الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَوْلُهُ " أُولَئِكَ ذَخَائِرُ اللَّهِ حَيْثُ كَانُوا " ذَخَائِرُ الْمَلِكِ: مَا يُخَبَّأُ عِنْدَهُ، وَيَذْخُرُهُ لِمُهِمَّاتِهِ، وَلَا يَبْذُلُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَكَذَلِكَ ذَخِيرَةُ الرَّجُلِ: مَا يَذْخُرُهُ لِحَوَائِجِهِ وَمُهِمَّاتِهِ، وَهَؤُلَاءِ لَمَّا كَانُوا مَسْتُورِينَ عَنِ النَّاسِ بِأَسْبَابِهِمْ، غَيْرَ مُشَارٍ إِلَيْهِمْ وَلَا مُتَمَيِّزِينَ بِرَسْمٍ دُونَ النَّاسِ، وَلَا مُنْتَسِبِينَ إِلَى اسْمِ طَرِيقٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ شَيْخٍ أَوْ زِيٍّ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ الذَّخَائِرِ الْمَخْبُوءَةِ، وَهَؤُلَاءِ أَبْعَدُ الْخَلْقِ عَنِ الْآفَاتِ، فَإِنَّ الْآفَاتِ كُلَّهَا تَحْتَ الرُّسُومِ وَالتَّقَيُّدِ بِهَا، وَلُزُومِ الطُّرُقِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ، وَالْأَوْضَاعِ الْمُتَدَاوَلَةِ الْحَادِثَةِ؛ هَذِهِ هِيَ الَّتِي قَطَعْتَ أَكْثَرَ الْخَلْقِ عَنِ اللَّهِ، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. وَالْعَجَبُ أَنَّ أَهْلَهَا: هُمُ الْمَعْرُوفُونَ بِالطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ، وَالسَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. وَهُمْ إِلَّا الْوَاحِدَ بَعْدَ الْوَاحِدِ الْمَقْطُوعُونَ عَنِ اللَّهِ بِتِلْكَ الرُّسُومِ وَالْقُيُودِ.
وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ عَنِ السُّنَّةِ؟ فَقَالَ: مَا لَا اسْمَ لَهُ سِوَى السُّنَّةِ
يَعْنِي: أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لَيْسَ لَهُمُ اسْمٌ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ سِوَاهَا.
فَمِنَ النَّاسِ: مَنْ يَتَقَيَّدُ بِلِبَاسٍ لَا يَلْبِسُ غَيْرَهُ، أَوْ بِالْجُلُوسِ فِي مَكَانٍ لَا يَجْلِسُ فِي غَيْرِهِ، أَوْ مِشْيَةٍ لَا يَمْشِي غَيْرَهَا، أَوْ بِزِيٍّ وَهَيْئَةٍ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، أَوْ عِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا يَتَعَبَّدُ بِغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَعْلَى مِنْهَا، أَوْ شَيْخٍ مُعَيَّنٍ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنِ الظَّفَرِ بِالْمَطْلُوبِ الْأَعْلَى مَصْدُودُونَ عَنْهُ، قَدْ قَيَّدَتْهُمُ الْعَوَائِدُ وَالرُّسُومُ وَالْأَوْضَاعُ وَالِاصْطِلَاحَاتُ عَنْ تَجْرِيدِ الْمُتَابَعَةِ. فَأَضْحَوْا عَنْهُمَا بِمَعْزِلٍ، وَمَنْزِلَتُهُمْ مِنْهَا أَبْعَدَ مَنْزِلٍ، فَتَرَى أَحَدَهُمْ يَتَعَبَّدُ بِالرِّيَاضَةِ وَالْخُلْوَةِ، وَتَفْرِيغِ الْقَلْبِ، وَيَعُدُّ الْعِلْمَ قَاطِعًا لَهُ عَنِ الطَّرِيقِ، فَإِذَا ذُكِرَ لَهُ الْمُوَالَاةُ فِي اللَّهِ وَالْمُعَادَاةُ فِيهِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ عَدَّ ذَلِكَ فُضُولًا وَشَرًّا، وَإِذَا رَأَوْا بَيْنَهُمْ مَنْ يَقُومُ بِذَلِكَ أَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَعَدُّوهُ غَيْرًا عَلَيْهِمْ، فَهَؤُلَاءِ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ إِشَارَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ الثَّانِيَةُ طَائِفَةٌ أَشَارُوا عَنْ مَنْزِلٍ وَهُمْ فِي غَيْرِهِ وَوَرُّوا بِأَمْرٍ وَهُمْ لِغَيْرِهِ]
فَصْلٌ
قَالَ: الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ: طَائِفَةٌ أَشَارُوا عَنْ مَنْزِلٍ وَهُمْ فِي غَيْرِهِ، وَوَرُّوا بِأَمْرٍ وَهُمْ لِغَيْرِهِ، وَنَادَوْا عَلَى شَأْنٍ وَهُمْ عَلَى غَيْرِهِ فَهُمْ بَيْنَ غَيْرَةٍ عَلَيْهِمْ تَسْتُرُهُمْ وَأَدَبٍ فِيهِمْ يَصُونُهُمْ وَظَرْفٍ يُهَذِّبُهُمْ.
