الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبدَ الله بحالٍ مجرّدٍ عن علمٍ لم يزددْ من الله إلّا بعدًا.
قوله: (وعلل السّعي)، يعني: أنّ السّالك يغيب عن علل سعيه وعمله.
وهذه العلل عندهم: هي اعتقاده أنّه يصل بها إلى الله، وسكونُه إليها، وفرحُه بها ورؤيتها، فيغيب عن هذه العلل.
ومراده بغَيبته عنها: إعدامها حتّى لا تحضره، لا أنّه يغيب عنها وهي موجودةٌ قائمةٌ. نعم إذا اعتقد أنّ الله يُوصِله إليه بها، ويفرح بها من جهة الفضل والمنّة وسَبْق الأوّلية، لا من جهة الاكتساب والفعل= لم يضرَّه ذلك، بل هذا أكمل، وهو في الحقيقة سكونٌ إلى الله وفرحٌ به، واعتقاد أنّه هو المُوصِل لعبده إليه بما منه وحده، لا بحول العبد وقوّته، فهذا لونٌ وهذا لونٌ.
والحاصل: أنّه إذا انتقل عن أحكام العلم المجرّد إلى أحكام الحال المصاحب للعلم غابت عنه عللُ السّعي.
وكذلك تغيب عنه رُخَصُ الفتور، فلا ينظر إلى عزيمة السّعي، ولا يقف مع رُخَص الفتور، فهما آفتان للسّالك، فإنّه إمّا أن يتجرَّد عزمُه وهمُّه، فينظر إلى ما منه، وأنّ همّته وعزيمته تحمله وتقوم به، وإمّا أن يترخّص برخصةٍ تُفَتِّر عزمَه وهمّتَه. فكمالُ جِدِّه وصدقه وصحّة طلبه يُخلِّصه من رُخَص الفتور، وكمالُ توحيده ومعرفته بربِّه ونفسه يُخلِّصه من علل السّعي.
فصل
قال
(1)
:
(الدّرجة الثّالثة:
غَيبة العارف عن عيون الأحوال والشّواهد
(1)
«المنازل» (ص 90).
والدّرجات في عين
(1)
الجمع).
إنّما كانت هذه الدّرجة عنده أعلى على طريقته في كون الفناء غاية الطّالب. وهذه الدّرجة هي غيبةٌ عن خيراتٍ ومقاماتٍ بما هو أكمل منها وأشرف عنده، وهو حضرة الجمع.
ومعنى غيبته عن عيون الأحوال: أن لا يرى الأحوالَ ولا تراه، فلذلك استعار لها عيونًا؛ لأنّ الأحوال تقتضي واجدًا وموجودًا ووجدانًا، وهذا ينافي الفناء في حضرة الجمع، فإنّ الجمع يمحو الرُّسوم. وقد عرفتَ مرارًا أنّ هذا ليس بكمالٍ، ولا هو مطلوبٌ لنفسه، وغيره أكمل منه.
وأمّا غيبته عن الشّواهد فقد يريد بها شواهدَ المعرفة وأدلّتها، فيغيب بمعروفه عن الشّواهد الدّالّة عليه في الخارج وفي نفسه.
وقد يريد بالشّواهد الأسماء والصِّفات، والغيبة عنها بشهود الذّات، ولكنّ هذا ليس بكمالٍ، ولا هو أعلى من شهود الأسماء والصِّفات، بل هذا الشُّهود هو شهود المعطِّلة المنكِرة لحقائق الأسماء والصِّفات، فإنّهم ينتهون في فنائهم إلى شهود ذاتٍ مجرّدةٍ.
ومن هاهنا دخل الملاحدة القائلون بوحدة الوجود، وجعلوا شهود نفس الوجود المجرّد عن التقيُّدات وعن سائر الأسماء والصِّفات هو شهود الحقيقة. وشيخ الإسلام بل وأهل الإسلام بُرَأَئُ من هؤلاء وشهودهم.
ومراد أهل الاستقامة بذلك أنه يشهد الذّات الجامعة لجميع معاني الأسماء الحسنى والصِّفات العُلا، فيغيِّبه شهوده لهذه الذّات المقدّسة عن
(1)
في «المنازل» : «حصن» . والمثبت موافق لما في «شرح التلمساني» (ص 500).
شهود صفةٍ أو اسمٍ.
فالشّواهد هي الأفعال الدّالّة على الصِّفات المستلزمة للذّات، وشواهد المعرفة هي الأدلّة التي حصلت عنها المعرفة، فإذا طواها الشّاهد من وجوده، وشهد أنّه ما عرف الله إلّا به، ولا دلّ عليه إلّا هو= غابت شواهده في مشهوده، كما تغيب معارفُه في معروفه.
