الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرُّبُوبِيَّةِ، وَلَا فِي الرَّبِّ شَيْءٌ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ. فَالْعَبْدُ عَبْدٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَالرَّبُّ تَعَالَى هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَمَعْقِدُ نِسْبَةِ الْعُبُودِيَّةِ هُوَ الْمَحَبَّةُ. فَالْعُبُودِيَّةُ مَعْقُودَةٌ بِهَا، بِحَيْثُ مَتَى انْحَلَّتِ الْمَحَبَّةُ انْحَلَّتِ الْعُبُودِيَّةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْمَحَبَّةِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى مَحَبَّةٌ تَقْطَعُ الْوَسَاوِسَ]
فَصْلٌ
قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مَحَبَّةٌ تَقْطَعُ الْوَسَاوِسَ، وَتُلِذُّ الْخِدْمَةَ. وَتُسَلِّي عَنِ الْمَصَائِبِ.
قَوْلُهُ " تَقْطَعُ الْوَسَاوِسَ " فَإِنَّ الْوَسَاوِسَ وَالْمَحَبَّةَ مُتَنَاقِضَانِ. فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ تُوجِبُ اسْتِيلَاءَ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ عَلَى الْقَلْبِ. وَالْوَسَاوِسُ تَقْتَضِي غَيْبَتَهُ عَنْهُ، حَتَّى تُوَسْوِسَ لَهُ نَفْسُهُ بِغَيْرِهِ. فَبَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْوَسَاوِسِ تَنَاقُضٌ شَدِيدٌ، كَمَا بَيْنَ الذِّكْرِ وَالْغَفْلَةِ.
فَعَزِيمَةُ الْمَحَبَّةِ: تَنْفِي تَرَدُّدَ الْقَلْبِ بَيْنَ الْمَحْبُوبِ وَغَيْرِهِ. وَذَلِكَ سَبَبُ الْوَسَاوِسِ، وَهَيْهَاتَ أَنْ يَجِدَ الْمُحِبُّ الصَّادِقُ فَرَاغًا لِوَسْوَاسِ الْغَيْرِ، لِاسْتِغْرَاقِ قَلْبِهِ فِي حُضُورِهِ بَيْنَ يَدَيْ مَحْبُوبِهِ. وَهَلِ الْوَسْوَاسُ إِلَّا لِأَهْلِ الْغَفْلَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى؟ وَمِنْ أَيْنَ يَجْتَمِعُ الْحُبُّ وَالْوَسْوَاسُ؟
لَا كَانَ مَنْ لِسِوَاكَ فِيهِ بَقِيَّةٌ
…
فِيهَا يُقَسِّمُ فِكْرَهُ وَيُوَسْوَسُ.
قَوْلُهُ " وَتُلِذُّ الْخِدْمَةُ " أَيِ الْمُحِبُّ يَلْتَذُّ بِخِدْمَةِ مَحْبُوبِهِ. فَيَرْتَفِعُ عَنْ رُؤْيَةِ التَّعَبِ الَّذِي يَرَاهُ الْخَلِيُّ فِي أَثْنَاءِ الْخِدْمَةِ. وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ.
قَوْلُهُ " وَتُسَلِّي عَنِ الْمَصَائِبِ " فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَجِدُ فِي لَذَّةِ الْمَحَبَّةِ مَا يُنْسِيهِ الْمَصَائِبَ وَلَا يَجِدُ مِنْ مَسِّهَا مَا يَجِدُ غَيْرَهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ قَدِ اكْتَسَى طَبِيعَةً ثَانِيَةً لَيْسَتْ طَبِيعَةَ الْخَلْقِ. بَلْ يَقْوَى سُلْطَانُ الْمَحَبَّةِ، حَتَّى يَلْتَذَّ الْمُحِبُّ بِكَثِيرٍ مِنَ الْمَصَائِبِ الَّتِي يُصِيبُهُ بِهَا حَبِيبَهُ أَعْظَمَ مِنَ الْتِذَاذِ الْخَلِيِّ بِحُظُوظِهِ وَشَهَوَاتِهِ. وَالذَّوْقُ وَالْوُجُودُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ قَالَ: وَهِيَ مَحَبَّةٌ تَنْبُتُ مِنْ مُطَالَعَةِ الْمِنَّةِ. وَتُثْبِتُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ. وَتَنْمُو عَلَى الْإِجَابَةِ بِالْفَاقَةِ.
