الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَمْ يَكُنْ، حَاصِلٌ بِإِيجَادِهِ لَهُ، فَهُوَ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، وَوُجُودَهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ، وَبَانَ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَوُجُودِهِ عَنْ خَلْقِهِ.
[فَصْلٌ حَدُّ الْوُجُودِ]
فَصْلٌ
قَوْلُهُ: " الْوُجُودُ: اسْمٌ لِلظَّفَرِ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ، هَذَا الْوُجُودُ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ وَجَدَ الشَّيْءَ يَجِدُهُ وُجُودًا، وَوَجَدَ ضَالَّتَهُ وِجْدَانًا، وَفِي الصِّحَاحِ: أَوْجَدَهُ اللَّهُ مَطْلُوبَهُ أَيْ أَظْفَرَهُ بِهِ، وَأَوْجَدَهُ أَيْ أَغْنَاهُ، أَيْ جَعَلَهُ ذَا جِدَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] وَيُقَالُ: وَجَدَ فُلَانٌ وُجْدًا وَوَجْدًا - بِضَمِّ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا - إِذَا صَارَ ذَا جِدَةٍ وَثَرْوَةٍ، وَوُجِدَ الشَّيْءُ فَهُوَ مَوْجُودٌ وَأَوْجَدَهُ اللَّهُ، وَيُقَالُ: وَجَدَ اللَّهُ الشَّيْءَ كَذَا وَكَذَا، عَلَى غَيْرِ مَعْنًى أَوْجَدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102] فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَدَهُ عَلَى عِلْمِهِ، بِأَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَةٍ، ثُمَّ وَجَدَهُ بَعْدَ إِيجَادِهِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ الَّتِي عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الْوَاجِدُ فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ: فَهُوَ بِمَعْنَى ذُو الْوُجْدِ وَالْغِنَى، وَهُوَ ضِدُّ الْفَاقِدِ، وَهُوَ كَالْمُوْسِعِ ذِي السَّعَةِ، قَالَ تَعَالَى {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] أَيْ ذَوُو سَعَةٍ وَقُدْرَةٍ وَمُلْكٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وَدَخَلَ فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ الْوَاجِدُ دُونَ الْمُوجِدِ فَإِنَّ الْمُوجِدَ صِفَةُ فِعْلٍ، وَهُوَ مُعْطِي الْوُجُودِ، كَالْمُحْيِي مُعْطِي الْحَيَاةِ وَهَذَا الْفِعْلُ لَمْ يَجِئْ إِطْلَاقُهُ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، فَلَا يُعْرَفُ إِطْلَاقُ: أَوْجَدَ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّمَا الَّذِي جَاءَ خَلَقَهُ وَبَرَأَهُ، وَصَوَّرَهُ وَأَعْطَاهُ خَلْقَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ يُسْتَعْمَلُ فِعْلُهُ لَمْ يَجِئِ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْهُ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، فَإِنَّ الْفِعْلَ أَوْسَعُ مِنَ الِاسْمِ، وَلِهَذَا أَطْلَقَ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ أَفْعَالًا لَمْ يَتَسَمَّ مِنْهَا بِأَسْمَاءِ الْفَاعِلِ، كَأَرَادَ، وَشَاءَ، وَأَحْدَثَ، وَلَمْ يُسَمَّ بِالْمُرِيدِ وَالشَّائِي وَالْمُحَدِثِ، كَمَا لَمْ يُسَمِّ نَفْسَهُ بِالصَّانِعِ وَالْفَاعِلِ وَالْمُتْقِنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي أَطْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ، فَبَابُ الْأَفْعَالِ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الْأَسْمَاءِ.
وَقَدْ أَخْطَأَ - أَقْبَحَ خَطَأٍ - مَنِ اشْتَقَّ لَهُ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ اسْمًا، وَبَلَغَ بِأَسْمَائِهِ زِيَادَةً عَلَى الْأَلْفِ، فَسَمَّاهُ الْمَاكِرُ، وَالْمُخَادِعُ، وَالْفَاتِنُ، وَالْكَائِدُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ بَابُ
الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالِاسْمِ أَوْسَعُ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِهِ، فَإِنَّهُ يُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ شَيْءٌ، وَمَوْجُودٌ، وَمَذْكُورٌ، وَمَعْلُومٌ، وَمُرَادٌ، وَلَا يُسَمَّى بِذَلِكَ.
فَأَمَّا الْوَاجِدُ فَلَمْ تَجِئْ تَسْمِيَتُهُ بِهِ إِلَّا فِي حَدِيثِ تَعْدَادِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ، فَإِنَّهُ ذُو الْوَجْدِ وَالْغِنَى، فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُسَمَّى بِهِ مِنَ الْمَوْجُودِ وَمِنَ الْمُوجِدِ، أَمَّا الْمَوْجُودُ فَإِنَّهُ مُنْقَسِمٌ إِلَى كَامِلٍ وَنَاقِصٍ، وَخَيْرٍ وَشَرٍّ، وَمَا كَانَ مُسَمَّاهُ مُنْقَسِمًا لَمْ يَدْخُلِ اسْمُهُ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، كَالشَّيْءِ وَالْمَعْلُومِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُسَمَّ بِالْمُرِيدِ، وَلَا بِالْمُتَكَلِّمِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ الْإِرَادَةُ وَالْكَلَامُ، لِانْقِسَامِ مُسَمَّى الْمُرِيدِ وَالْمُتَكَلِّمِ، وَأَمَّا الْمُوجِدُ فَقَدْ سَمَّى نَفْسَهُ بِأَكْمَلِ
أَنْوَاعِهِ، وَهُوَ الْخَالِقُ، الْبَارِئُ، الْمُصَوِّرُ فَالْمُوجِدُ كَالْمُحْدِثِ وَالْفَاعِلِ وَالصَّانِعِ.
