المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌«الجمع» ينقسم إلى صحيح وباطل - مدارج السالكين - ط عطاءات العلم - جـ ٤

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ الدّرجة الأولى: سرورُ ذوقٍ ذهبَ بثلاثة أحزانٍ:

- ‌الحزن الأوّل: حزنٌ أورثَه خوفُ الانقطاع

- ‌الحزن الثّالث: (حزنٌ بعثَتْه وحشةُ التّفرُّق)

- ‌(الدّرجة الثّانية: سرورُ شهودٍ، كشَفَ حجابَ العلم

- ‌(الدّرجة الثّالثة: سرورُ سماع الإجابة

- ‌ منزلة(1)السِّرِّ

- ‌ الثانية: صفاء القصد

- ‌ الثّالثة: صحّة السُّلوك

- ‌الطّبقة الثّالثة: طائفةٌ أسرَهم الحقُّ عنهم

- ‌النّفَس الثاني: نفَسٌ في حين التجلِّي

- ‌النّفَس الثّالث: نفَسٌ مطهّرٌ بماء القدس

- ‌ الدّرجة الأولى: الغربة عن الأوطان

- ‌(الدّرجة الثّانية: غُربة الحال

- ‌(الدّرجة الثّالثة: غُربة الهمّة

- ‌ الدّرجة الأولى: استغراق العلم في عين الحال

- ‌(الدّرجة الثّانية: استغراق الإشارة في الكشف

- ‌(الدّرجة الثّالثة: استغراق الشّواهد في الجمع

- ‌(الدّرجة الثّانية:

- ‌(الدّرجة الثّالثة:

- ‌ الدّرجة الأولى: تمكُّن المريد

- ‌(الدّرجة الثّانية: تمكُّن السّالك

- ‌(الدّرجة الثّالثة: تمكُّن العارف

- ‌ الدّرجة الأولى: مكاشفةٌ تدلُّ على التّحقيق الصّحيح

- ‌ الدّرجة الأولى: مشاهدة معرفةٍ

- ‌(الدرجة الثانية: مشاهدة معاينةٍ

- ‌(الدّرجة الثّالثة: مشاهدة جَمْعٍ

- ‌ الحياة الأولى: حياة العلم من موت الجهل

- ‌المرتبة الأولى: حياة(2)الأرض بالنّبات

- ‌المرتبة الثانية: حياة النُّموِّ والاغتذاء

- ‌المرتبة السّادسة: حياة الإرادة والهمّة والمحبة

- ‌ سببُ تخلُّفِ النّفس عن طلب هذه الحياة

- ‌(الحياة الثّانية: حياة الجمع من موت التّفرقة

- ‌(الحياة الثّالثة: حياة الوجود. وهي حياةٌ بالحقِّ

- ‌(الدرجة الثانية: اتِّصال الشُّهود

- ‌(الدرجة الثالثة: اتِّصال الوجود

- ‌(الثاني: انفصالٌ عن رؤية الانفصال

- ‌(الثالث: انفصالٌ عن اتِّصال

- ‌ الدرجة الأولى: معرفة الصِّفات والنُّعوت

- ‌ الفرق بين الصِّفة والنّعت

- ‌ كلُّ شركٍ في العالم فأصله التعطيل

- ‌القاعدة الثالثة: تعريف الحال بعد الوصول

- ‌الثالث: عدم تشبيهها بما للمخلوق

- ‌(الدرجة الثانية: معرفة الذات، مع إسقاط التفريق بين الصِّفات والذات

- ‌(الدرجة الثالثة: معرفةٌ مستغرقةٌ في محض التعريف

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌(الدّرجة الثّالثة: أن لا يُناسِمَ رسمُك سبْقَه)

- ‌الثاني: وجود الحقِّ وجود عينٍ»

- ‌الثالث: وجود مقام اضمحلال رسمِ الوجود فيه

- ‌(الدّرجة الأولى: تجريد عين الكشف عن كسب اليقين)

- ‌(الدرجة الثانية: تجريد عين الجمع عن درك العلم)

- ‌(الدرجة الثالثة: تجريد الخلاص من شهود التجريد)

- ‌ تفريد الإشارة بالحقِّ

- ‌«الجمع» ينقسم إلى صحيح وباطل

- ‌المسألة الثّانية: قوله: (ويوجد بتبصير الحقِّ)

- ‌المسألة الثّالثة: قوله: (وينمو على مشاهدة الشّواهد)

- ‌الالتفاتُ إلى الأسباب ضربان: أحدهما شركٌ، والآخر عبوديّةٌ وتوحيدٌ

- ‌فصلقوله: (والصُّعود عن منازعات العقول)

الفصل: ‌«الجمع» ينقسم إلى صحيح وباطل

الثنويّة، والتّنافي من إحساس الاعتلال، والتنافي

(1)

من شهود شهودها. وهو على ثلاث درجاتٍ: جمعُ علمٍ، ثمّ جمعُ وجودٍ، ثمّ جمعُ عينٍ).

قوله: (الجمع: ما أسقط التّفرقة) هذا حدٌّ غير محصِّلٍ للفرق بين ما يُحمَد ويُذَمُّ من الجمع والتفرقة، فإنّ ‌

«الجمع» ينقسم إلى صحيح وباطل

، و «التفرقة» تنقسم إلى محمودٍ ومذمومٍ، وكلٌّ منهما لا يُحمَد مطلقًا ولا يذَمُّ مطلقًا.

فيراد بالجمع: جمعُ الوجود، وهو جمعُ الملاحدة القائلين بوحدة الوجود. ويريدون بالتفرقة: الفرق بين الوجود القديم والمحدَث، وبين الخالق والمخلوق، وأصحابه يقولون: الجمع: ما أسقَطَ هذه التفرقة، ويقولون عن أنفسهم: إنّهم أصحاب جمع الوجود. ولهذا صرَّحَ بما ذكرناه محقِّقُ الملاحدة

(2)

، فقال: التفرقةُ اعتبارُ الفرق بين وجودٍ ووجودٍ، فإذا زال الفرقُ في نظر المحقِّق حصَل له حقيقةُ الجمع.

ويراد بالجمع: الجمع في الإرادة والطلب على المراد المطلوب وحده، وبالتفرقة: تفرقة الهمّة والإرادة. وهذا هو الجمع الصحيح، والتفرقة المذمومة؛ فحدُّ الجمع الصحيح: ما أزال هذه التفرقة. وأمّا جمعٌ يزيل التفرقةَ بين الرَّبِّ والعبدِ، والخالق والمخلوق، والقديم والمحدَث= فأبطَلُ

(1)

في «المنازل» : «والتناقي» ، وهو أشبه، فقد مضى «التنافي» في الجملة السابقة. وقد فسَّره القاساني في «شرحه» (ص 603) بأنه مبالغة في النَّقاء. والمؤلف صادر عن «شرح التلمساني». وفي «شرح المناوي» (ص 326): «التعافي

والتنافي»، ولا تخفى مناسبة التعافي بالاعتلال.

(2)

يعني: التلمساني. انظر: «شرحه» (2/ 595).

ص: 411

الباطل. وتلك التفرقةُ هي الحقُّ، وأهلُ هذه التفرقة هم أهل الإسلام والإيمان والإحسان، كما أنَّ أهلَ ذلك الجمع هم أهلُ الإلحاد والكفر.

ويراد بالجمع: جمع الشُّهود، وبالتفرقة: ما ينافي ذلك. فإذا زال الفرقُ في نظر المشاهِد، وهو مُثْبِتٌ للفرق؛ كان ذلك جمعًا في شهوده

(1)

خاصَّةً، مع تحقُّقه بالفرق.

وإذا عُرف

(2)

هذا، فالجمعُ الصَّحيحُ: ما أسقط التفرقة الطبيعيّة

(3)

النفسيّة، وهي التفرقة المذمومة. وأمّا التَّفرقةُ الأمريَّةُ الشَّرعيَّةُ بين المأمور والمحظور، والمحبوب والمكروه؛ فلا يُحمَد جمعٌ أسقَطَها، بل يُذَمُّ كلَّ الذّمِّ. وبمثل هذه المجملات دخل على أصحاب السُّلوك

(4)

والإرادة ما دخل.

قوله: (وقطَعَ الإشارةَ) هو من جنس قوله: (ما أسقط التفرقة). قال أهل الإلحاد: لمّا كانت الإشارة نسبةً بين شيئين: مشيرٍ، ومشارٍ إليه، كانت مستلزمةً للثنويّة، فإذا جاءت الوحدةُ الجمعيَّةُ وذهبت الثنويَّةُ انقطعت الإشارة

(5)

.

وقال أهل التّوحيد: إنّما تنقطع الإشارة عند كمال الجمعيّة على الله، فلا

(1)

ش، د:«شهود» .

(2)

ت: «عرفت» .

(3)

ش: «الطبعية» .

(4)

ت: «أهل السلوك» .

(5)

«شرح التلمساني» (2/ 596).

ص: 412

يبقى في صاحب هذه الجمعيّة موضعٌ للإشارة؛ لأنّ جمعيّته على المطلوب المراد أغنَتْه عن الإشارة إليه. وأيضًا فإنّ جمعيّته أفنته عن نفسه وإشارته، ففي مقام الفناء تنقطع الإشارة لأنّها من أحكام البشريّة.

قوله: (وشخَصَ عن الماء والطِّين). هذا يحتمل معنيين:

أحدهما: أن يريد بالماء والطِّين بني آدم، ونفسُه من جملتهم. أي شخَصَ عن النظر إلى الناس والالتفاتِ إليهم وتعلُّقِ القلب بهم بالكلِّيّة. وخصَّهم بالذِّكر لأنَّ أكثرَ العلائق وأصعبَها وأشدَّها قطعًا لصاحبها هي علائقهم، فإذا شخَصَ قلبُه عنهم بالكلِّيّة، فعن غيرهم ممَّن هو أبعد إليه منهم أولى وأحرى.

وفي ذكر الماء والطِّين تقريرٌ لهذا الشُّخوص عنهم، وتنبيهٌ على تعيُّنه ووجوبه، فإنَّ المخلوقَ من الماء والطِّين بشرٌ ضعيف، لا يملك لنفسه - ولا لمن تعلَّق به ــ جلبَ منفعةٍ ولا دفعَ مضرّةٍ، فإنَّ الماءَ والطِّينَ منفعلٌ لا فعَّالٌ، وعاجزٌ مهينٌ لا قويٌّ متينٌ، كما قال تعالى:{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} [الصافات: 11]، وأخبر أنّه خلَقَنا {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 8]. فحقيقٌ بابن الماء والطِّين أن يشخصَ عنه القلبُ، لا إليه؛ وأن يعوِّل على خالقه وحده، لا عليه؛ وأن يجعل رغبته كلَّها فيه وفيما لديه.

المعنى الثاني الذي يحتمله كلامه: أن يشخَص عن أحكام الطبيعة السُّفليّة الناشئة من الماء والطِّين وعن متعلِّقاتها إلى أحكام الأرواح العلويّة.

والله سبحانه ــ بحكمته وعجيب صنعه ــ جعل الإنسانَ مركّبًا من جوهرين: جوهرٍ طبيعيٍّ كثيفٍ وهو الجسم، وجوهرٍ روحانيٍّ لطيفٍ وهو

ص: 413

الرُّوح، ومن شأن كلِّ شكلٍ أن يميل إلى شكله، ومن طبع كلِّ مِثْلٍ أن ينجذب إلى مِثله= صار

(1)

الإنسان ينجذب إلى العالم الطّبيعيِّ بما فيه من الكثافة، وإلى العالم الرُّوحانيِّ بما فيه من اللّطافة؛ فصارت في الإنسان قوّتان متضادّتان إحداهما: تجذبه سفلًا، والثّانية: تجذبه علوًا. فمن شخص عن طبيعة الماء والطِّين إلى محلِّ الأرواح العلويّة التي ليست من هذا العالم السُّفليِّ كان من أهل هذا الجمع المحمود الذي جمعه عن متفرِّقات النّفس والطّبع.

قوله: (بعد صحّة التمكين، والبراءة من التلوين، والخلاص من شهود الثنويّة). معناه: أنّ العبد لا يمكنه أن يشخص عن الماء والطِّين إلّا بعد صحّة تمكُّنه في المعرفة، وبراءته من التلوين. فشرَطَ الشيخُ حصولَ التّمكين له، وانتفاءَ التلوين عنه، وخلاصَه من شهود الثنويّة.

فالتلوين: تلوُّنه

(2)

لإجابة دواعي الطّبع

(3)

والنّفس. وشهودُ الثنويّة: عبارةٌ مجملةٌ محتملةٌ، وقد حملها الملحد

(4)

على أنّه يشهد

(5)

عبدًا وربًّا، وقديمًا وحادثًا، وخالقًا ومخلوقًا. والتّوحيد المحض: أن يتخلّص من ذلك بشهود وحدة الوجود، ومتى شهد تعدُّدَ الوجود كان ثنويًّا عند الملاحدة.

(1)

كذا وقع في النسخ فزيد في بعض الطبعات في أول الفقرة: «لمَّا» ليكون فعل «صار» جوابها.

(2)

ش، د:«يلوِّنه» .

(3)

ت: «داعي الطبع» .

(4)

انظر: «شرح التلمساني» (2/ 596) ولفظه: «أي يرفع مع وجود الحق وجودًا لسواه» .

(5)

في ش، د بعده زيادة:«عبد» .

ص: 414

وأمّا الموحِّدون، فالثّنويّة التي يجب التّخلُّص منها

(1)

: أن يتّخذ إلهين اثنين، فيشهدَ مع الله إلهًا آخر. وأمّا كونُه شهد مع الله موجودًا غيرَه هو موجدُه وخالقُه وفاطرُه، فليس بثنويّةٍ، بل توحيدٌ خالصٌ. ولا يتمُّ له التَّوحيدُ إلّا بهذا الشُّهود ليصحَّ له نفيُ الإلهيّة عنه، وإلّا فكيف ينفي الإلهيّةَ عمّا لا يشهده ويشهد نفيها عنه؟

(2)

.

والمقصود: أنَّ صاحبَ الجمع إذا شهد ربًّا وعبدًا، وخالقًا ومخلوقًا، وآمرًا وفاعلًا منفِّذًا، ومحرِّكًا ومتحرِّكًا، ووليًّا وعدوًّا= كان ذلك موجَبَ عقد التّوحيد.

وصحّةُ التّمكين: هي حفظ الأصل الذي هو بقاء شهود الرُّسوم في مرتبتها. وكأنّه رحمه الله نبّه بذلك على الاحتراز من القوم الذين تخطفهم

(3)

لوائحُ شهود الجمع وتمكُّنُهم ضعيفٌ، فينكرون صورَ الخلق، حتّى يقول أحدهم: أنا نورٌ من نور ربِّي، لما يغلب على أحدهم من شهود الجمع، وعدم تمكُّنه في البقاء

(4)

.

وهذا قد يعرض للصّادق أحيانًا، فيعلم أنّه غالطٌ، فيرجع إلى الأصل، ويحكِّم العلمَ على الحال. فإذا صحا علِم أنّه كان غالطًا مخطئًا. وفي مثل هذه

(1)

في هامش ش مع إشارة اللحق هنا: «ظ عندهم صح» ، وكذا في هامش د دون علامة ظ.

(2)

«وإلا

عنه» ساقط من ت.

(3)

د: «تختطفهم» . وفي ش: «تخفطهم» ، تحريف.

(4)

انظر: «شرح التلمساني» (2/ 596).

ص: 415

الحال

(1)

قال أبو يزيد: «سبحاني» ، و «ما في الجبّة إلّا الله» ، ونحو ذلك. فأخذ قومٌ هذه الشطحات، فجعلوها غايةً يجرُون إليها، ويعملون عليها. فالشَّيخُ شرَطَ أنّه لا يثبت شهودُ الجمع إلّا لمن تمكّن في شهود طور البقاء.

قوله: (والتنافي من الإحساس بالاعتلال). الاعتلال عندهم: هو التفرقةُ في الأسباب، والوقوفُ مع الرّبط الواقع بين المسبِّبات وأسبابها؛ وذلك عقدٌ لا يحلُّه إلّا شهودُ الجمع

(2)

. ولا يخفى ما في هذه العبارة من العجمة والتّعقيد.

وكذلك قوله: (والتنافي من شهود شهودها). ومراده: أن ينتفي عنه شهودُ هذه الأشياء التي ذكرها كلِّها، وأن يفنى عن هذا الشُّهود. فإنّه إن لم يفْنَ عنها كلِّها وعن شهود فنائه وإلّا

(3)

فهو معها، لأنّه يحسُّ بها، ولا يقع الإحساس إلّا بما هو موجودٌ عند صاحب الإحساس. فإذا غاب عن شهودها ثمّ عن شهود الشُّهود فقد استقرَّ قدمُه في حضرة الجمع

(4)

.

وقد تقدّم غير مرّةٍ أنّ هذا ليس بكمالٍ ولا مقصودٍ في نفسه، ولا يعطي كمالًا، ولا فيه معرفةٌ، ولا عبوديّةٌ، ولا دعت إليه الرُّسلُ البتّة، ولا أشار إليه القرآنُ، ولا وصفه أئمةُ أهل الطّريق المتقدِّمون. وغايتُه أن يشبَّه صاحبه

(1)

ش، د:«الحالة» . وانظر ما علَّقت على شطحات أبي يزيد في المجلد الأول (ص 238).

(2)

«شرح التلمساني» (2/ 596).

(3)

استعمال «وإلا» هنا من الخطأ الشائع في زمن المؤلف. والمعنى على حذفها. وقد سبق مثلها غير مرة.

(4)

«شرح التلمساني» (2/ 597).

ص: 416

بالغائب عن عقله وحسِّه وإدراكه. وغايته أن يكون عارضًا من عوارض الطّريق ليس بلازمٍ، فضلًا عن أن يكون غايةً.

ولمّا جعله مَن جعله غايةً مطلوبةً يشمِّر إليها السّالكون دخل بسبب ذلك من الفساد على من شمَّر إليه ما يعلمه الرّاسخون في العلم من أئمّة هذا الشّأن. والله المستعان. والعبوديّةُ المطلوبةُ من العبد بمعزلٍ عن ذلك. وبالله التّوفيق.

قوله

(1)

: (وهو على ثلاث درجاتٍ: جمعُ علمٍ، ثمّ جمعُ وجودٍ، ثمّ جمعُ عينٍ فأمّا جمعُ العلم: فهو تلاشي علوم الشّواهد في العلم اللّدنِّيِّ صِرْفًا. وأمّا جمعُ الوجود: فهو تلاشي نهاية الاتِّصال في عين الوجود مَحْقًا. وأمّا جمعُ العين: فهو تلاشي كلِّ ما تُقِلُّه الإشارة في ذات الحقِّ حقًّا).

علومُ الشّواهد: هي ما حصلت من الاستدلال بالأثر على المؤثِّر، وبالمصنوع على الصّانع. فالمصنوعات شواهدُ وأدلّةٌ وآثارٌ، وعلوم الشّواهد هي المستندةُ إلى الشَّواهد الحاصلة عنها

(2)

. والعلمُ اللَّدُنِّيُّ: هو العلم الذي يقذفه الله في القلب إلهامًا بلا سببٍ من العبد ولا استدلالٍ، ولذلك سمِّي لَدُنِّيًّا. قال الله تعالى:{وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]. والله تعالى هو الذي علَّم العباد ما لم يعلموا، كما قال تعالى:{عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]. ولكنّ هذا العلم أخصُّ من غيره، ولذلك أضافه إليه سبحانه، كبيته وناقته وبلده وعبده ونحو ذلك. فتضمحلُّ العلومُ المستندةُ إلى الأدلّة

(1)

«منازل السائرين» (ص 109).

(2)

«شرح التلمساني» (2/ 597).

ص: 417

والشّواهد في العلم اللّدنِّيِّ الحاصل بلا سببٍ ولا استدلالٍ. هذا مضمون كلامه.

ونحن نقول: إنّ العلم الحاصل بالشّواهد والأدلّة هو العلم الحقيقيُّ. وأمّا ما يُدَّعى حصولُه بغير شاهدٍ ولا دليلٍ، فلا وثوق به، وليس بعلمٍ. نعم، قد يقوى العلم الحاصل بالشّواهد ويتزايد، بحيث يصير المعلومُ كالمشهود، والغائبُ كالمعايَن، وعلمُ اليقين كعين اليقين. فيكون الأمر شعورًا أوّلًا، ثمّ تجويزًا، ثمّ ظنًّا، ثمّ علمًا، ثمّ معرفةً، ثمّ علمَ يقينٍ

(1)

،ثمّ عينَ يقينٍ؛ وتضمحلُّ كلُّ مرتبةٍ في التي فوقها بحيث يصير الحكمُ لها دونها. فهذا حقٌّ.

