الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الَّتِي قَامَتْ بِهَا حَقَائِقُهَا وَمَعَانِيهَا، وَهَذَا لَا يُثْبِتُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ.
[فَصْلٌ مَزَاعِمُ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ]
فَصْلٌ
فَالْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ: تَزْعُمُ أَنَّ ذَاتَهُ لَا تُحِبُّ، وَوَجْهَهُ لَا يُرَى، وَلَا يُلْتَذُّ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَلَا تَشْتَاقُ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْكِرُونَ الْإِلَهِيَّةَ.
وَالْقَدَرِيَّةُ: تُنْكِرُ دُخُولَ أَفْعَالِ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ، فَهُمْ مُنْكِرُونَ فِي الْحَقِيقَةِ لِكَمَالِ عِزِّهِ وَمُلْكِهِ.
وَالْجَبْرِيَّةُ: تُنْكِرُ حِكْمَتَهُ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَوَامِرِهِ غَايَةٌ يَفْعَلُ وَيَأْمُرُ لِأَجْلِهَا، فَهُمْ مُنْكِرُونَ فِي الْحَقِيقَةِ لِحِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ.
وَأَتْبَاعُ ابْنِ سِينَا، وَالنَّصِيرِ الطُّوسِيِّ وَفُرُوخِهِمَا: يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ مَاهِيَّةٌ غَيْرَ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ وَصْفٌ ثُبُوتِيٌّ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّةِ الْوُجُودِ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْكِرُونَ لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، لَا يَتَحَاشَوْنَ مِنْ ذَلِكَ.
وَالِاتِّحَادِيَّةُ: أَدْهَى وَأَمَرُّ، فَإِنَّهُمْ رَفَعُوا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْأَصْلِ، وَقَالُوا: مَا ثَمَّ وُجُودُ خَالِقٍ وَوُجُودُ مَخْلُوقٍ، بَلِ الْخَلْقُ الْمُشَبَّهُ هُوَ عَيْنُ الْحَقِّ الْمُنَزَّهِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ هُوَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ.
فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ الْعَظِيمَةُ: كُلُّ هَؤُلَاءِ هُمْ بِهَا غَيْرُ قَائِمِينَ، وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِإِبْطَالِ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَرَدَّهُ، كَمَا تَضَمَّنَتْ إِبْطَالَ مَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ وَرَدَّهُ، وَهِيَ مُبْطِلَةٌ لِقَوْلِ طَائِفَتَيِ الشِّرْكِ وَالتَّعْطِيلِ، وَلَا يَقُومُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إِلَّا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَيَنْفُونَ عَنْهُ مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا.
[فَصْلٌ شَهَادَتُهُ سُبْحَانَهُ تَتَضَمَّنُ بَيَانَهُ لِلْعِبَادِ وَدَلَالَتَهُمْ وَتَعْرِيفَهُمْ بِمَا شَهِدَ بِهِ]
فَصْلٌ
وَإِذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُ سُبْحَانَهُ تَتَضَمَّنُ بَيَانَهُ لِلْعِبَادِ، وَدَلَالَتَهُمْ وَتَعْرِيفَهُمْ بِمَا شَهِدَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَوْ شَهِدَ شَهَادَةً لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الْعِلْمِ بِهَا: لَمْ يَنْتَفِعُوا، وَلَمْ يُقِمْ عَلَيْهِمْ بِهَا الْحُجَّةَ، كَمَا أَنَّ الشَّاهِدَ مِنَ الْعِبَادِ إِذَا كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ وَلَمْ يُبَيِّنْهَا، بَلْ كَتَمَهَا، لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا أَحَدٌ، وَلَمْ تَقُمْ بِهَا حُجَّةٌ، وَإِذَا كَانَ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَّا بِبَيَانِهَا، فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَهَا غَايَةَ الْبَيَانِ بِطُرُقٍ ثَلَاثَةٍ: السَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَالْعَقْلِ.
أَمَّا السَّمْعُ: فَبِسَمْعِ آيَاتِهِ الْمَتْلُوَّةِ الْقَوْلِيَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِإِثْبَاتِ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، وَعُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتِهِ، وَتَكَلُّمِهِ بِكُتُبِهِ، وَتَكْلِيمِهِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ تَكَلُّمًا وَتَكْلِيمًا، حَقِيقَةً لَا مَجَازًا.
وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِنْ عِبَادِهِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُهُ السَّمْعِيَّةُ مِنْ إِثْبَاتِ مَعَانِيهَا وَحَقَائِقِهَا الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا أَلْفَاظُهَا، فَإِنَّ هَذَا ضِدُّ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ، وَيَعُودُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّهَادَةِ بِالْإِبْطَالِ وَالْكِتْمَانِ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ مَنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مِنْ أَظْلَمِ الظَّالِمِينَ، فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ الْعَبْدِ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ تُحَقِّقُ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ، وَتَوْحِيدِ الرُّسُلِ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ كَانُوا عَلَى الْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ، وَكَتَمَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ؛ كَانَ مِنْ أَظْلَمِ الظَّالِمِينَ - كَمَا فَعَلَهُ أَعْدَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْيَهُودِ، الَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ - فَكَيْفَ يُظَنُّ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ كَتَمَ شَهَادَةَ الْحَقِّ الَّتِي يَشْهَدُ بِهَا الْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْمُعَطِّلَةُ، وَلَا يَشْهَدُ بِهَا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِمَا يُضَادُّهَا وَيُنَاقِضُهَا، وَلَا يُجَامِعُهَا بِوَجْهٍ مَا؟ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ! فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، وَبِأَنَّهُ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَبِأَنَّ مَلَائِكَتَهُ يَخَافُونَهُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَعْرُجُ إِلَيْهِ بِالْأَمْرِ، وَتَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ بِهِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يَصْعَدُ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ يَأْتِي وَيَجِيءُ، وَيَتَكَلَّمُ، وَيَرْضَى وَيَغْضَبُ، وَيُحِبُّ وَيَكْرَهُ، وَيَتَأَذَّى، وَيَفْرَحُ وَيَضْحَكُ، وَأَنَّهُ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ، وَأَنَّهُ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ بِأَبْصَارِهِمْ يَوْمَ لِقَائِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ، وَشَهِدَ لَهُ بِهِ رُسُلُهُ، وَشَهِدَتْ لَهُ الْجَهْمِيَّةُ بِضِدِّ ذَلِكَ، وَقَالُوا: شَهَادَتُنَا أَصَحُّ، وَأَعْدَلُ مِنْ شَهَادَةِ النُّصُوصِ، فَإِنَّ النُّصُوصَ تَضَمَّنَتْ كِتْمَانَ الْحَقِّ وَإِظْهَارَ خِلَافِهِ.
فَشَهَادَةُ الرَّبِّ تَعَالَى: تُكَذِّبُ هَؤُلَاءِ أَشَدَّ التَّكْذِيبِ، وَتَتَضَمَّنُ أَنَّ الَّذِي شَهِدَ بِهِ قَدْ بَيَّنَهُ وَأَوْضَحَهُ وَأَظْهَرَهُ، حَتَّى جَعَلَهُ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الظُّهُورِ وَالْبَيَانِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَقُّ فِيمَا يَقُولُهُ الْمُعَطِّلَةُ والْجَهْمِيَّةُ لَمْ يَكُنِ الْعِبَادُ قَدِ انْتَفَعُوا بِمَا شَهِدَ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ - عِنْدَهُمْ - لَمْ يَشْهَدْ بِهِ لِنَفْسِهِ، وَالَّذِي شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ، وَأَظْهَرَهُ وَأَوْضَحَهُ: فَلَيْسَ بِحَقٍّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْهُ الْحَقُّ وَالْيَقِينُ.
وَأَمَّا آيَاتُهُ الْعِيَانِيَّةُ الْخَلْقِيَّةُ، وَالنَّظَرُ فِيهَا وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا: فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتُهُ الْقَوْلِيَّةُ السَّمْعِيَّةُ، وَآيَاتُ الرَّبِّ: هِيَ دَلَائِلُهُ وَبَرَاهِينُهُ الَّتِي بِهَا يَعْرِفُهُ الْعِبَادُ، وَبِهَا يَعْرِفُونَ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، وَتَوْحِيدَهُ، وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، فَالرُّسُلُ تُخْبِرُ عَنْهُ بِكَلَامِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ، وَهُوَ آيَاتُهُ الْقَوْلِيَّةُ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِمَفْعُولَاتِهِ الَّتِي تَشْهَدُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ، وَهِيَ آيَاتُهُ الْعِيَانِيَّةُ، وَالْعَقْلُ يَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ، فَيَجْزِمُ بِصِحَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ
الرُّسُلُ، فَتَتَّفِقُ شَهَادَةُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ - لِكَمَالِ عَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَإِحْسَانِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَمَحَبَّتِهِ لِلْعُذْرِ، وَإِقَامَتِهِ لِلْحُجَّةِ - لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَمَعَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، قَالَ تَعَالَى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 43] وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [آل عمران: 183] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: 4] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [فاطر: 25] .
