المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الثالثة: صحة السلوك - مدارج السالكين - ط عطاءات العلم - جـ ٤

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ الدّرجة الأولى: سرورُ ذوقٍ ذهبَ بثلاثة أحزانٍ:

- ‌الحزن الأوّل: حزنٌ أورثَه خوفُ الانقطاع

- ‌الحزن الثّالث: (حزنٌ بعثَتْه وحشةُ التّفرُّق)

- ‌(الدّرجة الثّانية: سرورُ شهودٍ، كشَفَ حجابَ العلم

- ‌(الدّرجة الثّالثة: سرورُ سماع الإجابة

- ‌ منزلة(1)السِّرِّ

- ‌ الثانية: صفاء القصد

- ‌ الثّالثة: صحّة السُّلوك

- ‌الطّبقة الثّالثة: طائفةٌ أسرَهم الحقُّ عنهم

- ‌النّفَس الثاني: نفَسٌ في حين التجلِّي

- ‌النّفَس الثّالث: نفَسٌ مطهّرٌ بماء القدس

- ‌ الدّرجة الأولى: الغربة عن الأوطان

- ‌(الدّرجة الثّانية: غُربة الحال

- ‌(الدّرجة الثّالثة: غُربة الهمّة

- ‌ الدّرجة الأولى: استغراق العلم في عين الحال

- ‌(الدّرجة الثّانية: استغراق الإشارة في الكشف

- ‌(الدّرجة الثّالثة: استغراق الشّواهد في الجمع

- ‌(الدّرجة الثّانية:

- ‌(الدّرجة الثّالثة:

- ‌ الدّرجة الأولى: تمكُّن المريد

- ‌(الدّرجة الثّانية: تمكُّن السّالك

- ‌(الدّرجة الثّالثة: تمكُّن العارف

- ‌ الدّرجة الأولى: مكاشفةٌ تدلُّ على التّحقيق الصّحيح

- ‌ الدّرجة الأولى: مشاهدة معرفةٍ

- ‌(الدرجة الثانية: مشاهدة معاينةٍ

- ‌(الدّرجة الثّالثة: مشاهدة جَمْعٍ

- ‌ الحياة الأولى: حياة العلم من موت الجهل

- ‌المرتبة الأولى: حياة(2)الأرض بالنّبات

- ‌المرتبة الثانية: حياة النُّموِّ والاغتذاء

- ‌المرتبة السّادسة: حياة الإرادة والهمّة والمحبة

- ‌ سببُ تخلُّفِ النّفس عن طلب هذه الحياة

- ‌(الحياة الثّانية: حياة الجمع من موت التّفرقة

- ‌(الحياة الثّالثة: حياة الوجود. وهي حياةٌ بالحقِّ

- ‌(الدرجة الثانية: اتِّصال الشُّهود

- ‌(الدرجة الثالثة: اتِّصال الوجود

- ‌(الثاني: انفصالٌ عن رؤية الانفصال

- ‌(الثالث: انفصالٌ عن اتِّصال

- ‌ الدرجة الأولى: معرفة الصِّفات والنُّعوت

- ‌ الفرق بين الصِّفة والنّعت

- ‌ كلُّ شركٍ في العالم فأصله التعطيل

- ‌القاعدة الثالثة: تعريف الحال بعد الوصول

- ‌الثالث: عدم تشبيهها بما للمخلوق

- ‌(الدرجة الثانية: معرفة الذات، مع إسقاط التفريق بين الصِّفات والذات

- ‌(الدرجة الثالثة: معرفةٌ مستغرقةٌ في محض التعريف

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌(الدّرجة الثّالثة: أن لا يُناسِمَ رسمُك سبْقَه)

- ‌الثاني: وجود الحقِّ وجود عينٍ»

- ‌الثالث: وجود مقام اضمحلال رسمِ الوجود فيه

- ‌(الدّرجة الأولى: تجريد عين الكشف عن كسب اليقين)

- ‌(الدرجة الثانية: تجريد عين الجمع عن درك العلم)

- ‌(الدرجة الثالثة: تجريد الخلاص من شهود التجريد)

- ‌ تفريد الإشارة بالحقِّ

- ‌«الجمع» ينقسم إلى صحيح وباطل

- ‌المسألة الثّانية: قوله: (ويوجد بتبصير الحقِّ)

- ‌المسألة الثّالثة: قوله: (وينمو على مشاهدة الشّواهد)

- ‌الالتفاتُ إلى الأسباب ضربان: أحدهما شركٌ، والآخر عبوديّةٌ وتوحيدٌ

- ‌فصلقوله: (والصُّعود عن منازعات العقول)

الفصل: ‌ الثالثة: صحة السلوك

اندراج حظِّ العبد

(1)

في حقِّ الرّبِّ تعالى، بحيث يصير حظُّه هو نفس حقِّ ربِّه عليه. ولا يخفى على البصير الصّادق علوُّ هذه المنزلة، وفضلها على منزلة الفناء، وبالله التّوفيق.