وأمّا دعوى وقوع نوعٍ من العلم بغير سببٍ ولا استدلال، فليس بصحيحٍ، فإنّ الله سبحانه ربط التّعريفات بأسبابها، كما ربط الكائنات بأسبابها، ولا يحصل لبشرٍ علمٌ إلّا بدليلٍ يدلُّه عليه. وقد أيّد الله رسلَه بأنواع الأدلّة والبراهين التي دلَّتهم على أنّ ما جاءهم هو من عند الله، ودلَّت أممَهم على ذلك، وكان معهم أعظمُ الأدلّة والبراهين على أنّ ما جاءهم هو من عند الله، وكانت براهينُهم أدلّةً وشواهد لهم وللأمم. فالأدلَّةُ والشَّواهدُ التي كانت لهم ومعهم أعظَمُ الشّواهد والأدلّة، والله تعالى شهد بتصديقهم بما أقام عليه من الشّواهد. فكلُّ علمٍ

(2)

لا يستند إلى دليلٍ فدعوى لا دليل عليها، وحكمٌ لا برهان عند قائله؛ وما كان كذلك لم يكن علمًا، فضلًا عن أن يكون لدُنِّيًّا.

(1)

في ت، ر بعده:«ثم حقَّ يقين» ، وهي زيادة مريبة إذ لا محلّ لها هنا. وانظر كلام المؤلف على مراتب اليقين في شرح منزلة اليقين (3/ 180) وكتابه «التبيان» (ص 284 - 286).

(2)

ش، د:«وكل علم» .

ص: 418

فالعلمُ اللَّدنِّيُّ: ما قام الدّليل الصّحيح عليه أنّه جاء من عند الله على لسان رسله. وما عداه فلدنِّيٌّ من لدن نفسِ الإنسان، منه بدأ وإليه يعود. وقد انبثق سدُّ العلم اللَّدنِّيِّ، ورخُصَ

(1)

سعرهُ، حتّى ادّعت كلُّ طائفةٍ أنّ علَمهم لدنِّيٌّ، وصار مَن تكلّم في حقائق الإيمان والسُّلوك وباب الأسماء والصِّفات بما يسنح له ويلقيه شيطانُه في قلبه يزعم أنَّ علمَه لدنِّيٌّ! فملاحدةُ الاتِّحاديّة وزنادقةُ المنتسبين إلى السُّلوك يقولون: إنَّ علمَهم لدنِّيٌّ. وقد صنّف في العلم اللّدنِّيِّ متهوِّكو المتكلِّمين وزنادقةُ المتصوِّفين وجهلةُ المتفلسفين، وكلُّهم يزعم أنَّ علمَه لدنِّيٌّ! وصدقوا وكذبوا! فإنَّ اللَّدنِّيَّ منسوبٌ إلى «لدن» بمعنى عند، فكأنّهم قالوا: العلم العنديُّ، ولكنَّ الشّأنَ فيمن هذا العلم من عنده ولدنه.

وقد ذمَّ اللهُ تعالى بأبلغ الذّمِّ من ينسب إليه ما ليس من عنده، كما قال تعالى:{وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78]. وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 79]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 93].

فكلُّ من قال: إنَّ هذا العلمَ من عند الله وهو كاذبٌ في هذه النِّسبة، فله نصيبٌ وافرٌ من هذا الذّمِّ. وهذا في القرآن كثيرٌ، يذُمُّ من أضاف إليه ما لا علم له به

(2)

، ومن قال عليه ما لا يعلم

(3)

. ولهذا رتَّب سبحانه المحرَّماتِ أربعَ

(1)

ضبط في ت: «رُخِّص» .

(2)

«به» ساقط من ش، د.

(3)

ت: «لم يعلم» .

ص: 419

مراتب، وجعل أشدَّها: القولَ عليه بلا علمٍ، فجعله آخر مراتب المحرَّمات التي لا تباح بحالٍ، بل هي محرّمةٌ في كلِّ ملّةٍ على لسان كلِّ رسولٍ

(1)

. فالقائلُ: إنّ هذا علمٌ لّدنِّيٌّ، لِما لا يعلم أنّه من عند الله ولا قام عليه برهانٌ من الله أنّه من عنده= كاذبٌ مفترٍ على الله، وهو من أظلم الظالمين وأكذب الكاذبين.

وقوله: (وأمّا جمعُ الوجود، فهو تلاشي نهاية الاتِّصال في عين الوجود مَحْقًا).

(تلاشي نهاية الاتِّصال): هو فناء العبد في الشُّهود. و (نهاية الاتِّصال): هو ما ذكره في الدّرجة الثّالثة من باب الاتِّصال

(2)

أنّه (لا يدرك منه نعتٌ ولا مقدارٌ إلّا اسمٌ معارٌ، ولمحٌ إليه يشار

(3)

). فحقيقة الجمع في هذه الدّرجة: تلاشي ذلك في عين الوجود، أي في حقيقته. ويريد بالوجود: ما أشار إليه في الدّرجة الثّانية من باب الوجود، وهو قوله:«وجود الحقِّ: وجودُ عينٍ، منقطعًا عن مساغ الإشارة» . فتضمحلُّ نهاية الاتِّصال في هذا الوجود مَحْقًا، أي ذوبانًا وفناءً.

(1)

انظر ما سبق في المجلد الأول (ص 517) من كلام المؤلف على هذه المحرمات لاسيما القول على الله بغير علم.

(2)

«المنازل» (ص 100)، وقد سبق (ص 265).

(3)

كذا «معار

يشار» في ت، ومثله في «شرح الإسكندري» (ص 205) و «شرح الفركاوي» (ص 132). وفي ش، د كلاهما بالياء. وفي «المنازل» كلاهما بالميم: «معار

مشار»، ومثله في «شرح التلمساني» (2/ 549) و «شرح القاساني» (ص 557).

ص: 420

قوله: (وأمَّا جمع العين: فهو تلاشي كلِّ ما تُقِلُّه الإشارةُ في ذات الحقِّ حقًّا).

(تُقِلُّه الإشارة)، أي تحمله وتقوم به. والإشارة تارةً تكون باليد والرّأس فتكون إيماءً، وتارةً تكون بالعين فتكون رمزًا، وتارةً تكون باللفظ فتسمّى تعريضًا، وتارةً تكون بالذِّهن والعقل. فتضمحلُّ كلُّ هذه الأنواع وتبطلُ عند شهودِ العين في حضرة الجمع، وظهورِ جلال الذات المقدّسة. والذّاتُ هي الحاملة للصِّفات والأفعال.

فعرفتَ من هذا: أنّه في الدرجة الأولى يغيبُ عن جميع العلوم المتعلِّقة بالأدلّة والشواهد بالعلم اللَّدُنِّيِّ. وفي الدرجة الثانية يغيب عن اتِّصاله وشهود اتِّصاله بالوجود، فإنّ الوجود فوق الاتِّصال كما تقدّم

(1)

. وهذا كما يغيب الواجدُ الذي قد ظفر بموجوده عن شهود وصوله إليه واتِّصاله به، فغيَّبَتْه

(2)

عينُ وجوده عن شهود نفسه وصفاتها. وفي الدرجة الثالثة يضمحلُّ كلُّ ما تحمله الإشارةُ إلى ذاتٍ أو إلى صفةٍ

(3)

أو حالٍ أو مقامٍ في ذات الحقِّ سبحانه، فلا يبقى هناك ما يشار إليه سواه.

قوله

(4)

: (والجمع: غاية مقامات

(5)

السّالكين، وهو طرف بحر التوحيد).

وجه ذلك: أنَّ السّالكَ ما دام في سلوكه فهو في تفرقةِ الاستدلال وطلبِ

(1)

لم يرد «كما تقدم» في ش، د.

(2)

ش، د:«فيفنيه» .

(3)

ش، د:«صفات» .

(4)

«منازل السائرين» (ص 109).

(5)

ت: «مقام» .

ص: 421

الشَّواهد، فإذا وصل إلى مقام المعرفة وصار همُّه همًّا واحدًا لله وفي الله وبالله نزَلَ في منزلة الجمع، وشمَّرَ لركوب بحر التَّوحيد الذي يتلاشى فيه كلُّ ما سوى الواحد القهّار. فالجمعُ عنده نهايةُ سفر السّالكين إلى الله.

وهذا موضعٌ غير مسلَّمٍ له على إطلاقه، وإنّما غاية مقامات

(1)

السّالكين: التوبةُ التي هي بدايات منازلهم.

ولعلَّ سمعَك ينفر من هذا غاية النُّفور، وتقول: هذا كلام من لم يعرف شيئًا من طريق القوم، ولا نزل في منازل الطريق! ولَعَمْرُ الله، إنّ كثيرًا من الناس ليوافقك على هذا، ويقول: أين كنّا؟ وأين صرنا؟ نحن قد قطعنا منزلة التّوبة وبيننا وبينها مائةُ مقامٍ، فنرجع من مائة مقامٍ إليها، ونجعلها غايةَ مقامات السالكين!

فاسمَع الآن وعِهْ، ولا تعجَلْ بالإنكار، ولا تُبادِرْ بالردِّ، وافتَحْ ذهنك لمعرفة نفسك، وحقوق ربِّك، وما ينبغي له منك، وما له من الحقِّ عليك؛ ثمّ انسُبْ أعمالك وأحوالك وتلك المنازلَ التي نزلتها والمقاماتِ التي قمتَ فيها لله وبالله إلى عظيم

(2)

جلاله وما يستحقُّه وما هو له أهلٌ. فإن رأيتها وافيةً بذلك مكافئةً له فلا حاجة بك حينئذٍ إلى التوبة، والرُّجوعُ إليها وقوعٌ

(3)

عن المقامات العليّة، وانحطاطٌ من عُلْوٍ إلى سُفْلٍ، ورجوعٌ من غايةٍ إلى بدايةٍ. وما أظنُّ ذلك بعيدًا من كثيرٍ من المنتسبين إلى هذا الشأن

(1)

في ت، ر:«مقام» هنا وفي آخر الفقرة الآتية.

(2)

ش، د:«عظم» .

(3)

ش، د:«رجوع» .

ص: 422

المغرورين بمعارفهم وأحوالهم وإشاراتهم!

وإن رأيت أنّ أضعافَ أضعافِ ما قمتَ به من صدقٍ وإخلاصٍ وإنابةٍ وتوكُّلٍ وزهدٍ وعبادةٍ لا يفي بأيسَرِ حقٍّ له عليك، ولا يكافئ نعمةً من نِعَمه عندك، وأنّ ما يستحقُّه لجلاله أعظمُ وأجلُّ وأكثَرُ ممّا يقوم به الخلق= فاعلم الآن أنَّ التوبةَ نهايةُ كلِّ عارفٍ وغايةُ كلِّ سالكٍ، وكما أنّها بدايةٌ فهي نهايةٌ، والحاجةُ إليها في النِّهاية أشدُّ من الحاجة إليها في البداية، بل هي

(1)

في النِّهاية في محلِّ الضَّرورة.

فاسمع الآن ما خاطب الله به رسولَه في آخر الأمر وعند النِّهاية، وكيف كان

(2)

رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في آخر حياته أشدَّ ما كان استغفارًا وأكثرَه:

قال الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]. وهذا أنزله

(3)

الله سبحانه بعد غزوة تبوك، وهي آخر الغزوات التي غزاها رسول الله

(4)

صلى الله عليه وسلم بنفسه؛ فجعل الله سبحانه التَّوبةَ عليهم شُكرانًا لما تقدَّم من تلك الأعمال وذلك الجهاد.

وقال تعالى في آخر ما أنزل على رسوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ

(1)

«هي» ساقط من ت.

(2)

ش، د:«فإن» ، تحريف.

(3)

ش، د:«أنزل» .

(4)

«رسول الله» من ش، د.

ص: 423

وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}. وفي «الصحيح»

(1)

أنّه صلى الله عليه وسلم ما صلّى صلاةً

(2)

بعد إذ أُنزلت عليه هذه السُّورة إلَّا قال فيها: «سبحانك اللهمَّ ربَّنا وبحمدك، اللهمَّ اغفر لي» . وذلك في نهاية أمره صلوات الله وسلامه عليه. ولهذا فهم منها علماءُ الصَّحابة كعمر بن الخطّاب وعبد الله بن عبّاسٍ أنَّه أجلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلَمَه الله إيّاه

(3)

. فأمره سبحانه بالاستغفار في نهاية أحواله وآخر أمره أعلى ما كان مقامًا وحالًا.

وآخرُ ما سُمِع من كلامه عند قدومه على ربِّه: «اللهمّ اغفر لي، وألحقني بالرّفيق الأعلى»

(4)

.

وكان صلى الله عليه وسلم يختم

(5)

كلَّ عملٍ صالحٍ بالاستغفار كالوضوء، والصّلاة، والحجِّ، والجهاد، فإنّه كان إذا فرغ منه وأشرف على المدينة قال:«آئبون، تائبون، لربِّنا حامدون»

(6)

.

وشرع أن يختم المجلس بالاستغفار وإن كان مجلس خيرٍ وطاعةٍ

(7)

.

(1)

متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها، وقد تقدم (1/ 205).

(2)

لفظ «صلاة» ساقط من ش، د.

(3)

كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في «صحيح البخاري» (3627) وقد تقدم أيضًا.

(4)

أخرجه البخاري (4440) ومسلم (2444) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(5)

في ش، د بعده زيادة:«على» ، وقد تقدَّم تفصيل عمل النبي صلى الله عليه وسلم من قبل.

(6)

أخرجه البخاري (1797) ومسلم (1344) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(7)

وذلك بأن يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» . رُوي من حديث عدة من الصحابة، أمثلها ما أخرجه أحمد (24486) والنسائي في «الكبرى» (10067، 10160) والطبراني في «الدعاء» (1912) وغيرهم من حديث أم المؤمنين عائشة. صحَّح الحافظ إسناده في «النكت على ابن الصلاح» (2/ 732 - 733) ووافقه الألباني في «الصحيحة» (3164). وقد فصل المؤلف القول فيه وفي شواهده في «تهذيب السنن» ، فانظره مع تعليق المحقق عليه (3/ 357 - 361).

ص: 424

وشرع أن يختم العبدُ عملَ يومه بالاستغفار، فيقول عند النوم:«أستغفر الله الذي لا إله إلّا هو الحيُّ القيُّوم وأتوب إليه»

(1)

، وأن ينام على سيِّد الاستغفار

(2)

.

والعارفُ بالله وأسمائه وصفاته وحقوقه يعلم أنَّ العبدَ أحوجُ ما يكون إلى التّوبة في نهايته، وأنّه أحوجُ إلى التّوبة من الفناء، والاتِّصال، وجمع الشّواهد، وجمع الوجود، وجمع العين. وكيف يكون ذلك أعلى مقامات السّالكين وغايةَ مطالب المقرَّبين، ولم يأت له ذكرٌ في قرآنٍ ولا في سُنّةٍ، ولا يعرفه إلّا النادرُ من الناس، ولا يتصوَّره أكثرهم إلّا بصعوبةٍ ومشقّةٍ، ولو سمعه أكثرُ الخلق لما فهموه ولا عرفوا المرادَ منه إلّا بترجمةٍ؟ فأين في كتاب الله، أو سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو كلام

(3)

الصحابة الذين نسبةُ معارفِ مَن بعدهم إلى معارفهم كنسبة فضلهم ودينهم وجهادهم إليهم

(4)

= ما يدلُّ على ذلك

(5)

أو

(1)

أخرجه أحمد (11074) والترمذي (3397) وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري. وفي إسناده عبيد الله بن الوليد الوصافي وعطية العوفي، كلاهما ضعيف.

(2)

أخرجه البخاري (6306) وقد تقدَّم غير مرة.

(3)

ش، د: «وسنة

وكلام».

(4)

أي: إلى فضل الصحابة ودينهم وجهادهم. وفي ش، د:«إليه» .

(5)

ت: «عليه» .

ص: 425

يشير إليه؟ إذن فصار

(1)

المتأخِّرون أربابُ هذه الاصطلاحات الحادثة بالألفاظ المجملة والمعاني المتشابهة أعرفَ بمقامات السالكين ومنازل السّائرين وغاياتها من أعلَمِ الخلق بالله بعد رسله! هذا من أعظم الباطل.

وهؤلاء في باب الإرادة والطلب والسُّلوك نظيرُ أرباب الكلام من المعتزلة والجهميّة ومن سلك سبيلهم في باب العلم والخبر عن الله وأسمائه وصفاته. فالطّائفتان ــ بل وكثيرٌ من المصنِّفين في الفقه ــ من المتكلِّفين أشدَّ التكلُّف. وقد قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]. وقال عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه: من كان منكم مستنًّا فليستنَّ بمن قد مات، فإنَّ الحيَّ لا يؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمّدٍ، أبرُّ هذه الأمّة قلوبًا، وأعمقُها علمًا، وأقلُّها تكلُّفًا. قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيِّه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقَّهم، وتمسَّكُوا بهديهم، فإنّهم كانوا على الهدي المستقيم

(2)

.

فلا تجد هذا التكلُّف الشديد والتعقيد في الألفاظ والمعاني عند الصَّحابة أصلًا، وإنّما يوجد عند من عدل عن

(3)

طريقهم. وإذا تأمّله العارفُ وجَدَه «كلحمِ جملٍ غثٍّ، على رأس جبلٍ وَعْرٍ؛ لا سهلٌ فيرتقَى، ولا سمينٌ

(1)

لم ترد «إذن» في ش، د. وفي ر:«أفصار» .

(2)

أخرجه الهروي في «ذم الكلام» (746) وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1810). وروي بنحوه عن الحسن البصري عند الآجري في «الشريعة» (1161، 1984) وابن عبد البر (1807).

(3)

«عن» ساقطة من ش، د.

ص: 426

فينتقَل»

(1)

! فيطوِّل عليك الطّريقَ، ويوسِّع لك العبارةَ، ويأتي بكلِّ لفظٍ غريبٍ ومعنًى أغرب من اللفظ. فإذا وصلتَ لم تجد معك حاصلًا طائلًا، ولكن تسمَعُ جعجعةً ولا ترى طِحْنًا

(2)

.

فالمتكلِّمون في جعاجع الجواهر والأعراض والأكوان والألوان، والجوهر الفرد، والأحوال والحركة والسُّكون، والوجود والماهيّة، والأحياز

(3)

والجهات، والنِّسب والإضافات، والغيرين والخلافين

(4)

، والضِّدّين والنّقيضين، والتّماثل

(5)

والاختلاف. والعرض هل يبقى زمانين؟ وما هو الزّمان والمكان؟ ويموت أحدهم ولم يعرف الزّمان والمكان، ويعترف بأنّه لم يعرف الوجود: هل هو ماهيّة الشّيء أو زائدٌ عليها؟ ويعترف بأنه شاكٌّ في وجود الرّبِّ: هل هو وجودٌ محضٌ أو وجودٌ مقارنٌ لماهيّة؟ ويقول: الحقُّ عندي الوقف في هذه المسألة

(6)

.

(1)

قطعة من حديث أم زرع، تمثل بها المؤلف. أخرجه البخاري (5189) ومسلم (2448) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

الطِّحن هو الدقيق. انظر المثل في «فصل المقال» (ص 449)، «مجمع الأمثال» للميداني (1/ 285) وغيرهما.

(3)

ش، د:«الأخبار» ، تصحيف. وفي ر:«الانحياز» .

(4)

ت: «المترادفين» .

(5)

ت: «التأويل» .

(6)

يظهر أن الإشارة إلى فخر الدين الرازي إذ نسب بعض ما ذكره هنا في «الصواعق» (4/ 1259) إلى «إمام الشك والتشكيك أفضل متأخريهم» ، وأشار في (3/ 1079) إلى «تشكيكات الرازي» . ولم أقف على قوله بالوقف في المسألة المذكورة هنا.

ص: 427

ويقول أفضلهم

(1)

ــ عند نفسه

(2)

ــ عند الموت: أخرج من الدُّنيا وما عرفتُ شيئًا إلّا مسألةً واحدةً، وهي أنّ الممكن يفتقر إلى واجبٍ. ثمّ قال: الافتقار أمرٌ عدميٌّ، فأموت ولم أعرف شيئًا.

