الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَهُنَا سِرٌّ لَطِيفٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا النَّفَسَ يَفْخَرُ عَلَى أَنْفَاسِهِ الَّتِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ، كَمَا تَفْخَرُ الْحَيَاةُ عَلَى الْمَوْتِ، وَالْعِلْمُ عَلَى الْجَهْلِ، وَالسَّمْعُ عَلَى الصَّمَمِ، وَالْبَصَرُ عَلَى الْعَمَى، فَيَكُونُ الِافْتِخَارُ لِلنَّفَسِ عَلَى النَّفَسِ، لَا لِلْمُتَنَفِّسِ عَلَى النَّاسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ الْحَيَاةُ الثَّالِثَةُ حَيَاةُ الْوُجُودِ]
فَصْلٌ
قَالَ: الْحَيَاةُ الثَّالِثَةُ: حَيَاةُ الْوُجُودِ. وَهِيَ حَيَاةٌ بِالْحَقِّ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَنْفَاسٍ: نَفَسُ الْهَيْبَةِ، وَهُوَ يُمِيتُ الِاعْتِدَالَ. وَنَفَسُ الْوُجُودِ، وَهُوَ يَمْنَعُ الِانْفِصَالَ. وَنَفَسُ الِانْفِرَادِ وَهُوَ يُورِثُ الِاتِّصَالَ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مَلْحَظٌ لِلنَّظَّارَةِ، وَلَا طَاقَةٌ لِلْإِشَارَةِ.
هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ مِنَ الْحَيَاةِ هِيَ حَيَاةُ الْوَاجِدِ، وَهِيَ أَكْمَلُ مِنَ النَّوْعَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهَا، وَوُجُودُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ بِقَوْلِهِ:«فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي» وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: «ابْنَ آدَمَ، اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ» .
وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْوُجُودِ مَزِيدٌ لِهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِنَّمَا كَانَتْ حَيَاةُ الْوُجُودِ أَكْمَلَ الْحَيَاةِ، لِشَرَفِهَا وَكَمَالِهَا بِمُوجِدِهَا؛ وَهُوَ الْحَقُّ سبحانه وتعالى، فَمَنْ حُبِيَ بِوُجُودِهِ فَقَدْ فَازَ بِأَعْلَى أَنْوَاعِ الْحَيَاةِ.
فَإِنْ قُلْتَ: يَصْعُبُ عَلَيَّ فَهْمُ مَعْنَى الْحَيَاةِ بِوُجُودِهِ.
قُلْتُ: لِأَجْلِ الْحِجَابِ الَّذِي ضُرِبَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَافْهَمِ الْحَيَاةَ بِوُجُودِ الْفَنَاءِ، وَبِوُجُودِ الْمَالِكِ الْقَادِرِ إِذَا كَانَ مَعَكَ وَنَاصِرَكَ، دُونَ مُجَرَّدِ وُجُودِهِ وَلَا مَعْرِفَةَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَلْبَتَّةَ فَحَقِيقَةُ الْحَيَاةِ: هِيَ الْحَيَاةُ بِالرَّبِّ تَعَالَى، لَا الْحَيَاةُ النَّفَسُ وَالْفَنَاءُ وَأَسْبَابُ الْعَيْشِ.
وَقَدْ تُفَسَّرُ " حَيَاةُ الْوُجُودِ " بِشُهُودِ الْقَيُّومِيَّةِ، حَيْثُ لَا يَرَى شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا وَهُوَ بِاللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي أَقَامَهُ، وَبِحَالِ هَذَا الشُّهُودِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ بِقَلْبِهِ إِلَى شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ، وَلَا يَخَافَهُ وَلَا يَرْجُوهُ، بَلْ قَدْ قَصَرَ خَوْفَهُ وَرَجَاءَهُ، وَتَوَكُّلَهُ وَإِنَابَتَهُ عَلَى الْحَيِّ الْقَيُّومِ، قَيُّومِ الْوُجُودِ وَقَيِّمِهِ وَقِيَامِهِ وَمُقَيِمِهِ وَحْدَهُ، فَمَتَى حَصَلَ لَهُ هَذَا الشُّهُودُ وَهَذَا الْحَالُ، فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ حَيَاةُ الْوُجُودِ.