العلامة‌

‌ الثّالثة: صحّة السُّلوك

وهو سلامته من الآفات والعوائق والقواطع، وهو إنّما يصحُّ بثلاثة أشياء:

أحدها: أن يكون على الدّربِ الأعظم

(2)

، النّبويِّ المحمّديِّ، لا على الجوادِّ الوضعيّة، والرُّسوم الاصطلاحيّة، وإن زخرفوا لها القولَ ودقّقوا لها الإشارة، وحسّنوا لها العبارة، فتلك من بقايا النُّفوس عليهم وهم لا يشعرون.

الثّاني: أن لا يجيب على الطّريق داعي البطالة والوقوف والدّعة.

الثّالث: أن يكون في سلوكه ناظرًا إلى المقصود. وقد تقدّم بيان ذلك.

فبهذه الثّلاثة يصحُّ السُّلوك، والعبارةُ الجامعة لها: أن يكون واحدًا لواحدٍ في طريقٍ واحدٍ، فلا ينقسم طلبه ولا مطلوبه، ولا تتلوّن طريقه

(3)

.

وأمّا الثّلاثة السّلبيّة التي ذكرها، فأوُّلها قوله:(ولم يوقَف لهم على رسمٍ) يريد: أنّهم قد انمحت رسومُهم، فلم يبق منها ما يقف عليه واقف.

وهذا كلامٌ يحتاج إلى شرحٍ؛ فإنّ الرّسم الظّاهر المعاين لا يمحى

(4)

ما

(1)

ر: «العبودية» .

(2)

بعده في ط: «الدرب» .

(3)

ر، ط:«يتلون مطلوبه» .

(4)

ت: «ينمحي» .

ص: 31

دام في هذا العالم، ولا يريدون محو هذا الرّسم

(1)

، وهم مختلفون فيما يعبّر بالرّسم عنه.

فطائفةٌ قالت: الرّسم ما سوى الحقِّ سبحانه، ومحوه هو: ذهاب الوقوف معه والنّظر إليه والرِّضا به والتّعلُّق به.

ومنهم من يريد بالرّسوم: الظّواهر والعلامات.

وهذا أقرب إلى وضع اللُّغة، فإنّ رسمَ الدّار هو الأثر الباقي منها يدلُّ عليها، ولهذا يسمُّون الفقهاءَ وأهلَ الأثر ونحوهم: علماءَ الرُّسوم؛ لأنّهم لم يَصِلوا إلى الحقائق، بل اشتغلوا عن معرفتها بالظّواهر والأدلّة.

فهذه الطّائفة التي أشار إليها لا رسم لهم يقفون عنده، بل قد اشتغلوا بالحقائق والمعاني عن الرُّسوم والظّواهر.

وللملحد

(2)

هاهنا مجالٌ؛ إذ عنده أنّ العبادات والأوامر والأوراد كلّها رسومٌ، وأنّ العباد وقفوا على الرُّسوم، ووقفوا هُم

(3)

على الحقائق.

ولعَمْر الله إنّها لرسومٌ إلهيّةٌ أتت على أيدي رسله، ورَسَم لهم أن لا يتعدّوها، ولا يقصِّروا عنها، فالرُّسل قعدوا على هذه الرُّسوم يدعون الخلقَ إليها، ويمنعونهم من تجاوزها، ليصلوا إلى حقائقها ومقاصدها، فعطّلت الملاحدةُ تلك الرُّسوم، وقالوا: إنّما المراد الحقائق، ففاتهم الرُّسوم

(1)

د: «الرسوم» .

(2)

يعني العفيف التلمساني في شرحه لـ «منازل السائرين» (ص 474).

(3)

ش: «ووقفوهم» .

ص: 32

والحقائق معًا. ووصلوا ولكن إلى الحقائق الإلحاديّة الكفريّة

(1)

{وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 24]، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43].

فأحسن ما حُمِل عليه قولُ الشّيخ رحمه الله: (ولم يقفوا مع رسمٍ): أنّهم لم ينقطعوا بشيءٍ سوى الله عنه، فكلُّ ما قَطَع عن الله لم يقفوا معه، وما أوصلهم إلى الله لم يفارقوه، وكان وقوفهم معه.

وقد يريد بقوله: (لم يوقَف لهم على رسمٍ) أنّهم لِعُلوِّ هممهم سبقوا النّاس في السّير، ولم يقفوا معهم، فهم المفرِّدون السّابقون، فلسَبْقِهم لم يوقَف لهم على أثرٍ في الطّريق، ولم يعلم المتأخِّر عنهم أين سلكوا! والمشمِّر بعدهم قد يرى آثار

(2)

نيرانهم على بُعْدٍ عظيمٍ، كما يرى الكوكب

(3)

، ويستخبر مَن رآهم؟ وأينَ رآهم

(4)

؟ فحاله كما قيل

(5)

:

أسائلُ عنكم كلَّ غادٍ ورائحٍ

وأومي إلى أوطانكم وأسلِّم

العلامة الثّانية: قوله: (ولم يُنسبوا إلى اسمٍ) أي: لم يشتهروا باسمٍ

(6)

عند النّاس من الأسماء التي صارت أعلامًا لأهل الطّريق.