وَهَذَا مِنْ دَقِيقِ فِقْهِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، فَتَأَمَّلْهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَصْلٌ
الظَّفَرُ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ، إِنْ كَانَ فِي بَابِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ فَهُوَ مَعْرِفَةٌ تَجْرِي فَوْقَ حُدُودِ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُعَايَنِ كَانَ مُعَايَنَةً، وَهِيَ فَوْقَ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ كَانَ لِلطَّالِبِ فَهُوَ جَمْعِيَّةٌ لَهُ بِكُلِّهِ عَلَى مَطْلُوبِهِ، وَإِنْ كَانَ لِصَاحِبِ الْجَمْعِ كَانَ جَمْعِيَّةً وُجُودِيَّةً، تُغْنِيهِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ " هُوَ اسْمٌ لِثَلَاثِ مَعَانٍ، أَوَّلُهَا: وُجُودُ عِلْمٍ لَدُنِّيِّ، يَقْطَعُ عُلُومَ الشَّوَاهِدِ " الْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ - عِنْدَهُمْ - هُوَ الْمَعْرِفَةُ، وَسُمِّيَ لَدُنِّيًّا؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيفٌ مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْحَقِّ، وَارِدٌ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ، يَقْطَعُ الْوَسَاوِسَ، وَيُزِيلُ الشُّكُوكَ، وَيَحُلُّ مَحَلَّ الْعِيَانِ، فَيَصِيرُ لِصَاحِبِهِ كَالْوِجْدَانِيَّاتِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا عَنِ النَّفْسِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: يَقْطَعُ عُلُومَ الشَّوَاهِدِ، فَعُلُومُ الشَّوَاهِدِ - عِنْدَهُ - هِيَ عُلُومُ الِاسْتِدْلَالِ، وَهِيَ تَنْقَطِعُ بِوِجْدَانِ هَذَا الْعِلْمِ، أَيْ يَرْتَقِي صَاحِبُهُ عَنْهَا إِلَى مَا هُوَ أَكْمَلُ مِنْهَا، لَا أَنَّهَا يَبْطُلُ حُكْمُهَا، وَيَزُولُ رَسْمُهَا، وَلَكِنْ صَاحِبُ الْوُجُودِ قَدِ ارْتَقَى عَنِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِالشَّوَاهِدِ إِلَى الْعِلْمِ الْمُدْرَكِ بِالذَّوْقِ وَالْحِسِّ الْبَاطِنِ.
قَوْلُهُ " فِي صِحَّةِ مُكَاشَفَةِ الْحَقِّ إِيَّاكَ " مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ " يَقْطَعُ عُلُومَ الشَّوَاهِدِ " أَيْ يَقْطَعُهَا فِي كَوْنِ الْحَقِّ كَشَفَ لَكَ كَشْفًا صَحِيحًا، قَطَعَ عَنْكَ الْحَاجَةَ إِلَى الشَّوَاهِدِ وَالْأَدِلَّةِ.
قَوْلُهُ: " وَالثَّانِي: وُجُودُ الْحَقِّ وُجُودَ عَيْنٍ "، أَيْ وُجُودَ مُعَايَنَةٍ لَا وُجُودَ خَبَرٍ، وَمُرَادُهُ: مُعَايَنَةُ الْقَلْبِ لَهُ بِحَقِيقَةِ الْيَقِينِ.
قَوْلُهُ " مُنْقَطِعًا عَنْ مَسَاغِ الْإِشَارَةِ " لَمَّا كَانَتِ الدَّرَجَةُ الْأَوْلَى وُجُودَ عِلْمٍ، وَهَذِهِ وُجُودُ عِيَانٍ: قَامَ الْعِيَانُ فِيهَا مَقَامَ الْإِشَارَةِ، فَأَغْنَى عَنْهَا، فَإِنَّ الْعِلْمَ قَدْ يَكُونُ ضَرُورِيًا، وَقَدْ يَكُونُ نَظَرِيًّا، وَالضَّرُورِيُّ: أَبْعَدُ عَنِ الِالْتِفَاتِ، وَعَنْ تَطَرُّقِ الْآفَاتِ، وَعَدَمِ الْغَفَلَاتِ، فَصَاحِبُهُ يُشَاهِدُ مَعْلُومَهُ بِنُورِ الْبَصِيرَةِ، كَمَا يُشَاهِدُ الْمُبْصِرَاتِ بِنُورِ الْبَصَرِ، وَلَمَّا كَانَتْ مَرْتَبَةُ الْمَعْرِفَةِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ عِنْدَهُمْ، وَمَرْتَبَةُ الشُّهُودِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْمَعْرِفَةِ وَمَرْتَبَةُ الْوُجُودِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الشُّهُودِ، كَانَتِ الْعِبَارَةُ فِي مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَالْإِشَارَةُ فِي مَرْتَبَةِ الشُّهُودِ، فَإِنْ وَصَلَ إِلَى مَرْتَبَةِ الْوُجُودِ انْقَطَعَتِ الْإِشَارَاتُ،