وهذا أكثر من أن يذكر، كما قال بعض السّلف

(3)

: أكثَرُ النّاس شكًّا عند الموت أربابُ الكلام.

وآخرون أعظَمُ تكلُّفًا من هؤلاء وأبعَدُ شيءٍ عن العلم النّافع: أرباب الهَيُولي والصُّورة، والأُستُقُصَّات

(4)

والأركان، والعلل الأربعة، والجواهر العقليّة، والمفارقات والمجرَّدات، والمقولات العشر، والكلِّيّات الخمس، والمختلطات والموجّهات، والقضايا المسوَّرات، والقضايا المهملات

(5)

.

(1)

يقصد: أفضل الدين محمد بن ناماوَر الخونجي الشافعي (ت 649). وقد ذكر شيخ الإسلام في «درء التعارض» (1/ 162) أن التلمساني ذكر أنه سمع كلامه الآتي عنه وقت موته. وقال فيه (3/ 262) أنه بلغه عنه بإسناد متصل. وانظر: «الصواعق» (ص 168، 664، 1262).

(2)

في ر: «عن نفسه» ، وهو أشبه، إذ وصفه المؤلف نفسه بأفضل المتأخرين في «الصواعق» (ص 664).

(3)

كذا قال هنا! وفي «الصواعق» (ص 1262): «قال العارف بحقيقة أمرهم» . وعزاه شيخ الإسلام إلى أبي حامد الغزالي. انظر: «مجموع الفتاوى» (4/ 28).

(4)

هي العناصر الأربعة: النار والهواء والماء والأرض، وهي لفظة يونانية. انظر:«مفاتيح العلوم» للخوارزمي (ص 136) و «التعريفات» للجرجاني (ص 24).

(5)

راجع لتفسير هذه المصطلحات المنطقية: «مفاتيح العلوم» للخوارزمي، و «التعريفات» للجرجاني، و «موسوعة مصطلحات علم المنطق عند العرب» طبعة مكتبة لبنان ناشرون، وغيرها من معاجم المصطلحات.

ص: 428

فهم أعظم الطّوائف تكلُّفًا، وأقلُّهم تحصيلًا للعلم النّافع والعمل الصّالح.

وكذلك المتكلِّفون من أصحاب الإرادة والسُّلوك وأرباب الحال والمقام والوقت والمكان، والبادي والباده والوارد والخاطر والواقع والقادح واللّامع، والغيبة والحضور، والمحو والمَحْق

(1)

والسَّحْق، والسُّكر والصَّحْو، واللّوائح والطَّوالع، والعطَش والدَّهش، والتّلبيس، والتّمكين والتّلوين، والاسم والرّسم، والجمع وجمع الجمع وجمع الشّواهد وجمع الوجود، والأثر والكون والبون

(2)

، والاتِّصال والانفصال، والمسامرة والمشاهدة والمعاينة، والتّجلِّي والتحلِّي والتّخلِّي، وأنا بلا أنا، وأنت بلا أنت، ونحن بلا نحن، وهو بلا هو

(3)

.

وكلُّ ذلك أدنى إشارةٍ إلى تكلُّف هؤلاء الطّوائف وتنطُّعهم. وكذلك كثيرٌ من المنتسبين إلى الفقه، لهم مثلُ هذا التّكلُّف أو أعظَمُ منه.

فكلُّ هؤلاء محجوبون بما لديهم، موقوفون على ما عندهم. خاضوا بزعمهم بحارَ العلم، وما ابتلَّت أقدامُهم. وكدُّوا أفكارَهم وأذهانَهم وخواطرَهم، وما استنارت بالعلم الموروث عن الرُّسل قلوبُهم وأفهامُهم! فرحين بما عندهم من العلوم، راضين بما قُيِّدوا به من الرُّسوم. فهم في وادٍ ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه رضي الله عنهم في وادٍ! والله يعلم أنّا لم نتجاوز فيهم

(1)

ش: «الحق» ، تحريف.

(2)

ت: «النور» ، تحريف.

(3)

راجع لتفسير المصطلحات المذكورة: «اللُّمع» للطوسي (ص 333 - 374) و «لطائف الإعلام» للقاساني و «موسوعة مصطلحات التصوف» ط مكتبة لبنان ناشرون.

ص: 429

القول، بل قصَّرنا فيما ينبغي لنا أن نقوله، فذكرنا غيضًا من فيضٍ، وقليلًا من كثيرٍ.

وهؤلاء كلُّهم داخلون تحت الرَّأي الذي اتّفق السّلفُ على ذمِّه وذمِّ أهله، فهم أهل الرّأي حقًّا، الذين قال فيهم عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: إيّاكم وأصحابَ الرّأي، فإنّهم أعداءُ السُّنن. أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرّأي، فضلُّوا وأضلُّوا

(1)

.

وقال أيضًا: أصبح أصحابُ الرّأي أعداءَ السُّنن، أعيتهم

(2)

أن يعُوها، وتفلَّتت

(3)

أن يرووها، فاشتقُّوها بالرّأي

(4)

.

وقال أبو بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه: أيُّ أرضٍ تقلُّني، وأيُّ سماءٍ تظلُّني، إن قلتُ في كتاب الله برأيي أو بما لا أعلم؟

(5)

.

(1)

رواه الدارقطني في «السنن» (4280) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (201) وابن عبد البر في «الجامع» (2004) والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 452). وفي سنده عبد الرحمن بن شريك النخعي ووالده ومجالد بن سعيد كلهم ضعفاء. وقد أشار البيهقي في «المدخل» (214) إلى إعلاله.

(2)

«الأحاديث

أعيتهم» ساقط من ت لانتقال النظر.

(3)

ت: «وثقلت» ، تصحيف.

(4)

أخرجه ابن عبد البر في «الجامع» (2001) من طريق ابن وهب عن ابن لهيعة عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم التيمي. وأخرجه أيضًا (2005) من طريق نافع بن يزيد عن ابن الهاد به.

(5)

أخرجه مالك في «الموطأ» (2079 - رواية أبي مصعب) وسعيد بن منصور في «السنن» (39 - فضائل القرآن) وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (687) وابن أبي شيبة (30727، 30731) والطبري في «التفسير» (1/ 72).

ص: 430

وقال عمر رضي الله عنه: يا أيُّها النّاس، إنّ الرّأي إنَّما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبًا لأنّ الله كان يُريه، وإنّما هو منَّا الظّنُّ والتّكلُّف

(1)

.

وقال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما: من أحدَثَ رأيًا ليس في كتاب الله ولم تمضِ به سنّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله عز وجل

(2)

.

وقال عمر رضي الله عنه: يا أيُّها النّاس، اتّهموا رأيكم على الدِّين، فلقد رأيتُني وإنِّي لأردُّ أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي، أجتهد، والله ما آلو ذلك يوم أبي جندلٍ، والكاتبُ يكتُب، فقالوا: نكتُب: «باسمك اللهمَّ» ، فرضي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأبيتُ، فقال:«يا عمر، تراني قد رضيتُ، وتأبى؟»

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رُوِّيناه

(4)

من طريق مسدَّدٍ، حدَّثنا يحيى بن سعيدٍ، عن ابن جريجٍ، أخبرني سليمان بن عتيقٍ، عن طلق بن حبيبٍ، عن الأحنف بن قيسٍ، عن عبد الله بن مسعودٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«ألا هلك المتنطِّعون، ألا هلك المتنطِّعون، ألا هلك المتنطِّعون» وإن لم تكن هذه

(1)

أخرجه أبو داود (3586) وفي سنده انقطاع فإن الزهري لم يدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(2)

أخرجه الدارمي (160) وابن وضاح في «البدع» (94) وابن حزم في «الإحكام» (6/ 46) والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 458).

(3)

أخرجه أبو يعلى ــ كما في «مسند الفاروق» لابن كثير (2/ 351) و «المقصد العلي» للهيثمي (64) ــ والبزار في «المسند» (148) وابن المنذر في «الأوسط» (6/ 336 - 337) والطبراني في «الكبير» (1/ 72)، وصححه ابن حزم في «المحلَّى» (1/ 61).

(4)

في «سنن أبي داود» (4608). وقد أخرجه مسلم (2670) عن أبي بكر بن أبي شيبة، ثنا حفص بن غياث ويحيى بن سعيد، عن ابن جريج به.

ص: 431

الألفاظ والمعاني التي نجدها

(1)

في كثيرٍ من كلام هؤلاء تنطُّعًا فليس للتّنطُّع حقيقةٌ.

فصل

فإن لم يسمح قلبك بكون التّوبة غايةَ مقامات

(2)

السّالكين، ولم تصغ إلى شيءٍ ممّا ذكرنا، وأبيتَ إلّا أن يكون تلاشي نهاية الاتِّصال في عين الوجود مَحْقًا، وتلاشي علوم الشّواهد في العلم اللَّدنِّيِّ صِرْفًا، وجمعُ الوجود وجمع العين= هو غايةَ

(3)

مقامات السّالكين إلى الله، بحيث يدخل في ذلك كلُّ سالكٍ؛ فاعلم أنّ هذا الجمع المذكور بمجرَّدِه لا يعطي عبوديّةً ولا إيمانًا، فضلًا عن

(4)

أن يكون غايةَ كلِّ نبيٍّ ووليٍّ وعارفٍ؛ فإنّ هذا الجمعَ يحصل للصِّدِّيق والزِّنديق، ولملاحدة الاتِّحاديّة منه حظٌّ كبيرٌ، وحوله يدندنون، وهو عندهم نهاية التّحقيق! فأين تحقيقُ العبوديّة والقيامُ بأعبائها واحتمالُ فرائضها وسننها وآدابها، والجهادُ لأعداء الله، والدّعوةُ إلى الله، والأمرُ بالمعروف والنّهي عن المنكر، وتحمُّلُ الأذى في الله= في هذا الجمع؟ وأين معرفة الأسماء والصِّفات فيه مفصّلًا؟ وأين معرفةُ ما يحبُّه الرَّبُّ تعالى ويكرهه فيه مفصَّلًا؟ وأين معرفةُ خير الخيرين وشرِّ الشّرّين فيه؟ وأين العلمُ بمراتب العبوديّة ومنازلها فيه؟

(1)

ش، د:«تجدها» .

(2)

ت: «مقام» .

(3)

ت: «نهاية» .

(4)

حرف «عن» لم يرد في ش، د.

ص: 432

فالحقُّ أنّ نهايةَ مقامات السّالكين تكميلُ مرتبة العبوديّة صِرْفًا، وهذا ممّا لا سبيل إليه لبني الطّبيعة، وإنّما خُصَّ بذلك الخليلان من بين سائر الخلق. أمّا إبراهيم الخليل ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ فإنَّ الله سبحانه شهد له بأنّه وفَّى. وأمَّا سيِّدُ ولد آدم ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ فإنّه كمَّل مرتبةَ العبوديّة، فاستحقَّ التَّقديمَ على سائر الخلائق، وكان صاحب الوسيلة والشّفاعة التي يتأخَّر عنها جميعُ الرُّسل، ويقول هو:«أنا لها»

(1)

. ولهذا ذكره الله سبحانه بالعبوديّة في أعلى مقاماته وأشرف أحواله

(2)

، كقوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]، وقوله:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19]، وقوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23]

(3)

، وقوله:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]. ولهذا يقول المسيح حين يُرغَب إليه في الشّفاعة: اذهبوا إلى محمّدٍ، عبدٍ غفر الله له

(4)

ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر

(5)

. فاستحقَّ تلك الرُّتبة العليا بتكميل عبوديّته لله، وبكمال مغفرة الله له.

فرجع الأمرُ إلى أنَّ غايةَ المقامات ونهايتَها: هو التَّوبةُ والعبوديَّةُ المحضةُ، لا جمعُ العين، ولا جمعُ الوجود، ولا تلاشي الاتِّصال.

(1)

قطعة من حديث الشفاعة المتفق عليه، وقد تقدَّم.

(2)

وانظر: «طريق الهجرتين» (1/ 18) و «مفتاح دار السعادة» (1/ 10).

(3)

الآيتان من سورتي الجن والبقرة ساقطتان من د.

(4)

ش، د:«غُفر له» .

(5)

من حديث الشفاعة المذكور.

ص: 433

فإن قلتَ: فهذا الجمعُ إنَّما يحصل لمن قام بحقيقة التّوبة والعبوديّة.

قيل: ليس كذلك، بل الجمعُ الذي يحصل لمن قام بذلك هو جمعُ الرُّسل وخلفائهم، وهو جمعُ الهمّة على الله سبحانه محبّةً وإنابةً وتوكُّلًا وخوفًا ورجاءً ومراقبةً، وجمعُ الهمّة على تنفيذ أوامر الله في الخلق دعوةً وجهادًا. فهما جمعان: جمعٌ للقلب على المعبود وحده، وجمعٌ له على محض عبوديّته.

فإن قلتَ: فأين شاهد هذين الجمعين؟

قلتُ: في القرآن كلِّه، فخذه من فاتحة الكتاب في قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]. وتأمَّلْ ما في قوله: {إِيَّاكَ} من التّخصيص لذاته المقدَّسة بالعبادة والاستعانة، وما في قوله:{نَعْبُدُ} الذي هو للحال والاستقبال وللعبادة الظّاهرة والباطنة، من استيفاء أنواعِ العبادة حالًا واستقبالًا، قولًا وعملًا، ظاهرًا وباطنًا؛ و [ما في قوله:{نَسْتَعِينُ} من]

(1)

الاستعانةِ على ذلك به لا بغيره. ولهذا كانت الطّريقُ كلُّها في هاتين الكلمتين، وهي معنى قولهم:«الطّريق في: إيّاك أريدُ بما تريدُ» ، فجمَعَ

(2)

المرادَ في واحدٍ، والإرادةَ في مراده الذي يحبُّه ويرضاه. فإلى هذا دعت الرُّسلُ من أوّلهم إلى آخرهم، وإليه شخَص العاملون وتوجَّه المتوجِّهون. وكلُّ الأحوال والمقامات ــ من أوّلها إلى آخرها ــ مندرجةٌ في ضمن ذلك، ومن ثمراته وموجَباته.

(1)

زيادة يقتضيها السياق، وقد زيدت في ط دار ابن خزيمة أيضًا.

(2)

ش، د:«فيجمع» .

ص: 434

والعبوديّةُ تجمَعُ كمالَ الحبِّ

(1)

في كمالِ الذُّلِّ وكمالِ الانقياد لمراضي المحبوب وأوامره، فهي الغاية التي ليس فوقها غايةٌ. وإذا لم يكن إلى القيام بحقيقتها ــ كما يجب ــ سبيلٌ، فالتَّوبةُ هي المعوَّل والآخيَّة. وقد عرفتَ بهذا وبغيره أنَّ الحاجةَ إليها في النِّهاية أشدُّ من الحاجة إليها في البداية، ولولا تنسُّمُ رَوْحِها لَحالَ اليأسُ بين ابن الماء والطِّين وبين الوصول إلى ربِّ العالمين. هذا لو قام بما ينبغي عليه أن يقوم به من حقوق ربِّه وسيِّده

(2)

، فكيف والغفلةُ والتّقصيرُ والتّفريطُ والتّهاونُ وإيثارُ حظوظه في كثيرٍ من الأوقات على حقوق ربِّه، لا يكاد يتخلَّصُ منه، ولاسيَّما السّالكُ على درب الفناء والجمع، فإنَّ ربَّه يطالبه بالعبوديّة، ونفسُه تطالبه بالجمع والفناء؛ فلو حقَّقَ النّظرَ مع نفسه وحاسبها حسابًا صحيحًا لتبيَّن له أنَّ حظَّه يريد، ولذَّتَه يطلب! نعم، كلُّ أحدٍ يطلب ذلك، لكنَّ الشّأنَ في الفرق بين من صار حظُّه نفسَ

(3)

مرضاةِ الله ومحابِّه، أحبَّت ذلك نفسُه أو كرهته، وبين من حظُّه ما يريده من ربِّه. فالأوّل حظُّه: مرادُ ربِّه الدِّينيُّ الشّرعيُّ منه، وهذا حظُّه: مرادُه من ربِّه. وبالله التّوفيق.

فإن قيل

(4)

: هذا البابُ مسلَّمٌ لأهل الذّوق، وأنتم تتكلَّمون بلسان العلم لا بلسان الذّوق، والذّائقُ واجدٌ، والواجدُ لا يمكنه إنكارُ موجوده، فلا يرجع إلى صاحب العلم، بل يدعوه إلى ذوق ما ذاقه، ويقول:

(1)

ش، د:«المحب» ، تحريف.

(2)

ر: «لسيِّده من حقوقه» ، وكذا في طبعة الفقي.

(3)

كان في ش، د:«حظ نفس» ، فغيِّر إلى «حظ نفسه» . ولم ترد كلمة «نفس» في ر.

(4)

ت: «قلت» .

ص: 435

أقول للَّائمِ المُهْدِي ملامتَه

ذُقِ الهوى وإن اسطعتَ الملامَ لُمِ

(1)

قيل: لم ينصف من أحال على الذّوق، فإنّها حوالةٌ على محكومٍ عليه لا على حاكمٍ، وعلى مشهودٍ عليه لا على شاهدٍ، وعلى موزونٍ لا على ميزانٍ!

ويا سبحان الله! هل يدلُّ مجرَّدُ ذوق الشَّيء على حكمه وأنّه حقٌّ أو باطلٌ؟ وهل جعل الله ورسولُه الأذواقَ والمواجيدَ حججًا وأدلّةً يميَّز بها بين ما يحبُّه ويرضاه، وبين ما يكرهه ويسخطه

(2)

؟ ولو كان ذلك

(3)

لاحتجَّ كلُّ مُبطلٍ على باطله بالذّوق والوجد، كما تجده في كثيرٍ من أهل الباطل والإلحاد. فهؤلاء الاتِّحاديّةُ ــ وهم أكفَرُ الخلق ــ يحتجُّون بالذّوق والوجد على كفرهم وإلحادهم حتّى يقول قائلهم:

يا صاحبي أنت تنهاني وتأمرني

والوجدُ أصدقُ نهّاءٍ وأمّارِ

فإن أُطِعْكَ وأَعْصِ الوجدَ رُحتُ عمًى

عن اليقين إلى أوهام أخبارِ

وعينُ ما أنت تدعوني إليه إذا

حقّقتَه تَرَهُ المنهيَّ يا جارِ

(4)

ويقول هذا القائل: ثبت عندنا بالكشف والذّوق ما يناقض صريحَ

(1)

البيت للشريف الرَّضي من قصيدة في «ديوانه» (2/ 274 - دار بيروت). وقد أنشده المؤلف في «الصواعق» أيضًا، انظر «مختصره» (ص 604).

(2)

ش، د:«ويسخط» .

(3)

بعده في ر زيادة: «كذلك» .

(4)

ت: «اليمنى باخبار» ، تحريف. والأبيات للتلمساني، أنشدها له شيخ الإسلام في «الجواب الصحيح» (4/ 398) و «بيان تلبيس الجهمية» (5/ 90). وانظر:«مجموع الفتاوى» (2/ 259، 473).

ص: 436

العقل

(1)

. وكلُّ معتقدٍ لأمرٍ جازمٍ به مستحسنٍ له يذوق طعمه. فالملحدُ يذوق طعمَ الإلحاد والانحلال من الدِّين، والرّافضيُّ يذوق طعمَ الرّفض ومعاداةِ خيار الخلق، والقدريُّ يذوق طعمَ إنكار القدر ويعجَب ممّن يثبته، والجبريُّ عكسه. والمشركُ يذوق طعم الشِّرك، حتّى إنّه ليستبشر إذا ذُكِر إلهُه ومعبودُه من دون الله، ويشمئزُّ قلبه إذا ذُكِرَ الله وحده.

وهذا الاحتجاجُ بالذَّوق قد سلكه أربابُ السَّماع المحدَث الشّيطانيِّ الذي هو محضُ شهوة النّفس وهواها، واحتجُّوا على إباحة هذا السَّماع بما فيه من الذّوق والوجد واللّذّة

(2)

. وأنت تجد النّصرانيَّ له في تثليثه ذوقٌ ووجدٌ وحنينٌ، بحيث لو عُرِضَ عليه أشدُّ العذاب لاختاره، دون أن يفارق تثليثه، لما له فيه من الذَّوق!