(1)

ت، ر:«ولكن» . ت: «الاتحادية» بدلامن الإلحادية. د، ت:«والكفرية» .

(2)

د: «أثر» .

(3)

د، ر:«الكواكب» .

(4)

«وأين رآهم» من ر، ت.

(5)

البيت للمؤلف ضمن قصيدته الميمية (ص 64 ــ ضمن مجموع أربح البضاعة).

(6)

ر، ط زيادة:«يعرفون به» .

ص: 33

وأيضًا، فإنّهم لم يتقيّدوا بعملٍ واحدٍ يجري عليهم اسمُه، فيُعرفون به دون غيره من الأعمال. فإنّ هذا آفةٌ في العبوديّة، وهي عبوديّةٌ مقيّدةٌ، وأمّا العبوديّة المطلقة فلا يُعرف صاحبها باسمٍ معيّنٍ من معاني أسمائها، فإنّه مجيبٌ لداعيها على اختلاف أنواعها، فله مع كلِّ أهل عبوديّةٍ نصيبٌ يضرب معهم بسهمٍ، فلا يتقيّد برسمٍ ولا إشارةٍ، ولا اسمٍ ولا زِيٍّ، ولا طريقٍ وضعيٍّ اصطلاحيٍّ.

بل إن سُئل عن شيخه؟ قال: الرّسول، وعن طريقِه؟ قال: الاتِّباع، وعن خِرْقَتِه؟ قال: لباس التّقوى، وعن مذهبه؟ قال: تحكيم السُّنّة، وعن مقصوده ومطلبه؟ قال:{وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، وعن رِباطه وخانكاته؟ قال:{بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36]، وعن نسبه؟ قال:

أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواه

إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم

(1)

وعن مأكله ومشربه؟ قال: ما لك ولها؟ معها حِذاؤها وسِقاؤها تَرِد الماءَ وترعى الشّجرَ حتّى تلقى ربّها

(2)

.

واحسرتاه تمضّى

(3)

العمرُ وانصرمت

ساعاتُه بين ذلِّ العجز والكسل

والقوم قد أخذوا درب النّجاة وقد

ساروا إلى المطلب الأعلى على مَهلِ

(4)

(1)

اختلف في نسبة البيت، فنسبه في «الكامل» (3/ 1097) و «الشعر والشعراء» (1/ 523) إلى نهار بن توسعة، ونُسِب إلى سلمان الفارسي وإلى قُراد بن أقرم.

(2)

مقتبس من حديث ضالة الإبل والغنم في «الصحيحين» .

(3)

ت، ر:«تقضى» .

(4)

لم أجد البيتين، ولعلهما للمؤلف.

ص: 34

العلامة الثالثة: قوله: (ولم يُشِر إليهم بالأصابع) يريد: أنّهم لخفائهم عن النّاس لم يُعرفوا بينهم حتّى يشيروا إليهم بالأصابع.

وفي الحديث المعروف عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لكلِّ عاملٍ شرّةٌ ولكلِّ شرّةٍ فترةٌ. فإنْ

(1)

صاحِبُها سدّدَ وقارَبَ فارجوا له، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدُّوه شيئًا»

(2)

. فسئل راوي الحديث ما معنى: «أشير إليه بالأصابع» فقال: هو المبتدع في دينه، الفاجر في دنياه.

وهذا موضعٌ يحتاج إلى تفصيلٍ؛ فإنّ النّاس إنّما يشيرون بالأصابع إلى من يأتيهم بشيءٍ، فبعضهم يعرفه وبعضهم لا يعرفه، فإذا مرّ أشار من يعرفه إلى من لا يعرفه: هذا فلانٌ، وهذا قد يكون ذمًّا له، وقد يكون مدحًا، فمن كان معروفًا باجتهادٍ وعبادةٍ وزهدٍ وانقطاعٍ عن الخلق، ثمّ انحطّ عن ذلك، وعاد إلى حال أهل الدُّنيا والشّهوات= إذا مرّ بالنّاس أشاروا إليه، وقالوا: هذا كان على طريق كذا وكذا، فُتِنَ وانقلب، فهو الذي

(3)

قال في الحديث: «فلا تعدُّوه شيئًا» لأنّه انقلب على عقبيه، ورجع بعد الشِّرّة إلى أسوأ فترةٍ.