فَتَارَةً يَتَنَفَّسُ بِالْهَيْبَةِ، وَهِيَ سَطْوَةُ نُورِ الصِّفَاتِ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَوَّلِ مَا يَسْطَعُ نُورُ الْوُجُودِ، فَيَقَعُ الْقَلْبُ فِي هَيْبَةٍ تَسْتَغْرِقُ حِسَّهُ عَنْ الِالْتِفَاتِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ عَوَالِمِ النَّفَسِ، وَذَلِكَ هُوَ الِاعْتِلَالُ الَّذِي يُمِيتُهُ النَّفَسُ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُهُ:" وَنَفَسُ يُمِيتُ الِاعْتِلَالَ " فَتَمُوتُ مِنْهُ عِلَلُ أَعْمَالِهِ، وَآثَارُ حُظُوظِهِ، وَشُهُودُ إِنِّيَّتِهِ.
قَوْلُهُ: " وَنَفَسُ الْوُجُودِ " يُرِيدُ بِهِ: وُجُودَ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ، فَيَتَنَفَّسُ بِهَذَا الْوُجُودِ، كَمَا يَسْمَعُ بِهِ، وَيُبْصِرُ بِهِ، وَيَبْطِشُ بِهِ، وَيَمْشِي بِهِ.
وَلَا تُصْغِ إِلَى غَيْرِ هَذَا، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا.
قَوْلُهُ: " وَهُوَ يَمْنَعُ الِانْفِصَالَ " الِانْفِصَالُ عِنْدَ الْقَوْمِ: انْقِطَاعُ الْقَلْبِ عَنِ الرَّبِّ وَبَقَاؤُهُ بِنَفْسِهِ وَطَبِيعَتِهِ، وَ " الِاتِّصَالُ " هُوَ بَقَاؤُهُ بِرَبِّهِ، وَفَنَاؤُهُ عَنْ أَحْكَامِ نَفْسِهِ، وَطَبْعِهِ وَهَوَاهُ، وَقَدْ يُرَادُ بِ " الِاتِّصَالِ " الْفَنَاءُ فِي شُهُودِ الْقَيُّومِيَّةِ، وَبِ " الِانْفِصَالِ " الْغَيْبَةُ عَنْ هَذَا الشُّهُودِ.
وَأَمَّا الْمُلْحِدُ: فَيُفَسِّرُ الِاتِّصَالَ، وَالِانْفِصَالَ بِالِاتِّصَالِ الذَّاتِيِّ وَالِانْفِصَالِ الذَّاتِيِّ، وَهَذَا مُحَالٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِلًا بِهِ، بَلْ لَمْ يَزَلْ إِيَّاهُ عِنْدَهُ، فَالْأَوَّلُ: يَتَعَلَّقُ بِالْإِرَادَةِ وَالْهِمَّةِ، وَهُوَ أَعْلَى الْأَنْوَاعِ. وَالثَّانِي: يَتَعَلَّقُ بِالشُّهُودِ وَالشُّعُورِ، وَهُوَ دُونَهُ، وَهُوَ عِنْدَ الشَّيْخِ أَعْلَى؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي وَادِي الْفَنَاءِ.
وَالثَّالِثُ: لِلْمَلَاحِدَةِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ.
قَوْلُهُ: وَنَفَسُ الِانْفِرَادِ، وَهُوَ يُورِثُ الِاتِّصَالَ.
نَفَسُ الِانْفِرَادِ: هُوَ الْمَصْحُوبُ بِشُهُودِ الْفَرْدَانِيَّةِ، وَهِيَ تَفَرُّدُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ، وَالتَّدْبِيرِ وَالْقَيُّومِيَّةِ، فَلَا يُثْبِتُ لِسِوَاهُ قِسْطًا فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَلَا يَجْعَلُ لِسِوَاهُ حَظًّا فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا فِي الْقَيُّومِيَّةِ، بَلْ يُفْرِدُهُ بِذَلِكَ فِي شُهُودِهِ، كَمَا أَفْرَدَهُ بِهِ فِي عِلْمِهِ، ثُمَّ يُفْرِدُهُ بِهِ فِي الْحَالِ الَّتِي أَوْجَبَهَا لَهُ الشُّهُودُ، فَيَكُونُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَرْدًا فِي عِلْمِ الْعَبْدِ وَمَعْرِفَتِهِ، فَرْدًا فِي شُهُودِهِ، فَرْدًا فِي حَالِهِ فِي شُهُودِهِ.
وَهَذَا النَّفَسُ يُورِثُهُ الِاتِّصَالَ بِرَبِّهِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهُ مُرَادٌ غَيْرُهُ، وَلَا إِرَادَةٌ غَيْرَ مُرَادِهِ الدِّينِيِّ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، فَيَسْتَفْرِغُ حُبُّهُ قَلْبَهُ، وَتَسْتَفْرِغُ مَرْضَاتُهُ سَعْيَهُ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مَقَامٌ يَلْحَظُهُ النَّظَّارَةُ، لَا بِالْقَلْبِ وَلَا بِالرُّوحِ.