وحينئذٍ، فيقال: هَبْ أنَّ الأمرَ كما تقول، وأنَّ المتكلِّمَ المنكِرَ

(3)

لم يتكلَّم بلسان الذَّوق، فهل يصحُّ أن يكون ذوقُ الذّائق لذلك حجّةً صحيحةً نافعةً له بينه وبين الله؟ وفرضنا أنّ هذا المنكِرَ قال: نعم، أنا محجوبٌ عن الوصول إلى ما أُنكِره

(4)

، غيرُ ذائقٍ له، وأنت ذائقٌ واصلٌ، فما علامةُ صحَّة ما ذقتَه ووصلتَ إليه؟ وما الدَّليل عليه؟ وأنا لا أُنكِرُ ذوقَك له ووجدَك به،

(1)

عزاه إليه شيخ الإسلام في «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 41 - 42)، و «الجواب الصحيح» (3/ 186 - 187) وفيه:«صريح النقل» . وانظر: «مجموع الفتاوى» (2/ 58)، (11/ 43).

(2)

في ت بياض مكانَ «الذوق والوجد واللذّة» .

(3)

ت: «المتمكن» ، تحريف.

(4)

ر: «أنكرته» .

ص: 437

ولكنَّ الشّأنَ في المَذُوق لا في الذَّوق. وإذا ذاق المحبُّ العاشقُ طعمَ محبّته وعشقه لمحبوبٍ، ما كان غايةُ ذلك أن يدلَّ على وجود محبّته وعشقه، لا على كون ذلك نافعًا له، أو ضارًّا، أو مُوجِبًا لكماله أو نقصه. وبالله التّوفيق.

* * * *

ص: 438

فصل

قال صاحب «المنازل»

(1)

: (باب التوحيد: قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18]. التوحيد: تنزيه الله عز وجل عن الحدَث

(2)

. وإنّما نطق العلماءُ بما نطقوا به وأشار المحقِّقون بما أشاروا به في هذه الطّريق لقصد تصحيح التّوحيد. وما سواه من حالٍ أو مقامٍ، فكلُّه مصحوبٌ بالعلل).

قلت: التّوحيدُ أوّل دعوة الرُّسل، وأوّلُ منازل الطّريق، وأوّلُ مقامٍ يقوم فيه السّالكُ إلى الله تعالى. قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]. وقال هودٌ لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65]. وقال صالحٌ لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 73]. وقال شعيبٌ لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85]

(3)

. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

فالتّوحيدُ مفتاحُ دعوة الرُّسل. ولهذا قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم لرسوله معاذ وقد بعثه إلى اليمن: «إنّك تأتي قومًا أهلَ كتابٍ، فليكن أوّلَ ما تدعوهم إليه:

(1)

«منازل السائرين» (ص 110).

(2)

ش، د:«تنزيه الله عز وجل عن الشريك وتقديسه عن الحدث» ، وكذا في طبعة الصميعي. وفي «المنازل» كما أثبت من ت، ر وهو الصواب. ولا شك أن زيادة «عن الشريك وتقديسه» أقحمها بعض القراء أو النساخ.

(3)

سقطت بعدها صفحتان من ت (290 - 291) في التصوير فيما يظهر.

ص: 439

عبادةُ الله وحده. فإذا شهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدًا رسول الله، فأخبِرْهم أنَّ الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في اليوم واللّيلة»

(1)

، وذكَر الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم:«أُمِرْتُ أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدًا رسول الله»

(2)

.

ولهذا كان الصحيح أنَّ أوّلَ واجبٍ يجب على المكلَّف: شهادة أن لا إله إلّا الله، لا النَّظرُ، ولا القصدُ إلى النظر، ولا الشَّكُّ، كما هي أقوالٌ لأرباب الكلام المذموم

(3)

.

فالتَّوحيد: أوّلُ ما يدخل به في الإسلام وآخِرُ ما يخرج به من الدُّنيا، كما قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«من كان آخر كلامه: لا إله إلّا الله؛ دخل الجنّة»

(4)

. فهو أوّل واجبٍ وآخر واجبٍ. فالتّوحيد: أوّل الأمر وآخره.

قوله: (التوحيد: تنزيه الله عن الحدث). هذا الحدُّ لا يدلُّ على التّوحيد الذي بعث الله به رسلَه وأنزل به كتبَه، وينجو به العبدُ من النّار ويدخل به الجنّة ويخرج من الشِّرك، فإنّه مشتركٌ بين جميع الفِرَق. وكلُّ من أقرَّ بوجود الخالق سبحانه أقرَّ به، فعبَّادُ الأصنام والمجوسُ والنّصارى واليهودُ والمشركون ــ على اختلاف نِحَلِهم ــ كلُّهم ينزِّهون الله عن الحدَث، ويُثبتون

(1)

تقدَّم تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري (25) ومسلم (22) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(3)

انظر ما تقدَّم في منزلة العزم في المجلد الأول (ص 207).

(4)

أخرجه أحمد (22034، 22127) وأبو داود (3116) وغيرهما من حديث معاذ بن جبل. وفي إسناده صالح بن أبي عَريب وهو مجهول. ويُغني عنه في الاستشهاد هنا حديثُ أبي سعيد الخدري عند مسلم (916) بلفظ: «لقِّنوا موتاكم: لا إله إلا الله» .

ص: 440

قِدَمَه. حتّى أعظمُ الطّوائف على الإطلاق شركًا وكفرًا وإلحادًا ــ وهم طائفة الاتِّحاديّة ــ يقولون: هو الوجود المطلق، وهو قديمٌ لم يزل، وهو منزَّهٌ عن الحدَث، ولم تزل المحدَثاتُ تكتسي وجوده: تلبسه وتخلعه.

والفلاسفةُ الذين هم أبعدُ الخلق عن الشّرائع وما جاءت به الأنبياء يُثبتون واجبَ الوجود قديمًا منزَّهًا عن الحدَث.

والمشركون عبّادُ الأصنام يعبدون معه آلهةً أخرى ويُثبتونه قديمًا منزَّهًا عن الحدث.

فتنزيهُ الله عن الحدَث حقٌّ، لكن لا يعطي إسلامًا ولا إيمانًا، ولا يُدْخِل في شرائع الأنبياء، ولا يُخْرِج من نِحَل أهل الكفر ومللهم البتّة. وهذا القدر لا يخفى على شيخ الإسلام، ومحلُّه من العلم والمعرفة محلُّه.

ومع هذا فقد سئل سيِّدُ الطّائفة الجنيدُ عن التوحيد، فقال: هو إفراد القديم عن المحدث

(1)

. والجنيدُ قدَّس الله روحَه أشار إلى أنّه لا تصحُّ دعوى التّوحيد ولا مقامه ولا حاله ولا يكون العبدُ موحِّدًا إلّا إذا أفرد القديمَ من المحدَث، فإنّ كثيرًا ممّن ادّعى التّوحيدَ لم يُفرده سبحانه من المحدثات. فإنَّ من نفى مباينتَه لخلقه فوق سماواته على عرشه، وجعَلَه في كلِّ مكانٍ بذاته، لم يُفرده عن المحدَث، بل جعله حالًّا في المحدَثات مخالطًا لها موجودًا فيها بذاته. وصوفيّةُ هؤلاء وعبّادُهم هم الحلوليّة الذين يقولون: إنّ

(1)

«الرسالة القشيرية» (ص 84). وانظر: «الاستقامة» (1/ 92) و «الرد على الشاذلي» (ص 158، 178) و «منهاج السنة» (5/ 339) و «مجموع الفتاوى» (2/ 299 ومواضع أخرى).

ص: 441

الله يحلُّ بذاته في المخلوقات. وهم طائفتان: طائفةٌ تعُمُّ الموجوداتِ بحلوله فيها، وطائفةٌ تخصُّ به بعضَها دون بعضٍ.

قال الأشعريُّ في كتاب «المقالات»

(1)

: «هذه حكايةُ قول قومٍ من النُّسّاك: وفي الأمّة قومٌ ينتحلون النُّسكَ، يزعمون أنّه جائزٌ على الله تعالى الحلولُ في الأجسام. وإذا رأوا شيئًا يستحسنونه قالوا: لا ندري، لعلّه ربُّنا!» .

قلت: وهذه الفرقة طائفتان. إحداهما: تزعم أنّه سبحانه يحلُّ في الصُّورة الجميلة المستحسنة. والثّانية: تزعم أنّه سبحانه يحلُّ في الكمَّل من النّاس، وهم الذين تجرَّدت نفوسهم عن الشّهوات، واتَّصفوا بالفضائل، وتنزَّهوا عن الرّذائل. والنَّصارى تزعم أنّه حلَّ في بدن المسيح وتدرَّع به. والاتِّحاديّة تزعم أنّه وجودٌ مطلقٌ اكتسته الماهيَّاتُ، فهو عينُ وجودها.

فكلُّ هؤلاء لم يُفردوا القديمَ عن المحدَث.

فصل

وهذا الإفراد الذي أشار إليه الجنيد نوعان:

أحدهما: إفرادٌ في الاعتقاد والخبر. وذلك نوعان أيضًا. أحدهما: إثباتُ مباينة الرَّبِّ تعالى للمخلوقات، وعلوِّه فوق عرشه من فوق سبع سماواتٍ

(2)

، كما نطقت به الكتب الإلهيّة من أوّلها إلى آخرها، وأخبر به

(3)

جميعُ الرُّسل من أوّلهم إلى آخرهم. والثّاني: إفرادُه سبحانه بصفات كماله،

(1)

«مقالات الإسلاميين» (1/ 288).

(2)

العبارة «وعلوِّه

سماوات» شطبها بعضهم في ش.

(3)

ش: «وأخبرته» . وفي ر: «وأخبرت به» .

ص: 442

وإثباتُها له على وجه التَّفصيل كما أثبتها لنفسه وأثبتها له رسلُه منزَّهةً عن التّعطيل والتّحريف والتّكييف والتّمثيل. بل تُثْبَتُ له حقائقُ الأسماء والصِّفات، وتُنفَى عنه فيها مماثلةُ المخلوقات: إثباتٌ بلا تمثيلٍ، وتنزيهٌ بلا تحريفٍ ولا تعطيلٍ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ} [الشورى: 11].

وفي هذا النَّوع يكون إفرادُه سبحانه بعموم قضائه وقدره لجميع المخلوقات ــ أعيانها وصفاتها وأفعالها ــ وأنَّها كلَّها واقعةٌ بمشيئته وقدرته وعلمه وحكمته. فيباين صاحبُ هذا الإفراد سائرَ فِرَق أهل الباطل من الاتِّحاديّة، والحلوليّة، والجهميّة والفرعونيّة الذين يقولون: ليس فوق السّماوات ربٌّ يعبد، ولا على العرش إلهٌ يصلّى له ويُسْجَد

(1)

،والقدريّة الذين يقولون: إنّ الله لا يقدر على أفعال العباد من الملائكة والإنس والجنِّ، ولا على أفعال سائر الحيوانات، بل يقع في ملكه ما لا يريد، ويريد ما لا يكون. فيريد شيئًا فلا يكون، ويكون الشيءُ بغير إرادته ومشيئته.

فصل

والنّوع الثّاني من الإفراد: إفرادُ القديم عن المحدَثِ بالعبادة من التّألُّه، والحُبِّ، والخوف، والرَّجاء، والتّعظيم، والإنابة، والتّوكُّل، والاستعانة، وابتغاء الوسيلة إليه.

فهذا الإفراد، وذلك الإفراد: بهما بُعثت الرُّسل، وأُنزلت الكتب، وشُرِعت الشَّرائع. ولأجل ذلك خُلِقت السّماوات والأرض والجنّة والنّار، وقام الثَّوابُ والعقابُ. فيُفرَدُ القديمُ سبحانه عن المحدَث في ذاته وصفاته

(1)

العبارة «الذين يقولون

ويسجد» أيضًا شطبها بعضهم في ش.

ص: 443

وأفعاله، وفي إرادته وحده ومحبّته وخوفه ورجائه، والتّوكُّل عليه، والاستعانة به، والحلف به، والنّذر له، والتّوبة إليه، والسُّجود له، والتّعظيم والإجلال وتوابع ذلك.

ولذلك

(1)

كانت عبارة الجنيد عن التَّوحيد عبارةً سادّةً مسدَّدةً. فشيخُ الإسلام إن أراد ما أراده أبو القاسم، فلا إشكال. وإن أراد ينزِّهُ الله سبحانه عن قيام الأفعال الاختياريّة به ــ التي يسمِّيها نفاة أفعاله: حلولَ الحوادث، ويجعلون تنزيهَ الرّبِّ تعالى عنها من كمال التّوحيد، بل هو أجلُّ التَّوحيد عندهم ــ فكأنّه قال: التَّوحيدُ تنزيه الرَّبِّ عن حلول الحوادث به. وحقيقة ذلك: أنّ التَّوحيدَ تعطيلُه عن أفعاله، ونفيُها بالكلِّيّة، وأنّه لا يفعل شيئًا البتّة! فإنَّ إثباتَ فاعلٍ من غير فعلٍ يقوم به البتّةَ محالٌ في العقول والفِطَر ولغات الأمم، ولا يثبُت كونُه سبحانه ربًّا للعالم مع نفي ذلك أبدًا، فإنَّ قيامَ الأفعال به هو معنى الرُّبوبيّة وحقيقتها، ونافي هذه المسألة نافٍ لأصل الرُّبوبيّة، جاحدٌ لها رأسًا.

وإن أراد تنزيهَ الرَّبِّ عن سِمات المحدَثين وخصائص المخلوقين، فهو حقٌّ، ولكنَّه تقصيرٌ في التَّعبير عن التَّوحيد، فإنَّ إثباتَ صفات الكمال أصلُ التّوحيد، ومن تمام هذا الإثبات: تنزيهُه سبحانه عن سمات المحدَثين وخصائص المخلوقين. وقد استدرك عليه الاتِّحاديُّ في هذا الحدِّ

(2)

، وقال

(3)

: «شهودُ التّوحيد يرفع الحدوثَ أصلًا ورأسًا» ، فلا يكون هناك وجودان: قديمٌ ومحدثٌ؛ فالتَّوحيد: هو أن لا يرى مع الوجود المطلق سواه.

(1)

ش، د:«فلذلك» .

(2)

انتهى هنا السقط في مصورة ت.

(3)

«شرح التلمساني» (2/ 601).

ص: 444

فصل

وقد تقسَّمت الطّوائفُ التّوحيدَ

(1)

، وسمّى كلُّ طائفةٍ باطلَهم توحيدًا.

فأتباعُ إرَسْطو وابن سينا والطُّوسيِّ، عندهم التَّوحيدُ: إثباتُ وجودٍ مجرَّدٍ عن الماهيّة والصِّفة، بل هو وجودٌ مطلقٌ، لا يعرض لشيءٍ من الماهيَّات، ولا يقوم به وصفٌ، ولا يتخصَّص بنعتٍ، بل صفاتُه كلُّها سلوبٌ وإضافاتٌ! فتوحيدُ هؤلاء غايةُ الإلحاد والجحد والكفر.

وفروعُ هذا التّوحيد: إنكارُ ذات الرّبِّ، والقولُ بقِدَم الأفلاك، وأنّ الله لا يبعث من في القبور، وأنَّ النُّبوّةَ مكتسَبةٌ، وأنّها حرفةٌ من الحرف كالولاية والسِّياسة، وأنّ الله لا يعلم عددَ الأفلاك ولا الكواكب، ولا يعلم شيئًا من الموجودات المعيَّنة البتّة، وأنّه لا يقدر على قلب شيءٍ من أعيان العالم ولا شقِّ الأفلاك ولا خَرْقها، وأنّه: لا حلال ولا حرام

(2)

، ولا أمر ولا نهي، ولا جنّة ولا نار. فهذا توحيد هؤلاء!

وأمّا الاتِّحاديّة، فالتَّوحيدُ عندهم:«أنَّ الحقَّ المنزَّه هو عينُ الخلق المشبَّه»

(3)

، وأنّه سبحانه عينُ وجود كلِّ موجودٍ وحقيقتُه وماهيَّتُه، وأنّه

(1)

زيد قبله «في» بحرف صغير في ش، د.

(2)

ت: «لا حرام ولا حلال» .

(3)

هذه الجملة من «فصوص الحكم» لابن عربي وقد وردت في «فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية» (ص 78). وقد نقلها المؤلف في «الداء والدواء» (ص 299 - 300) وغيره، وشيخ الإسلام في «الجواب الصحيح» (4/ 300) و «جامع المسائل» (7/ 247) وغيرهما.

ص: 445

إنِّيَّةُ

(1)

كلِّ شيءٍ.

وفي كلِّ شيء له آيةٌ

تدلُّ على أنه عينُه

(2)

وهذا عند محقِّقيهم من خطأ التّعبير، بل هو نفسُ الآية، ونفسُ الدّليل

(3)

، ونفسُ المستدِلِّ، ونفسُ المستدَلِّ عليه؛ فالتّعدُّدُ بوجوهٍ واعتباراتٍ وهميّةٍ، لا بالحقيقة والوجود. فهو عندهم عينُ النّاكح وعينُ المنكوح، وعينُ الذّابح وعينُ المذبوح

(4)

، وعينُ الآكل وعين المأكول. وهذا عندهم هو السِّرُّ الذي رمزت إليه هَرامسُ الدُّهور الأوّليّة

(5)

، ورامت

(1)

ر: «آية» ، وكذا في المطبوع، وهو تصحيف.

(2)

قال أبو العتاهية من قصيدة في «ديوانه» (ص 104):

وفي كلِّ شيء له آيةٌ

تدلُّ على أنه واحدُ

ذكر ابن عربي في «الفتوحات المكية» (4/ 223) بيت أبي العتاهية على أنه قول «صاحب العقل» ، أما صاحب التجلِّي فهو «ينشد قولنا في ذلك:

» وأورد البيت بقافية «عينُه» . فالبيت على هذا الوجه لابن عربي. وكذا في «لطائف الأعلام» (ص 449). وانظر: «مجموع الفتاوى» (2/ 81، 473). ولم يفطن محققا ط دار ابن خزيمة وط الصميعي لكونه شعرًا.

(3)

بعده في ت زيادة: «ونفس المدلول» .

(4)

«وعين المذبوح» ساقط من ش، د.

(5)

يعني: حكماءها الأولين. وقد ذكر أبو معشر البلخي أن الهرامس جماعة شتى، منهم الهرمس الذي كان قبل الطوفان وكان بعد الطوفان منهم عدَّة، والمقدَّم منهم اثنان: أحدهما البابلي ــ وهو أجلُّ علماء الكلدانيين ــ والآخر تلميذ فيثاغورس الحكيم من سكان مصر. انظر: «طبقات الأمم» (ص 18 - 19). وانظر: «معجم الفلاسفة» (ص 702) و «المعجم الفلسفي» (2/ 519).

ص: 446

إفادتَه الهدايةُ النَّبويّةُ، كما قاله محقِّقهم وعارفهم ابنُ سبعين

(1)

.

ومن فروع هذا التّوحيد: أنَّ فرعون وقومه مؤمنون كاملو الإيمان، عارفون بالله على الحقيقة. ومن فروعه: أنَّ عُبَّاد الأصنام على الحقِّ والصَّواب، وأنّهم إنّما عبَدوا عينَ الله سبحانه لا غيره. ومن فروعه: أنَّه لا فرقَ في التَّحريم والتَّحليل بين الأمِّ والأخت والأجنبيَّة. ولا فرقَ بين الماء والخمر، والزِّنى والنِّكاح. الكلُّ من عينٍ واحدةٍ، لا، بل هو العين الواحدة؛ وإنّما المحجوبون عن هذا السِّرِّ قالوا: هذا حرامٌ وهذا حلالٌ. نعم

(2)

، هو حرامٌ عليكم، لأنّكم في حجابٍ عن حقيقة هذا التَّوحيد. ومن فروعه: أنَّ الأنبياءَ ضيَّقوا الطَّريقَ على النّاس، وبعَّدوا عليهم المقصود، والأمرُ وراء ما جاؤوا به، ودعَوا إليه.

وأمّا الجهميَّةُ، فالتَّوحيدُ عندهم: إنكارُ علوِّ الله على خلقه بذاته واستوائه على عرشه، وإنكارُ سمعه وبصره وقوّته وحياته وكلامه وصفاته وأفعاله ومحبّته ومحبَّةِ العباد له. فالتّوحيدُ عندهم هو المبالغةُ في إنكار التَّوحيد الذي بعث الله به رسلَه وأنزل به كتبَه.

(1)

في خطبة كتابه «بد العارف» (ص 29).