وقد يكون الرّجل منهمكًا في الدُّنيا ولذّاتها، ثمّ يوقظه الله لآخرته، فيترك ما هو فيه، ويُقبِل على شأنه، فإذا مرّ أشار النّاس إليه بالأصابع، وقالوا: هذا كان مفتونًا ثمّ تداركه الله. فهذا كانت شرّته في المعاصي ثمّ صارت في الطّاعات. والأوّل كانت في الطّاعات ثمّ فترت وعاد

(4)

إلى البدعة والفجور.

(1)

في هامش ش: «ظ: فإن كان» .

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

ت، ر، ط:«ثم فتن .. فهذا الذي .. » .

(4)

ر، ط:«وعاد» .

ص: 35

وبالجملة فالإشارة بالأصابع إلى الرّجل: علامة خيرٍ وشرٍّ، ومورد هلَكَة ونجاة

(1)

، والله الموفِّق.

قوله: (أولئك ذخائر الله حيث كانوا). ذخائرُ الملك: ما يخبِّئه عنده، ويدّخِره

(2)

لمهمّاته ولا يبذله لكلِّ أحدٍ، وكذلك ذخيرة الرّجل: ما يَدّخِره لحوائجه ومهمّاته.

وهؤلاء لمّا كانوا مستورين عن النّاس بأسبابهم، غيرَ مشارٍ إليهم ولا متميِّزين برسمٍ دون النّاس، ولا منتسبين إلى اسم طريقٍ أو مذهبٍ أو شيخٍ أو زيٍّ= كانوا بمنزلة الذّخائر المخبوءة، وهؤلاء أبعد الخلق عن الآفات، فإنّ الآفات كلّها تحت الرُّسوم والتّقيُّد

(3)

بها، ولزوم الطُّرق الاصطلاحيّة، والأوضاع المتداولة الحادثة؛ هذه هي التي قطعت أكثر الخلق عن الله، وهم لا يشعرون.

والعجب أنّ أهلها هم المعروفون بالطّلب والإرادة والمسير إلى الله

(4)

. وهم ــ إلّا الواحد بعد الواحد ــ مقطوعون عن الله بتلك

(5)

الرُّسوم والقيود.

وقد سُئل بعض الأئمّة عن السُّنّة

(6)

؟ فقال: ما لا اسم له غير

(7)

السُّنّة،

(1)

ر، ت:«هلاكه ونجاته» .

(2)

كذا في النسخ الأربع، ووقع في م 1، ط:«يذخره» بالذال، وكذا في الموضع بعدها.

(3)

ت: «والتعبد» .

(4)

ر، ط:«والسير» ، وقوله:«وهم لا يشعرون .. » إلى هنا ساقط من ت.

(5)

د: «إلى» ، و «والقيود» ساقطة من ر.

(6)

هو الإمام مالك بن أنس، ذكر الخبر ابنُ عبدالبر في «الانتقاء» (ص 35)، وعياض في «ترتيب المدارك»:(1/ 172).

(7)

ت، ر، ط «سوى» . وغير محررة في ش، د ويشبه رسمها «عن» ، والظاهر ما أثبت.

ص: 36

يعني: أنّ أهل السُّنّة ليس لهم اسمٌ يُنسبَون

(1)

إليه سواها.

فمن النّاس مَن يتقيّد بلباسٍ لا يلبس غيرَه، أو بالجلوس في مكانٍ لا يجلس في

(2)

غيره، أو مِشيةٍ لا يمشي غيرها، أو زيٍّ وهيئةٍ لا يخرج عنهما

(3)

، أو عبادةٍ معيّنةٍ لا يتعبّد بغيرها وإن كانت أعلى منها، أو شيخٍ معيّنٍ لا يلتفتُ إلى غيره وإن كان أقرب إلى الله ورسوله منه= وهؤلاء كلُّهم محجوبون، وعن الظّفَر بالمطلوب الأعلى مصدودون، قد قيّدتهم العوائدُ والرُّسومُ والأوضاعُ والاصطلاحاتُ عن تجريد المتابعة، فأصبحوا عنها

(4)

بمعزلٍ، ومنزلتهم منها أبعد منزلٍ، فترى أحدَهم يتعبّد بالرِّياضة والخَلوة وتفريغ القلب، ويَعدُّ العلمَ قاطعًا له عن الطّريق، فإذا ذُكِر له الجهاد كان أشدّ نفورًا عنه، فإذا ذُكِر له الموالاة في الله والمعاداة فيه، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر= عدّ ذلك فضولًا وشرًّا، وإذا رأوا بينهم من يقوم بذلك أخرجوه من بينهم، وعدُّوه غيرًا عليهم. فهؤلاء أبعد النّاس عن الله، وإن كانوا أكثر إشارةً إليه

(5)

.

فصل

قال

(6)

: (الطبقة الثانية: طائفةٌ أشاروا عن

(7)

منزلٍ وهم في غيره، وورَّوا

(1)

د، ت:«ينتسبون» .

