفَضْلِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، عَلِمَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِمَحَبَّتِهِ لِلشُّكْرِ. فَإِنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُشْكَرَ. كَمَا قَالَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم:«يَا رَبِّ، هَلَّا سَاوَيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُشْكَرَ» .
وَإِذَا كَانَ يُحِبُّ الشُّكْرَ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وِتْرٌ، يُحِبُّ الْوِتْرَ، جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، مُحْسِنٌ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، صَبُورٌ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ، قَوِيٌّ، وَالْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ. فَكَذَلِكَ هُوَ شَكُورٌ يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ. فَمُلَاحَظَةُ الْعَبْدِ سَبْقَ الْفَضْلِ تُشْهِدُهُ صِفَةَ الشُّكْرِ. وَتَبْعَثُهُ عَلَى الْقِيَامِ بِفِعْلِ الشُّكْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مُلَاحَظَةُ نُورِ الْكَشْفِ]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: مُلَاحَظَةُ نُورِ الْكَشْفِ. وَهِيَ تُسْبِلُ لِبَاسَ التَّوَلِّي وَتُذِيقُ طَعْمَ التَّجَلِّي. وَتَعْصِمُ مِنْ عُوَارِ التَّسَلِّي.
هَذِهِ الدَّرَجَةُ: أَتَمُّ مِمَّا قَبْلَهَا. فَإِنَّ تِلْكَ الدَّرَجَةَ: مُلَاحَظَةُ مَا سَبَقَ بِنُورِ الْعِلْمِ. وَهَذِهِ مُلَاحَظَةُ كَشْفٍ بِحَالٍ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى قَلْبِهِ، حَتَّى شَغَلَهُ عَنِ الْخَلْقِ. فَأَسْبَلَ عَلَيْهِ لِبَاسَ تَوَلِّيهِ اللَّهَ وَحْدَهُ وَتَوَلِّيهِ عَمَّا سِوَاهُ.
وَنُورُ الْكَشْفِ عِنْدَهُمْ: هُوَ مَبْدَأُ الشُّهُودِ. وَهُوَ نُورُ تَجَلِّي مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى عَلَى الْقَلْبِ. فَتُضِيءُ بِهِ ظُلْمَةُ الْقَلْبِ. وَيَرْتَفِعُ بِهِ حِجَابُ الْكَشْفِ.
وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِ هَذَا، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا. فَإِنَّكَ تَجِدُ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ: تَجَلِّي الذَّاتِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا، وَتَجَلِّي الصِّفَاتِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا، وَتَجَلِّي الْأَفْعَالِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا. وَالْقَوْمُ عِنَايَتُهُمْ بِالْأَلْفَاظِ. فَيَتَوَهَّمُ الْمُتَوَهِّمُ: أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ تَجَلِّي حَقِيقَةَ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ لِلْعِيَانِ، فَيَقَعُ مَنْ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي الشَّطَحَاتِ وَالطَّامَّاتِ.
وَالصَّادِقُونَ الْعَارِفُونَ بَرَآءٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا يُشِيرُونَ إِلَى كَمَالِ الْمَعْرِفَةِ، وَارْتِفَاعِ حُجُبِ الْغَفْلَةِ وَالشَّكِّ وَالْإِعْرَاضِ، وَاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى الْقَلْبِ بِمَحْوِ شُهُودِ السِّوَى بِالْكُلِّيَّةِ. فَلَا يَشْهَدُ الْقَلْبُ سِوَى مَعْرُوفِهِ.
وَيُنَظِّرُونَ هَذَا بِطُلُوعِ الشَّمْسِ. فَإِنَّهَا إِذَا طَلَعَتِ انْطَمَسَ نُورُ الْكَوَاكِبِ. وَلَمْ تُعْدَمِ الْكَوَاكِبُ. وَإِنَّمَا غَطَّى عَلَيْهَا نُورُ الشَّمْسِ. فَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا وُجُودٌ. وَهِيَ فِي الْوَاقِعِ مَوْجُودَةٌ فِي أَمَاكِنِهَا. وَهَكَذَا نُورُ الْمَعْرِفَةِ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْقَلْبِ، قَوِيَ سُلْطَانُهَا، وَزَالَتِ الْمَوَانِعُ وَالْحُجُبِ عَنِ الْقَلْبِ.
وَلَا يُنْكِرُ هَذَا إِلَّا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.
وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّ الذَّاتَ الْمُقَدَّسَةَ وَالْأَوْصَافَ: بَرَزَتْ وَتَجَلَّتْ لِلْعَبْدِ - كَمَا تَجَلَّى سُبْحَانَهُ لِلطُّورِ، وَكَمَا يَتَجَلَّى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلنَّاسِ - إِلَّا غَالِطٌ فَاقِدٌ لِلْعِلْمِ. وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الْغَلَطُ مِنَ التَّجَاوُزِ مِنْ نُورِ الْعِبَادَاتِ وَالرِّيَاضَةِ وَالذِّكْرِ إِلَى نُورِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ.
فَإِنَّ الْعِبَادَةَ الصَّحِيحَةَ، وَالرِّيَاضَةَ الشَّرْعِيَّةَ، وَالذِّكْرَ الْمُتَوَاطِئَ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ: يُوجِبُ نُورًا عَلَى قَدْرِ قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ. وَرُبَّمَا قَوِيَ ذَلِكَ النُّورُ حَتَّى يُشَاهَدَ بِالْعِيَانِ. فَيَظُنُّهُ فِيهِ ضَعِيفُ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَمُقْتَضَيَاتِ الْعُبُودِيَّةِ. فَيَظُنُّهُ نُورَ الذَّاتِ، وَهَيْهَاتَ! ثُمَّ هَيْهَاتَ! نُورُ الذَّاتِ لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كَشَفَ سبحانه وتعالى الْحِجَابَ عَنْهُ لَتَدَكْدَكَ الْعَالَمُ كُلُّهُ، كَمَا تَدَكْدَكَ الْجَبَلُ وَسَاخَ لَمَّا ظَهَرَ لَهُ الْقَدْرُ الْيَسِيرُ مِنَ التَّجَلِّي.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَنَامُ. وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ. يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ. حِجَابُهُ النُّورُ. لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» .
فَالْإِسْلَامُ لَهُ نُورٌ. وَالْإِيمَانُ لَهُ نُورٌ أَقْوَى مِنْهُ. وَالْإِحْسَانُ لَهُ نُورٌ أَقْوَى مِنْهُمَا. فَإِذَا اجْتَمَعَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِحْسَانُ، وَزَالَتِ الْحُجُبُ الشَّاغِلَةُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: امْتَلَأَ الْقَلْبُ وَالْجَوَارِحُ بِذَلِكَ النُّورِ. لَا بِالنُّورِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّبِّ تَعَالَى. فَإِنَّ صِفَاتِهِ لَا تَحِلُّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ.
كَمَا أَنَّ مَخْلُوقَاتِهِ لَا تَحِلُّ فِيهِ. فَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ بَائِنٌ عَنْ