حَتَّى إِنَّ مِنْ أَخْفَى آيَاتِ الرُّسُلِ آيَاتُ هُودٍ عليه السلام، حَتَّى قَالَ لَهُ قَوْمُهُ {يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} [هود: 53] وَمَعَ هَذَا فَبَيِّنَتُهُ مِنْ أَظْهَرِ الْبَيِّنَاتِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ:{إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونَ - إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 54 - 56]، فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ: أَنَّ رَجُلًا وَاحِدًا يُخَاطِبُ أُمَّةً عَظِيمَةً بِهَذَا الْخِطَابِ، غَيْرَ جَزِعٍ وَلَا فَزِعٍ، وَلَا خَوَّارٍ، بَلْ وَاثِقٌ مِمَّا قَالَهُ جَازِمٌ بِهِ، قَدْ أَشْهَدَ اللَّهَ أَوَّلًا عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنْ دِينِهِمْ، وَمِمَّا هُمْ عَلَيْهِ إِشْهَادَ وَاثِقٍ بِهِ، مُعْتَمِدٍ عَلَيْهِ، مُعْلِمٍ لِقَوْمِهِ: أَنَّهُ وَلِيُّهُ وَنَاصِرُهُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسَلِّطِهِمْ عَلَيْهِ.
ثُمَّ أَشْهَدَهُمْ - إِشْهَادَ مُجَاهِرٍ لَهُمْ بِالْمُخَالَفَةِ -: أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ دِينِهِمْ وَآلِهَتِهِمْ، الَّتِي يُوَالُونَ عَلَيْهَا وَيُعَادُونَ، وَيَبْذُلُونَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي نُصْرَتِهَا.
ثُمَّ أَكَّدَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِالِاسْتِهَانَةِ بِهِمْ، وَاحْتِقَارِهِمْ وَازْدِرَائِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَوْ يَجْتَمِعُونَ كُلُّهُمْ عَلَى كَيْدِهِ، وَشِفَاءِ غَيْظِهِمْ مِنْهُ، ثُمَّ يُعَالِجُونَهُ وَلَا يُمْهِلُونَهُ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ: أَنَّهُمْ
أَضْعَفُ وَأَعْجَزُ وَأَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّكُمْ لَوْ رُمْتُمُوهُ لَانْقَلَبْتُمْ بِغَيْظِكُمْ مَكْبُوتِينَ مَخْذُولِينَ.
ثُمَّ قَرَّرَ دَعْوَتَهُ أَحَسَنَ تَقْرِيرٍ، وَبَيَّنَ أَنَّ رَبَّهُ تَعَالَى وَرَبَّهُمْ، الَّذِي نَوَاصِيهِمْ بِيَدِهِ: هُوَ وَلِيُّهُ وَوَكِيلُهُ، الْقَائِمُ بِنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَأَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَلَا يَخْذُلُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَآمَنَ بِهِ، وَلَا يُشْمِتُ بِهِ أَعْدَاءَهُ، وَلَا يَكُونُ مَعَهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ - فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ - يَمْنَعُ ذَلِكَ وَيَأْبَاهُ.
وَتَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ أَنَّ مِنْ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ أَنْ يَنْتَقِمَ مِمَّنْ خَرَجَ عَنْهُ وَعَمِلَ بِخِلَافِهِ، وَيُنْزِلَ بِهِ بِأْسَهُ، فَإِنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ الْعَدْلُ الَّذِي عَلَيْهِ الرَّبُّ تَعَالَى، وَمِنْهُ انْتِقَامُهُ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْإِجْرَامِ، وَنَصْرُهُ أَوْلِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَأَنَّهُ يَذْهَبُ بِهِمْ، وَيَسْتَخْلِفُ قَوْمًا غَيْرَهُمْ، وَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ شَيْئًا، وَأَنَّهُ الْقَائِمُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حِفْظًا وَرِعَايَةً وَتَدْبِيرًا وَإِحْصَاءً.