(2)

من ت، ر، وهامش ش، وليس عليها علامة اللحق.

(3)

د، ر:«عنها» .

(4)

ر، ط:«فأضحوا» ، و ش، د:«عنهما» .

(5)

ر، ط:« .. إشارة، والله أعلم» .

(6)

«المنازل» (ص 85 - 86). وفي ت: «الوظيفة الثانية» .

(7)

كذا في المتن هنا وفي «شرح المنازل» للتلمساني (ص 475)، وفي الشرح الآتي عند المؤلف وعند التلمساني:«إلى» ، وهي يتعدَّى بها الإشارة.

ص: 37

بأمرٍ وهم لغيره، ونادوا على شأنٍ وهم على غيره، فهم

(1)

بين غيرةٍ عليهم تستُرهم، وأدبٍ فيهم يصونهم، وظَرفٍ يهذِّبهم).

أهلُ هذه الطبقة استسرُّوا اختيارًا وإرادةً لذلك، صيانةً لأحوالهم، وكمالًا في تمكُّنهم، فمقاماتهم عاليةٌ لا ترمقها العيون ولا تخالجها

(2)

الظُّنون، يشيرون

(3)

إلى ما يعرفه المخاطَب من مقامات المريدين السّالكين، وبدايات السُّلوك، ويخفون ما مكّنهم فيه الحقُّ تعالى من أحوال المحبّة ومواجيدها، وآثار المعرفة وتوحيدها. فهذه هي التّورية التي ذكرها.

فكأنّهم يُظهرون للمخاطَب أنَّهم من أهل البدايات، وهم في أعلى المقامات، يتكلّمون معهم في البداية والإرادة والسُّلوك، ومقامهم فوق ذلك، وهم محقُّون في الحالين

(4)

، لكنّهم يسترون أشرف أحوالهم ومقاماتهم عن النّاس.

وبالجملة: فهم مع النّاس بظواهرهم، يخاطبونهم على قدر عقولهم، ولا يخاطبونهم بما لا تصل إليه عقولهم، فيُنْكَر

(5)

عليهم، فيحسبهم المخاطَب مثله، فالنّاس عندهم وليسوا هم عند أحدٍ.

(1)

ليست في «المنازل» .

(2)

ر، ط:«تخالطها» .

(3)

ش، ر:«يسيرون» .

(4)

ت، ر، ط:«الحالتين» .

(5)

ط: «فينكرون» .

ص: 38

قوله: (أشاروا إلى منزلٍ، وهم في غيره) يعني: يشيرون إلى منزل التّوبة والمحاسبة، وهم في منزل المحبّة والوَجْد والذّوق ونحوها.

وقد يريد: أنّهم يشيرون إلى أنّهم عامّةٌ وهم خاصّة الخاصّة، وإلى أنّهم جهّالٌ وهم العارفون بالله، وأنّهم مسيئون وهم المحسنون

(1)

. وعلى هذا فيكونون من الطّائفة المَلامَتيّة، الذين يُظهرون ما لا يُمدَحون عليه، ويُسرُّون ما يَحمدهم الله عليه، عكس المرائين المنافقين.

وهؤلاء طائفةٌ معروفةٌ، لهم طريقٌ معروفةٌ، تسمّى طريق أهل الملامة، وتسمّى

(2)

الطّائفة الملامتيّة

(3)

، ويزعمون أنّهم يحتملون ملامَ النّاسِ لهم على ما يظهرونه من الأعمال، ليخلص لهم ما يبطنونه من الأحوال. ويحتجُّون بقوله تعالى:{دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54].

فهم عاملون على إسقاط جاههم ومنزلتهم في قلوب النّاس، لمّا رأوا المغترِّين ــ المغترّ بهم ــ من المنتسبين إلى السُّلوك يعملون على تربية

(4)

نفوسهم، وتوفير جاههم في قلوب النّاس، فعاكسهم هؤلاء وأظهروا بطالةً وأبطنوا أعمالًا، وكتموا أحوالهم جهدهم، وينشدون في هذه الحال

(5)

:

(1)

ط، ر:«محسنون» .

(2)

ر، ط:«وهم» .

(3)

ينظر ما سيأتي (4/ 41)، و «إغاثة اللهفان»:(1/ 206)، و «الاستقامة»:(1/ 264).

(4)

ط: «تزكية» .

(5)

البيتان لأبي فراس الحمداني «ديوانه» (ص 16).

وفي ر، ط زيادة بيت ثالث، وأنشده المؤلف في «الرسالة التبوكية» (ص 92) وهو للمتنبي:

إذا صحّ منك الودُّ يا غاية المنى

فكلُّ الذي فوق التُّراب تراب

ص: 39

فليتك تحلو والحياةُ مريرةٌ

وليتك ترضى والأنامُ غِضابُ

وليتَ الذي بيني وبينَك عامرٌ

وبيني وبين العالمين خرابُ

وقال الإمام أحمد

(1)

: حدّثنا عبد الرّزّاق، أنا سفيان، عن منصورٍ، عن هلال بن يسافٍ قال: كان عيسى عليه الصلاة والسلام يقول: إذا كان

(2)

صوم أحدكم فليدهن لحيتَه وليمسح شفتَيه، حتّى يخرج إلى النّاس، فيقولوا

(3)

: ليس بصائمٍ.