أَهْلُ هَذِهِ الطَّبَقَةِ اسْتَسَرُّوا اخْتِيَارًا وَإِرَادَةً لِذَلِكَ، صِيَانَةً لِأَحْوَالِهِمْ، وَكَمَالًا فِي
تَمَكُّنِهِمْ، فَمَقَامَاتُهُمْ عَالِيَةٌ لَا تَرْمُقُهَا الْعُيُونُ وَلَا تُخَالِطُهَا الظُّنُونُ، يُشِيرُونَ إِلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُ مِنْ مَقَامَاتِ الْمُرِيدِينَ السَّالِكِينَ، وَبِدَايَاتِ السُّلُوكِ، وَيُخْفُونَ مَا مَكَّنَهُمْ فِيهِ الْحَقُّ سبحانه وتعالى مِنْ أَحْوَالِ الْمَحَبَّةِ وَمَوَاجِيدِهَا، وَآثَارِ الْمَعْرِفَةِ وَتَوْحِيدِهَا، فَهَذِهِ هِيَ التَّوْرِيَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا.
فَكَأَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ لِلْمُخَاطَبِ: أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَايَاتِ، وَهُمْ فِي أَعْلَى الْمَقَامَاتِ، يَتَكَلَّمُونَ مَعَهُمْ فِي الْبِدَايَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالسُّلُوكِ، وَمَقَامُهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ، وَهُمْ مُحِقُّونَ فِي الْحَالَتَيْنِ، لَكِنَّهُمْ يَسْتُرُونَ أَشْرَفَ أَحْوَالِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ عَنِ النَّاسِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَهُمْ مَعَ النَّاسِ بِظَوَاهِرِهِمْ، يُخَاطِبُونَهُمْ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ، وَلَا يُخَاطِبُونَهُمْ بِمَا لَا تَصِلُ إِلَيْهِ عُقُولُهُمْ، فَيُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ فَيَحْسَبُهُمُ الْمُخَاطَبُ مِثْلَهُ، فَالنَّاسُ عِنْدَهُمْ وَلَيْسُوا هُمْ عِنْدَ أَحَدٍ.
قَوْلُهُ: " أَشَارُوا إِلَى مَنْزِلٍ، وَهُمْ فِي غَيْرِهِ " يَعْنِي: يُشِيرُونَ إِلَى مَنْزِلِ التَّوْبَةِ، وَالْمُحَاسَبَةِ وَهُمْ فِي مَنْزِلِ الْمَحَبَّةِ، وَالْوَجْدِ، وَالذَّوْقِ وَنَحْوِهَا.
وَقَدْ يُرِيدُ: أَنَّهُمْ يُشِيرُونَ إِلَى أَنَّهُمْ عَامَّةٌ، وَهُمْ خَاصَّةُ الْخَاصَّةِ، وَإِلَى أَنَّهُمْ جُهَّالٌ، وَهُمُ الْعَارِفُونَ بِاللَّهِ، وَأَنَّهُمْ مُسِيئُونَ، وَهُمْ مُحْسِنُونَ.
