الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَعْنِي: تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ تَعَلُّقًا مُقْتَرِنًا بِهِمَّةِ الْمُحِبِّ، وَأُنْسِهِ بِالْمَحْبُوبِ، فِي حَالَتَيْ بَذْلِهِ وَمَنْعِهِ، وَإِفْرَادِهِ بِذَلِكَ التَّعَلُّقِ. بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ فِيهِ نَصِيبٌ.
وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا بَيْنَ الْهِمَّةِ وَالْأُنْسِ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ لَمَّا كَانَتْ هِيَ نِهَايَةُ شِدَّةِ الطَّلَبِ، وَكَانَ الْمُحِبُّ شَدِيدَ الرَّغْبَةِ وَالطَّلَبِ: كَانَتِ الْهِمَّةُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ حُبِّهِ، وَجُمْلَةِ صِفَاتِهِ. وَلَمَّا كَانَ الطَّلَبُ بِالْهِمَّةِ قَدْ يَعْرَى عَنِ الْأُنْسِ، وَكَانَ الْمُحِبُّ لَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَأْنِسًا بِجَمَالِ مَحْبُوبِهِ، وَطَمَعِهِ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ. فَمِنْ هَذَيْنِ يَتَوَلَّدُ الْأُنْسُ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُحِبُّ مَوْصُوفًا بِالْأُنْسِ. فَصَارَتِ الْمَحَبَّةُ قَائِمَةً بَيْنَ الْهِمَّةِ وَالْأُنْسِ.
وَيُرِيدُ بِالْبَذْلِ وَالْمَنْعِ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بَذْلُ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ لِمَحْبُوبِهِ، وَمَنْعُهَا عَنْ غَيْرِهِ. فَيَكُونُ الْبَذْلُ وَالْمَنْعُ صِفَةَ الْمُحِبِّ، وَإِمَّا بَذْلُ الْحَبِيبِ وَمَنْعُهُ. فَتَتَعَلَّقُ هِمَّةُ الْمُحِبِّ بِهِ فِي حَالَتَيْ بَذْلِهِ وَمَنْعِهِ.
وَيُرِيدُ بِالْإِفْرَادِ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا إِفْرَادُ الْمَحْبُوبِ وَتَوْحِيدُهُ بِذَلِكَ التَّعَلُّقِ. وَإِمَّا فَنَاءُهُ فِي مَحَبَّتِهِ، بِحَيْثُ يَنْسَى نَفْسَهُ وَصِفَاتِهِ فِي ذِكْرِ مَحَاسِنِ مَحْبُوبِهِ، حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا الْمَحْبُوبُ وَحْدَهُ.
وَالْمَقْصُودُ: إِفْرَادُ الْمُحِبِّ لِمَحْبُوبِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْمَحَبَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ الْمَحَبَّةُ أَوَّلُ أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ]
فَصْلٌ
قَالَ: وَالْمَحَبَّةُ: أَوَّلُ أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ، وَالْعَقَبَةُ الَّتِي يَنْحَدِرُ مِنْهَا عَلَى مَنَازِلِ الْمَحْوِ. وَهِيَ آخِرُ مَنْزِلٍ تَلْتَقِي فِيهِ مُقَدِّمَةُ الْعَامَّةِ، وَسَاقَةُ الْخَاصَّةِ.
إِنَّمَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ أَوَّلَ أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ: لِأَنَّهَا تُفْنِي خَوَاطِرَ الْمُحِبِّ عَنِ التَّعَلُّقِ بِالْغَيْرِ. وَأَوَّلُ مَا يَفْنَى مِنَ الْمُحِبِّ: خَوَاطِرُهُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَا سِوَى مَحْبُوبِهِ. لِأَنَّهُ إِذَا انْجَذَبَ قَلْبُهُ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَى مَحْبُوبِهِ انْجَذَبَتْ خَوَاطِرُهُ تَبَعًا.
وَيُرِيدُ بِمَنَازِلِ الْمَحْوِ مَقَامَاتِهِ.
وَأَوَّلُهَا: مَحْوُ الْأَفْعَالِ فِي فِعْلِ الْحَقِّ تَعَالَى. فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ فِعْلًا.
وَالثَّانِي: مَحْوُ الصِّفَاتِ الَّتِي فِي الْعَبْدِ. فَيَرَاهَا عَارِيَةً أُعِيرَهَا، وَهِبَةً وُهِبَهَا. لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى بَارِئِهِ وَفَاطِرِهِ، وَعَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ. فَيَعْلَمُ بِوَاسِطَةِ حَيَاتِهِ: مَعْنَى حَيَاةِ رَبِّهِ، وَبِوَاسِطَةِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَكَلَامِهِ وَغَضَبِهِ وَرِضَاهُ:
مَعْنَى عِلْمِ رَبِّهِ، وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَكَلَامِهِ، وَغَضَبِهِ وَرِضَاهُ. وَلَوْلَا هَذِهِ الصِّفَاتُ فِيهِ لِمَا عَرَفَهَا مِنْ رَبِّهِ.
وَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَاتِ فِي الْأَثَرِ الْإِسْرَائِيلِيِّ: اعْرِفْ نَفْسَكَ تَعْرِفْ رَبَّكَ.
وَهَذِهِ الصِّفَاتُ فِي الْحَقِيقَةِ: أَثَرُ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ فِيهِ. فَإِنَّهَا أَثَرُ أَفْعَالِ الْحَقِّ، وَأَفْعَالُهُ مُوجِبُ صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ. فَإِذَنْ عَادَ الْأَمْرُ كُلُّهُ إِلَى أَفْعَالِهِ، وَعَادَتْ أَفْعَالُهُ إِلَى صِفَاتِهِ.
فَفِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ يَمْحُو الْعَبْدُ شُهُودَ صِفَاتِهِ وَوُجُودَهَا الَّذِي لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ. وَيُثْبِتُ شُهُودَ صِفَاتِ الْمَعْبُودِ وَوُجُودَهَا الْحَقِيقِيِّ. فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنَحَ عَبْدَهُ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِيَعْرِفَهُ بِهَا. وَيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَيْهِ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا عَطَّلَ عَلَيْهِ طَرِيقَ الْمَعْرِفَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا. فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ. وَلِهَذَا يُوصَفُ الْغَافِلُ عَنِ اللَّهِ بِالصَّمِّ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى وَالْمَوْتِ، وَعَدَمِ الْعَقْلِ.
الثَّالِثُ: مَحْوُ الذَّاتِ. وَهُوَ شُهُودُ تَفَرُّدِ الْحَقِّ تَعَالَى بِالْوُجُودِ أَزَلًا وَأَبَدًا. وَأَنَّهُ الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَالْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ. وَوُجُودُ كُلِّ مَا سِوَاهُ قَائِمٌ بِهِ وَأَثَرُ صُنْعِهِ. فَوُجُودُهُ هُوَ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ الْحَقُّ، الثَّابِتُ لِنَفْسِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا. وَأَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِذَلِكَ.
وَهَذَا الْمَحْوُ يَصِحُّ بِاعْتَبَارَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ الذَّاتِيِّ. وَلَا رَيْبَ فِي إِثْبَاتِ مَحْوِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. إِذْ لَيْسَ مَعَ اللَّهِ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ سِوَاهُ. وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَمَوْجُودٌ بِإِيجَادِهِ سُبْحَانَهُ.
الِاعْتِبَارُ الثَّانِي: الْمَحْوُ فِي الْمَشْهَدِ. فَلَا يَشْهَدُ فَاعِلًا غَيْرَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. وَلَا صِفَاتِ غَيْرَ صِفَاتِهِ، وَلَا مَوْجُودَ سِوَاهُ، لِغَيْبَتِهِ بِكَمَالِ شُهُودِهِ عَنْ شُهُودِ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا مَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُودِ جُمْلَةً: فَهُوَ مَحْوُ الزَّنَادِقَةِ وَطَائِفَةِ الِاتِّحَادِيَّةِ. وَصَاحِبُ الْمَنَازِلِ وَكُلُّ وَلِيٍّ لِلَّهِ بَرِيءٌ مِنْهُمْ حَالًا وَعَقِيدَةً.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ مِنْ عَقَبَةِ الْمَحَبَّةِ يَنْحَدِرُ الْمُحِبُّ عَلَى مَنَازِلِ الْمَحْوِ.
وَلَمَّا كَانَتْ مَنَازِلُ الْمَحْوِ وَالْفَنَاءِ غَايَةً عِنْدَ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ جَعَلَ الْمَحَبَّةَ عَقَبَةً يَنْحَدِرُ مِنْهَا إِلَيْهَا.
وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْمَحَبَّةَ غَايَةً: فَمَنَازِلُ الْمَحْوِ عِنْدَهُ أَوْدِيَةٌ يَصْعَدُ مِنْهَا إِلَى رُوحِ الْمَحَبَّةِ. وَلَيْسَ بَعْدَ الْمَحَبَّةِ الصَّحِيحَةِ إِلَّا مَنَازِلُ الْبَقَاءِ. وَأَمَّا الْفَنَاءُ وَالْمَحْوُ: فَعَقَبَاتٌ وَأَوْدِيَةٌ فِي طَرِيقِهَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.