وبكلِّ حالٍ فما عُرِف الله إلّا بالله، ولا دَلَّ على الله إلّا الله، ولا أوصل إلى الله إلّا الله، فهو الدّالُّ على نفسه بما نصبَه من الأدلّة، والذّاكر لنفسه على لسان عبده، كما قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله قال على لسان نبيِّه: سمع الله لمن حمده»
(1)
. وهو المحبُّ لنفسه بنفسه، وبما خلق من عبيده الذين يحبُّونه، والشّاكر لنفسه بنفسه، وبما أجراه على ألسنة عبيده وقلوبهم وجوارحهم من ذكره، فمنه السّبب وهو الغاية، {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3].
وللملحد هاهنا مجالٌ، حيث يظنُّ أنّ الذاكر والمذكور والذِّكر، والعارف والمعروف والمعرفة، والمحبّ والمحبوب والمحبّة= من عينٍ واحدةٍ، لا بل ذلك هو العين الواحدة، وأنّ الذي عرف الله وأحبّه هو الله نفسه وإن تعدّدت مظاهره، فالظّاهر فيها واحدٌ، ظهر بوجوده العينيِّ فيها، فوجودها عينُ وجوده، ووجوده فاضَ عليها. وهذا أكفر من كلِّ كفرٍ، وأعظم من كلِّ إلحادٍ.
والموحِّدون يقولون: إنّما أفاضَ عليها إيجادَه لا وجوده، وظهر فيها
(1)
أخرجه مسلم (404) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
فعلُه بل أثرُ فعله، لا ذاته وصفاته، فقامت به فقرًا إليه واحتياجًا لا وجودًا وذاتًا، وأقامها بمشيئته وربوبيّته لا بظهوره فيها.
ولقد لحظ ملاحدة الاتِّحاديّة أمرًا اشتبه عليهم فيه وحدةُ الموجِد بوحدة الوجود، وتوحيدُ الذّات والصِّفات والأفعال بتوحيد الوجود، وفيضانُ جوده بفيضان وجوده، فوحّدوا
(1)
الوجود وزعموا أنّه هو المعبود، فصاروا عبيدَ الوجود المطلق الذي لا وجودَ له في غير الأذهان، وعبيدَ الموجودات الخارجة في الأعيان، فإنّ وجودها عندهم هو المسمّى بالله. تعالى الله عن هذا الإلحاد الذي {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90]. وسبحانَ من هو فوق سماواته على عرشه بائنٌ من خلقه بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
أين حقيقة المخلوق من الماء المَهِين من ذات ربِّ العالمين؟ أين المكوَّن من ترابٍ من ربِّ الأرباب؟ أين الفقير بالذّات إلى الغنيِّ بالذّات؟ أين وجود من يضمحلُّ وجوده ويفوت إلى حقيقة وجود الحيِّ الذي لا يموت؟ {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22 - 24].
* * * *
(1)
ش، د:«فوجدوا» .
فصل
قال صاحب «المنازل»
(1)
: (باب التّمكُّن. قال الله تعالى: {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60]).
وجه استدلاله بالآية في غاية الظُّهور، وهو أنّ المتمكِّن لا يبالي بكثرة المُشْغِلات، ولا بمخالطة أصحاب الغفلات، ولا بمعاشرة أهل البطالات، بل قد تمكَّنَ بصبره ويقينه عن استفزازهم إيّاه واستخفافِهم له. ولهذا قال تعالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الروم: 60]. فمن وَفَّى الصّبرَ حقَّه، وتيقّن أنّ وعد الله حقٌّ، لم يستفزَّه المبطلون، ولم يستخفَّه الذين لا يوقنون. ومتى ضعُفَ صبره أو يقينه أو كلاهما استفزَّه هؤلاء واستخفّه هؤلاء، فجذبوه إليهم بحسب ضعف قوّة صبره ويقينه، فكلَّما ضعُفَ ذلك منه قوي جذْبُهم له، وكلّما قوي صبره ويقينه قوِيَ انجذابُه منهم وجذْبُه لهم.
فصل
قال الشيخ
(2)
: (التّمكُّن فوق الطُّمأنينة، وهو الإشارة إلى غاية الاستقرار).
التّمكُّن هو القدرة على التّصرُّف في الفعل والتّرك، وتُسمَّى مكانةً أيضًا، قال تعالى:{(38) قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ} [الزمر: 39].
(1)
(ص 90).
(2)
«المنازل» (ص 90).