الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويريد بصحّة الانقطاع: انقطاع قلبه عن الأغيار، وتعلُّقه بالشّواغل الموجبة للأكدار، ومع ذلك فقد حصل لقلبه برقُ كشفٍ يجعل الإيمان له كالعيان، ومع ذلك فحاله مع الله صافٍ من معارضات السُّوء، فلا يُعارِض كشفَه شبهةٌ، ولا همّتَه إرادةٌ، بل هو متمكِّنٌ في انقطاعه وشهوده في حاله.
فصل
قال
(1)
:
(الدّرجة الثّالثة: تمكُّن العارف
، وهو أن يحصل في الحضرة، فوقَ حجب الطّلب، لابسًا نورَ الوجود).
العارف فوق السّالك، ولا يفارقه السُّلوك، لكنّه مع السُّلوك قد ظفِرَ بالمعرفة، فأخذ منها اسمًا أخصَّ من اسم السّالك. وهكذا الشّأن في سائر المقامات والأحوال، فإنّها لا تفارق مَن ترقّى فيها، ولكن إذا ترقّى إلى مقامٍ أخذ اسمه، وكان أحقَّ به مع ثبوت الأوّل له.
والحضرة يراد بها حضرة الجمع، وعندي أنّها حضرة دوام المراقبة والتّمكُّن من مقام الإحسان، فهذه حضرةُ الأنبياء والعارفين.
وأمّا حضرة الجمع التي يشيرون إليها فكلُّ فرقةٍ تشير إلى شيءٍ: فأهل الفناء يريدون حضرة جمع الفناء في توحيد الرُّبوبيّة، وأهلُ الإلحاد يريدون حضرة جمع الوجود في وجودٍ واحدٍ، وطائفةٌ من السّالكين يريدون حضرة جمع الأسماء والصِّفات في ذاتٍ واحدةٍ.
وإذا فُسِّرتْ بحضرة دوام المراقبة والتّمكُّن في مقام الإحسان كان ذلك أحسنَ وأصحَّ، وصاحب هذه الحضرة لدوام مراقبته قد انقشعتْ عنه حُجُبُ
(1)
«المنازل» (ص 91).
الغفلات، ولم تَشْغَلْه عن تلك الحضرة الشّواغلُ المُلْهِيات.
وقوله: (فوق حجب الطّلب)، يعني أنّ العارف قد ارتفع عن مقام الطّلب للمعرفة إلى مقام حصولها، والطّالب للأمر دون الواصل إليه، فالطّالب بعدُ في حجاب طلبه، والعارف قد ارتفع فوق حجاب الطّلب بما شاهده من الحقيقة، فالطّالب شيءٌ، والواجد شيءٌ.
وهذا كلامٌ يحتاج إلى شرحٍ وبيانٍ، فإنّ الطّلب لا يفارق العبدَ ما دامت أحكام العبوديّة تجري عليه، ولكنْ هو منتقلٌ في منازل الطّلب، ينتقل من عبوديّةٍ إلى عبوديّةٍ، والمعبود واحدٌ لا ينتقل عنه، فكيف تجرّد المعرفة عن الطّلب؟
هذا موضعٌ زلَّتْ فيه أقدامٌ، وضلَّتْ فيه أفهامٌ، وظنّ المخدوعون المغرورون أنّهم قد استغْنَوا بالمعرفة عن الطّلب، وأنّ الطّلب وسيلةٌ والمعرفة غايةٌ، ولا معنى للاشتغال بالوسيلة بعد الوصول إلى الغاية. فهؤلاء خرجوا عن الدِّين بالكلِّيّة بعدَ أن شمَّروا في السّير فيها، فردُّوا على أدبارهم، ونَكَصُوا على أعقابهم، ولم يفهموا مراد أهل الاستقامة بذكر حجب الطّلب.
فاعلم أنّ كلّ ما منك حجابٌ على مطلوبك، فإن وقفتَ معه فأنت دون الحجاب، وإن قطعتَه إلى تجريد المطلوب صِرتَ فوق الحجاب. فطلبُك وإرادتك وتوكُّلك وحالك وعملك كلُّه حجابٌ، إن وقفتَ معه أو ركنتَ إليه. وإن جاوزتَه إلى الذي أنت به وله وفي يديه وتحتَ تصرُّفه ومشيئته، وليس لك
(1)
ذرّةٌ واحدةٌ إلّا به ومنه، ولم تقفْ مع طلبك وإرادتك= فقد صرتَ فوق
(1)
ش، د:«ذلك» .
حجاب الطّلب. ففي الحقيقة أنت حجابُ قلبك عن ربِّك، فإذا كشفتَ الحجابَ عن القلب أفضى إلى الرّبِّ، ووصل إلى الحضرة المقدّسة.
وقولنا: (إذا كشفتَ الحجاب) إخبارٌ عن محلِّ العبوديّة، وإلّا فكشفُه ليس بيدك، ولا أنت الكاشف له، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 17].
ومن أعظم الضُّرِّ: حجابُ القلب عن الرّبِّ، وهو أعظم عذابًا من الجحيم، قال تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 15 - 16].