قَوْلُهُ " تَنْبُتُ مِنْ مُطَالَعَةِ الْمِنَّةِ " أَيْ تَنْشَأُ مِنْ مُطَالَعَةِ الْعَبْدِ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَنِعَمَهُ
الْبَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ، فَبِقَدْرِ مُطَالَعَتِهِ ذَلِكَ تَكُونُ قُوَّةُ الْمَحَبَّةِ. فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا، وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهَا. وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ قَطُّ إِحْسَانٌ إِلَّا مِنَ اللَّهِ. وَلَا إِسَاءَةَ إِلَّا مِنَ الشَّيْطَانِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ مُطَالَعَةِ مِنَّةِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ: تَأْهِيلُهُ لِمَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَإِرَادَةِ وَجْهِهِ، وَمُتَابَعَةِ حَبِيبِهِ. وَأَصْلُ هَذَا: نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ. فَإِذَا دَارَ ذَلِكَ النُّورُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ وَذَاتِهِ: أَشْرَقَتْ ذَاتُهُ. فَرَأَى فِيهِ نَفْسَهُ، وَمَا أُهِلَّتْ لَهُ مِنَ الْكَمَالَاتِ وَالْمَحَاسِنِ. فَعَلَتْ بِهِ هِمَّتُهُ. وَقَوِيَتْ عَزِيمَتُهُ. وَانْقَشَعَتْ عَنْهُ ظُلُمَاتُ نَفْسِهِ وَطَبْعِهِ. لِأَنَّ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ لَا يَجْتَمِعَانِ إِلَّا وَيَطْرُدُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ. فَرَقِيَتْ حِينَئِذٍ بَيْنَ الْهَيْبَةِ وَالْأُنْسِ إِلَى الْحَبِيبِ الْأَوَّلِ.
نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْهَوَى
…
مَا الْحُبُّ إِلَّا لِلْحَبِيبِ الْأَوَّلِ
كَمْ مَنْزِلٍ فِي الْأَرْضِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى
…
وَحَنِينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ
وَهَذَا النُّورُ كَالشَّمْسِ فِي قُلُوبِ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ، وَكَالْبَدْرِ فِي قُلُوبِ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَكَالنَّجْمِ فِي قُلُوبِ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَتَفَاوُتُهُمْ فِيهِ كَتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الزُّهْرَةِ وَالسُّهَى.
قَوْلُهُ " وَتَثْبُتُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ " أَيْ ثَبَاتُهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي أَعْمَالِهِ، وَأَقْوَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ. فَبِحَسَبِ هَذَا الِاتِّبَاعِ يَكُونُ مَنْشَأُ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ وَثَبَاتِهَا وَقُوَّتِهَا. وَبِحَسَبِ نُقْصَانِهِ يَكُونُ نُقْصَانُهَا، كَمَا تَقَدَّمَ: أَنَّ هَذَا الِاتِّبَاعَ يُوجِبُ الْمَحَبَّةَ وَالْمَحْبُوبِيَّةَ مَعًا. وَلَا يَتِمُّ الْأَمْرُ إِلَّا بِهِمَا. فَلَيْسَ الشَّأْنُ فِي أَنْ تُحِبَّ اللَّهَ، بَلِ الشَّأْنُ فِي أَنْ يُحِبَّكَ اللَّهُ. وَلَا يُحِبَّكَ اللَّهُ إِلَّا إِذَا اتَّبَعْتَ حَبِيبَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَصَدَّقْتَهُ خَبَرًا، وَأَطَعْتَهُ أَمْرًا، وَأَجَبْتَهُ دَعْوَةً، وَآثَرْتَهُ طَوْعًا. وَفَنِيَتْ عَنْ حُكْمِ غَيْرِهِ بِحُكْمِهِ، وَعَنْ مَحَبَّتِهِ غَيْرِهِ مِنَ الْخَلْقِ بِمَحَبَّتِهِ، وَعَنْ طَاعَةِ غَيْرِهِ بِطَاعَتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَلَا تَتَعَنَّ. وَارْجِعْ مِنْ حَيْثُ شِئْتَ فَالْتَمِسْ نُورًا. فَلَسْتَ عَلَى شَيْءٍ.
وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] أَيِ الشَّأْنُ فِي أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّكُمْ. لَا فِي أَنَّكُمْ تُحِبُّونَهُ، وَهَذَا لَا تَنَالُونَهُ إِلَّا بِاتِّبَاعِ الْحَبِيبِ صلى الله عليه وسلم.