الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَلَمَّا تَمَّ الْعَقْدُ وَسَلَّمُوا الْمَبِيعَ، قِيلَ لَهُمْ: مُذْ صَارَتْ نُفُوسُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ لَنَا رَدَدْنَاهَا عَلَيْكُمْ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ، وَأَضْعَافَهَا مَعًا {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ - فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 169 - 170] .
إِذَا غُرِسَتْ شَجَرَةُ الْمَحَبَّةِ فِي الْقَلْبِ، وَسُقِيَتْ بِمَاءِ الْإِخْلَاصِ، وَمُتَابَعَةِ الْحَبِيبِ، أَثْمَرَتْ أَنْوَاعَ الثِّمَارِ. وَآتَتْ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا. أَصْلُهَا ثَابِتٌ فِي قَرَارِ الْقَلْبِ. وَفَرْعُهَا مُتَّصِلٌ بِسِدْرَةِ الْمُنْتَهَى.
لَا يَزَالُ سَعْيُ الْمُحِبِّ صَاعِدًا إِلَى حَبِيبِهِ لَا يَحْجُبُهُ دُونَهُ شَيْءٌ {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] .
[فَصْلٌ حَدُّ الْمَحَبَّةِ]
فَصْلٌ
لَا تُحَدُّ الْمَحَبَّةُ بِحَدٍّ أَوْضَحَ مِنْهَا. فَالْحُدُودُ لَا تَزِيدُهَا إِلَّا خَفَاءً وَجَفَاءً. فَحَدُّهَا وُجُودُهَا. وَلَا تُوصَفُ الْمَحَبَّةُ بِوَصْفٍ أَظْهَرَ مِنَ الْمَحَبَّةِ.
وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ النَّاسُ فِي أَسْبَابِهَا وَمُوجِبَاتِهَا، وَعَلَامَاتِهَا وَشَوَاهِدِهَا، وَثَمَرَاتِهَا وَأَحْكَامِهَا. فَحُدُودُهُمْ وَرُسُومُهُمْ دَارَتْ عَلَى هَذِهِ السِّتَّةِ. وَتَنَوَّعَتْ بِهِمُ الْعِبَارَاتُ. وَكَثُرَتِ الْإِشَارَاتُ، بِحَسَبِ إِدْرَاكِ الشَّخْصِ وَمَقَامِهِ وَحَالِهِ، وَمِلْكِهِ لِلْعِبَارَةِ.
وَهَذِهِ الْمَادَّةُ تَدُورُ فِي اللُّغَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: الصَّفَاءُ وَالْبَيَاضُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِصَفَاءِ بَيَاضِ الْأَسْنَانِ وَنَضَارَتِهَا: حَبَبُ الْأَسْنَانِ.
الثَّانِي: الْعُلُوُّ وَالظُّهُورُ. وَمِنْهُ حَبَبُ الْمَاءِ وَحُبَابُهُ. وَهُوَ مَا يَعْلُوهُ عِنْدَ الْمَطَرِ الشَّدِيدِ. وَحَبَبُ الْكَأْسِ مِنْهُ.
الثَّالِثُ: اللُّزُومُ وَالثَّبَاتُ. وَمِنْهُ: حَبَّ الْبَعِيرُ وَأَحَبَّ، إِذَا بَرَكَ وَلَمْ يَقُمْ. قَالَ الشَّاعِرُ:
حُلْتَ عَلَيْهِ بِالْفَلَاةِ ضَرْبًا
…
ضَرْبَ بِعِيرِ السُّوءِ إِذْ أَحَبَّا
الرَّابِعُ: اللُّبُّ. وَمِنْهُ: حَبَّةُ الْقَلْبِ، لِلُبِّهِ وَدَاخِلِهِ. وَمِنْهُ الْحَبَّةُ لِوَاحِدَةِ الْحُبُوبِ. إِذْ هِيَ أَصْلُ الشَّيْءِ وَمَادَّتُهُ وَقِوَامُهُ.
