الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن قيل: الغرق أخصُّ بنهاية المقام من توسُّطه؛ لأنّه استغراقٌ فيه بحيث يَستفرغ قلْبَه وهمّه، فكيف جعله الشّيخ توسُّطًا فيه؟
قلت: لمّا كانت همّةُ الطّالب في هذه الحال مجموعةً على المقصود، وهو معرضٌ عمّا سواه، قد فارق مقامَ التّفرقة، وجاوزَ حدَّها إلى مقام الجمع، فابتدأ في المقام، وأوّلُ كلِّ مقامٍ يُشبِه آخرَ الذي قبله، فلمّا توسّطَ فيه استغرق قلبه وهمّه وإرادته، كما يَغرَقُ من توسّطَ اللُّجّةَ فيها قبل وصوله إلى آخرها.
قوله
(1)
: (وهو على ثلاث درجاتٍ؛
الدّرجة الأولى: استغراق العلم في عين الحال
، وهذا رجلٌ قد ظَفِرَ بالاستقامة، وتحقَّقَ في الإشارة، فاستحقَّ صحّةَ النِّسبة).
هذه الدّرجة التي بدأ بها هي أوّل درجاته؛ وقد يكون عالمًا بالشّيء ولا يكون متّصفًّا بالتّخلُّق به واستعماله، فالعلم شيءٌ والحال شيءٌ آخرٌ. فعلمُ العشق والصِّحَّة والسُّكر
(2)
والعافية غيرُ حصولها والاتِّصال بها، فإذا غلب عليه حال تلك المعلومات صار علمه بها كالمغفول عنه، وليس بمغفولٍ عنه، بل صار الحكم للحال.
فإنّ العبد يعرف الخوف من حيث العلم، ولكن إذا اتّصف بالخوف وباشر الخوفُ قلبَه غلبَ عليه حال الخوف والانزعاج
(3)
، واستغرق علمه في حاله، فلم يذكر علمه لغلبة حالِه عليه.
(1)
«المنازل» (ص 89).
(2)
ش، ر:«والشكر» ، والمثبت أقرب للسياق.
(3)
ش، د:«والانزاع» ، ولم يتبيَّن وجهه، ولعله تصحيف.
ومَن هذه حالُه قد ظفِرَ بالاستقامة؛ لأنّ العلوم إذا أثمرت الأحوالَ كانت عنها الاستقامةُ في الأعمال ووقوعُها على وجه الصّواب، وتحقَّقَ صاحبُها في الإشارة إلى ما وجده من الأحوال، ولم تكن إشارته عن تخمينٍ وظنٍّ وحسبانٍ. واستحقَّ اسمَ النِّسبة في صحّة العبوديّة إلى الرّحمن عز وجل؛ كقوله:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وقوله:{الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا} [الفرقان: 63]، وقوله:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6]، وقوله:{يَاعِبَادِى لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [الزخرف: 68].
والمقصود: أنّ هذا قد انتقل من أحكام العمل بالعلم وحده إلى أحكام العمل بالحال المصاحب للعلم، فهو عاملٌ بالمواجيد الحاليّة المصحوبة بالعلوم النّبويّة، فإنّ انفراد العلم عن الحال تعطيلٌ وبطالةٌ، وانفراد الحال عن العلم كفرٌ وإلحادٌ، والأكملُ: أن لا يغيب عن شهود العلم بالحال، وإن استغرقَه الحال عن شهود العلم مع قيامه بأحكامه لم يضرَّه.
قوله: (وهذا رجلٌ قد ظفِرَ بالاستقامة)، أي: هو على مَحجَّة الطّريق القاصد إلى الله، المُوصِل إليه، و «الظّفر» هو حصول الإنسان على مطلوبه.
قوله: (وتحقَّقَ في الإشارة)، أي: إشارته إشارة تحقيقٍ، ليست كإشارة صاحب البرق الذي يلوح ثمّ يذهب.
قوله: (فاستحقَّ صحّةَ النِّسبة)، لأنّه لمّا استقام، وصحَّ حاله بعمله، وأثمر علمُه حالَه= صحّت نسبة العبوديّة له؛ فإنّه لا نسبة بين العبد والرّبِّ إلّا نسبة العبوديّة.