الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِشِدَّةِ طَلَبِهِ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ أُنْسُهُ، الَّذِي قَدْ ذَاقَ طَعْمَهُ، وَتَلَذَّذَ بِحَلَاوَتِهِ.
وَالْأُنْسُ بِاللَّهِ: حَالَةٌ وِجْدَانِيَّةٌ. وَهِيَ مِنْ مَقَامَاتِ الْإِحْسَانِ، تَقْوَى بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: دَوَامُ الذِّكْرِ، وَصِدْقُ الْمَحَبَّةِ، وَإِحْسَانُ الْعَمَلِ.
وَقُوَّةُ الْأُنْسِ وَضَعْفُهُ: عَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْقُرْبِ. فَكُلَّمَا كَانَ الْقَلْبُ مِنْ رَبِّهِ أَقْرَبَ، كَانَ أُنْسُهُ بِهِ أَقْوَى. وَكُلَّمَا كَانَ مِنْهُ أَبْعَدَ، كَانَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ أَشَدَّ.
قَوْلُهُ " وَلَا يُفْسِدُهُ عَارِضٌ " الْعَارِضُ الْمُفْسِدُ: هُوَ الَّذِي يَعْذِلُ الْمُحِبَّ، وَيَلُومُهُ عَلَى النَّشَاطِ فِي رِضَا مَحْبُوبِهِ وَطَاعَتِهِ، وَيَدْعُوهُ إِلَى الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ، وَالْوُقُوفِ مَعَهُ دُونَ مَطْلَبِهِ الْعَالِي. فَهُوَ كَالَّذِي يَجِيءُ عَرَضًا يَمْنَعُ الْمَارَّ فِي طَرِيقِهِ عَنِ الْمُرُورِ، وَيَلْفِتُهُ عَنْ جِهَةِ مَقْصِدِهِ إِلَى غَيْرِهَا.
وَهَذَا الْعَارِضُ عِنْدَ الْقَوْمِ: هُوَ إِرَادَةُ السِّوَى. فَإِنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ فَهُوَ عَارِضٌ. وَإِرَادَةُ السِّوَى: تُوقِفُ السَّالِكَ، وَتُنَكِّسُ الطَّالِبَ، وَتَحْجُبُ الْوَاصِلَ. فَإِيَّاكَ وَإِرَادَةَ السِّوَىوَإِنْ عَلَا. فَإِنَّكَ تُحْجَبُ عَنِ اللَّهِ بِقَدْرِإِرَادَتِكَ لِغَيْرِهِ. قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ عِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9] وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى - إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 19 - 20] .
قَوْلُهُ " وَلَا تُكَدِّرُهُ تَفْرِقَةٌ " الْكَدَرُ: ضِدُّ الصَّفَاءِ. وَالتَّفْرِقَةُ: ضِدُّ الْجَمْعِيَّةِ. وَالْجَمْعِيَّةُ: هِيَ جَمْعُ الْقَلْبِ وَالْهِمَّةِ عَلَى اللَّهِ بِالْحُضُورِ مَعَهُ بِحَالِ الْأُنْسِ، خَالِيًا مِنْ تَفْرِقَةِ الْخَوَاطِرِ. وَالتَّفْرِقَةُ مِنْ أَعْظَمِ مُكَدِّرَاتِ الْقَلْبِ. وَهِيَ تُزِيلُ الصَّفَاءَ الَّذِي أَثْمَرَهُ لَهُ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِحْسَانُ. فَإِنَّ الْقَلْبَ يَصْفُو بِذَلِكَ. فَتَجِيءُ التَّفْرِقَةُ. فَتُكَدِّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الصَّفَاءَ، وَتُشَعِّثَ الْقَلْبَ. فَيَجِدُ الصَّادِقُ أَلَمَ ذَلِكَ الشَّعَثِ وَأَذَاهُ. فَيَجْتَهِدُ فِي لَمِّهِ، وَلَا يُلَمُّ شَعَثُ الْقُلُوبِ بِشَيْءٍ غَيْرِ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ. فَهُنَاكَ يُلَمُّ شَعَثُهُ، وَيَزُولُ كَدَرُهُ، وَيَصِحُّ سَفَرُهُ. وَيَجِدُ رُوحَ الْحَيَاةِ، وَيَذُوقُ طَعْمَ الْحَيَاةِ الْمَلَكِيَّةِ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ ذَوْقُ الِانْقِطَاعِ طَعْمَ الِاتِّصَالِ]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: ذَوْقُ الِانْقِطَاعِ طَعْمَ الِاتِّصَالِ. وَذَوْقُ الْهِمَّةِ: طَعْمَ،
الْجَمْعِ. وَذَوْقُ الْمُسَامَرَةِ: طَعْمَ الْعِيَانِ.
الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ، وَالَّتِي قَبْلَهَا: أَنَّ تِلْكَ بَقَاءٌ مَعَ الْأَحْوَالِ. وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ: خُرُوجٌ وَفَنَاءٌ عَنِ الْأَحْوَالِ. فَإِنَّ الْمُتَمَكِّنَ فِي حَالِ فَنَائِهِ عَنِ الْأَسْبَابِ - أَعْمَالًا كَانَتْ، أَوْ أَحْوَالًا - هُوَ الَّذِي يَجِدُ طَعْمَ الِاتِّصَالِ حَقِيقَةً. فَإِنَّهُ عَلَى حَسَبِ تَجَرُّدِهِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْأَسْبَابِ يَكُونُ اتِّصَالُهُ. وَعَلَى حَسَبِ الْتِفَاتِهِ إِلَيْهَا يَكُونُ انْقِطَاعُهُ. وَكُلَّمَا تَمَكَّنَ فِي جَمْعِ هَمِّهِ عَلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَجَدَ لَذَّةَ الْجَمْعِ عَلَيْهِ، وَذَاقَ طَعْمَ الْقُرْبِ مِنْهُ، وَالْأُنْسِ بِهِ.
فَالِانْقِطَاعُ عِنْدَ الْقَوْمِ: هُوَ أُنْسُ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ تَعَالَى، وَالِالْتِفَاتُ إِلَى مَا سِوَاهُ. وَالِاتِّصَالُ: تَجْرِيدُ التَّعَلُّقِ بِهِ وَحْدَهُ. وَالِانْقِطَاعُ عَمَّا سِوَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا. فَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ كَلَامِهِ.
فَقَوْلُهُ " ذَوْقُ الِانْقِطَاعِ طَعْمَ الِاتِّصَالِ " اسْتِعَارَةٌ، وَإِلَّا فَالذَّائِقُ هُوَ صَاحِبُ الِانْقِطَاعِ، لَا نَفْسَ الِانْقِطَاعِ. فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي ذَاقَ الِانْقِطَاعَ وَالِاتِّصَالَ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْمُرَادُ أَنَّ الْمُنْقَطِعَ هُوَ الْمَحْجُوبُ، وَالْمُتَّصِلَ هُوَ الْمُشَاهِدُ بِقَلْبِهِ، الْمُكَاشِفُ بِسِرِّهِ.
وَأَحْسَنُ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالِاتِّصَالِ: التَّعْبِيرُ بِالْقُرْبِ. فَإِنَّهَا الْعِبَارَةُ السَّدِيدَةُ الَّتِي ارْتَضَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
وَأَمَّا التَّعْبِيرُ بِالْوَصْلِ وَالِاتِّصَالِ: فَعِبَارَةٌ غَيْرُ سَدِيدَةٍ. يَتَشَبَّثُ بِهَا الزِّنْدِيقُ الْمُلْحِدُ، وَالصَّدِّيقُ الْمُوَحِّدُ. فَالْمُوَحِّدُ يُرِيدُ بِالِاتِّصَالِ الْقُرْبَ. وَبِالِانْفِصَالِ وَالِانْقِطَاعِ الْبُعْدَ. وَالْمُلْحِدُ يُرِيدُ بِهِ الْحُلُولَ تَارَةً وَالِاتِّحَادَ تَارَةً.
