الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيُرَجِّحُ هَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ الْمُرِيدَ الصَّادِقَ لَا يُحِبُّ الْخُرُوجَ مِنَ الدُّنْيَا، حَتَّى يَقْضِيَ نَحْبَهُ، لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى انْقِضَائِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الدَّارِ. فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَضَى نَحْبَهُ: أَحَبَّ حِينَئِذٍ الْخُرُوجَ مِنْهَا. وَلَكِنْ لَا يَقْضِي نَحْبَهُ حَتَّى يُوَفِّيَ مَا عَلَيْهِ.
وَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: مُوفٍ قَدْ قَضَى نَحْبَهُ، وَمُنْتَظِرٌ لِلْوَفَاءِ سَاعٍ فِيهِ حَرِيصٌ عَلَيْهِ، وَمُفَرِّطٌ فِي وَفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَوْلُهُ " وَيَوْمٍ يُرِيهِ مَا يُغْنِيهِ " أَيْ يَوْمٍ يَرَى فِيهِ مَا يُغْنِي قَلْبَهُ، وَيَسُدُّ فَاقَتَهُ مِنْ قُرَّةِ عَيْنِهِ بِمَطْلُوبِهِ وَمُرَادِهِ.
قَوْلُهُ " وَمَنْزِلٍ يَسْتَرِيحُ فِيهِ " أَيْ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ السَّيْرِ، وَمَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ الصَّادِقِينَ، يَسْتَرِيحُ فِيهِ قَلْبُهُ، وَيَسْكُنُ فِيهِ. وَيَخْلُصُ مِنْ تَلَوُّنِ الْأَحْوَالِ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الْمَقَامَاتِ مَنَازِلُ وَالْأَحْوَالَ مَرَاحِلُ. فَصَاحِبُ الْحَالِ شَدِيدُ الْعَطَشِ إِلَى مَقَامٍ يَسْتَقِرُّ فِيهِ وَيَنْزِلُهُ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ عَطَشُ الْمُحِبِّ إِلَى جَلْوَةٍ مَا دُونَهَا سَحَابُ عَلَّةٍ]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: عَطَشُ الْمُحِبِّ إِلَى جَلْوَةٍ، مَا دُونَهَا سَحَابُ عَلَّةٍ. وَلَا يُغَطِّيهَا حِجَابُ تَفْرِقَةٍ. وَلَا يُعَرَّجُ دُونَهَا عَلَى انْتِظَارٍ.
عَطَشُ الْمُحِبِّ فَوْقَ عَطَشِ الْمُرِيدِ وَالسَّالِكِ. وَإِنْ كَانَ كُلُّ مُحِبٍّ سَالِكًا وَكُلُّ مُرِيدٍ سَالِكًا. وَكُلُّ سَالِكٍ وَمُرِيدٍ مُحِبٌّ. لَكِنَّ خُصَّ الْمُحِبُّ بِهَذَا الِاسْمِ لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الْمَحَبَّةِ، وَرُسُوخِ قَلْبِهِ فِيهَا.
وَالْمُرِيدُ وَالسَّالِكُ: يُشَمِّرَانِ إِلَى عِلْمِهِ الَّذِي رُفِعَ لَهُ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ. وَلِذَلِكَ جَعَلَ الْأُولَى: لِأَهْلِ الْبِدَايَاتِ. وَالثَّانِيَةَ: لِلْمُتَوَسِّطِينَ. وَالثَّالِثَةَ: لِأَهْلِ النِّهَايَاتِ.
وَقَوْلُهُ: عَطَشُ الْمُحِبِّ إِلَى جَلْوَةٍ، مَا دُونَهَا سَحَابٌ.
يُرِيدُ بِالْجَلْوَةِ: اسْتِجْلَاءُ الْقَلْبِ لِصِفَاتِ الْمَحْبُوبِ وَمَحَاسِنِهِ، وَانْكِشَافُهَا لَهُ.
وَقَوْلُهُ " مَا دُونَهَا سَحَابٌ " أَيْ لَا يَسْتُرُهَا شَيْءٌ مِنْ سُحُبِ النَّفْسِ. وَهِيَ سُحُبُ الْعِلَلِ الَّتِي هِيَ بَقَايَا فِي الْعَبْدِ، تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْتِجْلَائِهِ صِفَاتِ مَحْبُوبِهِ، وَتَعُوقُهُ عَنْهُ. فَمَهْمَا بَقِيَ فِي الْعَبْدِ بَقِيَّةٌ مِنْ نَفْسِهِ، فَهِيَ سَحَابٌ وَغَيْمٌ سَاتِرٌ عَلَى قَدْرِهِ. فَكَثِيفٌ وَرَقِيقٌ، وَبَيْنَ بَيْنَ.
