الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَكُونُ الْعَبْدُ مُوَحِّدًا إِلَّا إِذَا أَفْرَدَ الْقَدِيمَ عَنِ الْمُحْدَثِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنِ ادَّعَى التَّوْحِيدَ لَمْ يُفْرِدْهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ، فَإِنَّ مَنْ نَفَى مُبَايَنَتَهُ لِخَلْقِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَجَعَلَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ، لَمْ يُفْرِدْهُ عَنِ الْمُحْدَثِ، بَلْ جَعَلَهُ حَالًّا فِي الْمُحْدَثَاتِ مُخَالِفًا لَهَا، مَوْجُودًا فِيهَا بِذَاتِهِ، وَصُوفِيَّةُ هَؤُلَاءِ وَعُبَّادُهُمْ هُمُ الْحُلُولِيَّةُ، الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَحِلُّ بِذَاتِهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُمْ طَائِفَتَانِ: طَائِفَةٌ تُعَمِّمُ الْمَوْجُودَاتِ بِحُلُولِهِ فِيهَا، وَطَائِفَةٌ تَخُصُّ بِهِ بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ.
قَالَ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ: هَذِهِ حِكَايَةُ قَوْلِ قَوْمٍ مِنَ النُّسَّاكِ، وَفِي الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَنْتَحِلُونَ النَّسْكَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ جَائِزٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْحُلُولُ فِي الْأَجْسَامِ، وَإِذَا رَأَوْا شَيْئًا يَسْتَحْسِنُونَهُ قَالُوا: لَا نَدْرِي! لَعَلَّهُ رَبُّنَا.
قُلْتُ: وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ طَائِفَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: تَزْعُمُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَحِلُّ فِي الصُّورَةِ الْجَمِيلَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، وَالثَّانِيَةُ: تَزْعُمُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَحِلُّ فِي الْكُمَّلِ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الَّذِينَ تَجَرَّدَتْ نُفُوسُهُمْ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَاتَّصَفُوا بِالْفَضَائِلِ، وَتَنَزَّهُوا عَنِ الرَّذَائِلِ، وَالنَّصَارَى تَزْعُمُ أَنَّهُ حَلَّ فِي بَدَنِ الْمَسِيحِ وَتَدَرَّعَ بِهِ، وَالِاتِّحَادِيَّةُ تَزْعُمُ أَنَّهُ وُجُودٌ مُطْلَقٌ اكْتَسَتْهُ الْمَاهِيَّاتُ، فَهُوَ عَيْنُ وُجُودِهَا.
فَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَمْ يُفْرِدُوا الْقَدِيمَ عَنِ الْمُحْدَثِ.
[فَصْلٌ الْإِفْرَادُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْجُنَيْدُ]
فَصْلٌ
وَهَذَا الْإِفْرَادُ - الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْجُنَيْدُ - نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: إِفْرَادٌ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْخَبَرِ، وَذَلِكَ نَوْعَانِ أَيْضًا، أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ مُبَايَنَةِ الرَّبِّ تَعَالَى لِلْمَخْلُوقَاتِ، وَعَلُوِّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، كَمَا نَطَقَتْ بِهِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، وَأَخْبَرَتْ بِهِ جَمِيعُ الرُّسُلِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، وَالثَّانِي: إِفْرَادُهُ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتِ كَمَالِهِ، وَإِثْبَاتُهَا لَهُ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، كَمَا أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ، وَأَثْبَتَهَا لَهُ رُسُلُهُ، مُنَزَّهَةً عَنِ التَّعْطِيلِ وَالتَّحْرِيفِ وَالتَّمْثِيلِ، وَالتَّكْيِيفِ وَالتَّشْبِيهِ، بَلْ تُثْبِتُ لَهُ سُبْحَانَهُ حَقَائِقَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَتَنْفِي عَنْهُ فِيهَا مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ، إِثْبَاتًا بِلَا تَمْثِيلٍ، وَتَنْزِيهًا بِلَا تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
وَفِي هَذَا النَّوْعِ يَكُونُ إِفْرَادُهُ سُبْحَانَهُ بِعُمُومِ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ - أَعْيَانِهَا وَصِفَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا - وَأَنَّهَا كُلَّهَا وَاقِعَةٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَيُبَايِنُ
صَاحِبُ هَذَا الْإِفْرَادِ سَائِرَ فِرَقِ أَهْلِ الْبَاطِلِ: مِنَ الِاتِّحَادِيَّةِ، وَالْحُلُولِيَّةِ، وَالْجَهْمِيَّةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ - الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ رَبٌّ يُعْبَدُ، وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إِلَهٌ يُصَلَّى لَهُ وَيُسْجَدُ - وَالْقَدَرِيَّةِ - الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ، مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَلَا عَلَى أَفْعَالِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ - بَلْ يَقَعُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ، وَيُرِيدُ مَا لَا يَكُونُ، فَيُرِيدُ شَيْئًا لَا يَكُونُ، وَيَكُونُ شَيْءٌ بِغَيْرِ إِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْإِفْرَادِ: إِفْرَادُ الْقَدِيمِ عَنِ الْمُحَدَثِ بِالْعِبَادَةِ - مِنَ التَّأَلُّهِ، وَالْحُبِّ، وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ وَالتَّعْظِيمِ، وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ، وَالِاسْتِعَانَةِ وَابْتِغَاءِ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ - فَهَذَا الْإِفْرَادُ، وَذَلِكَ الْإِفْرَادُ: بِهِمَا بُعِثَتِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتِ الْكُتُبُ، وَشُرِّعَتِ الشَّرَائِعُ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ، وَقَامَ سُوقُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَتَفْرِيدُ الْقَدِيمِ سُبْحَانَهُ عَنِ الْمُحْدَثِ: فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، - وَفِي إِرَادَتِهِ، وَحْدَهُ وَمَحَبَّتِهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِعَانَةِ وَالْحَلِفِ بِهِ، وَالنَّذْرِ لَهُ، وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، وَالسُّجُودِ لَهُ، وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ عِبَارَةُ الْجُنَيْدِ عَنِ التَّوْحِيدِ عِبَارَةً سَادَّةً مُسَدَّدَةً.
فَشَيْخُ الْإِسْلَامِ: إِنْ أَرَادَ مَا أَرَادَ أَبُو الْقَاسِمِ، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُنَزِّهَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَنْ قِيَامِ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِهِ - الَّتِي يُسَمِّيهَا نُفَاةُ أَفْعَالِهِ: حُلُولَ الْحَوَادِثِ - وَيَجْعَلُونَ تَنْزِيهَ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْهَا مِنْ كَمَالِ التَّوْحِيدِ، بَلْ هُوَ أَصْلُ التَّوْحِيدِ عِنْدَهُمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: التَّوْحِيدُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ حُلُولِ الْحَوَادِثِ.
وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ: أَنَّ التَّوْحِيدَ - عِنْدَهُمْ - تَعْطِيلُهُ عَنْ أَفْعَالِهِ وَنَفْيُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا الْبَتَّةَ، فَإِنَّ إِثْبَاتَ فَاعِلٍ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ يَقُومُ بِهِ الْبَتَّةَ مُحَالٌ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ وَلُغَاتِ الْأُمَمِ، وَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ رَبًّا لِلْعَالَمِ مَعَ نَفْيِ ذَلِكَ أَبَدًا، فَإِنَّ قِيَامَ الْأَفْعَالِ بِهِ هُوَ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَحَقِيقَتُهَا، وَنَافِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَافٍ لِأَصْلِ الرُّبُوبِيَّةِ، جَاحِدٌ لَهَا رَأْسًا.
وَإِنْ أَرَادَ تَنْزِيهَ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ سِمَاتِ الْمُحْدَثِينَ، وَخَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ فَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُ تَقْصِيرٌ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّ إِثْبَاتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَصْلُ التَّوْحِيدِ، وَمِنْ تَمَامِ هَذَا الْإِثْبَاتِ: تَنْزِيهُهُ سُبْحَانَهُ عَنْ سِمَاتِ الْمُحْدَثِينَ، وَخَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ، وَقَدِ اسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ الِاتِّحَادِيُّ فِي هَذَا الْحَدِّ، فَقَالَ: شُهُودُ التَّوْحِيدِ يَرْفَعُ الْحُدُوثَ أَصْلًا وَرَأْسًا، فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ وُجُودَانِ - قَدِيمٌ وَمُحْدَثٌ - فَالتَّوْحِيدُ: هُوَ أَنْ لَا يُرَى مَعَ الْوُجُودِ