حَتَّى قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: الْمُنْقَطِعُ لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْقَطِعًا. بَلْ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِلًا، لَكِنَّهُ كَانَ غَائِبًا عَنِ الْمُشَاهَدَةِ. فَلَمَّا شَاهَدَ وَجَدَ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ مُنْقَطِعًا. بَلْ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِلًا.
قَالَ: وَلَيْسَ قَوْلُنَا " لَمْ يَزَلْ مُتَّصِلًا " بِسَدِيدٍ. فَإِنَّ الِاتِّصَالَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ. فَلَا الْمَحْجُوبُ مُنْقَطِعًا. وَلَا الْمُكَاشِفُ مُتَّصِلًا. وَإِنَّمَا هِيَ عِبَارَاتٌ لِلتَّقْرِيبِ وَالتَّفْهِيمِ. وَأَنْشَدَ فِي ذَلِكَ:
مَا بَالُ عِيسِكَ لَا يَقَرُّ قَرَارُهَا
…
وَإِلَامَ ظِلُّكَ لَا يَنِي مُتَنَقِّلَا
فَلَسَوْفَ تَعْلَمُ أَنَّ سَيْرَكَ لَمْ يَكُنْ
…
إِلَّا إِلَيْكَ إِذَا بَلَغْتَ الْمَنْزِلَا.
وَبِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ غَلُظَ حِجَابُهُمْ، وَكَثَفَتْ أَرْوَاحُهُمْ عَنْ هَذَا الشَّأْنِ. فَزَعَمُوا: أَنَّ الْقُرْبَ وَالْبُعْدَ وَالْأُنْسَ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْخَالِقِ سُبْحَانَهُ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ الْقُرْبُ مِنْ دَارِهِ وَجَنَّتِهِ بِالطَّاعَاتِ، وَأُنْسِ الْقَلْبِ بِمَا وَعَدَ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ، وَالْبُعْدُ ضِدُّ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْرُبُ مِنْ رَبِّهِ. وَلَا يَبْعُدُ عَنْهُ. وَلَا يَأْنَسُ بِهِ. وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ وَلَا يُحِبُّهُ. فَلَا يَصِحُّ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ بِهِ. فَسَارَ هَؤُلَاءِ مُغَرِّبِينَ. وَسَارَ أُولَئِكَ مُشَرِّقِينِ. كَمَا قِيلَ:
سَارَتْ مُشَرِّقَةً وَسِرْتُ مُغَرِّبًا
…
شَتَّانَ بَيْنِ مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّبِ.
وَمِصْبَاحُ الْمُوَحِّدِ السَّالِكِ عَلَى دَرْبِ الرَّسُولِ وَطَرِيقِهِ يَتَوَقَّدُ {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} [النور: 35] .
قَوْلُهُ " وَذَوْقُ الْهِمَّةِ: طَعْمَ الْجَمْعِ " جَعَلَ الْهِمَّةَ ذَائِقَةً: وَإِنَّمَا الذَّوْقُ لِصَاحِبِهَا، تَوَسُّعًا.
وَ " الْهِمَّةُ " قَدْ عَبَّرَ عَنْهَا الشَّيْخُ فِيمَا تَقَدَّمَ بِأَنَّهَا " مَا يَمْلِكُ الِانْبِعَاثَ إِلَى الْمَقْصُودِ صِرْفًا " أَيْ حَالَةً وَصْفِيَّةً لَهَا سَطْوَةٌ وَمَلَكَةٌ، تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى الْمَقْصُودِ. وَتَبْعَثُهُ عَلَيْهِ بَعْثًا لَا يُخَالِطُهُ غَيْرُهُ.
فَالْهِمَّةُ عِنْدَهُمْ: طَلَبُ الْحَقِّ، مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى غَيْرِهِ. وَالْجَمْعُ شُهُودُ الْفَرْدَانِيَّةِ الَّتِي تَفْنَى فِيهَا رُسُومُ الْمُشَاهِدِ. وَهَذَا جَمْعٌ فِي الرُّبُوبِيَّةِ.