(2)

قبله في ت: «قلت» بخط بارز كأنه تعقيب المؤلف على ما سبق! وفي ر: «قلنا» ، وهو جزء من كلام التلمساني. في «مجموع الفتاوى» (13/ 197):«حدَّثني الثقةُ أنه قال للتلمساني: فعلى قولكم لا فرق بين امرأة الرجل وأمِّه وابنته. قال: نعم، الجميع عندنا سواء لكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم» . وفيه (2/ 472): حكى عنه الثقات ذلك. وقد ذكر شيخ الإسلام كلام التلمساني في مواضع كثيرة من كتبه. وانظر: «روضة المحبين» للمؤلف (ص 192).

ص: 447

وأمّا القدريَّةُ، فالتَّوحيدُ عندهم: إنكارُ قدَرِ الله وعمومِ مشيئته للكائنات وقدرتِه عليها. ومتأخِّروهم ضمُّوا إلى ذلك توحيدَ الجهميَّة، فصار حقيقةُ التَّوحيد عندهم: إنكارَ القدر، وإنكارَ حقائق الأسماء الحسنى والصِّفات العلى. وربّما سمَّوا إنكارَ القدر والكفرَ بقضاء الرّبِّ وقدره: عدلًا، وقالوا: نحن أهل العدل والتّوحيد.

وأمّا الجبريَّةُ، فالتَّوحيدُ عندهم: هو تفرُّدُ الرَّبِّ تعالى بالخلق والفعل، وأنَّ العبادَ غير فاعلين على الحقيقة، ولا مُحْدِثين لأفعالهم، ولا قادرين عليها؛ وأنَّ الرَّبَّ تعالى لم يفعل لحكمةٍ ولا غايةٍ تُطْلَب بالفعل، وليس في المخلوقات قوًى وطبائع وغرائز وأسبابٌ؛ بل ما ثمَّ إلّا مشيئةٌ محضةٌ ترجِّح مِثلًا على مثلٍ بغير مرجِّحٍ ولا حكمةٍ ولا سببٍ البتَّة.

وأمَّا صاحبُ «المنازل» رحمه الله ومن سلك سبيله فالتَّوحيدُ عندهم: نوعان، أحدهما غير موجودٍ ولا ممكنٍ، وهو: توحيدُ العبدِ ربَّه، فعندهم:

ما وحَّد الواحدَ من واحدٍ

إذ كلُّ من وحَّده جاحدُ

(1)

والثاني: توحيدٌ صحيحٌ، وهو توحيدُ الرَّبِّ لنفسه

(2)

. وكلُّ من ينعته سواه فإنَّه

(3)

ملحدٌ.

(1)

لصاحب «المنازل» من أبيات ثلاثة ختم بها الكتاب. وقد فسَّرها المصنف في المجلد الأول (ص 225)، وسيفسِّرها مرة أخرى في موضعها. ولم يفطن محقق طبعة دار ابن خزيمة لكونه بيتًا من الشعر.

(2)

ش، د:«نفسه» .

(3)

ش، د:«فهو» .

ص: 448

فهذا توحيدُ الطَّوائف

(1)

، ومَن النّاس إلّا أولئك!

فصل

وأمَّا التوحيدُ الذي دعت إليه رسلُ الله ونزلت به كتُبه، فوراء ذلك كلِّه. وهو نوعان: توحيدٌ في المعرفة والإثبات، وتوحيدٌ في المطلب والقصد.

فالأوّل: هو إثباتُ حقيقةِ ذات الرَّبِّ تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه، وعلوِّه فوق سماواته على عرشه، وتكلُّمه بكتبه، وتكليمه لمن شاء من عباده؛ وإثباتُ عموم قضائه وقدره وحكمته. وقد أفصح القرآن عن هذا النّوع جِدَّ الإفصاح

(2)

، كما في أوّل الحديد، وسورة طه، وآخر الحشر، وأوّل تنزيل السّجدة، وأوّل آل عمران، وسورة الإخلاص بكمالها، وغير ذلك.

النّوع الثّاني: مثل ما تضمّنته سورةُ (قل ياأيُّها الكافرون)، وقولُه:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64]، وأوّلُ سورة تنزيل الكتاب وآخرُها، وأوّلُ سورة يونس ووسطُها وآخرُها، وأوَّلُ سورة الأعراف وآخرُها، وجملةُ سورة الأنعام.

وغالبُ سور القرآن، بل كلُّ سورةٍ سورةٍ في القرآن، فهي متضمِّنةٌ لنوعَي التَّوحيد. بل نقول قولًا كلِّيًّا: إنَّ كلَّ آيةٍ في القرآن فهي متضمِّنةٌ للتّوحيد، شاهدةٌ به، داعيةٌ إليه؛ فإنَّ القرآنَ إمّا خبرٌ عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله

(3)

، فهو التَّوحيدُ العلميُّ الخبريُّ. وإمّا دعوةٌ إلى عبادته وحده لا

(1)

ذكر في «الصواعق» (3/ 929) أنَّ التوحيد «اسم لستَّة معانٍ» ، ثم شرحها.

(2)

ش، د:«كل الإفصاح» .

(3)

بعده في ت زيادة: «وأقواله» .

ص: 449

شريك له، وخلعِ كلِّ ما يُعبَد من دونه، فهو التَّوحيدُ الإراديُّ الطّلبيُّ. وإمّا أمرٌ ونهيٌ وإلزامٌ بطاعته وأمره ونهيه، فهي حقوق التّوحيد ومكمِّلاته. وإمّا خبرٌ عن إكرامه لأهل توحيده وطاعته، وما فعَل بهم في الدُّنيا، وما

(1)

يُكرمهم به في الآخرة؛ فهو جزاء توحيده. وإمَّا خبرٌ عن أهل الشِّرك، وما فعَلَ بهم في الدُّنيا من النَّكال، وما يحُلُّ بهم في العقبى من العذاب؛ فهو جزاءُ مَن خرج عن حكم التّوحيد.

فالقرآن كلُّه في التّوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشِّرك وأهله وجزائهم. فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} توحيدٌ، {رَبِّ الْعَالَمِينَ} توحيدٌ، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} توحيدٌ، {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} توحيدٌ، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} توحيدٌ، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} توحيدٌ، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} توحيدٌ متضمِّنٌ لسؤال الهداية إلى طريق أهل التّوحيد الذين أُنْعِمَ عليهم {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} الذين فارقوا التّوحيد.

ولذلك شهد الله لنفسه بهذا التّوحيد، وشهدت له به ملائكتُه وأنبياؤه ورسله. قال تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 18 - 19]. فتضمّنت هذه الآية الكريمة إثباتَ حقيقة التّوحيد، والرَّدَّ على جميع هذه الطَّوائف، والشّهادةَ ببطلان أقوالهم ومذاهبهم. وهذا إنّما يتبيَّن بعد فهم الآية وبيان ما تضمَّنته من المعارف الإلهيّة والحقائق الإيمانيّة

(2)

.

(1)

بعدها في ش، د زيادة:«هو» .

(2)

المؤلف صادر فيما يأتي من كلامه على الآية عن تفسير شيخه لها. انظر: «مجموع الفتاوى» (14/ 168 - 200).

ص: 450

فتضمّنت هذه الآية: أجلَّ شهادةٍ وأعظمَها وأعدلَها وأصدقَها، من أجلِّ شاهدٍ، بأجلِّ مشهودٍ به.

وعباراتُ السَّلَف في «شهد» تدور على الحكم، والقضاء، والإعلام، والبيان، والإخبار. قال مجاهدٌ: حكَمَ، وقضى. وقال الزَّجَّاج: بيَّن. وقالت طائفةٌ: أعلَمَ وأخَبَر

(1)

. وهذه الأقوال كلُّها حقٌّ لا تنافي بينها، فإنَّ الشَّهادَة تتضمَّن كلامَ الشّاهد وخبرَه وقولَه، وتتضمَّن إعلامَه وإخبارَه وبيانَه. فلها أربعُ مراتب. فأوّل مراتبها: علمٌ ومعرفةٌ واعتقادٌ لصحّة المشهود به وثبوته. وثانيها: تكلُّمُه بذلك ونطقُه به، وإن لم يُعلِمْ به غيرَه، بل يتكلَّم بها مع نفسه ويذكرها وينطق بها أو يكتبها. وثالثها: أن يُعلِمَ غيرَه بما شهِد به، ويخبرَه به، ويبيِّنه له. ورابعها: أن يُلْزِمَه بمضمونها ويأمرَه به.

فشهادةُ الله سبحانه لنفسه بالوحدانيّة والقيام بالقسط تضمَّنَت هذه المراتبَ الأربعة: علمَه سبحانه بذلك، وتكلُّمَه به، وإعلامَه وإخبارَه لخلقه به، وأمرَهم وإلزامَهم به.

فأمّا مرتبة العلم، فإنَّ الشّهادةَ بالحقِّ تتضمّنها ضرورةً، وإلّا كان الشّاهدُ شاهدًا بما لا علم له به. قال الله تعالى:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]. وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «على مثلها فاشهد» ، وأشار إلى الشَّمس

(2)

.

(1)

انظر: «معاني القرآن» للزجاج (1/ 385)، و «معاني القرآن» للنحاس (1/ 369)، و «النكت والعيون» (1/ 379)، و «زاد المسير» (1/ 362).

(2)

أخرجه ابن عدي في «الكامل» في ترجمة محمد بن سليمان بن مسمول (9/ 252 - الرشد) والعقيلي في «الضعفاء» (5/ 265 - دار ابن عباس) والحاكم (4/ 98) وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 18) والبيهقي في «السنن» (10/ 156) من حديث عبد الله بن عباس. في إسناده محمد بن سليمان بن مسمول، وهو ضعيف، وقال البيهقي: لم يُروَ من وجهٍ يُعتمد عليه. انظر: «التلخيص الحبير» (6/ 3213) و «إرواء الغليل» (2667).

ص: 451

وأمّا مرتبة التّكلُّم والخبر، فمَن تكلّم بشيءٍ وأخبر به فقد شهد به، وإن لم يتلفّظ بالشّهادة. قال تعالى:{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام: 150]. وقال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19]. فجعل ذلك منهم شهادةً، وإن لم يتلفَّظوا بلفظ الشّهادة، ولم يؤدُّوها عند غيرهم.

وقال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «عدَلت شهادةُ الزُّور الإشراكَ بالله»

(1)

. وشهادةُ الزُّور هي قول الزُّور، كما قال تعالى:{قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 30 - 31]. وعند

(2)

هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عدَلت شهادةُ الزُّور الإشراكَ بالله» ، فسمّى قول الزُّور شهادةً.

وسمّى الله سبحانه إقرارَ العبد على نفسه شهادةً، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135]. فشهادةُ المرء على نفسه: هي إقرارُه على نفسه. وفي الحديث الصّحيح في

(1)

أخرجه أحمد (17603، 18044، 18898، 18902) وأبو داود (3599) والترمذي (2299، 2300) وابن ماجه (2372) وغيرهم من طرق ضعيفة من حديث خريم بن فاتك أو أيمن بن خريم. والحديث ضعفه الترمذي وابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (4/ 548) والألباني في «الضعيفة» (1110).

(2)

في المطبوع: «وعند نزول» بزيادة لفظ «نزول» ، ولعل قصده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك عند تلاوة الآية المذكورة.

ص: 452

قصّة ماعزٍ: فلمّا شهد على نفسه أربعَ مرّاتٍ رجَمَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم

(1)

. وقال تعالى: {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 130].

وهذا وأضعافُه يدلُّ على أنّ الشَّاهدَ عند الحاكم وغيره لا يشترط في قبول شهادته أن يتلفَّظَ بلفظ الشّهادة، كما هو مذهب مالكٍ وأهل المدينة وظاهرُ كلام أحمد

(2)

، ولا يُعرَف عن أحدٍ من الصَّحابة ولا التَّابعين اشتراطُ ذلك.

وقد قال ابن عبَّاسٍ: شهد عندي رجالٌ مرضيُّون ــ وأرضاهم عندي عمر ــ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصّلاة بعد الصُّبح حتّى تطلعَ الشَّمس، وبعد العصر حتّى تغربَ الشَّمس

(3)

. ومعلومٌ أنّهم لم يتلفَّظوا بلفظ الشّهادة.

والعشرةُ الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنّة، لم يتلفَّظ في شهادته لهم بلفظ الشّهادة، بل قال:«أبو بكرٍ في الجنّة، وعمر في الجنّة، وعثمان في الجنّة، وعليٌّ في الجنّة» الحديث

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري (5271) ومسلم (1691) من حديث أبي هريرة وغيره.

(2)

ذكر المؤلف في «البدائع» (4/ 1371) أن فخر الدين ابن تيمية حكى في «ترغيب القاصد» ثلاث روايات عن أحمد: إحداها الاشتراط ــ وهو المذهب ــ والثانية: عدم الاشتراط، وهي اختيار شيخ الإسلام. والثالثة: الفرق بين الأقوال والأفعال. وانظر أيضًا: «الطرق الحكمية» (2/ 538 - 543)، و «الزاد» (3/ 613 - 615)، و «البدائع» (1/ 14)، و «الفروع» (11/ 379 - 380).

(3)

أخرجه البخاري (851) ــ وفي لفظه الشاهد ــ، ومسلم (826).

(4)

أخرجه أحمد (1629، 1631، 1637، 1638، 1644، 1645) وأبو داود (4648 - 4650) والترمذي (3748، 3757) والنسائي في «الكبرى» (8134 - 8137، 8139، 8147 - 8149، 8151، 8153، 8162) وابن ماجه (133) وغيرهم من طرق يشد بعضها بعضًا من حديث سعيد بن زيد بن نوفل العدوي. وقد اختاره الضياء المقدسي (3/ 280 - 290) وصححه الألباني في «الصحيحة» (2/ 531).

ص: 453

وأجمع المسلمون على أنّ الكافر إذا قال: لا إله إلّا الله، محمّدٌ رسول الله، فقد دخل في الإسلام، وشهد شهادة الحقِّ، ولم يتوقَّف إسلامُه على لفظ الشّهادة، وقد دخل في قوله:«حتّى يشهدوا أن لا إله إلّا الله» وفي اللفظ الآخر: «حتّى يقولوا لا إله إلّا الله»

(1)

. فدلَّ على أنَّ مجرَّدَ قولهم: «لا إله إلّا الله» شهادةٌ منهم.

وهذا أكثر من أن تذكر شواهده في الكتاب والسُّنّة. فليس مع من اشترط لفظ الشّهادة دليلٌ يعتمد عليه، والله أعلم

(2)

.

فصل

وأمّا مرتبة الإعلام والإخبار، فنوعان: إعلامٌ بالقول، وإعلامٌ بالفعل. وهذا شأنُ كلِّ مُعْلِمٍ لغيره بأمرٍ: تارةً يُعلِمه به بقوله، وتارةً بفعله. ولهذا كان من جعل داره مسجدًا، وفتَح بابها لكلِّ من دخل إليها، وأَذِن في الصّلاة فيها= مُعْلِمًا أنّها وقفٌ، وإن لم يتلفَّظ به. وكذلك من وُجِدَ متقرِّبًا إلى غيره بأنواع المَسَارِّ، مُعْلِمًا له ولغيره أنّه يحبُّه، وإن لم يتلفَّظ بقوله. وكذلك بالعكس.

وكذلك شهادةُ الرَّبِّ ــ جل جلاله ــ وبيانُه وإعلامُه يكون بقوله تارةً،

(1)

انظر: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في «صحيح مسلم» (21/ 32) باللفظ الأول و (21/ 34) باللفظ الثاني.

(2)

انظر: «الطرق الحكمية» (2/ 542)، و «بدائع الفوائد» (4/ 1370).

ص: 454

وبفعله أخرى.

فالقول هو ما أرسل به رسلَه، وأنزل به كتبَه، ممّا قد عُلِمَ بالاضطرار. وإنَّ جميعَ الرُّسل أخبروا عن الله أنّه شهد لنفسه بأنّه لا إله إلّا هو، وأخبر بذلك، وأمرَ عباده أن يشهدوا به. وشهادتُه سبحانه أنه لا إله إلّا هو معلومةٌ من جهة كلِّ من بلَّغ عنه كلامَه.

وأمّا بيانُه وإعلامُه بفعله، فهو ما تضمّنه خبرُه تعالى عن الأدلّة الدّالّة على وحدانيّته التي يُعلَم

(1)

دلالتها بالعقل والفطرة. وهذا أيضًا يُستعمَل فيه لفظُ الشَّهادة، كما يُستعمَل فيه لفظُ الدّلالة والإرشاد والبيان، فإنّ الدّليل يبيِّن المدلولَ عليه ويُظهره، كما يبيِّنه الشّاهد المخبر؛ بل قد يكون البيانُ بالفعل أظهر وأبلغ.

وقد يسمّى شاهدُ الحال نطقًا وقولًا وكلامًا، لقيامه مقامَه وأدائه مؤدَّاه، كما قيل:

وقالت له العينانِ سمعًا وطاعةً

وحدَّرتا كالدُّرِّ لمّا يثقَّبِ

(2)

وقال الآخر:

شكا إليَّ جملي طولَ السُّرى

صبرًا جميلًا فكلانا مبتلى

(3)

(1)

كذا في ش، د، ت، والمصدر يذكر ويؤنث.

(2)

لم يعرف قائله. وقد استشهد به في «الخصائص» (1/ 23)، و «تمهيد الأوائل» للباقلاني (ص 273)، و «الانتصار» له (2/ 788) ــ والقافية فيهما: ينضَّد/ ينظَّم ــ و «المحكم» (6/ 347)، و «أمالي ابن الشجري» (2/ 51).

(3)

ش، د:«صبرٌ جميلٌ» ، وهي رواية سيبويه (1/ 321)، و «مجاز القرآن» (1/ 303). وفي «معاني القرآن» للفراء (2/ 54، 156) كما أثبت من ت. ومثله في «تفسير الطبري» (15/ 348) و «معاني الزجاج» (3/ 97). وفي ر: «صبرًا جُمَيلي» . والرَّجز منسوب في «شرح ابن السيرافي» (1/ 317) إلى المُلْبِد بن حرملة الشيباني، وتعقّبه الغندجاني في «فرحة الأديب» (ص 179).

ص: 455

وقال الآخر:

امتلأ الحوضُ وقال قَطْني

مهلًا رويدًا قد ملأتُ بطني

(1)

ويسمّى هذا شهادةً أيضًا، كما في قوله تعالى:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17]. فهذه شهادةٌ منهم على أنفسهم بما يفعلونه من أعمال الكفر وأقواله، فهي شهادةٌ بكفرهم، وهم شاهدون على أنفسهم بما شهدت به.

والمقصود: أنَّه سبحانه يشهد

(2)

بما جعل آياته المخلوقةَ دالّةً عليه، فإنَّ دلالتها إنّما هي بخلقه وجعله، ويشهد بآياته القوليّة الكلاميّة المطابقة لما شهدت به آياتُه الخلقيّة، فتتطابق شهادةُ القول وشهادةُ الفعل، كما قال تعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]، أي أنّ القرآن حقٌّ. فأخبر أنّه يدلُّ بآياته الأفقيّة والنَّفسيّة على صدق آياته القوليّة الكلاميّة.

وهذه الشّهادة الفعليّة قد ذكرها غيرُ واحدٍ من أئمّة العربيّة والتّفسير. قال

(1)

الرَّجز دون عزو في «مجالس ثعلب» (1/ 158)، و «إصلاح المنطق» (ص 57، 342)، و «الكامل للمبرد» (2/ 615)، و «تفسير الطبري» (2/ 546 - شاكر) وغيره.

(2)

في ت هنا وفيما يلي: «شهد» .

ص: 456

ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عند خلقه: أنّه لا إله إلّا هو

(1)

.

فصل

وأمّا المرتبة الرَّابعة ــ وهي الأمر بذلك والإلزام به، وإن كان مجرَّدُ الشّهادة لا يستلزمه

(2)

، لكن الشَّهادةَ في هذا الموضع

(3)

تدلُّ عليه وتتضمّنَه، فإنّه سبحانه شهد به شهادةَ من حكمَ به وقضى وأمرَ وألزَمَ عباده به، كما قال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، وقال تعالى:{لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ} [النحل: 51]، وقال تعالى:{أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]، وقال تعالى:{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الإسراء: 22]، وقال:{فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الشعراء: 213]

(4)

. والقرآن كلُّه شاهدٌ بذلك.