وقوله: (لابسًا نور الوجود)، المعنى الصّحيح من هذه اللّفظة: أنّ نور الوجود هو نورُ ظَفَرِه بإقبال قلبه على الله، وجمْعِ همِّه عليه، وقيامه بمراد ربّه عن مراد نفسه، فصار واجدًا لما أكثر الخلق فاقدٌ له، قد لبس قلبُه نورَ ذلك الوجود، حتّى فاضَ على لسانه وجوارحه وحركاته وسكناته، فإن نطقَ علاه النُّور، وإن سكتَ علاه النُّور.
وأخصُّ من هذا: أنّه قد فاض على قلبه نورُ اليقين بالأسماء والصِّفات، فصار لقلبه من معرفتها والإيمانِ بها وذوقِ حلاوة ذلك نورًا خاصًّا
(1)
غير مجرّد نور العبادة والإرادة والسكون. وإيّاك أن تلتفتَ إلى غير هذا {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النحل: 94].
وليس مراد الشّيخ بالوجود ما يريده المتكلِّمون والفلاسفة، ولا ما
(1)
كذا في النسخ، والوجه الرفع.
يريده
(1)
الاتِّحاديّة الملاحدة، وإنّما مراده به الوجدان بعد الفقد، كما يقال: فلانٌ واجدٌ، وفلانٌ فاقدٌ، والله أعلم.
* * * *
(1)
د: «يريد» .
فصل
قال صاحب «المنازل»
(1)
: (باب المكاشفة. قال الله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10]).
ووجه احتجاجه بإشارة الآية: أنه سبحانه كشف لعبده ما لم يكشفه لغيره، وأطلعَه على ما لم يُطلِع عليه غيره، فحصل لقلبه الكريم من انكشافِ الحقائق التي لا تخطر ببالِ غيره ما خصَّه الله به. والإيحاء هو الإعلام السّريع الخفيُّ، ومنه الوَحَا الوَحَا؛ أي: الإسراعَ الإسراعَ.
وقوله: {مَا أَوْحَى} أبهمه لعِظَمِه، فإنّ الإبهام قد يقع للتّعظيم، ونظيره:{فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78]، أي: أمرٌ عظيمٌ فوق الصِّفة.
قال الشيخ
(2)
: (المكاشفة: مُهاداة السِّرِّ بين متباطنَين). يريد أنَّ المكاشفة إطْلاعُ أحد المتحابَّينِ المتصافيينِ صاحبَه على باطن أمره وسرِّه.
وقوله: (مهاداة السِّرِّ) أي: تردُّد السِّرِّ على وجه الإلطاف والمودّة.
وقوله: (بين متباطنينِ) يعني بالمتباطنين: باطن المكاشِف والمكاشَف، فيحمل سرُّ كلٍّ منهما إلى الآخر كما يحمل إليه هديّته، فيَسرِي سرُّ كلِّ واحدٍ منهما إلى الآخر. وإذا بلغ العبد في مقام المعرفة إلى حدٍّ كأنّه يطالع ما اتّصف به الرّبُّ سبحانه من صفات الكمال ونعوت الجلال، وأحسَّتْ روحُه
(1)
(ص 92).
(2)
(ص 92).
بالقرب الخاصِّ الذي ليس كقرب المحسوس من المحسوس، حتّى يشاهدَ رفعَ الحجاب بين روحه وقلبه وبين ربِّه، فإنّ حجابه هو نفسه، وقد رفع الله سبحانه عنه ذلك الحجاب بحوله وقوّته= أفضى
(1)
القلبُ والرُّوح حينئذٍ إلى الرّبِّ، فصار يعبده كأنّه يراه. فإذا تحقّق بذلك، وارتفع عنه حجاب النّفس، وانقشعَ عنه ضَبابها ودخانها، وكُشِطَتْ عنه سُحُبُها وغيومُها= فهناك يقال له
(2)
:
بَدا لكَ سِرٌّ طالَ عنك اكتتامُه
…
ولاح صباحٌ كنتَ أنت ظَلامُه
فأنت حجابُ القلب عن سِرِّ غيبِه
…
ولولاك لم يُطبَع عليه خِتامُه
فإن غبتَ عنه حلَّ فيه وطَنَّبَتْ
…
على منكبِ الكشف المَصُونِ خِيامُه
وجاء حديثٌ لا يُمَلُّ سَماعُه
…
شَهِيٌّ إلينا نثرُه ونِظامُه
إذا ذكرتْه النّفسُ زالَ عَناؤُها
…
وزال عن القلب الكئيبِ قَتامُه
فلذلك قال الشيخ
(3)
: (وهي في هذا الباب بلوغُ ما وراء الحجاب وجودًا).
وقوله: (وجودًا) احترازٌ من بلوغه سماعًا وعلمًا، وكثيرًا ما يلتبس على العبد أحدهما بالآخر، فأين وجود الحقيقة من العلم بها ومعرفتها؟ كما تقدّم ذلك مرارًا، فتعلُّق العلم بالقلب شيءٌ، واتِّصافه بالمعلوم شيءٌ آخر.
فمن النّاس من يتعلّق به سماع ذلك دون فهمه، ومنهم من يتعلّق به فهمه
(1)
جواب «إذا بلغ العبد
…
».
(2)
تقدمت الأبيات (2/ 525).
(3)
«المنازل» (ص 92).