الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفنى عند الشُّهود، وليس المراد بفنائها عدمُها من الوجود العينيِّ، بل عدمها من الوجود الذِّهنيِّ العلميِّ، هذا مرادهم بقولهم: فنِي من لم يكن، وبقِيَ من لم يزل
(1)
.
وقد يريدون به معنًى آخر، وهو: اضمحلال الوجود المحدَث الحاصل بين عدمين، وتلاشيه في الوجود الذي لم يزل ولا يزال.
وللملحد هاهنا مجالٌ يجول فيه
(2)
، ويقول: إنّ الوجود المحدث لم يكن له حقيقةٌ، وإنّ الوجود القديم الدّائم وحده هو الثّابت، ولا وجود لغيره، لا في ذهنٍ ولا في خارجٍ، وإنّما هو وجودٌ فائضٌ على الدّوام على ماهيّاتٍ معدومةٍ، فتكتسي بعين وجوده بحسب استعداداتها.
والمقصود شرح كلام الشّيخ. والمراد برعونة الرّسم هاهنا: بقيّةٌ تبقى من صاحب الشُّهود، لا يدركها لضعفها وقلّتها، واشتغالِه بنور الكشف عن ظلمتها، فهو لا يُحِسُّ بها.
فصل
قال
(3)
:
(الدّرجة الثّالثة: استغراق الشّواهد في الجمع
، وهذا رجلٌ شمِلَتْه
(1)
انظر نقد هذا الكلام في «منهاج السنة» (5/ 371 وما بعدها)، و «مجموع الفتاوى» (10/ 242).
(2)
ليس المراد بـ «الملحد» هنا التلمساني كما قد يتبادر من اللفظ، فإن هذا الكلام لم يرد في شرحه، بل الذي فيه (ص 497) ما نقله المؤلف في الفقرة الآتية من شرح مراد صاحب «المنازل» برعونة الرسم.
(3)
«المنازل» (ص 89).
أنوار الأوّليّة، ففتح عينَه في مطالعة الأزليّة، فتخلَّصَ من الهِمَم الدَّنيّة).
إنّما كان هذا الاستغراق عنده أكملَ ممّا قبله؛ لأنّ الأوّل استغراقٌ كاشفٌ في كشفٍ، وهو متضمِّنٌ لتفرقةٍ، وهذا استغراقٌ عن شهود كشفه في الجمع
(1)
، فتمكَّنَ هذا في حال جمْعِ همَّته مع الحقِّ، حتّى غاب عن إدراك شهوده وذكْرِ رسومه، لِما توالى عليه من الأنوار التي خصَّه الحقُّ بها في الأزل، وهي أنوار كشف اسمه الأوّل، ففتح عينَ بصيرته في مطالعة الاختصاصات الأزليّة، فتخلَّص بذلك من الهمم الدَّنيّة المنقسمة بين تغييرِ مقسومٍ، أو تقريبِ مضمونٍ، أو تعجيلِ مؤخَّرٍ، أو تأخيرِ سابقٍ، أو نحو ذلك.
وقد يراد بالهمم الدّنيّة تعلُّقها بما سوى الحقِّ سبحانه وما كان له، وعلى هذا فاستغرقت شواهده في جمع الحكم وشموله.
وقد يُراد به معنًى آخر، وهو استغراق شواهد الأسماء والصِّفات في الذّات الجامعة لها، فإنّ الذّات جامعةٌ لأسمائها وصفاتها، فإذا استغرق العبد في حضرة الجمع غابت الشّواهد في تلك الحضرة.
وأكملُ من ذلك: أن يشهد كثرةً في وحدةٍ، ووحدةً في كثرةٍ، بمعنى: أنه يشهد كثرة الأسماء والصِّفات في الذّات الواحدة، ووحدة الذّات مع كثرة أسمائها وصفاتها.
وقوله: (ففتح عينه في مطالعة الأزليّة)، أي: نظر بالله لا بنفسه، واستمدّ من فضله وتوفيقه لا من معرفته وتحقيقه، فشاهدَ سبْقَ الله سبحانه لكلِّ شيءٍ
(1)
د: «حال الجمع» .
وأوّليَّتَه قبل كلِّ شيءٍ، فتخلَّصَ من هِمم المخلوقين المتعلِّقة بالأدنى، وصارت له همّةٌ عاليةٌ متعلِّقةٌ بربِّه الأعلى، تَسْرَح في رياض الأنس به ومعرفته، ثمّ تأوي إلى مقامها تحت عرشه ساجدةً له، خاضعةً لعظمته، متذلِّلةً لعزّته، لا تَبتغي عنه حِوَلًا، ولا تروم به بدلًا.
* * * *
فصل
قال صاحب «المنازل»
(1)
: (باب الغَيبة. قال الله عز وجل: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84]).
وجه استدلاله بإشارة الآية أنّ يعقوب صلى الله عليه وسلم لمّا ابتُلي قلبه بحبِّ يوسف عليه الصلاة والسلام وذِكْرِه أعرضَ عن ذكر أخيه، مع قرب عهده بمصيبة فراقه، فلم يذكره مع ذلك ولم يتأسّف عليه غيبةً عنه بمحبّة يوسف واستيلائه على قلبه. ولو استدلّ بقوله تعالى:{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 31] لكان دليلًا أيضًا، فإنّ مشاهدته في تلك الحال غيَّبَ عنهنَّ السّكاكين وما تُقطَع بهنّ، حتّى قطَّعن أيديهنّ ولا يشعرن، وذلك من قوّة الغَيبة.
قال الشيخ
(2)
: (الغَيبة
(3)
التي يُشار إليها في هذا الباب على ثلاث درجاتٍ؛ الأولى: غَيبة المريد في تخلُّص القصد عن أيدي العلائق، ودَرَكِ العوائق، لالتماسِ الحقائق).
يريد غَيبة المريد عن بلده ووطنه وعاداته، في محلِّ تخليص القصد وتصحيحه، ليقطع بذلك العلائق، وهي ما يتعلّق بقلبه وقالبه وحسِّه من المألوفات، ويسبق العوائقَ حتّى لا تَلحقَه ولا تُدرِكه.
وقوله: (لالتماس الحقائق) متعلِّقٌ بقوله: (غيبة المريد)، أي: هذه