ولهذا قال بعضهم: التّصوُّف ترك الدّعاوي، وكتمان المعاني

(4)

.

وسئل الحارث بن أسدٍ عن علامات الصّادق؟ فقال: أن لا يبالي أن يَخرجَ كلّ قدْرٍ له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه، ولا يحبُّ اطِّلاع النّاس على اليسير من عمله

(5)

.

وهذا يُحمد في حالٍ ويذمُّ في حالٍ، ويَحسُن مِن رجلٍ ويَقبُح مِن آخر،

(1)

في «الزهد» (ص 57). وأخرجه البيهقي في «الشعب» : (9/ 194) من طريق أخرى عن هلال بن يساف، بزيادة في آخره.

(2)

ط: «كان يوم» .

(3)

ر، ط:«فيقولون» .

(4)

ينظر «مجموع الفتاوى» : (11/ 16)، و «شرح الطريقة المحمدية»:(2/ 43) للخادمي.

(5)

ذكره في «الرسالة القشيرية» : (ص 486).

ص: 40

فيُحمَد إذا أظهر ما يجوز إظهارُه، ولا نقص عليه فيه، ولا ذمّ من الله ورسوله؛ ليكتم به حالَه وعملَه، كما إذا أظهر الغِنى وكتمَ الفاقَة

(1)

، وأظهر الصِّحّة وكتم المرض، وأظهر النِّعمة وكتم البليّة.

فهذا كلُّه من كنوز السِّتر

(2)

، وله في القلب تأثيرٌ عجيبٌ يعرفه من ذاقه. وشكا رجلٌ إلى الأحنف بن قيسٍ شَكاةً فقال: يا ابن أخي لقد ذهب ضوء عيني

(3)

من عشرين سنةً فما أخبرتُ به أحدًا

(4)

.

وأمّا الحال التي يُذمُّ فيها: فأنْ يُظهر ما لا يجوز إظهاره، ليسيء النّاسُ به الظّنَّ، فلا يعظِّمونه، كما يُذكر عن بعضهم: أنّه دخل الحمّام، ثمّ خرج وسرق ثياب رجلٍ، ومشى رويدًا حتّى أدركوه، فأخذوها منه وسبُّوه. فهذا حرامٌ لا يحلُّ تعاطيه، ويقبح أيضًا من المتبوع المقتدى به ذلك، بل وما

(5)

هو دونه؛ لأنّه يغرُّ النّاسَ ويوقعهم في التّأسِّي بما يُظهره

(6)

.

فالملامتيَّة نوعان: ممدوحون أبرارٌ، ومذمومون جهّالٌ وإن كانوا في خفارة صدقهم.

(1)

ر، ط:«الفقر والفاقة» .

(2)

د، ت:«البر» .

(3)

ر، ط:«بصري» .

(4)

خبره في «الزهد» لأحمد (ص 288) و «شعب الإيمان» (9583) و «صفة الصفوة» : (3/ 200). ومثله خبر الإمام إبراهيم الحربي ينظر «تاريخ بغداد» : (6/ 31) و «معجم الأدباء» : (1/ 42).

(5)

ت: «ومن» .

(6)

ط زيادة: «من سوء» .

ص: 41

فالأول: الذين لا يبالون بلوم اللوّام في ذات الله، والقيام بأمره، والدّعوة إليه، وهم الذين قال الله فيهم:{الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54] فأحبُّ النّاس إلى الله مَن لا تأخذُه في الله لومة لائمٍ، وكان عمر بن الخطّاب لا يأخذه في الله لومة لائمٍ

(1)

.

والنوع الثاني المذموم: هو الذي يُظهِر ما يُلام عليه شرعًا من محرّمٍ أو مكروهٍ، ليكتم بذلك حالَه، وقد قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسَه»

(2)

.

فلنرجع إلى شرح كلام الشيخ.

(1)

من ت، ر، ط. وقد أخرج أحمد في «المسند» (859) والحاكم:(3/ 70) وغيرهما عن عليّ قال: قيل يا رسول الله من نؤمّر بعد؟ قال: إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أمينًا

وإن تؤمروا عمر تجدوه قويًّا أمينًا، لا يخاف في الله لومة لائمة

». وصححه الحاكم، وهو ضعيف من وجوه عدة، ينظر «العلل المتناهية»:(1/ 253 - 254). وله شاهد من حديث حذيفة عند الحاكم (3/ 70)، وجاء وصفه بذلك من كلام الحسن البصري عند ابن أبي شيبة (32673) وعن كعب الأحبار عند الطبراني في «الكبير» (1/ 84). وروي عنه قولُه:«من ولي من أمر المسلمين شيئًا فلا يخَفْ في الله لومة لائم» ، رواه معمر في «جامعه» (20693) والبيهقي في «الشعب» (7155).