وَعَلَى هَذَا: فَيَكُونُونَ مِنَ الطَّائِفَةِ الْمَلَامَتِيَّةِ، الَّذِينَ يُظْهِرُونَ مَا لَا يُمْدَحُونَ عَلَيْهِ، وَيُسِرُّونَ مَا يَحْمَدُهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، عَكْسُ الْمُرَائِينَ الْمُنَافِقِينَ، وَهَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ مَعْرُوفَةٌ. لَهُمْ طَرِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ، تُسَمَّى طَرِيقَةَ أَهْلِ الْمَلَامَةِ وَهُمُ الطَّائِفَةُ الْمَلَامَتِيَّةُ يَزْعُمُونَ: أَنَّهُمْ يَحْتَمِلُونَ مَلَامَ النَّاسِ لَهُمْ عَلَى مَا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ. لِيَخْلُصَ لَهُمْ مَا يُبْطِنُونَهُ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]
فَهُمْ عَامِلُونَ عَلَى إِسْقَاطِ جَاهِهِمْ وَمَنْزِلَتِهِمْ فِي قُلُوبِ النَّاسِ. لَمَّا رَأَوُا الْمُغْتَرِّينَ - الْمُغْتَرَّ بِهِمْ - مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّلُوكِ يَعْمَلُونَ عَلَى تَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ، وَتَوْفِيرِ جَاهِهِمْ فِي قُلُوبِ النَّاسِ. فَعَاكَسَهُمْ هَؤُلَاءِ وَأَظْهَرُوا بَطَالَةً وَأَبْطَنُوا أَعْمَالًا. وَكَتَمُوا أَحْوَالَهُمْ جُهْدَهُمْ. وَيَنْشُدُونَ فِي هَذِهِ الْحَالِ:
فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالْحَيَاةُ مَرِيرَةُ
…
وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالْأَنَامُ غِضَابُ
وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ
…
وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْعَالَمِينَ خَرَابُ
إِذَا صَحَّ مِنْكَ الْوُدُّ يَا غَايَةَ الْمُنَى
…
فَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ قَالَ: كَانَ عِيسَى عليه السلام يَقُولُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلْيَدْهِنْ لِحْيَتَهُ وَيَمْسَحْ شَفَتَيْهِ، حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى النَّاسِ، فَيَقُولُونَ: لَيْسَ بِصَائِمٍ.
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: التَّصَوُّفُ تَرْكُ الدَّعَاوَى، وَكِتْمَانُ الْمَعَانِي، وَسُئِلَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ عَنْ عَلَامَاتِ الصَّادِقِ؟ فَقَالَ: أَنْ لَا يُبَالِيَ أَنْ يُخْرِجَ كُلَّ قَدْرٍ لَهُ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ مِنْ أَجْلِ صَلَاحِ قَلْبِهِ، وَلَا يُحِبُّ اطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَى الْيَسِيرِ مِنْ عَمَلِهِ.
وَهَذَا يُحْمَدُ فِي حَالٍ، وَيُذَمُّ فِي حَالٍ، وَيَحْسُنُ مِنْ رَجُلٍ وَيَقْبُحُ مِنْ آخَرَ، فَيُحْمَدُ إِذَا أَظْهَرَ مَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، وَلَا نَقْصَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَا ذَمَّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ لِيَكْتُمَ بِهِ حَالَهُ وَعَمَلَهُ، كَمَا إِذَا أَظْهَرَ الْغِنَى وَكَتَمَ الْفَقْرَ وَالْفَاقَةَ، وَأَظْهَرَ الصِّحَّةَ وَكَتَمَ الْمَرَضَ، وَأَظْهَرَ النِّعْمَةَ وَكَتَمَ الْبَلِيَّةَ.
فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ كُنُوزِ السِّتْرِ، وَلَهُ فِي الْقَلْبِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ يَعْرِفُهُ مَنْ ذَاقَهُ، وَشَكَا رَجُلٌ إِلَى الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ شَكَاةً فَقَالَ: يَا ابْنِ أَخِي قَدْ ذَهَبَ ضَوْءُ بَصَرِي مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحْدًا.
وَأَمَّا الْحَالُ الَّتِي يُذَمُّ فِيهَا: فَأَنْ يُظْهِرَ مَا لَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، لِيُسِيءَ بِهِ النَّاسُ الظَّنَّ، فَلَا يُعَظِّمُوهُ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ دَخَلَ الْحَمَّامَ، ثُمَّ خَرَجَ وَسَرَقَ ثِيَابَ رَجُلٍ، وَمَشَى رُوَيْدًا حَتَّى أَدْرَكُوهُ، فَأَخَذُوهَا مِنْهُ وَسَبُّوهُ فَهَذَا حَرَامٌ لَا يَحِلُّ تَعَاطِيهِ، وَيَقْبُحُ أَيْضًا مِنَ الْمَتْبُوعِ الْمُقْتَدَى بِهِ ذَلِكَ، بَلْ وَمَا هُوَ دُونَهُ؛ لِأَنَّهُ يُغِرُّ النَّاسَ، وَيُوقِعُهُمْ فِي التَّأَسِّي بِمَا يُظْهِرُهُ مِنْ سُوءٍ.