فَأَيُّ آيَةٍ وَبُرْهَانٍ وَدَلِيلٍ أَحْسَنُ مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَبَرَاهِينِهِمْ وَأَدِلَّتِهِمْ؟ وَهِيَ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ، بَيَّنَهَا لِعِبَادِهِ غَايَةَ الْبَيَانِ، وَأَظْهَرَهَا لَهُمْ غَايَةَ الْإِظْهَارِ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْمُؤْمِنُ وَهُوَ - فِي أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ - الْمُصَدِّقُ الَّذِي يُصَدِّقُ الصَّادِقِينَ بِمَا يُقِيمُ لَهُمْ مِنْ شَوَاهِدِ صِدْقِهِمْ، فَهُوَ الَّذِي صَدَّقَ رُسُلَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ فِيمَا بَلَّغُوا عَنْهُ، وَشَهِدَ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ صَادِقُونَ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي دَلَّ بِهَا عَلَى صِدْقِهِمْ قَضَاءً وَخَلْقًا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ - وَخَبَرُهُ الصِّدْقُ، وَقَوْلُهُ الْحَقُّ - أَنَّهُ لَابُدَّ أَنْ يَرَى الْعِبَادُ مِنَ الْآيَاتِ الْأُفُقِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ مَا يُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ الْوَحْيَ الَّذِي بَلَّغَتْهُ رُسُلُهُ حَقٌّ، فَقَالَ تَعَالَى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] أَيِ الْقُرْآنُ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} [فصلت: 52] ثُمَّ قَالَ: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] فَشَهِدَ سُبْحَانَهُ لِرَسُولِهِ بِقَوْلِهِ: أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ، وَوَعَدَهُ أَنْ يُرِيَ
الْعِبَادَ مِنْ آيَاتِهِ الْفِعْلِيَّةِ الْخَلْقَيَّةِ مَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ أَيْضًا، ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَجَلُّ، وَهُوَ شَهَادَتُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ الشَّهِيدَ الَّذِي لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، بَلْ هُوَ مُطَّلِعٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُشَاهِدٌ لَهُ، عَلِيمٌ بِتَفَاصِيلِهِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَالْأَوَّلُ اسْتِدْلَالٌ بِقَوْلِهِ وَكَلِمَاتِهِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَاتِ الْأُفُقِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ اسْتِدْلَالٌ بِأَفْعَالِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ فَهِمْتُ الِاسْتِدْلَالَ بِكَلِمَاتِهِ وَالِاسْتِدْلَالَ بِمَخْلُوقَاتِهِ، فَبَيِّنْ لِي كَيْفِيَّةَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا عَهْدَ لَنَا بِهِ فِي تَخَاطُبِنَا وَكُتُبِنَا.
قُلْتُ: أَجَلْ! هُوَ لَعَمْرُ اللَّهِ كَمَا ذَكَرْتَ، وَشَأْنُهُ أَجَلُّ وَأَعْلَى، فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى هُوَ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ، وَآيَاتُهُ هِيَ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ.
فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الدَّالُّ عَلَى نَفْسِهِ بِآيَاتِهِ، فَهُوَ الدَّلِيلُ لِعِبَادِهِ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَا نَصَبَهُ لَهُمْ مِنَ الدَّلَالَاتِ وَالْآيَاتِ، وَقَدْ أَوْدَعَ فِي الْفِطَرِ الَّتِي لَمْ تَتَنَجَّسْ بِالتَّعْطِيلِ وَالْجُحُودِ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْكَامِلُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّهُ الْمَوْصُوفُ بِكُلِّ كَمَالٍ، الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَنَقْصٍ، فَالْكَمَالُ كُلُّهُ، وَالْجَمَالُ وَالْجَلَالُ وَالْبَهَاءُ، وَالْعِزَّةُ وَالْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ: كُلُّهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَالْحَيَاةُ كُلُّهَا لَهُ، وَالْعِلْمُ كُلُّهُ لَهُ، وَالْقُدْرَةُ كُلُّهَا لَهُ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْإِرَادَةُ، وَالْمَشِيئَةُ وَالرَّحْمَةُ وَالْغِنَى، وَالْجُودُ وَالْإِحْسَانُ وَالْبِرُّ، كُلُّهُ خَاصُّ لَهُ قَائِمٌ بِهِ، وَمَا خَفِيَ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ كَمَالِهِ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ مِمَّا عَرَفُوهُ مِنْهُ، بَلْ لَا نِسْبَةَ لِمَا عَرَفُوهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا لَمْ يَعْرِفُوهُ.