ووجهُ استلزام شهادته سبحانه لذلك: أنّه إذا شهد أنّه لا إله إلّا هو، فقد أخبَر وبيَّن وأعلَم وحكَم وقضَى: أنّ ما سواه ليس بإلهٍ، وأنَّ إلهيّةَ ما سواه أبطَلُ الباطل وإثباتَها أظلَمُ الظُّلم، فلا يستحقُّ العبادةَ سواه، كما لا تصلح الإلهيّةُ لغيره. وذلك يستلزم الأمرَ باتِّخاذه وحده إلهًا، والنَّهيَ عن اتِّخاذ غيره

(1)

«الكشف» للثعلبي (3/ 32)، و «زاد المسير» (1/ 362) والمؤلف صادر عن تفسير شيخه. انظر:«مجموع الفتاوى» (14/ 175).

(2)

في ش، د بتاء المضارعة.

(3)

ش، د:«هذه المواضع» .

(4)

لم ترد الآية في ت، ر. وفي المطبوع:{وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [القصص: 88].

ص: 457

معه إلهًا. وهذا يفهمه المخاطب من هذا النّفي والإثبات، كما إذا رأيتَ رجلًا يستفتي أو يستشهد أو يستطِبُّ مَن ليس أهلًا لذلك، ويدَعُ مَن هو أهلٌ له، فتقول

(1)

: هذا ليس بمفتٍ ولا شاهدٍ ولا طبيبٍ، المفتي فلانٌ، والشّاهد فلانٌ، والطّبيب فلانٌ؛ فإنَّ هذا أمرٌ منه

(2)

ونهيٌ.

وأيضًا فإنّ الآية

(3)

قد دلّت على أنّه وحده المستحقُّ للعبادة، فإذا أخبر أنّه هو وحده المستحقُّ للعبادة تضمَّن هذا الإخبارُ: أمرَ العباد

(4)

وإلزامَهم بأداء ما يستحقُّه الرَّبُّ تعالى عليهم، وأنَّ القيامَ بذلك هو خالصُ حقِّه عليهم، فإذا شهد سبحانه أنّه لا إله إلّا هو تضمّنت شهادتُه الأمرَ والإلزامَ بتوحيده.

وأيضًا، فلفظُ الحكم والقضاء يُستعمَل في الجمل الخبريّة، ويقال للجملة الخبريّة: قضيّةٌ وحكمٌ، وقد حُكِمَ فيها بكيت وكيت. قال تعالى:{أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 151 - 154]، فجعل هذا الإخبارَ المجرَّدَ منهم حكمًا. وقال في موضعٍ آخر: {(34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ

(1)

أهمل حرف المضارع في ت وانظر التعليق التالي.

(2)

كذا في النسخ وهو مناسب لسياق الكلام في «مجموع الفتاوى» (14/ 171): «كما إذا استفتى شخصٌ شخصًا، فقال له قائل

». أما السياق هنا (كما إذا رأيتَ رجلًا

) فمقتضاه: «منك» .

(3)

كذا في النسخ، وفي طبعة الفقي:«الأدلَّة» . والسياق في «الفتاوى» (14/ 172): «وأيضًا فلو لم يكن هناك طالبٌ للعبادة، فلفظ الإله يقتضي أنه يستحق العبادة، فإذا أخبر

».

(4)

ش، د:«أمرًا للعباد» .

ص: 458

كَيْفَ} [القلم: 35]. لكن هذا حكمٌ لا إلزام معه، والحكمُ والقضاءُ بأنّه لا إله إلّا هو: متضمِّنٌ للإلزام.

فصل

وقوله تعالى: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} : القسط هو العدل، فشهد

(1)

سبحانه أنّه قائمٌ بالعدل في توحيده، وبالوحدانيّة في عدله.

والتَّوحيدُ والعدلُ هما جِماعُ صفات الكمال، فإنَّ التَّوحيدَ يتضمَّن تفرُّدَه سبحانه بالكمال والجلال والمجد والتَّعظيم الذي لا ينبغي لأحدٍ سواه، والعدلُ يتضمَّن وقوعَ أفعاله كلِّها على السَّداد والصَّواب وموافقة الحكمة.

فهذا توحيدُ الرُّسل وعدلُهم: إثباتُ الصِّفات والأمرُ بعبادة الله وحده لا شريك له، وإثباتُ القدَر والحكمةِ

(2)

، والغاياتِ المطلوبة المحمودة بفعله وأمره؛ لا توحيدُ الجهميّة والمعتزلة والقدريّة الذي هو إنكارُ الصِّفاتِ وحقائقِ الأسماء الحسنى، وعدلُهم الذي هو التّكذيبُ بالقدَر، أو نفيُ الحِكَم والغايات

(3)

والعواقب الحميدة التي يفعل لأجلها ويأمر

(4)

.

وقيامُه سبحانه بالقسط في شهادته يتضمَّن أمورًا:

أحدها

(5)

: أنّه قائمٌ بالقسط في هذه الشَّهادة التي هي أعدَلُ شهادةٍ على

(1)

ش، د:«شهد» .

(2)

ر: «الحِكَم» .

(3)

العبارة «المطلوبة المحمودة

الغايات» ساقطة من ت لانتقال النظر.

(4)

ت: «فيما مرَّ» ، تحريف.

(5)

لم يذكر بعده الثاني والثالث

ص: 459

الإطلاق، وإنكارُها وجحودُها أظلَمُ الظُّلم على الإطلاق. فلا أعدلَ من التّوحيد، ولا أظلمَ من الشِّرك. فهو سبحانه قائمٌ بالعدل في هذه الشَّهادة قولًا وفعلًا، حيث شهد بها وأخبَرَ وأعلَمَ عباده، وبيَّن لهم تحقيقها وصحَّتها، وألزَمَهم بمقتضاها، وحكَم بها

(1)

، وجعل الثّوابَ والعقابَ عليها، كما جعل الأمرَ والنّهيَ من حقوقها وواجباتها. فالدِّينُ كلُّه من حقوقها

(2)

، والثّوابُ كلُّه عليها، والعقابُ كلُّه على تركها.

وهذا هو العدل الذي قام به الرَّبُّ تعالى في هذه الشَّهادة. فأوامرُه كلُّها تكميلٌ لها وأمرٌ بأداء حقوقها، ونواهيه كلُّها صيانةٌ لها عمَّا يهضِمها ويضادُّها. وثوابُه كلُّه عليها، وعقابُه كلُّه على تركها وتركِ حقوقها. وخلقُه السّماواتِ والأرضَ وما بينهما كان بها ولأجلها، وهي الحقُّ الذي خلقت به

(3)

. وضدُّها هو الباطل والعبث الذي نزَّه نفسَه عنه، وأخبر أنّه لم يخلُق به السَّماوات والأرض. قال تعالى ردًّا على المشركين المنكرين لهذه الشّهادة:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]. وقال تعالى: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: 1 - 3]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يونس: 5]. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ

(1)

ت، ر:«به» .

(2)

«وواجباتها

حقوقها» ساقط من ش، د لانتقال النظر.

(3)

ت: «له» .

ص: 460

وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم: 8]. وقال تعالى: {(37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا} [الدخان: 38 - 39]. وهذا كثيرٌ في القرآن.

والحقُّ الذي خُلقت به السّماواتُ والأرضُ ولأجله: هو التَّوحيدُ وحقوقُه من الأمر والنّهي والثّواب والعقاب. فالشَّرعُ والقدَرُ، والخلقُ والأمرُ، والثَّوابُ والعقابُ= قائمٌ بالتَّوحيدِ والعدلِ، والتّوحيد صادرٌ عنهما. وهذا هو الصِّراط المستقيم الذي عليه

(1)

الرَّبُّ سبحانه. قال تعالى حكايةً عن نبيِّه شعيب

(2)

أنه قال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]. فهو سبحانه على صراطٍ مستقيمٍ في قوله وفعله، فهو يقول الحقّ، ويفعل العدل. {وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ

(3)

رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4].

فالصِّراط المستقيم الذي عليه ربُّنا تبارك وتعالى هو مقتضى التّوحيد والعدل. قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ

(1)

ت: «عيّنه» ، تحريف.

(2)

وكذا في «أعلام الموقعين» (1/ 326) و «روضة المحبين» (ص 95) و «مفتاح دار السعادة» (2/ 1058) أيضًا، والصواب:«هود» كما في «الداء والدواء» (ص 480) وغيره.

(3)

كذا في النسخ على قراءة أبي عمرو وغيره.

ص: 461

بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى} [النحل: 76]. فهذا مثلٌ ضربه الله سبحانه لنفسه وللصَّنم، فهو سبحانه الذي يأمر بالعدل، وهو على صراطٍ مستقيمٍ. والصَّنُم مثل العبد الذي هو كَلٌّ على مولاه، الذي

(1)

أينما يوجِّهه لا يأت بخيرٍ.

والمقصود: أنّ قوله تعالى: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} هو كقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

وقوله: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} نصبٌ على الحال. وفيه وجهان

(2)

، أحدهما: أنّه حالٌ من الفاعل في {شَهِدَ اللَّهُ} ، والعامل فيه الفعلُ. والمعنى على هذا: شهد الله حال قيامه بالقسط: أنّه لا إله إلّا هو. والثّاني: أنّه حالٌ من قوله: {هُوَ} ، والعاملُ فيها معنى النّفي، أي: لا إله إلّا هو حالَ كونه قائمًا بالقسط.

وبين التّقديرين فرقٌ ظاهرٌ، فإنّ التّقدير الأوّل يتضمَّن أنّ المعنى: شهِد اللهُ متكلِّمًا بالعدل، مخبرًا به، آمرًا به، فاعلًا له، مجازيًا به: أنّه لا إله إلّا هو. فإنَّ العدل يكون في القول والفعل، والمقسطُ هو العادلُ في قوله وفعله، فشهِد الله قائمًا بالعدل قولًا وفعلًا: أنّه لا إله إلّا هو. وفي ذلك تحقيقٌ لكون هذه الشَّهادة شهادةَ عدلٍ وقسطٍ، وهي أعدلُ شهادةٍ، كما أنَّ المشهودَ به أعدَلُ شيءٍ وأصحُّه وأحقُّه.

(1)

لم يرد «الذي» في ت، ومن قبل سقط منها «مثل العبد» .

(2)

انظر: «تفسير الطبري» (6/ 270)، و «الكشاف» (1/ 344) والمؤلف صادر كما سبق عن تفسير شيخه. انظر:«مجموع الفتاوى» (14/ 175).

ص: 462

وذكر ابنُ السّائب

(1)

وغيرُه في سبب نزول الآية ما يشهد بذلك، وهو أنّ حبرين من أحبار الشّام قدما على النّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينةَ بصفة مدينةِ النّبيِّ الذي يخرج في آخر الزَّمان! فلمّا دخلا على النّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالا له: أنت محمّدٌ؟ قال: نعم. قالا: وأحمد؟ قال: نعم. قالا: نسألك عن شهادةٍ، فإن أخبرتَنا بها آمنَّا بك. قال: سلاني. قالا: أخبِرنا عن

(2)

أعظم شهادةٍ في كتاب الله. فنزلت: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} الآية.

وإذا كان القيامُ بالقسط يكون في القول والفعل كان المعنى: أنّه سبحانه يشهد وهو قائمٌ بالعدل، عاملٌ به لا بالظُّلم. فإنَّ هذه الشّهادة تضمَّنت قولًا وعملًا، فإنّها تضمّنت أنّه هو الذي يستحقُّ العبادة وحده دون غيره، وأنَّ الذين عبدوه وحده هم المفلحون السُّعداء، وأنَّ الذين أشركوا به غيره هم الضَّالُّون الأشقياء. فإذا شهد قائمًا بالعدل ــ المتضمِّن جزاءَ المخلصين بالجنّة، وجزاءَ المشركين بالنّار ــ كان هذا من تمام موجَب هذه الشّهادة وتحقيقها، وكان قولُه:{قَائِمًا بِالْقِسْطِ} تنبيهًا على جزاء الشّاهد بها والجاحد لها.

فصل

وأمّا التّقدير الثّاني ــ وهو أن يكون قوله: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} حالًا ممّا بعد

(1)

يعني: الكلبي. وعنه نقل شيخ الإسلام. وانظر حكاية الكلبي في «بحر العلوم» للسمرقندي (1/ 200) والثعلبي في «الكشف» (3/ 32) والواحدي في «أسباب النزول» (ص 92). ولم أر أحدًا نقلها عن غير الكلبي كما ذكر المؤلف.

(2)

حرف «عن» ساقط من ش، د.

ص: 463

إلّا ــ فالمعنى: أنّه وحدَه الإلهُ

(1)

قائمًا بالعدل، فهو وحدَه المستحقُّ للإلهيَّة مع كونه قائمًا بالقسط. قال شيخنا

(2)

: وهذا التّقدير أرجح، فإنّه يتضمَّن أنّ الملائكة وأولي العلم يشهدون له بأنّه لا إله إلّا هو، وأنّه

(3)

قائمٌ بالقسط.

قلتُ: مراده أنّه إذا كان قوله {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} حالًا من المشهود به، فهو كالصِّفة له، فإنّ الحال صفةٌ في المعنى؛ فإذا وقعت الشَّهادةُ على ذي الحال وصاحبها كان كلاهما مشهودًا به، فيكون الملائكة وأولو العلم قد شهدوا بأنّه قائمٌ بالقسط، كما شهدوا بأنّه لا إله إلّا هو. والتّقدير الأوّل لا يتضمَّن ذلك، فإنّه إذا كان التّقدير: شهد الله قائمًا بالقسط أنّه

(4)

لا إله إلّا هو، والملائكة وأولو العلم يشهدون أنّه لا إله إلّا هو= كان القيامُ بالقسط حالًا من اسم الله وحده. وأيضًا فكونُه قائمًا بالقسط فيما شهد به أبلَغُ من كونه حالًا من مجرَّد الشاهد

(5)

.

فإن قيل

(6)

: فإذا كان حالًا من «هو» فهلَّا اقترن به؟ ولم فُصِل بين صاحب الحال وبينها بالمعطوف، فجاء متوسِّطًا بين صاحب الحال وبينها؟

قلتُ: فائدته ظاهرة، فإنّه لو قال: «شهد الله أنّه لا إله إلّا هو قائمًا

(1)

ر: «أنه لا إله إلا هو» ، وكذا في طبعة الفقي. وفي «مجموع الفتاوى» (14/ 177) كما أثبت من النسخ المعتمدة.

(2)

في موضع «قال شيخنا» بياض في ت.

(3)

«وأنه» ساقط من ش، د.

(4)

«أنه» ساقط من ش، والعبارة من قوله:«أنه» إلى «بالقسط» ساقطة من د.

(5)

كذا في النسخ المعتمدة. وفي ر: «الشهادة» ، وكذا في المطبوع.

(6)

ت: «قلت» .

ص: 464

بالقسط والملائكة وأولو العلم» أوهَمَ عطفَ الملائكة وأولي العلم على الضَّمير في قوله: {قَائِمًا} وتحسَّن العطفُ

(1)

لأجل الفصل بقوله: {بِالْقِسْطِ}

(2)

، وليس المعنى على ذلك قطعًا، وإنّما المعنى على خلافه، وهو أنّ قيامه بالقسط مختصٌّ

(3)

به، كما أنّه مختصٌّ بالإلهيّة؛ فهو وحده الإله المعبود المستحقُّ

(4)

للعبادة، وهو وحده المجازي المثيب المعاقِب بالعدل.

وقوله: «لا إله إلّا هو» ، ذُكِر عن

(5)

جعفر بن محمد أنّه قال: الأولى وصفٌ وتوحيدٌ، والثّانية: رسمٌ وتعليمٌ، أي قولوا: لا إله إلّا هو

(6)

. ومعنى هذا: أنّ الأولى تضمّنت أنّ الله سبحانه شهد بها وأخبر بها، والتّالي للقرآن إنّما يخبر عن شهادة الله، لا عن شهادته هو، وليس في ذلك شهادةٌ من التّالي نفسه، فأعاد سبحانه ذكرَها مجرّدةً ليقولها التَّالي، فيكون شاهدًا هو بها أيضًا. وأيضًا فالأولى: خبرٌ عن الشّهادة بالتَّوحيد، والثّانية: خبرٌ عن نفس التَّوحيد.

(1)

يعني: على الضمير في «قائمًا» وكذا «تحسن العطف» في د على الصواب. ولم ينقط أول الفعل في ت، وفي غيرهما:«يحسن» ، تصحيف خفي به السياق، فأثبت في نشرة الفقي وغيرها:«لا يحسن» بزيادة «لا» النافية.

(2)

«بقوله {بالقسط}» من ت وحدها.

(3)

ش، د:«يختصُّ» .

(4)

ش، د:«والمستحق» .

(5)

«عن» ساقطة من المطبوع. وفي ر: «محمد بن جعفر» وكذا في طبعة الفقي، وهو غلط: وجعفر بن محمد هو الشهير بجعفر الصادق بن محمد الباقر.

(6)

«تفسير الثعلبي» (3/ 34)، «زاد المسير» (1/ 362)، «مجموع الفتاوى» (14/ 180).

ص: 465

وختم الآية بقوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . فتضمَّنت الآيةُ توحيده، وعدله، وعزّته، وحكمته. فالتّوحيد يتضمَّن: ثبوتَ صفاتِ كماله ونعوتِ جلاله، وعدمَ المماثل له فيها، وعبادتَه وحده لا شريك له. والعدل يتضمَّن: وضعَه الأشياء مواضعَها وتنزيلَها منازلَها، وأنّه لم يخُصَّ منها شيئًا عن شيء إلّا بمخصِّصٍ اقتضى ذلك، وأنّه لا يعاقِبُ مَن لا يستحقُّ العقوبة، ولا يمنع مَن يستحقُّ العطاء، وإن كان هو الذي جعله مستحِقًّا. والعزَّةُ تتضمّن كمالَ قدرته وقوّته وقهره. والحكمةُ تتضمَّن: كمالَ علمه وخبرته، وأنّه أمَر ونهى وخلَق وقدَّر لما له في ذلك من الحِكَم والغايات الحميدة التي يستحقُّ عليها كمالَ الحمد.

فاسمه «العزيز» يتضمَّن الملك، واسمه «الحكيم» يتضمَّن الحمد، وأوّلُ الآية يتضمَّن التّوحيد. وذلك حقيقة «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ» ، وذلك أفضل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم والنّبيُّون من قبله

(1)

.

والحكيم: الذي إذا أمر بأمرٍ كان حسنًا في نفسه، وإذا نهى عن شيءٍ كان قبيحًا في نفسه، وإذا أخبر بخبرٍ كان صدقًا، وإذا فعَلَ فعلًا كان صوابًا، وإذا

(1)

كما جاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الترمذي (3585) وغيره. في إسناده حماد بن أبي حميد، وهو ضعيف. قال الترمذي:«حديث غريب من هذا الوجه، وحماد بن أبي حميد ليس هو بالقوي عند أهل الحديث» .

وأخرجه مالك في «الموطأ» (572، 1270) ــ وعنه عبد الرزاق (8125) ــ بإسناد صحيح عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلًا. وله شاهدان آخران، مسند ومرسل، يعتضد بهما الحديث. انظر:«الصحيحة» (1503).

ص: 466

أراد شيئًا كان أولى بالإرادة من غيره. وهذا الوصف على الكمال لا يكون إلّا لله وحده.

فتضمَّنت

(1)

هذه الشّهادة: وحدانيّتَه المنافيةَ للشِّرك، وعدلَه المنافيَ للظُّلم، وعزّتَه المنافيةَ للعجز، وحكمتَه المنافيةَ للجهل والعبث. ففيها الشّهادة له بالتّوحيد، والعدل، والقدرة، والعلم، والحكمة؛ ولهذا كانت أعظم شهادةٍ.

ولا يقوم بهذه الشّهادة على وجهها من جميع الطّوائف إلّا أهلُ السُّنّة، وسائرُ طوائف

(2)

أهل البدع لا يقومون بها: فالفلاسفة أشدُّ النّاس إنكارًا وجحودًا لمضمونها من أوّلها إلى آخرها. وطوائفُ الاتِّحاديّة: هم أبعدُ خلقِ الله منها من كلِّ وجهٍ. وطائفةُ الجهميّة تنكر حقيقتَها من وجوهٍ:

منها: أنّ الإله هو

(3)

الذي تألهه القلوب محبّةً له

(4)

واشتياقًا إليه وإنابةً. وعندهم: أنّ الله لا يُحِبُّ ولا يُحَبُّ.

ومنها: أنَّ الشّهادَة كلامُه وخَبرُه عمّا شهِد به. وهو عندهم لا يقول ولا يتكلَّم ولا يَشهد ولا يُخبر.

(1)

بعده في ر زيادة: «هذه الآية و» ، وكذا في المطبوع دون تنبيه على خلوِّ الأصل منها.

