الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَإِنَّ تَوْحِيدَهُمْ تَوْحِيدُ بَقَاءٍ وَمَحَبَّةٍ. لَا تَوْحِيدَ فَنَاءٍ وَغَيْبَةٍ، وَسُكْرٍ وَاصْطِلَامٍ.
وَلَمَّا كَانَ الْمُحِبُّ عِنْدَ أَرْبَابِ الْفَنَاءِ. لَمْ يَخْلُصْ إِلَى مَقَامِ تَوْحِيدِ الْفَنَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ. بَلْ رُسُومُ الْمَحَبَّةِ مَعَهُ بَعْدُ، جَعَلُوا الْمَحَبَّةَ هِيَ الْعَقَبَةَ الَّتِي يَنْحَدِرُ مِنْهَا إِلَى أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ. كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالصَّوَابُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ، عِنْدَ أَرْبَابِ التَّحْقِيقِ وَالْبَصَائِرِ: أَنَّ لِسَانَ الْمَحَبَّةِ أَتَمُّ، وَمَقَامَهَا أَكْمَلُ، وَحَالَهَا أَشْرَفُ، وَصَاحِبَهَا مِنْ أَهْلِ الصَّحْوِ بَعْدَ السُّكْرِ، وَالتَّمْكِينِ بَعْدَ التَّلْوِينِ، وَالْبَقَاءِ بَعْدَ الْفَنَاءِ. وَلِسَانُهُ نَائِبٌ عَنْ كُلِّ لِسَانٍ. وَبَيَانُهُ وَافٍ بِكُلِّ ذَوْقٍ. وَمَقَامُهُ أَعْلَى مِنْ كُلِّ مَقَامٍ. فَهُوَ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ مَنْ دُونَهُ مِنْ أَرْبَابِ الْمَقَامَاتِ. لِأَنَّ مَقَامَهُ أَمِيرٌ عَلَى الْمَقَامَاتِ كُلِّهَا.
أَمِينٌ أَمِينٌ عَلَيْهِ النَّدَى
…
جَوَادٌ بَخِيلٌ بِأَنْ لَا يَجُودَا.
وَأَمَّا كَوْنُ نُعُوتِ الْمَحَبَّةِ لَا تَتَنَاهَى: فَلِأَنَّ لَهَا فِي كُلِّ مَقَامٍ نِسْبَةً وَتَعَلُّقًا بِهِ. وَهِيَ رُوحُ كُلِّ مَقَامٍ، وَالْحَامِلَةُ لَهُ. وَأَقْدَامُ السَّالِكِينَ إِنَّمَا تَتَحَرَّكُ بِهَا. فَلَهَا تَعَلَّقُ بِكُلِّ قَدَمٍ، وَحَالٍ وَمَقَامٍ. فَلَا تَتَنَاهَى نُعُوتُهَا أَلْبَتَّةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ مَدَارُ شَأْنِ السَّالِكِينَ الْمُسَافِرِينَ إِلَى اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ الثَّالِثَةِ]
فَصْلٌ
قَوْلُهُ: وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ: هِيَ قُطْبُ هَذَا الشَّأْنِ. وَمَا دُونَهَا مَحَابٌّ، نَادَتْ عَلَيْهَا الْأَلْسُنُ، وَادَّعَتْهَا الْخَلِيقَةُ. وَأَوْجَبَتْهَا الْعُقُولُ.
يُرِيدُ: أَنَّ مَدَارَ شَأْنِ السَّالِكِينَ الْمُسَافِرِينَ إِلَى اللَّهِ: عَلَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ الثَّالِثَةِ. وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لِخُلُوصِهَا مِنَ الشَّوَائِبِ وَالْعِلَلِ وَالْأَغْرَاضِ. وَصَاحِبُهَا مُرَادٌ وَمَجْذُوبٌ وَمَطْلُوبٌ، وَمَا دُونَهَا مِنَ الْمَحَابِّ: فَصَاحِبُهَا بَاقٍ مَعَ إِرَادَتِهِ مِنْ مَحْبُوبِهِ. أَمَّا مَحَبَّةُ الْإِحْسَانِ وَالْأَفْعَالِ: فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا مَحَبَّةُ الصِّفَاتِ: فَصَاحِبُهَا مَعَ لَذَّةِ رُوحِهِ وَنَعِيمِ قَلْبِهِ بِمُطَالَعَةِ الصِّفَاتِ. فَإِنَّ لَذَّةَ الْأَرْوَاحِ وَالْعُقُولِ لَا مَحَالَةَ فِي مُطَالَعَةِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَنُعُوتِ الْجَمَالِ.
وَصَاحِبُ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ الثَّالِثَةِ: قَدِ ارْتَقَى عَنْ هَاتَيْنِ الدَّرَجَتَيْنِ. وَأُخِذَ مِنْهُ، وَعُيِّبَ عَنْهُ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِ فِي كَوْنِ الْفَنَاءِ غَايَةً. وَقَدْ عَرَفْتَهُ.