وَأَعْلَى مِنْهُ: الْجَمْعُ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَهُوَ جَمْعُ قَلْبِهِ وَهَمِّهِ وَسِرِّهِ عَلَى مَحْبُوبِهِ وَمَرَاضِيهِ وَمُرَادِهِ مِنْهُ. فَهُوَ عُكُوفُ الْقَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ عز وجل. لَا يَلْتَفِتُ عَنْهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً. فَإِذَا ذَاقَتِ الْهِمَّةُ طَعْمَ هَذَا الْجَمْعِ: اتَّصَلَ اشْتِيَاقُ صَاحِبِهَا، وَتَأَجَّجَتْ نِيرَانُ الْمَحَبَّةِ وَالطَّلَبِ فِي قَلْبِهِ. وَيَجِدُ صَبْرَهُ عَنْ مَحْبُوبِهِ مِنْ أَعْظَمِ كَبَائِرِهِ. كَمَا قِيلَ:
وَالصَّبْرُ يُحْمَدُ فِي الْمُوَاطِنِ كُلِّهَا
…
إِلَّا عَلَيْكَ فَإِنَّهُ لَا يُحْمَدُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ «إِنِّي لَا أَنْظُرُ إِلَى كَلَامِ الْحَكِيمِ. وَإِنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى هِمَّتِهِ» .
فَلِلَّهِ هِمَّةُ نَفْسٍ قَطَعَتْ جَمِيعَ الْأَكْوَانِ، وَسَارَتْ فَمَا أَلْقَتْ عَصَا السَّيْرِ إِلَّا بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ. تبارك وتعالى، فَسَجَدَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ سَجْدَةَ الشُّكْرِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ. فَلَمْ
تَزَلْ سَاجِدَةً حَتَّى قِيلَ لَهَا {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27] .
فَسُبْحَانَ مَنْ فَاوَتَ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي هِمَمِهِمْ، حَتَّى تَرَى بَيْنَ الْهِمَّتَيْنِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ. بَلْ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ أَسْفَلِ سَافِلِينَ وَأَعْلَى عِلِّيِّينَ. وَتِلْكَ مَوَاهِبُ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21] .
قَوْلُهُ " وَذَوْقُ الْمُسَامَرَةِ: طَعْمَ الْعِيَانِ " مُرَادُهُمْ بِالْمُسَامَرَةِ: مُنَاجَاةُ الْقَلْبِ رَبَّهَ، وَإِنْ سَكَتَ اللِّسَانُ، فَلَذَّةُ اسْتِيلَاءِ ذِكْرِهِ تَعَالَى، وَمَحَبَّتِهِ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ، وَحُضُورِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأُنْسِهِ بِهِ، وَقُرْبِهِ مِنْهُ، حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ يُخَاطِبُهُ وَيُسَامِرُهُ، وَيَعْتَذِرُ إِلَيْهِ تَارَةً، وَيَتَمَلَّقُهُ تَارَةً، وَيُثْنِي عَلَيْهِ تَارَةً، حَتَّى يَبْقَى الْقَلْبُ نَاطِقًا بِقَوْلِهِ: أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ لَهُ بِذَلِكَ. بَلْ يَبْقَى هَذَا حَالًا لَهُ وَمَقَامًا. وَلَا يُنْكَرُ وُصُولُ الْقَوْمِ إِلَى هَذَا. فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» فَإِذَا بَلَغَ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ بِحَيْثُ يَكُونُ كَأَنَّهُ يَرَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ. فَهَكَذَا مُخَاطَبَتُهُ وَمُنَاجَاتُهُ لَهُ.
لَكِنَّ الْأَوْلَى الْعُدُولُ عَنْ لَفْظِ الْمُسَامَرَةِ إِلَى الْمُنَاجَاةِ فَإِنَّهُ اللَّفْظُ الَّذِي اخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا. وَعَبَّرَ بِهِ عَنْ حَالِ الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ. فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ» .