(2)

سقط من ش: «إلا أهل السنَّة وسائر طوائف» لانتقال النظر، فقدَّر بعضهم هذا الساقطَ، وكتب في هامشها:«إلا أهل السنة لأن أهل الشرك و» مع علامة صح في آخره وفوقها حرف الظاء، يعني: أن الظاهر أن هذه العبارة ساقطة من الأصل. وقد أثبت ناسخ د هذه العبارة أيضًا في هامشها، ولكن حذف حرف الظاء.

(3)

«هو» ساقط من ت.

(4)

«له» ساقط من ش، د.

ص: 467

ومنها: أنّها تتضمَّن مباينتَه لخلقه بذاته وصفاته. وعند فرعونيِّهم: أنّه لا يُبايِنُ الخلقَ ولا يُحايِثُهم

(1)

، وليس فوق العرش إلهٌ يُعبَد، ولا ربٌّ يصلّى له ويُسْجَد. وعند حلوليِّهم: أنّه حالٌّ في كلِّ مكانٍ بذاته، حتّى في الأمكنة التي يُستحيا من ذكرها. فهؤلاء مُثبتة الجهميّة، وأولئك نُفاتهم.

ومنها: أنَّ قيامَه بالقسط في أفعاله وأقواله. وعندهم: أنّه لم يقم به فعلٌ ولا قولٌ البتّة، وأنَّ قولَه مخلوقٌ من بعض المخلوقات، وفعلَه هو المفعول المنفصل، وأمّا أن يكون له فعلٌ يكون به فاعلًا حقيقةً، فلا.

ومنها: أنّ القسط عندهم لا حقيقة له، بل كلُّ ممكنٍ فهو قسطٌ. وليس في مقدوره ما يكون ظلمًا وقسطًا، بل الظُّلمُ عندهم هو المُحالُ الممتنعُ لذاته، والقسط هو الممكن؛ فنزَّه نفسَه سبحانه ــ على قولهم ــ عن المحال الممتنع لذاته الذي لا يدخل تحت القدرة.

ومنها: أنّ العزّة هي القوّة والقدرة. وعندهم لا تقوم به صفةٌ، ولا له صفةٌ تسمّى قدرةً وقوّةً.

ومنها: أنّ الحكمة هي الغاية التي يُفْعَل لأجلها، وتكون هي المطلوبة بالفعل، ويكون وجودُها أولى من عدمها. وهذا عندهم ممتنعٌ

(2)

في حقِّه سبحانه، فلا يفعل لحكمةٍ ولا غايةٍ، بل لا غايةَ لفعله ولا أمره، وما ثمَّ إلّا محضُ المشيئة المجرَّدة عن الحكمة والتَّعليل.

ومنها: أنّ الإله هو الذي له الأسماء الحسنى والصِّفاتُ العُلا، وهو

(1)

ت: «يجانبهم» ، تصحيف.

(2)

ت: «يمتنع» .

ص: 468

الذي يفعل بقدرته ومشيئته وحكمته، وهو الموصوف بالصِّفات والأفعال، المسمّى بالأسماء الّتي قامت به

(1)

حقائقها ومعانيها. وهذا لا يُثبته على الحقيقة إلّا أتباعُ الرُّسل، وهم أهلُ العدل والتّوحيد.

فصل

فالجهميّة والمعتزلة: تزعم أنَّ ذاتَه لا تُحَبُّ، ووجهَه لا يُرى

(2)

، ولا يلتذُّ بالنّظر إليه، ولا تشتاق القلوب إليه، فهم في الحقيقة منكرون للإلهيّة

(3)

.

والقدريّة: تُنكر دخول أفعال الملائكة والجنِّ والإنس وسائر الحيوان تحت قدرته ومشيئته وخلقه، فهم منكرون في الحقيقة لكمال عزَّته وملكه.

والجبريّة: تُنكر حكمته، وأن يكون له في أفعاله وأوامره غايةٌ يفعل ويأمر لأجلها، فهم منكرون في الحقيقة لحكمته وحمده.

وأتباعُ ابن سينا والنَّصير الطُّوسيِّ وفروخهما: تُنكر أن يكون له ماهيّةٌ غير الوجود المطلق، وأن يكون له وصفٌ ثبوتيٌّ زائدٌ على ماهيّة الوجود، فهم في الحقيقة منكرون لذاته وصفاته وأفعاله، لا يتحاشَون من ذلك.

والاتِّحاديّة: أدهى وأمرُّ، فإنّهم رفعوا القواعد من الأصل، وقالوا: ما ثَمَّ وجودُ خالقٍ ووجودُ مخلوقٍ، بل الخلقُ المشبَّهُ هو الحقُّ المنزَّهُ، كلُّ ذلك من عينٍ واحدةٍ، بل هو العين الواحدة.

(1)

ت: «بها» ، والصواب ما أثبت من غيرها.

(2)

ش، د:«يراد» ، ولعله تحريف.

(3)

ت، ر:«الإلهية» .

ص: 469

فهذه الشّهادة العظيمة: كلُّ هؤلاء هم بها غيرُ قائمين. وهي متضمِّنةٌ لإبطالِ ما هم عليه وردِّه، كما تضمَّنت إبطالَ ما عليه المشركون وردَّه، وهي مبطلةٌ لقول طائفتي الشِّرك والتّعطيل. ولا يقوم بهذه الشّهادة إلّا أهل التَّوحيد والإثبات الذين يُثبتون لله ما أثبته لنفسه من الأسماء والصِّفات، وينفُون عنه مماثلةَ المخلوقات، ويعبدونه وحده لا يشركون به شيئًا.

فصل

وإذا كانت شهادتُه سبحانه تتضمَّن بيانَه للعباد ودلالتَهم وتعريفَهم بما شهد به ــ وإلّا فلو شهد شهادةً لم يتمكَّنوا من العلم بها لم ينتفعوا بها، ولم تقم عليهم بها الحجّة، كما أنَّ الشّاهدَ من العباد إذا كانت عنده شهادةٌ ولم يبيِّنها بل كتَمها لم ينتفع بها أحدٌ، ولم تقُم بها حجّةٌ ــ وإذا كان لا يُنتفع بها إلّا ببيانها، فهو سبحانه قد بيَّنها غايةَ البيان بطرقٍ ثلاثةٍ

(1)

: السَّمع، والبصر، والعقل.

أمّا السَّمْعُ، فيسمعُ

(2)

آياته المتلوّة القوليّة المتضمِّنة لإثبات صفات كماله ونعوت جلاله، وعلوِّه على عرشه فوق سبع سماواته، وتكلُّمِه بكتبه، وتكليمِه لمن شاء من عباده تكلُّمًا وتكليمًا حقيقةً لا مجازًا.

وفي هذا إبطالٌ لقول من قال: إنّه لم يُرِد من العباد ما دلّت عليه آياتُه السَّمعيّةُ من إثبات معانيها وحقائقها التي وُضِعت لها ألفاظها، فإنّ هذا ضدُّ البيان والإعلام، ويعود على مقصود الشّهادة بالإبطال والكتمان. وقد ذمَّ الله

(1)

ت: «بينة» ، تصحيف.

(2)

في المطبوع: «فبسمع» .

ص: 470

من كتم شهادةً عنده من الله، وأخبر أنّه من أظلم الظَّالمين. فإذا كانت عند العبد شهادةٌ من الله تُحقِّق ما جاء به رسولُه من أعلامِ نبوّته وتوحيدِ المرسِل وأنَّ إبراهيم وأهل بيته كانوا على الإسلام كلُّهم، وكَتَم

(1)

هذه الشّهادةَ، كان من أظلَم الظّالمين ــ كما فعله أعداءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود الذين كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ــ فكيف يُظَنُّ بالله سبحانه أنّه كتَم الشَّهادةَ الحقَّ التي تشهد

(2)

بها الجهميّة والمعتزلة والمعطِّلة، ولا يشهد بها لنفسه، ثمَّ يَشهد لنفسه بما يضادُّها ويناقضها، ولا يجامعها بوجهٍ ما؟ سبحانك هذا بهتانٌ عظيمٌ! فإنَّ الله سبحانه شهد لنفسه بأنَّه استوى على العرش، وبأنَّه القاهر فوق عباده، وبأنَّ ملائكته يخافونه من فوقهم، وأنَّ الملائكة تعرج إليه بالأمر وتنزل من عنده به، وأنَّ العملَ الصَّالحَ يصعد إليه، وأنّه يأتي ويجيء، ويتكلّم، ويرضى ويغضب، ويحبُّ ويبغض، ويُنادي

(3)

ويفرَح ويضحَك ويعجب، وأنّه يسمع ويُبصر، وأنّه يراه المؤمنون بأبصارهم يومَ لقائه، إلى غير ذلك ممّا

(4)

شهد به لنفسه، وشهد له به رسولهُ

(5)

.

وشهدت له الجهميّة بضدِّ ذلك

(6)

، وقالوا: شهادتُنا أعدَلُ وأصحُّ من شهادة النُّصوص، فإنّ النُّصوص تضمّنت كتمانَ الحقِّ وإظهارَ خلافه.

(1)

ت: «ومن كتم» بزيادة «من» وهي خطأ.

(2)

ت: «شهد» .

(3)

كذا في النسخ وكان اقترانه بالفعل السابق «يتكلم» أنسب، وفي ط الفقي:«يتأذَّى» .

(4)

ش، د:«كما» ، والمثبت من ر.

(5)

ر: «رسله» .

(6)

العبارة «مما شهد به

ذلك» ساقطة من ت.

ص: 471

فشهادةُ الرَّبِّ تعالى تُكذِّب هؤلاء أشدَّ التَّكذيب، وتتضمَّن أنَّ الذي شهِدَ به بيَّنه

(1)

وأوضَحه وأظهَره حتّى جعله في أعلى مراتب الظُّهور والبيان، وأنّه لو كان الحقُّ ما تقوله المعطِّلة والجهميّة لم يكن العباد قد انتفعوا بما شهد به سبحانه، فإنّ الحقّ الذي في نفس الأمر عندهم لم يشهد به لنفسه، والّذي شهد به لنفسه وأظهره وأوضحه فليس بحقٍّ، ولا يجوز أن يستفاد منه الحقُّ واليقين!

وأمّا آياته العيانيّة الخلقيّة، فالنَّظرُ فيها والاستدلال بها يدلُّ على ما تدلُّ عليه آياته القوليّة السّمعيّة. وآياتُ الرّبِّ: هي دلالاته

(2)

وبراهينه التي بها يعرفه

(3)

العباد ويعرفون أسماءه وصفاته وتوحيده وأمره ونهيه. فالرُّسلُ تخبر عنه بكلامه الذي تكلَّم به وهو آياتُه القوليّة، ويستدلُّون على ذلك بمفعولاته التي تشهد على صحّة ذلك وهي آياته العيانيّة، والعقل يجمع بين هذه وهذه، فيجزم بصحَّة ما جاءت به الرُّسل، فتتّفق شهادةُ السّمع والبصر والعقل والفطرة. وهو سبحانه ــ لكمال

(4)

عدله ورحمته، وإحسانه وحكمته، ومحبّته للعذر، وإقامته للحجّة ــ لم يبعث نبيًّا من الأنبياء إلّا ومعه آيةٌ تدلُّ على صدقه فيما أخبر به.

قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ

(1)

ما عدا ر: «نبيّه» ، وفي ت بعده:«صلى الله عليه وسلم» ، واستظهر بعضهم في حاشية ش أن يكون الصواب كما أثبت من ر.

(2)

ر: «دلائله» .

(3)

ت: «يعرف» .

(4)

ت: «بكمال» .

ص: 472

وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا يُوحَى

(1)

إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 43]. وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [آل عمران: 183 - 184]. وقال تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}

(2)

[فاطر: 25].

حتّى إنّ من أخفى آيات الرُّسل آياتِ

(3)

هودٍ عليه السلام، حتّى قال له قومه:{يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} [هود: 53]، ومع هذا فبيِّنتُه من أظهر البيِّنات. وقد أشار إليها بقوله:{قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 54 - 56]. فهذا من أعظم الآيات: أنَّ رجلًا واحدًا يخاطب أمّةً عظيمةً بهذا الخطاب غيرَ جزعٍ ولا فزعٍ ولا خوّارٍ، بل هو واثقٌ بما قاله جازمٌ به، فأشهد الله أوّلًا على براءته من دينهم وما هم عليه إشهادَ واثقٍ به، معتمدٍ عليه، مُعْلِمٍ لقومه أنّه وليُّه وناصرُه وغير مسلِّط لهم عليه.

(1)

هكذا في النسخ المعتمدة على قراءة أبي عمرو وغيره.

(2)

وقع في النسخ سقطٌ لانتقال النظر وخلطٌ بين آيتي آل عمران وفاطر.

(3)

ت: «كآيات» .

ص: 473

ثمَّ أشهَدهم ــ إشهادَ مجاهرٍ

(1)

لهم بالمخالفة: أنّه بريءٌ من دينهم

(2)

وآلهتهم التي يوالون عليها، ويعادون عليها، ويبذلون دماءهم وأموالهم في نصرتها.

ثمّ أكَّد عليهم ذلك بالاستهانة بهم واحتقارهم وازدرائهم، وكونهم يجتمعون كلُّهم على كيده وشفاء غيظهم منه، ثمّ يعالجونه ولا يمهلونه. وفي ضمن ذلك: أنَّكم أضعفُ وأعجزُ وأقلُّ من ذلك، وأنّكم لو رُمتموه

(3)

لانقلبتم بغيظكم مكبوتين مخذولين.

ثمّ قرَّر دعوته أحسنَ تقريرٍ، وبيَّن أنَّ ربَّه تعالى وربَّهم الذي نواصيهم بيده هو وليُّه ووكيلُه القائمُ بنصره وتأييده، وأنّه على صراطٍ مستقيمٍ، فلا يخذُل من توكَّلَ عليه وآمن به، ولا يُشمِتُ به أعداءَه، ولا يكون معهم عليه، فإنَّ صراطه المستقيم الذي هو عليه في قوله وفعله يمنع ذلك ويأباه.

وتحت هذا الخطاب: أنَّ من صراطه المستقيم أن ينتقمَ ممَّن خرج عنه وعمل بخلافه، ويُنزلَ به بأسه؛ فإنّ الصِّراط المستقيم

(4)

هو العدلُ الذي الرَّبُّ تعالى عليه، ومنه انتقامُه من أهل الشِّرك والإجرام ونصرةُ أوليائه ورسله عليهم، وأنّه يذهب بهم ويستخلف قومًا غيرهم ولا يضرُّه ذلك شيئًا، وأنّه القائمُ سبحانه على كلِّ شيءٍ حفظًا ورعايةً وتدبيرًا وإحصاءً.

(1)

ت: «شهادة مجاهد» ، تحريف.

(2)

ت: «منهم» .

(3)

ش، د:«رميتهموه» ، تحريف.

(4)

لفظ «المستقيم» ساقط من ش، د.

ص: 474

فأيُّ آيةٍ وبرهانٍ ودليلٍ أحسَنُ من آيات الأنبياء وبراهينهم وأدلّتهم؟ وهي شهادةٌ من الله سبحانه لهم، بيَّنها لعباده غاية البيان وأظهرها لهم غاية الإظهار بقوله وفعله.

وفي «الصحيح»

(1)

عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «ما من نبيٍّ من الأنبياء إلّا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنّما كان الذي أوتيتُه وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعًا يوم القيامة» .

ومن أسمائه تعالى: «المؤمن» ، وهو في أحد التَّفسيرين: المصدِّق الذي يُصدِّق الصّادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم. فهو الذي صدَّق رسلَه وأنبياءه فيما بلَّغوا عنه، وشهد لهم بأنّهم صادقون بالدّلائل التي دلَّ بها على صدقهم قضاءً

(2)

وخَلْقًا، فإنّه

(3)

سبحانه أخبر ــ وخبرُه الصِّدق، وقولُه الحقُّ ــ أنّه لابدّ أن يُري العبادَ من الآيات الأفقيّة والنّفسيّة ما يبيِّن لهم أنَّ الوحي الذي بلَّغَته رسلُه حقٌّ، فقال تعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} أي القرآن، فإنّه هو المتقدِّم في قوله:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [فصلت: 52]. ثمّ قال: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]. فشهد سبحانه لرسوله بقوله: أنَّ ما جاء به حقٌّ، ووَعَده أن يُري العبادَ من آياته الفعليّة الخَلقيّة ما يشهد بذلك أيضًا. ثمّ ذكر ما هو أعظَمُ من ذلك وأجلُّ، وهو شهادته سبحانه على كلِّ شيءٍ، فإنَّ

(1)

أخرجه البخاري (4981) ومسلم (152) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

ت: «نصًّا» .

(3)

ت: «فالله» .

ص: 475

من أسمائه «الشّهيد» الذي لا يغيب عنه شيءٌ، ولا يعزُب عنه، بل هو مطّلعٌ على كلِّ شيءٍ، مشاهدٌ له، عليمٌ بتفاصيله. وهذا استدلالٌ بأسمائه وصفاته، والأوّلُ استدلالٌ بقوله وكلماته

(1)

، والاستدلالُ بالآيات الأفقيّة والنّفسيّة استدلالٌ بأفعاله ومخلوقاته.

فإن قلتَ: قد فهمتُ الاستدلالَ بكلماته والاستدلالَ بمخلوقاته، فبيِّن لي كيفيَّة

(2)

الاستدلال بأسمائه وصفاته، فإنّ ذلك أمرٌ لا عهد لنا به في تخاطبنا ولا في كتبنا.

قلتُ: أجل! وهو لَعَمْرُ الله كما ذكرتَ، وشأنُه أجلُّ وأعلى، فإنَّ الرَّبَّ تعالى هو المدلول عليه، وآياته هي الدّليل والبرهان.

فاعلم أنَّ الله سبحانه في الحقيقة هو الدّالُّ على نفسه بآياته، فهو الدَّليلُ لعباده في الحقيقة بما نصبَه لهم من الدَّلالات والآيات. وقد أودع في الفِطَر التي لم تتنجَّس بالتّعطيل والجحود أنّه

(3)

سبحانه الكاملُ في أسمائه وصفاته، وأنّه الموصوفُ بكلِّ كمالٍ، المنزَّهُ عن كلِّ عيبٍ ونقصٍ. فالكمالُ كلُّه والجلالُ والجمالُ والبهاءُ والعزُّ والعظمةُ والكبرياءُ= كلُّه من لوازم ذاته، يستحيلُ أن يكون على غير ذلك. فالحياةُ كلُّها له، والعلمُ كلُّه له

(4)

، والقدرةُ كلُّها له. والسَّمعُ والبصرُ والإرادةُ والمشيئةُ والرَّحمةُ والغنى والجودُ

(1)

ش، د:«بكلماته» ، سقط منهما «بقوله و» فزاد بعضهم باء قبل «كلماته» .

(2)

ش، د:«كيف» .

(3)

ت: «أن الله» .

(4)

«والعلم كله له» ساقط من ت.

ص: 476

والإحسانُ والبِرُّ= كلُّه خاصٌّ له

(1)

قائمٌ به، وما خفي عن الخلق من كماله أعظَمُ وأعظَمُ ممّا عرفوه منه، بل لا نسبةَ لما عرفوه من ذلك إلى ما لم يعرفوه!

ومن كماله المقدَّس: اطِّلاعُه على كلِّ شيءٍ، وشهادتُه عليه، بحيث لا يغيب عنه وجهٌ من وجوه تفاصيله، ولا ذرّةٌ من ذرّاته باطنًا وظاهرًا. ومَن هذا شأنه، كيف يليق بالعباد أن يشركوا به، وأن يعبدوا معه غيره ويجعلوا معه إلهًا آخر؟ وكيف يليق بكماله أن يُقِرَّ من يكذبُ عليه أعظمَ الكذب ويخبرُ عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثمّ ينصرَه على ذلك ويؤيِّدَه، ويُعليَ كلمته، ويرفعَ شأنه، ويجيبَ دعوته، ويُهلك عدوَّه، ويُظهر على يديه من الآيات والبراهين والأدلّة ما يعجز عن مثله قوى البشر، وهو مع ذلك كاذبٌ عليه مفترٍ، ساعٍ في الأرض بالفساد؟

ومعلومٌ أنَّ شهادتَه سبحانه على كلِّ شيءٍ، وقدرتَه على كلِّ شيءٍ، وحكمتَه وعزَّتَه وكمالَه المقدَّس= يأبى ذلك

(2)

كلَّ الإباء. ومن ظنّ ذلك به وجوَّزه عليه؛ فهو من أبعد الخلق عن معرفته، وإن عرَفَ منه بعضَ صفاته كصفة القدرة وصفة المشيئة.

