الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَتَأَمَّلْ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» فَكَيْفَ أَخْبَرَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ عَلَيْهِ. وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ افْتِخَارًا بِهِ عَلَى مَنْ دُونَهُ، وَلَكِنْ إِظْهَارًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِعْلَامًا لِلْأُمَّةِ بِقَدْرِ إِمَامِهِمْ وَمَتْبُوعِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ لَدَيْهِ. لِتَعْرِفَ الْأُمَّةُ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ.
وَيُشْبِهُ هَذَا قَوْلَ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ لِلْعَزِيزِ {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] فَإِخْبَارُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ، لَمَّا كَانَ مُتَضَمِّنًا لِمَصْلَحَةٍ تَعُودُ عَلَى الْعَزِيزِ وَعَلَى الْأُمَّةِ، وَعَلَى نَفْسِهِ: كَانَ حَسَنًا. إِذْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْفَخْرَ عَلَيْهِمْ، فَمَصْدَرُ الْكَلِمَةِ وَالْحَامِلُ عَلَيْهَا يُحَسِّنُهَا وَيُهَجِّنُهَا. وَصُورَتُهُ وَاحِدَةٌ.
[فَصْلُ مَنْزِلَةِ الذَّوْقِ]
[حَقِيقَةُ الذَّوْقِ]
فَصْلٌ وَمِنْهَا مَنْزِلَةُ الذَّوْقِ وَ " الذَّوْقُ " مُبَاشَرَةُ الْحَاسَّةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لِلْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِرِ. وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِحَاسَّةِ الْفَمِ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ، بَلْ وَلَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: 50] وَقَالَ {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106] وَقَالَ تَعَالَى {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص: 57] وَقَالَ {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] .
فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَمَعَ بَيْنَ الذَّوْقِ وَاللِّبَاسِ، لِيَدُلَّ عَلَى مُبَاشَرَةِ الْمَذُوقِ وَإِحَاطَتِهِ وَشُمُولِهِ. فَأَفَادَ الْإِخْبَارُ عَنْ إِذَاقَتِهِ: أَنَّهُ وَاقِعٌ مُبَاشَرٌ غَيْرُ مُنْتَظَرٍ. فَإِنَّ الْخَوْفَ قَدْ يُتَوَقَّعُ وَلَا
يُبَاشَرُ، وَأَفَادَ الْإِخْبَارُ عَنْ لِبَاسِهِ: أَنَّهُ مُحِيطٌ شَامِلٌ كَاللِّبَاسِ لِلْبَدَنِ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا. وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا» فَأَخْبَرَ: أَنَّ لِلْإِيمَانِ طَعْمًا، وَأَنَّ الْقَلْبَ يَذُوقُهُ كَمَا يَذُوقُ الْفَمُ طَعْمَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.
وَقَدْ عَبَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ إِدْرَاكِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ، وَالْإِحْسَانِ، وَحُصُولِهِ لِلْقَلْبِ وَمُبَاشَرَتِهِ لَهُ: بِالذَّوْقِ تَارَةً، وَبِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ تَارَةً، وَبِوُجُودِ الْحَلَاوَةِ تَارَةً، كَمَا قَالَ «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ» وَقَالَ «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ. وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ - بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ - كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» .
وَلَمَّا نَهَاهُمْ عَنِ الْوِصَالِ قَالُوا: «إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى» وَفِي لَفْظٍ «إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» وَفِي لَفْظٍ «إِنَّ لِي مُطْعِمًا يُطْعِمُنِي، وَسَاقِيًا يَسْقِينِي» .
وَقَدْ غَلُظَ حِجَابُ مَنْ ظَنَّ أَنَّ هَذَا طَعَامٌ وَشَرَابٌ حِسِّيٌّ لِلْفَمِ. وَلَوْ كَانَ كَمَا ظَنَّهُ هَذَا الظَّانُّ: لَمَا كَانَ صَائِمًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُوَاصِلًا. وَلَمَا صَحَّ جَوَابُهُ بِقَوْلِهِ «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ» فَأَجَابَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. وَلَوْ كَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِفِيهِ الْكَرِيمِ حِسًّا، لَكَانَ الْجَوَابُ أَنْ يَقُولَ: وَأَنَا لَسْتُ أُوَاصِلُ أَيْضًا. فَلَمَّا أَقَرَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ إِنَّكَ تُوَاصِلُ عُلِمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُمْسِكُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَيَكْتَفِي بِذَلِكَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْعَالِي الرُّوحَانِيِّ، الَّذِي يُغْنِي عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْمُشْتَرَكِ الْحِسِّيِّ.
وَهَذَا الذَّوْقُ هُوَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ هِرَقْلُ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ، حَيْثُ قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ، إِذَا خَالَطَتْ