الْخَامِسُ: الْحِفْظُ وَالْإِمْسَاكُ. وَمِنْهُ حِبُّ الْمَاءِ لِلْوِعَاءِ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ وَيُمْسِكُهُ وَفِيهِ مَعْنَى الثُّبُوتِ أَيْضًا.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَةَ مِنْ لَوَازِمِ الْمَحَبَّةِ. فَإِنَّهَا صَفَاءُ الْمَوَدَّةِ، وَهَيَجَانُ إِرَادَاتِ الْقَلْبِ لِلْمَحْبُوبِ. وَعُلُوُّهَا وَظُهُورُهَا مِنْهُ لِتَعَلُّقِهَا بِالْمَحْبُوبِ الْمُرَادِ. وَثُبُوتِ إِرَادَةِ الْقَلْبِ لِلْمَحْبُوبِ. وَلُزُومِهَا لُزُومًا لَا تُفَارِقُهُ، وَلِإِعْطَاءِ الْمُحِبِّ مَحْبُوبَهُ لُبَّهُ، وَأَشْرَفَ مَا عِنْدَهُ. وَهُوَ قَلْبُهُ، وَلِاجْتِمَاعِ عَزَمَاتِهِ وَإِرَادَاتِهِ وَهُمُومِهِ عَلَى مَحْبُوبِهِ.
فَاجْتَمَعَتْ فِيهَا الْمَعَانِي الْخَمْسَةُ. وَوَضَعُوا لِمَعْنَاهَا حَرْفَيْنِ مُنَاسِبَيْنِ لِلْمُسَمَّى غَايَةَ الْمُنَاسَبَةِ " الْحَاءَ " الَّتِي هِيَ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ، وَ " الْبَاءَ " الشَّفَوِيَّةَ الَّتِي هِيَ نِهَايَتُهُ. فَلِلْحَاءِ الِابْتِدَاءُ، وَلِلْبَاءِ الِانْتِهَاءُ. وَهَذَا شَأْنُ الْمَحَبَّةِ وَتَعَلُّقُهَا بِالْمَحْبُوبِ. فَإِنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْهُ وَانْتِهَاءَهَا إِلَيْهِ. وَقَالُوا فِي فِعْلِهَا: حَبَّهُ وَأَحَبَّهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أُحِبُّ أَبَا ثَرْوَانَ مِنْ حُبِّ تَمْرِهِ
…
وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الرِّفْقَ بِالْجَارِ أَرْفَقُ
فَوَاللَّهِ لَوْلَا تَمْرُهُ مَا حَبَبْتُهُ
…
وَلَا كَانَ أَدْنَى مِنْ عُبَيْدٍ وَمِشْرِقِ
ثُمَّ اقْتَصَرُوا عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ أَحَبَّ فَقَالُوا: مُحِبٌّ، وَلَمْ يَقُولُوا: حَابٌّ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ مِنْ حَبَّ، فَقَالُوا: مَحْبُوبٌ، وَلَمْ يَقُولُوا: مُحَبٌّ إِلَّا قَلِيلًا. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلَا تَظُنِّي غَيْرَهُ
…
مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحَبِّ الْمُكْرَمِ
وَأَعْطَوُا الْحُبَّ حَرَكَةَ الضَّمِّ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ الْحَرَكَاتِ وَأَقْوَاهَا، مُطَابَقَةً لِشِدَّةِ حَرَكَةِ مُسَمَّاهُ وَقُوَّتِهَا. وَأَعْطَوُا الْحِبَّ وَهُوَ الْمَحْبُوبُ: حَرَكَةَ الْكَسْرِ لِخِفَّتِهَا عَنِ الضَّمَّةِ، وَخِفَّةِ الْمَحْبُوبِ، وَخِفَّةِ ذِكْرِهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ: مِنْ إِعْطَائِهِ حُكْمَ نَظَائِرِهِ، كَنِهْبٍ