الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَمَالًا، وَلَا فِيهِ مَعْرِفَةٌ، وَلَا عُبُودِيَّةٌ، وَلَا دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ الْبَتَّةَ، وَلَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَلَا وَصَفَهُ أَهْلُ الطَّرِيقِ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَغَايَتُهُ أَنْ يُشَبِّهَ صَاحِبَهُ بِالْغَائِبِ عَنْ عَقْلِهِ وَحِسِّهِ وَإِدْرَاكِهِ، وَغَايَتُهُ: أَنْ يَكُونَ عَارِضًا مِنْ عَوَارِضَ الطَّرِيقِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ غَايَةً.
وَلَمَّا جَعَلَهُ مَنْ جَعَلَهُ غَايَةً مَطْلُوبَةً، يُشَمِّرُ إِلَيْهَا السَّالِكُونَ؛ دَخَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ عَلَى مَنْ شَمَّرَ إِلَيْهِ مَا يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَالْعُبُودِيَّةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنَ الْعَبْدِ بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[دَرَجَاتُ الْجَمْعِ]
قَوْلُهُ: " وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: جَمْعِ عِلْمٍ، ثُمَّ جَمْعِ وُجُودٍ، ثُمَّ جَمْعِ عَيْنٍ، فَأَمَّا جَمْعُ الْعِلْمِ: فَهُوَ تَلَاشِي عُلُومِ الشَّوَاهِدِ فِي الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ صَرْفًا، وَأَمَّا جَمْعُ الْوُجُودِ: فَهُوَ تَلَاشِي نِهَايَةِ الِاتِّصَالِ فِي عَيْنِ الْوُجُودِ مَحْقًا، وَأَمَّا جَمْعُ الْعَيْنِ: فَهُوَ تَلَاشِي كُلِّ مَا تُقِلُّهُ الْإِشَارَةُ فِي ذَاتِ الْحَقِّ حَقًّا.
عُلُومُ الشَّوَاهِدِ هِيَ مَا حَصَلَتْ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ، وَبِالْمَصْنُوعِ عَلَى الصَّانِعِ، فَالْمَصْنُوعَاتُ شَوَاهِدُ وَأَدِلَّةٌ وَآثَارٌ، وَعُلُومُ الشَّوَاهِدِ: هِيَ الْمُسْتَنِدَةُ إِلَى الشَّوَاهِدِ الْحَاصِلَةِ عَنْهَا، وَالْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ إِلْهَامًا بِلَا سَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَلَا اسْتِدْلَالٍ، وَلِهَذَا سُمِّيَ لَدُنِّيًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65] وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي عَلَّمَ الْعِبَادَ مَا لَا يَعْلَمُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5] وَلَكِنَّ هَذَا الْعِلْمَ أَخَصُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ أَضَافَهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، كَبَيْتِهِ وَنَاقَتِهِ وَبَلَدِهِ وَعَبْدِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَتَضْمَحِلُّ الْعُلُومُ الْمُسْتَنِدَةُ إِلَى الْأَدِلَّةِ وَالشَّوَاهِدِ فِي الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ، الْحَاصِلِ بِلَا سَبَبٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، هَذَا مَضْمُونُ كَلَامِهِ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِالشَّوَاهِدِ وَالْأَدِلَّةِ: هُوَ الْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ، وَأَمَّا مَا يَدَّعِي حُصُولَهُ بِغَيْرِ شَاهِدٍ وَلَا دَلِيلٍ: فَلَا وُثُوقَ بِهِ، وَلَيْسَ بِعِلْمٍ، نَعَمْ قَدْ يَقْوَى الْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِالشَّوَاهِدِ وَيَتَزَايَدُ، بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمَعْلُومُ كَالْمَشْهُودِ، وَالْغَائِبُ كَالْمُعَايَنِ، وَعِلْمُ الْيَقِينِ كَعَيْنِ الْيَقِينِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ شُعُورًا أَوَّلًا، ثُمَّ تَجْوِيزًا، ثُمَّ ظَنًّا، ثُمَّ عِلْمًا، ثُمَّ مَعْرِفَةً، ثُمَّ عِلْمَ يَقِينٍ، ثُمَّ حَقَّ يَقِينٍ، ثُمَّ عَيْنَ يَقِينٍ، ثُمَّ تَضْمَحِلُّ كُلُّ مَرْتَبَةٍ فِي الَّتِي فَوْقَهَا، بِحَيْثُ يَصِيرُ الْحُكْمُ لَهَا دُونَهَا، فَهَذَا حَقٌّ.