فَالْمَلَامَتِيَّةُ نَوْعَانِ: مَمْدُوحُونَ أَبْرَارٌ، وَمَذْمُومُونَ جُهَّالٌ. وَإِنْ كَانُوا فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِمْ.
فَالْأَوَّلُونَ: الَّذِينَ لَا يُبَالُونَ بِلَوْمِ اللَّوْمِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ:{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54] فَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ: مَنْ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ..
وَالنَّوْعُ الثَّانِي الْمَذْمُومُ: هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ شَرْعًا مِنْ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ. لِيَكْتُمَ بِذَلِكَ حَالَهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» .
فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِ الشَّيْخِ.
قَوْلُهُ: أَشَارُوا إِلَى مَنْزِلٍ. وَهُمْ فِي غَيْرِهِ.
مِثَالُهُ: أَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي التَّوْبَةِ وَالْمُحَاسَبَةِ وَهُمْ فِي مَنْزِلِ الْمَحَبَّةِ وَالْفَنَاءِ.
قَوْلُهُ " وَوَرُّوا بِأَمْرٍ. وَهُمْ لِغَيْرِهِ " التَّوْرِيَةُ: أَنْ يَذْكُرَ لَفْظًا يَفْهَمُ بِهِ الْمُخَاطَبُ مَعْنًى، وَهُوَ يُرِيدُ غَيْرَهُ، مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: أَنَا غَنِيٌّ. فَيُوهِمُ الْمُخَاطَبَ لَهُ أَنَّهُ غَنِيٌّ بِالشَّيْءِ. وَمُرَادُهُ: غَنِيٌّ بِاللَّهِ عَنْهُ. كَمَا قِيلَ:
غَنِيتُ بِلَا مَالٍ عَنِ النَّاسِ كُلِّهِمْ
…
وَإِنَّ الْغِنَى الْعَالِي عَنِ الشَّيْءِ لَا بِهِ
وَأَنْ يَقُولَ: مَا صَحَّ لِي مَقَامُ التَّوْبَةِ بَعْدُ. وَيُرِيدُ: مَا صَحَّتْ لِيَ التَّوْبَةُ عَنْ رُؤْيَةِ التَّوْبَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ " وَنَادَوْا عَلَى شَأْنٍ. وَهُمْ عَلَى غَيْرِهِ " أَيْ: عَظَّمُوا شَأْنًا مِنْ شِئُونِ الْقَوْمِ، وَدَعُوا النَّاسَ إِلَيْهِ، وَهُمْ فِي أَعْلَى مِنْهُ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: " فَهُمْ بَيْنَ غَيْرَةٍ عَلَيْهِمْ تَسْتُرُهُمْ " أَيْ: يَغَارُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ، فَيَسْتُرُهُمْ عَنِ الْخَلْقِ، وَيَغَارُونَ عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ، فَيَسْتُرُونَ أَحْوَالَهُمْ عَنْ رُؤْيَةِ الْخَلْقِ لَهَا، كَمَا قِيلَ:
أَلِفَ الْخُمُولَ صِيَانَةً وَتَسَتُّرًا
…
فَكَأَنَّمَا تَعْرِيفَهُ أَنْ يُنْكَرَا
وَكَأَنَّهُ كَلِفُ الْفُؤَادِ بِنَفْسِهِ
…
فَحَمَتْهُ غَيْرَتُهُ عَلَيْهَا أَنْ تَرَى
قَوْلُهُ: وَأَدَبٌ فِيهِمْ يَصُونُهُمْ، بِهَذَا يَتِمُّ أَمْرُهُمْ،
وَهُوَ أَنْ يَقُومَ بِهِمْ أَدَبٌ يَصُونُهُمْ عَنْ ظَنِّ السَّوْءِ بِهِمْ، وَيَصُونُهُمْ عَنْ دَنَاءَةِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، فَأَدَبُهُمْ صِوَانٌ عَلَى أَحْوَالِهِمْ، فَهِمَّتُهُ الْعَلِيَّةُ تَرْتَفِعُ بِهِ، وَأَدَبُهُ يَرْسُو بِهِ إِلَى التُّرَابِ، كَمَا قِيلَ:
أَبْلَجُ سَهْلُ الْأَخْلَاقِ مُمْتَنِعٌ
…
يُبْرِزُهُ الدَّهْرُ وَهْوَ يَحْتَجِبُ
إِذَا تَرَقَّتْ بِهِ عَزَائِمُهُ
…
إِلَى الثُّرَيَّا رَسَا بِهِ الْأَدَبُ
فَأَدَبُ الْمُرِيدِ وَالسَّالِكِ: صِوَانٌ لَهُ، وَتَاجٌ عَلَى رَأْسِهِ.