قَوْلُهُ: " وَلَا يُغَطِّيهَا حِجَابٌ " الْحِجَابُ فِي لِسَانِ الطَّائِفَةِ: النَّفْسُ وَصِفَاتُهَا وَأَحْكَامُهَا. وَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ مِنْ أَعْظَمِ الْحُجُبِ. بَلْ هِيَ الْحِجَابُ الْأَكْبَرُ، فَإِنَّ حِجَابَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَاتِهِ هُوَ " النُّورُ. لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ " وَحِجَابُهُ مِنْ عَبْدِهِ: هُوَ نَفْسُهُ وَظُلْمَتُهُ، فَلَوْ كَشَفَ عَنْهُ هَذَا الْحِجَابَ لَوَصَلَ إِلَى رَبِّهِ.
وَالْوُصُولُ عِنْدَ الْقَوْمِ: عِبَارَةٌ عَنِ ارْتِفَاعِ هَذَا الْحِجَابِ وَزَوَالِهِ. فَالْحِجَابُ الَّذِي يَشْتَدُّ عَلَى الْمُحِبِّ، وَيَشْتَدُّ عَطَشُهُ إِلَى زَوَالِهِ: هُوَ حِجَابُ الظُّلْمَةِ وَالنَّفْسِ. وَهُوَ الْحِجَابُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ.
وَأَمَّا الْحِجَابُ الَّذِي بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ - وَهُوَ حِجَابُ النُّورِ - فَلَا سَبِيلَ إِلَى كَشْفِهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ أَلْبَتَّةَ. وَلَا يَطْمَعُ فِي ذَلِكَ بَشَرٌ. وَلَمْ يُكَلِّمِ اللَّهُ بَشَرًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. وَهَذَا الْحِجَابُ كَاشِفٌ لِلْعَبْدِ، مُوصِلٌ لَهُ إِلَى مَقَامِ الْإِحْسَانِ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ الْقَوْمُ بِمَقَامِ الْمُشَاهَدَةِ، وَالْأَوَّلُ سَاتِرٌ لِلْعَبْدِ، قَاطِعٌ لَهُ، حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِحْسَانِ وَحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ.
وَالتَّفْرِقَةُ كُلُّهَا عِنْدَهُمْ حُجُبٌ، إِلَّا تَفْرِقَةً فِي اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَلِلَّهِ. فَإِنَّهَا لَا تَحْجُبُ الْعَبْدَ عَنْهُ. بَلْ تُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ. فَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَا يُغَطِّيهَا حِجَابُ تَفْرِقَةٍ، فَإِنَّ التَّفْرِقَةَ إِنَّمَا تَكُونُ حِجَابًا إِذَا كَانَتْ بِالنَّفْسِ وَلَهَا.
قَوْلُهُ: وَلَا يُعَرَّجُ دُونَهَا عَلَى انْتِظَارٍ، يَعْنِي: لَا يُعَرِّجُ الْمُشَاهِدُ لِمَا يُشَاهِدُهُ عَلَى انْتِظَارِ أَمْرٍ آخَرَ وَرَاءَهَا. كَمَا يُعَرِّجُ الْمُحِبُّ الْمَحْجُوبَ عَلَى انْتِظَارِ زَوَالِ حِجَابِهِ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مَشْهَدٌ تَامٌّ. لَا يَبْقَى لَهُ بَعْدَهُ مَا يَنْتَظِرُهُ.
وَهَذَا عِنْدِي وَهْمٌ بَيِّنٌ. فَإِنَّهُ لَا غَايَةَ لِجَمَالِ الْمَحْبُوبِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ. بِحَيْثُ يَصِلُ الْمُشَاهِدُ لَهَا إِلَى حَالَةٍ لَا يَنْتَظِرُ مَعَهَا شَيْئًا آخَرَ.
هَذَا. وَسَنُبَيِّنُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ فِي الدُّنْيَا مَقَامُ الْمُشَاهَدَةِ أَبَدًا، وَأَنَّ هَذَا مِنْ أَوْهَامِ الْقَوْمِ وَتُرَّهَاتِهِمْ. وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْعَبْدُ: الشَّوَاهِدُ. وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ قَطُّ فِي الدُّنْيَا إِلَى مُشَاهَدَةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. وَإِنَّمَا وُصُولُهُ إِلَى شَوَاهِدِ الْحَقِّ. وَمَنْ زَعَمَ غَيْرَ هَذَا فَلِغَلَبَةِ الْوَهْمِ عَلَيْهِ، وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِتُرَّهَاتِ الْقَوْمِ وَخَيَالَاتِهِمْ.
وَلِلَّهِ دَرُّ الشِّبْلِيِّ حَيْثُ سُئِلَ عَنِ الْمُشَاهَدَةِ؟ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَنَا مُشَاهَدَةُ الْحَقِّ؟ لَنَا شَاهِدُ الْحَقِّ. هَذَا، وَهُوَ صَاحِبُ الشَّطَحَاتِ الْمَعْرُوفَةِ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ كَلَامِهِ وَأَبْيَنِهِ.
وَأَرَادَ بِشَاهِدِ الْحَقِّ: مَا يَغْلِبُ عَلَى الْقُلُوبِ الصَّادِقَةِ الْعَارِفَةِ الصَّافِيَةِ: مِنْ ذِكْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَإِجْلَالِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ حَاضِرًا فِيهَا، مَشْهُودًا لَهَا، غَيْرَ غَائِبٍ عَنْهَا. وَمَنْ أَشَارَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَمَغْرُورٌ مَخْدُوعٌ. وَغَايَتُهُ: أَنْ يَكُونَ فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِ، وَضَعْفِ تَمْيِيزِهِ وَعِلْمِهِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقُلُوبَ تُشَاهِدُ أَنْوَارًا بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهَا. تَقْوَى تَارَةً، وَتَضْعُفُ أُخْرَى. وَلَكِنَّ تِلْكَ أَنْوَارُ الْأَعْمَالِ وَالْإِيمَانِ وَالْمَعَارِفِ، وَصَفَاءُ الْبَوَاطِنِ وَالْأَسْرَارِ. لَا أَنَّهَا أَنْوَارُ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ. فَإِنَّ الْجَبَلَ لَمْ يَثْبُتْ لِلْيَسِيرِ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ حَتَّى تَدَكْدَكَ وَخَرَّ الْكَلِيمُ صَعِقًا، مَعَ عَدَمِ تَجَلِّيهِ لَهُ. فَمَا الظَّنُّ بِغَيْرِهِ؟
فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ وَتُرَّهَاتِ الْقَوْمِ وَخَيَالَاتِهِمْ وَأَوْهَامَهُمْ. فَإِنَّهَا عِنْدَ الْعَارِفِينَ أَعْظَمُ مِنْ حِجَابِ النَّفْسِ وَأَحْكَامِهَا. فَإِنَّ الْمَحْجُوبَ بِنَفْسِهِ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْحِجَابِ.
وَصَاحِبُ هَذِهِ الْخَيَالَاتِ وَالْأَوْهَامِ يَرَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ قَدْ تَجَلَّتْ لَهُ أَنْوَارُهَا. وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ كَلِيمِ الرَّحْمَنِ. فَحِجَابُ هَؤُلَاءِ أَغْلَظُ بِلَا شَكٍّ مِنْ حِجَابِ أُولَئِكَ. وَلَا يُقِرُّ لَنَا بِهَذَا إِلَّا عَارِفٌ قَدْ أَشْرَقَ فِي بَاطِنِهِ نُورُ السُّنَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. فَرَأَى مَا النَّاسُ فِيهِ. وَمَا أَعَزَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. وَمَا أَغْرَبَهُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
فَالصَّادِقُونَ فِي أَنْوَارِ مَعَارِفِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ لَيْسَ إِلَّا. وَأَنْوَارُ ذَاتِ الرَّبِّ تبارك وتعالى وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ مَقَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَلِلَّهِ كَمْ زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ! وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ! وَحَارَتْ فِيهِ أَوْهَامٌ! وَنَجَا مِنْهُ صَادِقُ الْبَصِيرَةِ، تَامُّ الْمَعْرِفَةِ، عِلْمُهُ مُتَّصِلٌ بِمِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.