(2)

أخرجه أحمد (23444)، والترمذي (2245)، وابن ماجه (4016)، وغيرهم من طريق علي بن زيد بن جدعان عن الحسن البصري عن جندب عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال الترمذي: حسن غريب. وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، ضعيف الحديث، وقد خولف فرواه غير واحد عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. وسئل عنه أبو حاتم الرازي فقال: منكر. كما في «العلل» (5/ 187). وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه الطبراني في «الكبير» (13507)، و «الأوسط» (5353)، والبزار (3323). وقال العراقي في تخريج «الإحياء»:(1/ 152): إسناده جيد.

ص: 42

فقوله: (أشاروا إلى منزلٍ، وهم في غيره). مثاله: أنّهم يتكلّمون في التّوبة والمحاسبة وهم في منزل المحبّة والفناء.

وقوله: (وورَّوا بأمرٍ، وهم بغيره). التّورية: أن يَذكر لفظًا يَفهم به المخاطَب معنًى وهو يريد غيرَه، مثاله: يقول أحدكم

(1)

: أنا غنيٌّ. فيوهم المخاطَب أنّه غنيٌّ بالشّيء. ومراده غنيٌّ بالله عنه. كما قال

(2)

:

غَنيتُ بلا مالٍ عن النّاس كلِّهم

وإنّ الغنى العالي عن الشّيء لا به

ويقول: ما صحّ لي مقام التّوبة بعدُ. ويريد: ما صحّت لي التّوبة عن رؤية التّوبة، ونحو ذلك.

قوله: (ونادوا على شأنٍ، وهم على غيره) أي: عظّموا شأنًا من شؤون القوم، فيدعوا

(3)

النّاس إليه، وهم في أعلى منه. وهذا قريبٌ ممّا قبله.

قوله: (فهم بين غيرةٍ عليهم تسترهم) أي: يغار الحقُّ سبحانه عليهم، فيسترهم عن الخلق، ويغارون على أحوالهم ومقاماتهم، فيستترون

(4)

عن رؤية الخلق لها، كما قيل

(5)

:

(1)

ر، ط:«أن يقول» ، ر، ت، ط:«أحدهم» .

(2)

نسب في «المستطرف» : (2/ 43) إلى الإمام الشافعي ضمن قصيدة، ونسب إلى القهستاني في «المستطرف»:(1/ 110) و «معجم الأدباء» : (4/ 1680). وذكره المؤلف في «طريق الهجرتين» : (1/ 93)، و «المفتاح»:(1/ 366).

(3)

كذا في ش، د بحذف نون الرفع. وفي ت، ر، ط:«ودعوا» كما في «شرح التلمساني» (ص 476).

(4)

ط: «فيسترون أحوالهم» .

(5)

البيتان في «شرح التلمساني» (ص 476) وصدر البيت الأول فيه:

واسمٌ تألَّف بالخمول صيانةً

ص: 43

ألِفَ الخمولَ صيانةً وتستُّرا

فكأنّما تعريفه أن يُنكرا

وكأنّه كَلِف الفؤاد بنفسه

فحمَتْه غيرتُه عليها أن تُرى

قوله: (وأدبٌ فيهم يصونهم) بهذا يتمُّ أمرهم، وهو أن يقوم بهم أدبٌ يصونهم عن ظنِّ السّوء بهم، ويصونهم عن دناءة الأخلاق والأعمال، فأدبهم صوانٌ على أحوالهم، فهمّته العليّة ترتفع به، وأدبه يرسو به إلى التُّراب، كما قيل

(1)

:

أبلجُ سهلُ الأخلاقٍ ممتنعٌ

يبرزه الدّهر وهو محتجِبُ

(2)

إذا ترقّت به عزائمُه

إلى الثُّريّا رسا به الأدبُ

فأدب المريد والسّالك: صونٌ

(3)

له، وتاجٌ على رأسه.

قوله: (وظَرفٍ يُهَذِّبُهم) التّهذيب: هو التّأديب والتّصفية.

والظّرف في هذه الطّائفة أحلى من كلِّ حلوٍ، وأزين من كلِّ زينٍ، فما قُرِن شيءٌ إلى شيءٍ أحسن من ظَرفٍ إلى صدقٍ وإخلاصٍ، وسرٍّ مع الله وجمعيّةٍ عليه، فإنّ أكثر مَن عُني بهذا الشّأن تضيقُ نفسُه وأخلاقُه عن سوى ما هو بصدده، فتثقُل وطأتُه على أهله وجليسه، ويَضَنّ عليه ببِشْرِه والتّبسُّط إليه ولين الجانب له. ولعَمْر الله إنّه لمعذورٌ، وإن لم يكن في ذلك بمشكورٍ، فإنّ الخلق كلّهم أغيارٌ، إلّا من أعانك على شأنك وساعدك على مطلوبك.