وَأَمَّا دَعْوَى وُقُوعِ نَوْعٍ مِنَ الْعِلْمِ بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ: فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَبَطَ التَّعْرِيفَاتِ بِأَسْبَابِهَا، كَمَا رَبَطَ الْكَائِنَاتِ بِأَسْبَابِهَا، وَلَا يَحْصُلُ لِبِشْرٍ عِلْمٌ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَيَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رُسُلَهُ بِأَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الَّتِي دَلَّتْهُمْ عَلَى أَنَّ مَا جَاءَهُمْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَدَلَّتْ أُمَمَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ مَعَهُمْ أَعْظَمُ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ عَلَى أَنَّ مَا جَاءَهُمْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَانَتْ بَرَاهِينُهُمْ أَدِلَّةً وَشَوَاهِدَ لَهُمْ وَلِلْأُمَمِ، فَالْأَدِلَّةُ وَالشَّوَاهِدُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ، وَمَعَهُمْ أَعْظَمُ الشَّوَاهِدِ وَالْأَدِلَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى شَهِدَ بِتَصْدِيقِهِمْ بِمَا أَقَامَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّوَاهِدِ، فَكُلُّ عِلْمٍ لَا يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ فَدَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَحُكْمٌ لَا بُرْهَانَ عِنْدَ قَائِلِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِلْمًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَدُنِّيًّا.
فَالْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ: مَا قَامَ الدَّلِيلُ الصَّحِيحُ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ، وَمَا عَدَاهُ فَلَدُنِّيٌّ مِنْ لَدُنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَقَدِ انْبَثَقَ سَدُّ الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ، وَرَخُصَ سِعْرُهُ، حَتَّى ادَّعَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ أَنَّ عِلْمَهُمْ لَدُنِّيٌّ، وَصَارَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَالسُّلُوكِ وَبَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بِمَا يَسْنَحُ لَهُ، وَيُلْقِيهُ شَيْطَانُهُ فِي قَلْبِهِ: يَزْعُمُ أَنَّ عِلْمَهُ لَدُنِّيٌّ، فَمَلَاحِدَةُ الِاتِّحَادِيَّةِ، وَزَنَادِقَةُ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّلُوكِ يَقُولُونَ: إِنَّ عِلْمَهُمْ لَّدُنِّيٌّ، وَقَدْ صَنَّفَ فِي الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ مُتَهَوِّكُو الْمُتَكَلِّمِينَ، وَزَنَادِقَةُ الْمُتَصَوِّفِينَ، وَجَهَلَةُ الْمُتَفَلْسِفِينَ، وَكُلٌّ يَزْعُمُ أَنَّ عِلْمَهُ لَّدُنِّيٌّ، وَصَدَقُوا وَكَذَبُوا فَإِنَّ اللَّدُنِّيَّ مَنْسُوبٌ إِلَى " لَدُنْ " بِمَعْنَى عِنْدَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: الْعِلْمُ الْعِنْدِيُّ، وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِيمَنْ هَذَا الْعِلْمُ مِنْ عِنْدِهِ وَمِنْ لَدُنْهُ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى بِأَبْلَغِ الذَّمِّ مَنْ يَنْسِبُ إِلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْ عِنْدِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78] وَقَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 79] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 93] فَكُلُّ مَنْ قَالَ: هَذَا الْعِلْمُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ - وَهُوَ كَاذِبٌ فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ - فَلَهُ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ هَذَا الذَّمِّ، وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، يَذُمُّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنْ أَضَافَ إِلَيْهِ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَمَنْ قَالَ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُ، وَلِهَذَا رَتَّبَ سُبْحَانَهُ الْمُحَرَّمَاتِ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ، وَجَعَلَ أَشَدَّهَا: الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ، فَجَعَلَهُ آخِرَ مَرَاتِبِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي لَا تُبَاحُ بِحَالٍ، بَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَعَلَى لِسَانِ كُلِّ