وَقَوْلُهُ " وَنَادَتْ عَلَيْهَا الْأَلْسُنُ " أَيْ وَصَفَتْهَا الْأَلْسُنُ. فَأَكْثَرَتْ صِفَاتِهَا. وَتَمَكَّنَتْ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْهَا.
وَ " ادَّعَتْهَا الْخَلِيقَةُ " بِخِلَافِ الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ. فَإِنَّهُ لَا وُصُولَ لِأَحَدٍ إِلَيْهَا إِلَّا بِالْحَقِّ تَعَالَى. فَهِيَ غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ. وَلَا تُنَالُ بِسَبَبٍ. فَلَا يُمْكِنُ فِيهَا الدَّعْوَى. فَإِنَّ شَأْنَهَا أَجَلُّ مَنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ " وَأَوْجَبَتْهَا الْعُقُولُ " يُرِيدُ: أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ بِوُجُوبِهَا. وَهُوَ كَمَا قَالَ. فَإِنَّ الْعُقُولَ تَحْكُمُ بِوُجُوبِ تَقْدِيمِ مَحَبَّةِ اللَّهِ عَلَى مَحَبَّةِ النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ.
وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُحَكِّمْ عَقْلَهُ بِهَذَا: فَلَا تَعْبَأْ بِعَقْلِهِ. فَإِنَّ الْعَقْلَ وَالْفِطْرَةَ وَالشِّرْعَةَ وَالِاعْتِبَارَ، وَالنَّظَرَ. تَدْعُو كُلَّهَا إِلَى مَحَبَّتِهِ سُبْحَانَهُ. بَلْ إِلَى تَوْحِيدِهِ فِي الْمَحَبَّةِ. وَإِنَّمَا جَاءَتِ الرُّسُلُ بِتَقْرِيرِ مَا فِي الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ.
كَمَا قِيلَ:
هَبِ الرُّسُلَ لَمْ تَأْتِ مِنْ عِنْدِهِ
…
وَلَا أَخْبَرَتْ عَنْ جَمَالِ الْحَبِيبِ
أَلَيْسَ مِنَ الْوَاجِبِ الْمُسْتَ
…
حَقِّ مَحَبَّتُهُ فِي اللِّقَا وَالْمَغِيبِ
فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَقْلُهُ آمِرًا
…
بِذَا. مَا لَهُ فِي الْحِجَى مِنْ نَصِيبِ
وَإِنَّ الْعُقُولَ لَتَدْعُو إِلَى
…
مَحَبَّةِ فَاطِرِهَا مِنْ قَرِيبِ
أَلَيْسَتْ عَلَى ذَاكَ مَجْبُولَةً
…
وَمَفْطُورَةً لَا بِكَسْبِ غَرِيبِ
أَلَيْسَ الْجَمَالُ حَبِيبَ الْقُلُوبِ
…
لِذَاتِ الْجَمَالِ، وَذَاتِ الْقُلُوبِ
أَلَيْسَ جَمِيلًا يُحِبُّ الْجَمَالَ
…
تَعَالَى إِلَهُ الْوَرَى عَنْ نَسِيبِ
أَمَا بَعْدَ ذَلِكَ إِحْسَانُهُ
…
بِدَاعٍ إِلَيْهِ لِقَلْبِ الْمُنِيبِ
أَلَيْسَ إِذَا كَمُلَا أَوْجَبَا
…
كَمَالَ الْمَحَبَّةِ لِلْمُسْتَجِيبِ
فَمَنْ ذَا يُشَابِهُ أَوْصَافَهُ
…
تَعَالَى إِلَهُ الْوَرَى عَنْ ضَرِيبِ
وَمَنْ ذَا يُكَافِئُ إِحْسَانَهُ
…
فَيَأْلَهُهُ قَلْبُ عَبْدٍ مُنِيبِ
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ
…
إِلَى كُلِّ ذِي الْخُلُقِ أَوْلَى حَبِيبِ
فَيَا مُنْكِرًا ذَاكَ وَاللَّهِ أَنْ
…
تَ عَيْنُ الطَّرِيدِ وَعَيْنُ الْحَرِيبِ
وَيَا مَنْ يُحِبُّ سِوَاهُ كَمِثْ
…
لِ مَحَبَّتِهِ أَنْتَ عَبْدُ الصَّلِيبِ
وَيَا مَنْ يُوَحِّدُ مَحْبُوبَهُ
…
وَيُرْضِيهِ فِي مَشْهَدٍ أَوْ مَغِيبِ
وَلَوْ سَخِطَ الْخَلْقُ فِي وَجْهِهِ
…
لَقَالَ هَوَانًا وَلَوْ بِالنَّسِيبِ
حَظَيْتَ وَخَابُوا فَلَا تَبْتَئِسْ
…
بِكَيْدِ الْعَدُوِّ وَهَجْرِ الرَّقِيبِ