(1)

البيتان في «شرح التلمساني» (ص 477).

(2)

ت، ر، ط:«يحتجب» ، وكذا في مصدر النقل.

(3)

ر، ط:«صوان» .

ص: 44

فإذا تمكّن العبد في حاله، وصار له إقبالة

(1)

على الله وجمعيّة

(2)

عليه ملَكَةً ومقامًا راسخًا= أنِسَ بالخلق وأنِسُوا به، وانبسطَ إليهم وحملهم على ضَلَعهم وبُطء سيرهم

(3)

، وعكفت

(4)

القلوبُ على محبّته للُطْفِه وظَرْفِه، فإنّ النّاس ينفرون من الثقيل

(5)

ولو بلغ في الدِّين ما بلغ!

ولله ما يجلبُ اللُّطفُ والظَّرفُ مِن القلوب، ويدفع عن صاحبه من الشّرِّ، ويسهِّل له ما توعّر على غيره! فليس الثُّقلاء بخواصِّ الأولياء، وما ثَقُل أحدٌ على قلوب الصّادقين المخلصين إلّا من آفةٍ هناك، وإلّا فهذه الطّريق تكسو العبدَ حلاوةً ولطافةً وظَرْفًا، فيُرى الصّادق فيها من أحلى النّاس وألطفهم وأظرفهم، قد زالت عنه ثقالة النّفس وكدورة الطّبع، وصار روحانيًّا سمائيًّا بعد أن كان حيوانيًّا أرضيًّا، فتراه أكرمَ النّاس عشرةً، وألينَهم عَريكةً، وألطفَهم قلبًا وروحًا، وهذه خاصّيّة

(6)

المحبّة، فإنّها

(7)

تلطّف وتظرّف وتنظّف.

ومِن ظَرْف أهل هذه الطّبقة: أن لا يظهر أحدُهم على جليسه بحالٍ ولا مقامٍ، ولا يواجهه إذا لقيه بالحال، بل بلين الجانب، وخفْضِ الجناح،

(1)

ر، ط:«إقبال» .

(2)

د، ت:«وجمعيته» .

(3)

د: «بمسيرهم» .

(4)

ط: «فعكفت» .

(5)

ر، ط:«الكثيف» .

(6)

د، ت:«وهذا» . وط: «خاصة» .

(7)

ش، د:«بأنها» .

ص: 45

وطَلاقة الوجه، فيفرش له بساط الأُنس ويُجلِسه عليه، فهو أحبُّ إليه من الفُرُش الوثيرة.

وسئل محمّد بن عليٍّ القصّاب

(1)

أستاذ الجُنيد عن التّصوُّف؟ فقال: أخلاقٌ كريمةٌ، ظهرت في زمانٍ كريمٍ، من رجلٍ كريم، مع قومٍ كرامٍ

(2)

.

وبالجملة: فهذه الطّريق لا تنافي اللُّطفَ والظَّرْفَ والصَّلَف

(3)

، بل هي أصلف شيءٍ، ولكن هاهنا دقيقةٌ قاطعةٌ وهي: الاسترسال مع هذه الأمور، فإنّها أقطع شيءٍ للمريد والسّالك، فمن استرسل معها قطعَتْه، ومَن عاداها بالكلِّيّة وعّرَت عليه طريقَ سلوكِه، ومَن استعان بها أراحَتْه في طريقه، وأراحت غيرَه به، وبالله التّوفيق.

فصل

وأهل هذه الطّبقة، أثقل شيءٍ عليهم البحث عن ماجَرَيات

(4)

النّاس، وطلب تعرُّف أحوالهم، وأثقل ما على قلوبهم سماعُها، فهم مشغولون عنها بشأنهم، فإذا اشتغلوا بما لا يَعنيهم منها فاتهم ما هو أعظم عنايةً لهم، وإذا عَدّ غيرُهم الاشتغالَ بذلك وسماعَه من باب الظَّرْف والأدب، وستر الأحوال= كان هذا من خُدَع النُّفوس وتلبيسها، فإنّه يحطُّ الهممَ العالية مِن أوْجها إلى

(1)

ت: «ابن القصاب» . ينظر ترجمته في «تاريخ بغداد» : (4/ 103).

(2)

ذكره في «الرسالة القشيرية» (ص 586)، واللمع (ص 45). وقوله «من رجل كريم» سقطت من ط.

(3)

كذا قال المؤلف مع الصَّلَف هو الغلوُّ في الظرف وتجاوز حدِّه إلى الكِبر، ولذا قيل: آفة الظرف: الصَّلَف.

(4)

ش، د:«ما جرايات» .

ص: 46