الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإذا ذكر ذنوبه تنفَّس بالخوف، وإذا ذكر رحمة ربِّه وسعةَ مغفرته وعفوه تنفّس بالرّجاء، وإذا ذكر جلاله وجماله وكماله وإحسانه وإنعامه تنفّس بالحبِّ.
فلْيزِن العبد إيمانَه بهذه الأنفاس الثّلاثة، ليعلم ما معه من الإيمان، فالقلوب مفطورةٌ على حبِّ الجمال والإجمال، والله سبحانه جميلٌ، بل له الجمال التّامُّ الكامل من جميع الوجوه: جمال الذّات، وجمال الصِّفات، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء. وإذا جُمِع جمال المخلوقات كلّها على شخصٍ واحدٍ، ثمّ كانت جميعها على جمال ذلك الشّخص الواحد، ثمّ نُسِب هذا الجمال إلى جمال الرّبِّ سبحانه= كان أقلَّ من نسبة سراجٍ ضعيفٍ إلى عين الشّمس.
فالنّفس الصّادر عن هذه الملاحظة والمطالعة أشرفُ أنفاس العبد على الإطلاق، فأين نفس المشتاق المحبِّ الصّادق إلى نفس الخائف الرّاجي؟ ولكن لا يحصل له هذا النّفس إلّا بتحصيل ذينك النّفسينِ، فإنّ أحدهما ثمرة تركه للمخالفات، والثّاني: ثمرة فعله للطّاعات، فمن هذين النّفسينِ يصل إلى النّفس الثّالث.
فصل
قال
(1)
:
(الحياة الثّانية: حياة الجمع من موت التّفرقة
، ولها ثلاثة أنفاسٍ: نفس الاضطرار، ونفس الافتقار، ونفس الافتخار).
مراده ــ إن شاء الله ــ بالجمع في هذه الدّرجة: جمعُ القلب على الله،
(1)
«المنازل» (ص 95).
وجمعُ الخواطر والعزوم في التّوجُّه إليه سبحانه، لا الجمع الذي هو حضرة الوجود؛ لأنّه قد ذكر حياة هذا الجمع في الدّرجة الثّالثة، وسمّاها حياة الوجود.
وإنّما كان جمع القلب على الله والخواطرِ على المسير إليه حياةً حقيقيّةً؛ لأنّ القلب لا سعادة له ولا فلاح ولا نعيم ولا فوز ولا لذّة ولا قوة إلّا بأن يكون الله وحده هو غاية طلبه ونهاية قصده، ووجهُه الأعلى هو كلُّ بغيته، فالتّفرقة المتضمِّنة للإعراض عن التّوجُّه إليه واجتماعِ القلب عليه هي مرضه إن لم يمتْ منها.
(ولهذه الحياة ثلاثة أنفاسٍ: نفس
(1)
الاضطرار)، وذلك لانقطاع أمله ممّا سوى الله، فيضطرُّ حينئذٍ بقلبه وروحه ونفسه وبدنه إلى ربِّه ضرورةً تامّةً، بحيث يجد في كلِّ منبتِ شعرةٍ منه فاقةً تامّةً إلى ربِّه ومعبوده، فهذا النّفس نفسُ مضطرٍّ إلى ما لا غنى له عنه طرفةَ عينٍ، وضرورته إليه من جهة كونه ربَّه، وخالقَه، وفاطره، وحافظه، ومعينه، ورازقه، وهاديه، ومعافيه، والقائم بجميع مصالحه، ومن جهة كونه معبودَه وإلهه، وحبيبه الذي لا تكمل حياته ولا تنفع إلّا بأن يكون هو وحده أحبَّ شيءٍ إليه، وأشوقَ شيءٍ إليه. وهذا الاضطرار اضطرار {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، والاضطرار الأوّل اضطرار {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
ولعمر الله إنّ نفس الافتقار هو هذا النّفس أو من نوعه، ولكنّ الشّيخ جعلهما نفسين، فجعل نفس الاضطرار بدايةً، ونفس الافتقار توسُّطًا، ونفس
(1)
«نفس» ليست في ش، ت.
الافتخار نهايةً، فكأنّ نفس الاضطرار يقطع الخلق من قلبه، ونفس الافتقار يُعلِّق قلبه بربِّه.
والتّحقيق: أنّه واحدٌ ممتدٌّ، أوّله انقطاعٌ، وآخره اتِّصالٌ. وأمّا نفس الافتخار فهو نتيجة هذين النّفسين؛ لأنّهما إذا صحَّا للعبد حصل له من القربِ من ربِّه، والأنسِ به، والفرحِ به وبالخِلَع التي خلَعَها على قلبه وروحه، ما لا تقوم لبعضه ممالكُ الدُّنيا بحذافيرها. فحينئذٍ يتنفّس نفسًا آخر، يجد به من التّفريج والتّرويح والرّاحة والانشراح ما يُشبِهُه من بعض الوجوه شَبَهًا مما يتنفَّس من جُعِل في عنقه حبلٌ
(1)
ليُخْنَقَ به حتّى يموت، ثمّ كُشِف عنه وقد حبسَ نفسه، فتنفَّسَ تنفُّسَ من قد أعيدتْ عليه حياته، وتخلَّصَ من أسباب الموت.
فإن قلت: ما للعبد والافتخار؟ وأين العبوديّة من نفس الافتخار؟
قلت: لا يريد بذلك أنّ العبد يفتخر بذلك ويختال
(2)
على بني جنسه، بل هو فرحٌ وسرورٌ لا يمكن دفعه عن نفسه بما فتح عليه به ربُّه، ومنحَه إيّاه، وخصَّه به. وأولى ما فرح به العبد فضل ربِّه عليه، والله تعالى يحبُّ الفرح بذلك؛ لأنّه من الشُّكر، ومن لا يفرح بنعمة المنعم لا يُعَدُّ شكورًا، فهو افتخارٌ بما هو محضُ منّةِ الله ونعمته على عبده، لا افتخار بما منَّ العبد، فهذا هو الذي ينافي العبوديّة لا ذاك.
وهاهنا سرٌّ لطيفٌ، وهو أنّ هذا النّفس يفخر على أنفاسه التي ليست كذلك، كما تفخر الحياة على الموت، والعلم على الجهل، والسّمع على
(1)
«حبل» ليست في د.
(2)
ت: «يختال به» .