قَوْلُهُ: " وَظَرْفٌ يُهَذِّبُهُمْ " التَّهْذِيبُ: هُوَ التَّأْدِيبُ وَالتَّصْفِيَةُ. وَ " الظَّرْفُ " فِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ: أَحْلَى مِنْ كُلِّ حُلْوٍ. وَأَزْيَنُ مِنْ كُلِّ زَيْنٍ. فَمَا قُرِنَ شَيْءٌ إِلَى شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْ ظَرْفٍ إِلَى صِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ، وَسِرٍّ مَعَ اللَّهِ وَجَمْعِيَّةٍ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ عُنِيَ بِهَذَا الشَّأْنِ تَضِيقُ نَفْسُهُ وَأَخْلَاقُهُ عَنْ سِوَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ، فَتَثْقُلُ وَطْأَتُهُ عَلَى أَهْلِهِ وَجَلِيسِهِ، وَيَضْمَنُ عَلَيْهِ بِبِشْرِهِ، وَالتَّبَسُّطِ إِلَيْهِ، وَلِينِ الْجَانِبِ لَهُ. وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّهُ لَمَعْذُورٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ بِمَشْكُورٍ، فَإِنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ أَغْيَارٌ، إِلَّا مَنْ أَعَانَكَ عَلَى شَأْنِكَ وَسَاعَدَكَ عَلَى مَطْلُوبِكَ.
فَإِذَا تَمَكَّنَ الْعَبْدُ فِي حَالِهِ وَصَارَ لَهُ إِقْبَالٌ عَلَى اللَّهِ وَجَمْعِيَّةٌ عَلَيْهِ مَلَكَةً وَمَقَامًا رَاسِخًا أَنِسَ بِالْخَلْقِ وَأَنِسُوا بِهِ، وَانْبَسَطَ إِلَيْهِمْ وَحَمَلَهُمْ عَلَى ضَلَعِهِمْ وَبُطْءِ سَيْرِهِمْ، فَعَكَفَتِ الْقُلُوبُ عَلَى مَحَبَّتِهِ لِلُطْفِهِ وَظَرْفِهِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَنْفِرُونَ مِنَ الْكَثِيفِ وَلَوْ بَلَغَ فِي الدِّينِ مَا بَلَغَ، وَلِلَّهِ مَا يَجْلِبُ اللُّطْفُ وَالظَّرْفُ مِنَ الْقُلُوبِ، وَيَدْفَعُ عَنْ صَاحِبِهِ مِنَ الشَّرِّ، وَيُسَهِّلُ لَهُ مَا تَوَعَّرَ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَيْسَ الثُّقَلَاءُ بِخَوَاصِّ الْأَوْلِيَاءِ، وَمَا ثَقُلَ أَحَدٌ عَلَى قُلُوبِ الصَّادِقِينَ الْمُخْلِصِينَ إِلَّا مِنْ آفَةٍ هُنَاكَ، وَإِلَّا فَهَذِهِ الطَّرِيقُ تَكْسُو الْعَبْدَ حَلَاوَةً وَلَطَافَةً وَظَرْفًا، فَتَرَى الصَّادِقَ فِيهَا مِنْ أَحْلَى النَّاسِ وَأَلْطَفِهِمْ وَأَظْرَفِهِمْ، قَدْ زَالَتْ عَنْهُ ثَقَالَةُ النَّفْسِ وَكُدُورَةُ الطَّبْعِ، وَصَارَ رُوحَانِيًّا سَمَائِيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ حَيَوَانِيًّا أَرْضِيًّا، فَتَرَاهُ أَكْرَمَ النَّاسِ عِشْرَةً، وَأَلْيَنَهُمْ عَرِيكَةً، وَأَلْطَفَهُمْ قَلْبًا وَرُوحًا، وَهَذِهِ خَاصَّةُ الْمَحَبَّةِ، فَإِنَّهَا تَلْطُفُ وَتَظْرُفُ وَتَنْظُفُ.
وَمِنْ ظَرْفِ أَهْلِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ: أَنْ لَا يَظْهَرَ أَحَدُهُمْ عَلَى جَلِيسِهِ بِحَالٍ وَلَا مَقَامٍ.