وَمِنْ كَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ: اطِّلَاعُهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَشَهَادَتُهُ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لَا يَغِيبُ عَنْهُ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ تَفَاصِيلِهِ، وَلَا ذَرَّةٌ مِنْ ذَرَّاتِهِ، بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَمَنْ هَذَا شَأْنُهُ: كَيْفَ يَلِيقُ بِالْعِبَادِ أَنْ يُشْرِكُوا بِهِ، وَأَنْ يَعْبُدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ؟ وَأَنْ يَجْعَلُوا مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ؟ وَكَيْفَ يَلِيقُ بِكَمَالِهِ أَنْ يُقِرَّ مَنْ يَكْذِبُ عَلَيْهِ أَعْظَمَ الْكَذِبِ، وَيُخْبِرُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا الْأَمْرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَنْصُرُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُؤَيِّدُهُ، وَيُعْلِي كَلِمَتَهُ، وَيَرْفَعُ شَأْنَهُ، وَيُجِيبُ دَعْوَتَهُ، وَيُهْلِكُ عَدُوَّهُ، وَيُظْهِرُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ وَالْأَدِلَّةِ مَا تَعْجِزُ عَنْ مِثْلِهِ قُوَى الْبَشَرِ، وَهُوَ - مَعَ ذَلِكَ - كَاذِبٌ عَلَيْهِ مُفْتَرٍ، سَاعٍ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ؟ ؟
وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَهَادَتَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَقُدْرَتَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَحِكْمَتُهُ وَعِزَّتُهُ وَكَمَالُهُ الْمُقَدَّسُ يَأْبَى ذَلِكَ كُلَّ الْإِبَاءِ، وَمَنْ ظَنَّ ذَلِكَ بِهِ، وَجَوَّزَهُ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ مِنْ أَبْعَدِ الْخَلْقِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَإِنْ عُرِفَ مِنْهُ بَعْضُ صِفَاتِهِ، كَصِفَةِ الْقُدْرَةِ وَصِفَةِ الْمَشِيئَةِ.
وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَهِيَ طَرِيقُ الْخَاصَّةِ، بَلْ خَاصَّةُ الْخَاصَّةِ هُمْ
الَّذِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِاللَّهِ عَلَى أَفْعَالِهِ، وَمَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَمَا لَا يَفْعَلُهُ.
وَإِذَا تَدَبَّرْتَ الْقُرْآنَ رَأَيْتَهُ يُنَادِي عَلَى ذَلِكَ، فَيُبْدِيهِ وَيُعِيدُهُ لِمَنْ لَهُ فَهْمٌ وَقَلْبٌ وَاعٍ عَنِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44] أَفَلَا تَرَاهُ كَيْفَ يُخْبِرُ سُبْحَانَهُ: أَنَّ كَمَالَهُ وَحِكْمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ تَأْبَى أَنْ يُقِرَّ مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيْهِ بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ؟ بَلْ لَابُدَّ أَنْ يَجْعَلَهُ عِبْرَةً لِعِبَادِهِ، كَمَا جَرَتْ بِذَلِكَ سُنَّتُهُ فِي الْمُتَقَوِّلِينَ عَلَيْهِ، وَقَالَ تَعَالَى:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] هَاهُنَا انْتَهَى جَوَابُ الشَّرْطِ، ثُمَّ أَخْبَرَ خَبَرًا جَازِمًا غَيْرَ مُعَلَّقٍ: أَنَّهُ {يَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ} [الشورى: 24] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ نَفَى عَنْهُ الْإِرْسَالَ وَالْكَلَامَ لَمْ يُقَدِّرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَا عَرَفَهُ كَمَا يَنْبَغِي، وَلَا عَظَّمَهُ كَمَا يَسْتَحِقُّ، فَكَيْفَ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَنْصُرُ الْكَاذِبَ الْمُفْتَرِيَ عَلَيْهِ وَيُؤَيِّدُهُ؟ وَيُظْهِرُ عَلَى يَدَيْهِ الْآيَاتِ وَالْأَدِلَّةَ؟ وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ جِدًّا، يُسْتَدَلُّ بِكَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ، وَأَوْصَافِهِ وَجَلَالِهِ عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ، وَعَلَى وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَيَدْعُو عِبَادَهُ إِلَى ذَلِكَ، كَمَا يُسْتَدَلُّ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَعَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ - هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 22 - 23] ، وَأَضْعَافُ أَضْعَافِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ.
وَيَسْتَدِلُّ سُبْحَانَهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى بُطْلَانِ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ الْبَاطِلَةِ، وَأَنَّ كَمَالَهُ الْمُقَدَّسَ يَمْنَعُ مِنْ شَرْعِهَا، كَقَوْلِهِ:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]، وَقَوْلِهِ عَقِيبَ مَا نَهَى عَنْهُ وَحَرَّمَهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْقَوْلِ عَلَيْهِ بِلَا عَلَمٍ {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] فَأَعْلَمَكَ أَنَّ مَا كَانَ سَيِّئُهُ فِي نَفْسِهِ