والقرآن مملوءٌ من هذه الطّريق، وهي طريقُ الخاصَّة، بل خاصَّةِ الخاصَّة الّذين يستدلُّون بالله على أفعاله، وما يليق به أن يفعله وما لا يفعله.

(1)

ت: «به» .

(2)

ت: «من ذلك» .

ص: 477

وإذا تدبَّرتَ القرآنَ رأيتَه

(1)

ينادي على ذلك، ويبديه ويعيده لمن له فهمٌ وقلبٌ واعٍ عن الله. قال تعالى:{(43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ} [الحاقة: 44 - 47]. أفلا تراه سبحانه يخبر: أنَّ كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يُقِرَّ من تقوَّلَ عليه بعضَ الأقاويل؟ بل لابدَّ أن يجعله عبرةً لعباده، كما جرت بذلك سنَّتُه في المتقوِّلين عليه.

وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24]. هاهنا انتهى جوابُ الشَّرط، ثمَّ أخبر خبرًا جازمًا غيرَ معلَّقٍ أنّه يمحو الباطلَ ويُحِقُّ الحقَّ.

وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، فأخبر أنَّ مَن نفى عنه الإرسالَ والكلامَ لم يقدِّره حقَّ قدره، ولا عرَفَه كما ينبغي، ولا عظَّمه كما يستحقُّ؛ فكيف من ظنَّ أنّه ينصر الكاذبَ المفتريَ عليه ويؤيِّده، ويُظهِر على يديه الآيات والأدلّة؟

وهذا في القرآن كثيرٌ جدًّا: يستدلُّ بكماله المقدَّس وأوصافه وجلاله على صدق رسله وعلى وعده ووعيده، ويدعو عبادَه إلى ذلك، كما يستدلُّ بأسمائه وصفاته على وحدانيّته وعلى بطلان الشِّرك، كما في قوله:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 22 - 23]. وأضعافُ أضعافِ ذلك في القرآن.

(1)

ت: «العزيز وجدته» .

ص: 478

ويستدلُّ سبحانه بأسمائه وصفاته على بطلان ما نُسِب إليه من الأحكام والشَّرائع الباطلة، وأنَّ كماله المقدَّس يمنع من شرعها، كقوله:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}

(1)

[الأعراف: 28]، وقوله عقيبَ ما نهى عنه وحرَّمَه من الشِّرك والظُّلم والفواحش والقولِ عليه بلا علمٍ:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38]، فأعلَمَك أنَّ ما كان سيِّئة في نفسه فهو يكرهه، وكمالُه يأبى أن يجعله شرعًا له ودينًا. فهو سبحانه يدلُّ عباده بأسمائه وصفاته على ما يفعله ويأمر به

(2)

، ويحبُّه ويبغضه، ويثيب عليه ويعاقب عليه؛ ولكنَّ هذه الطَّريقَ لا يصل إليها إلّا خاصَّةُ الخاصَّة، فلذلك كانت طريقُ الجمهور الدِّلالةَ

(3)

بالآيات المشاهدة، فإنّها أوسع وأسهل تناولًا، والله سبحانه يفضِّل بعضَ خلقه على بعضٍ، ويرفع درجاتٍ من يشاء، وهو العليم الحكيم.

فالقرآنُ العظيمُ

(4)

قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره، فإنّه هو الدَّعوةُ والحجَّةُ، وهو الدَّليلُ والمدلولُ عليه، وهو الشَّاهدُ والمشهودُ له، وهو الحَكَم والدَّليلُ، وهو الدَّعوى والبيِّنة. قال الله تعالى:{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} [هود: 17] أي من ربِّه، وهو القرآن.

وقال تعالى لمن طلب آيةً تدلُّ على صدق رسوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا

(1)

الجملة الأخيرة من الآية «أتقولون» إلخ لم ترد في ش، د.

(2)

ت: «وما يرضى به» .

(3)

ش، د:«والدلالة» ، ثم ضرب على الواو في ش. وفي ت:«الدالة» .

(4)

لم ترد كلمة «العظيم» في ت.

ص: 479

أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 51 - 52]، فأخبر سبحانه أنَّ الكتابَ الذي أنزله يكفي من كلِّ آيةٍ، ففيه الحجّةُ والدّلالةُ على أنّه من الله سبحانه، أرسل به رسوله، وفيه بيانُ ما يوجب لمن اتّبعه السّعادة، وينجيه من العذاب. ثمّ قال:{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، فإذا كان سبحانه عالمًا بجميع الأشياء كانت شهادتُه أصدقَ شهادةٍ وأعدلَها، فإنّها شهادةٌ بعلمٍ تامٍّ، محيطٍ بالمشهود به، فيكون الشَّاهدُ به أعدلَ الشُّهداء وأصدقَهم.

وهو سبحانه يذكر علمَه عند شهادته، وقدرتَه وملكَه عند مجازاته، وحكمتَه عند خلقه وأمره، ورحمتَه عند ذكر إرسال رسوله، وحلمَه عند ذكر ذنوب عباده ومعاصيهم، وسمْعَه عند ذكر دعائهم ومسألتهم، وعزَّتَه وعلمَه عند قضائه وقدره. فتأمَّلْ ورودَ أسمائه الحسنى في كتابه، وارتباطَها بالخلق والأمر والثَّواب والعقاب.

فصل

ومن هذا: قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] فاستشهد على رسالته بشهادة الله

(1)

له، ولابدّ أن تُعلَم هذه الشَّهادةُ، وتقوم بها الحجَّةُ على المكذِّبين له.

(1)

ش، د:«باستشهاد الله» .

ص: 480

وكذلك قوله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19]. وكذلك قوله: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166]. وكذلك قوله: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 1 - 3]، وقوله:{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة: 252]، وقوله:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1]، وقوله:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29]. فهذا كلُّه شهادةٌ منه لرسوله، قد أظهَرها وبيَّنها، وبيَّن صحّتَها غاية البيان بحيث قطع العذرَ بينه وبين عباده، وأقام الحجّةَ عليهم. فكونُه سبحانه شاهدًا لرسوله معلومٌ بسائر أنواع الأدلّة: عقليِّها ونقليِّها وفطريِّها، ضروريِّها ونظريِّها.

ومَن نظَر في ذلك وتأمَّلَه علِمَ أنّ الله سبحانه شهد لرسوله أصدقَ الشّهادة وأعدلَها وأظهَرها، وصدَّقه سائرَ أنواع التَّصديق بقوله الذي أقام البراهينَ على صدقه فيه، وبفعله وبإقراره وبما فطَر عليه عباده من الإقرار بكماله، وتنزيهه عن القبائح وعمّا لا يليق به. وكلَّ وقتٍ يُحدِث من آياته الدَّالّة على صدق رسوله ما يقيم به الحجّةَ، ويزيل به العذرَ، ويحكم له ولأتباعه بما وعدهم به من العزِّ والنّجاة والظّفر والتّأييد، ويحكم على أعدائه ومكذِّبيه بما أوعدهم به من الخزي والنَّكال والعقوبات المعجَّلة

(1)

الدَّالّة على تحقيق العقوبات المؤجّلة.

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ

(1)

ت: «العاجلة» .

ص: 481

وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28]. فيظهره ظهورين: ظهورًا بالحجّة والبيان والدّلالة، وظهورًا بالنّصر والغلبة والتّأييد؛ حتّى يَظهر على مخالفيه ويكون منصورًا.

وقوله: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]. فما فيه من الخبر عن علم الله الذي لا يعلمه غيره من أعظم الشّهادة بأنّه هو الذي أنزله، كما قال في الآية الأخرى:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 13 - 14]. وليس المرادُ مجرَّدَ الإخبار بأنّه أنزله وهو معلومٌ له كما يعلم سائر الأشياء، فإنَّ كلَّ شيءٍ معلومٌ له من حقٍّ وباطلٍ. وإنّما المعنى: أنزله مشتملًا على علمه وفيه علمُه، فنزولُه مشتملًا على علمه هو آيةُ كونه من عنده وأنّه حقٌّ وصدقٌ. ونظير هذا قوله:{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 6] ذكر ذلك سبحانه تكذيبًا وردًّا على من قال: {افْتَرَاهُ} [الفرقان: 4].

فصل

ومن شهادته أيضًا: ما أودعه في قلوب عباده من التَّصديق الجازم، واليقين الثّابت، والطُّمأنينة بكلامه ووحيه؛ فإنّ العادة تُحيل حصولَ ذلك بما هو من أعظم الكذب والافتراء على ربِّ العالمين، والإخبار عنه بخلاف ما هو عليه من أسمائه وصفاته. بل ذلك يُوقع أعظمَ الرَّيب والشّكِّ، وتدفعه الفطَرُ والعقولُ السّليمة، كما تدفع الفطَرُ التي فُطِرَ عليها الحيوانُ الأغذيةَ الخبيثةَ الضَّارَّةَ التي لا تغذِّي كالأبوال والأنتان. فإنَّ الله سبحانه فطَر القلوبَ

ص: 482

على قبول الحقِّ، والانقياد له، والطُّمأنينة به

(1)

، والسُّكون إليه ومحبّته؛ وفطَرها على بغض الكذب والباطل، والنُّفور عنه، والرِّيبة به، وعدم السُّكون إليه. ولو بقيت الفطَرُ على حالها لما آثرت على الحقِّ سواه، ولما سكنت إلّا إليه، ولا اطمأنَّت إلّا به، ولا أحبَّت غيره.

ولهذا ندَب سبحانه عبادَه إلى تدبُّر القرآن، فإنَّ كلَّ من تدبَّره أوجب له تدبُّرُه علمًا ضروريًّا ويقينًا جازمًا: أنّه حقٌّ وصدقٌ، بل أحقُّ كلِّ حقٍّ، وأصدَقُ كلِّ صدقٍ؛ وأنَّ الذي جاء به أصدَقُ خلقِ الله، وأبرُّهم، وأكمَلُهم علمًا وعملًا ومعرفةً. قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. وقال تعالى: {(23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ} [محمد: 24]. فلو رُفعت الأقفالُ عن القلوب لباشرتها حقائقُ القرآن، واستنارت فيها مصابيحُ الإيمان، وعلِمت علمًا ضروريًّا يكون عندها كسائر الأمور الوجدانيّة من الفرح والألم والحبِّ والخوف= أنّه من عند الله، تكلَّم به حقًّا، وبلَّغه رسولُه جبريلُ عنه إلى رسوله محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

فهذا الشّاهد في القلب من أعظم الشّواهد، وبه احتجَّ هرقلُ على أبي سفيان حيث قال له: فهل يرتدُّ أحدٌ منهم سخطةً لدينه، بعد أن يدخل فيه؟ فقال: لا. فقال له: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشتُه القلوبَ لا يسخطه أحدٌ.

وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى بقوله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49]، وقوله: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي

(1)

«به» ساقط من د، ش، ر.

ص: 483

أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6]، وقوله:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19]، وقوله:{(26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ} [الرعد: 27] يعني: أنَّ الآيةَ التي يقترحونها لا تُوجِب هدايةً، بل الله هو الذي يهدي ويضلُّ. ثمّ نبَّههم على أعظمِ آيةٍ وأجلِّها، وهي: طمأنينةُ قلوب المؤمنين بذكره الذي أنزله، فقال:{(27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} أي بكتابه وكلامه {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ} [الرعد: 28]. فطمأنينةُ القلوب الصَّحيحة والفِطَر السَّليمة به وسكونُها إليه من أعظم الآيات، إذ يستحيل في العادة أن تطمئنَّ القلوبُ وتسكنَ إلى الكذب والافتراء والباطل.

فإن قيل: فلِمَ لا ذَكَر

(1)

سبحانه شهادةَ رسله مع الملائكة، فقال: شهد الله أنّه لا إله إلّا هو والملائكةُ والرُّسلُ

(2)

، وهم أعظم شهادةً من أولي العلم؟

قيل: في ذلك عدّة فوائد:

أحدها: أنّ أولي العلم أعمُّ من الرُّسل والأنبياء، فيدخلون هم وأتباعهم.

(1)

في هامش ش مع علامة الظاء: «فلِمَ لَم يذكر» يعني: الظاهر كذا، وكذا في المطبوع خلافًا لما في الأصل. وقد استغرب المحشي دخول لا على الماضي من غير تكرار ولا دعاء. انظر:«لم لا فعلته» في «الجواب الصحيح» (5/ 84) و «جامع الرسائل» (2/ 130) و «مجموع الفتاوى» (8/ 109، 328). وفي حديث الترمذي (3284) وغيره: «وأيُّ عبدٍ لك لا ألمَّا» .

(2)

لفظ «الرسل» ساقط من ش، د ولعل ناسخًا لم يفهم السياق وظنَّ الكلام آية.

ص: 484

وثانيها: أنَّ في ذكرِ أولي العلم في هذه الشّهادة وتعليقِها بهم ما يدلُّ على أنّها من موجَبات العلم ومقتضَياته، وأنَّ كلَّ من كان من أولي العلم فإنّه يشهد بهذه الشّهادة؛ كما يقال: إذا طلع الهلال واتّضح فإنَّ كلَّ من كان من أهل النّظر يراه، وإذا فاحت رائحةٌ ظاهرةٌ كلُّ

(1)

من كان من أهل الشّمِّ يشمُّ هذه الرّائحة، كما قال تعالى:{(35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ} [النازعات: 36]، أي كلُّ من له رؤيةٌ يراها حينئذٍ عيانًا. ففي هذا بيانُ أنَّ من لم يشهد له سبحانه بهذه الشّهادة فهو من أعظم الجُهَّال، وإن علِمَ من أمور الدُّنيا ما لا يعلمه غيرُه، فهو من أولي الجهل لا من أولي العلم. وقد بيّنّا أنّه لم يقم بهذه الشّهادة، ويؤدِّها على وجهها إلّا أتباعُ الرُّسل أهلُ الإثبات، فهم أولو العلم، وسائرُ من عداهم أولو الجهل وإن وسَّعوا القول وأكثروا الجدال.

ومنها: الشَّهادةُ من الله سبحانه لأهل هذه الشَّهادة أنَّهم أولو العلم. فشهادتُه لهم أعدَلُ وأصدَقُ من شهادة الجهميّة والمعطِّلة والفرعونيّة لهم بأنَّهم جهَّالٌ، وأنَّهم حشويّةٌ، وأنَّهم مشبِّهةٌ، وأنَّهم مجسِّمةٌ ونوابِتُ ونواصِبُ. فكفاهم شهادُة أصدَقِ الصَّادقين لهم بأنَّهم من أولي العلم، إذ شهدوا له بحقيقة ما شهِد به لنفسه، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، وأثبتوا له حقيقةَ هذه الشَّهادة ومضمونَها؛ وخصومُهم نفَوا عنه حقائقَها، وأثبتوا له ألفاظها ومَجازاتها.

فصل

وفي ضمن هذه الشّهادة الإلهيّة: الثَّناءُ على أهل العلم الشَّاهدين بها

(1)

كذا في النسخ دون الفاء.

ص: 485

وتعديلُهم. فإنّه سبحانه قرَنَ شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، واستشهد بهم على أجلِّ مشهودٍ به، وجعَلَهم حجّةً على من أنكر هذه الشَّهادة، كما يحتجُّ بالبيِّنة على من أنكر الحقَّ. فالحجّةُ قامت بالرُّسل على الخلق، وهؤلاء نوّابُ الرُّسل وخلفاؤهم في إقامة حجج الله على العباد.

فصل

وقد فُسِّرت شهادةُ أولي العلم بالإقرار، وفسِّرت بالتّبيين والإظهار، والصَّحيحُ: أنّها تتضمَّن الأمرين، فشهادتُهم إقرارٌ، وإظهارٌ وإعلامٌ.

وهم شهداءُ الله على النّاس يوم القيامة. قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. وقال تعالى: {سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا} [الحج: 78] فأخبر أنّه جعلهم عَدْلًا خيارًا، ونوَّه بذكرهم قبل أن يُوجِدهم لما سبق في علمه من اتِّخاذه لهم شهداء يشهدون على الأمم يوم القيامة. فمن لم يقم بهذه الشّهادة علمًا وعملًا، ومعرفةً وإقرارًا، ودعوةً وتعليمًا وإرشادًا، فليس من شهداء الله. والله المستعان.

وقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] اختلف المفسِّرون: هل هو كلامٌ مستأنَفٌ، أو داخلٌ في مضمون هذه الشّهادة، فهو بعض المشهود به؟

وهذا الاختلاف مبنيٌّ على القراءتين في كسر «إنّ» وفتحها. فالأكثرون

ص: 486

على كسرها على الاستئناف، وفتحَها الكسائيُّ وحده

(1)

. والوجهُ: هو الكسر، لأنّ الكلام الذي قبله قد تَمَّ، فالجملة الثّانية مقرِّرةٌ مؤكِّدةٌ لمضمون ما قبلها. وهذا أبلغُ في التّقرير، وأذهبُ في المدح والثّناء. ولهذا كان كسرُ «إنَّ» في قوله:{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28] أحسَنَ من الفتح

(2)

، وكان الكسرُ في قول الملبِّي:«لبّيك، إنّ الحمد والنِّعمة لك» أحسنَ من الفتح.

وقد ذُكِر في توجيه قراءة الكسائيِّ ثلاثةُ أوجهٍ

(3)

:

أحدها: أن تكون الشَّهادةُ واقعةً على الجملتين، فهي واقعةٌ على {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} فهو المشهود به، ويكون فتحُ «أنّه» من قوله {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} على إسقاط حرف الجرِّ، أي لأنَّه

(4)

لا إله إلّا هو، وهذا توجيه الفرّاء

(5)

. وهذا ضعيفٌ جدًّا، فإنّ المعنى على خلافه، وأنّ المشهود به هو نفسُ قوله:{أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، فالمشهود به «أنّ» وما في حيِّزها، والعنايةُ إلى هذا صرفت، وبه حصلت. ولكن لهذا القول ــ مع ضعفه ــ وجهٌ، وهو أن يكون المعنى: شهد الله بتوحيده أنَّ الدِّين عنده الإسلام. والإسلام

(1)

انظر: «السَّبعة» لابن مجاهد (ص 202) و «المبسوط» لابن مهران (ص 162) وغيرهما.

(2)

قرأ نافع والكسائي: «أنَّه» . انظر: «السَّبعة» (ص 613).

(3)

«التفسير البسيط» للواحدي (5/ 114 - 117) وعنه صدر المؤلف هنا.

(4)

في المطبوع: «بأنه» خلافًا للنسخ.

(5)

في «معاني القرآن» (1/ 200).

ص: 487

هو توحيده سبحانه، فتضمَّنت الشّهادةُ توحيدَه

(1)

، وتحقيق دينه أنّه الإسلام لا غيره.

الوجه الثّاني: أن تكون الشَّهادةُ واقعةً على الجملتين معًا، كلاهما مشهودٌ به، على تقدير حذف الواو وإرادتها

(2)

. والتَّقديرُ: وأنَّ الدِّينَ عند الله الإسلام، فتكون جملةً استُغني فيها عن حرف العطف بما تضمَّنت من ذكر المعطوف عليه، كما وقع الاستغناء عنها في قوله:{ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} و {خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]. فيحسن ذكرُ الواو وحذفُها، كما حُذِفت هاهنا، وذُكرت في قوله:{وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22].

الوجه الثّالث ــ وهو مذهب البصريِّين ــ: أن تُجعَل «أنّ» الثّانية بدلًا من الأولى، والتَّقديرُ: شهد الله أنّ الدِّين عند الله الإسلام. وقولُه: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} توطئةٌ للثّانية وتمهيدٌ، ويكون هذا من البدل الذي الثّاني فيه نفسُ الأوّل

(3)

، فإنَّ الدِّينَ الذي هو الإسلام عند الله هو: شهادةُ أن لا إله إلّا الله والقيامُ بحقِّها. ولك أن تجعله على هذا الوجه من باب بدل الاشتمال لأنّ الإسلام يشتمل على التّوحيد.

فإن قيل: فكان ينبغي على هذه القراءة أن يقول: إنّ الدِّين عنده الإسلام،

(1)

«أن الدين عنده

توحيده» ساقط من ت.

(2)

وهذا توجيه الكسائي نفسه. قال: «أنصبها جميعًا بمعنى شهد الله أنه كذا وأن الدين عند الله الإسلام» . «معاني القرآن» للنحاس (1/ 370).

(3)

يعني: بدل كلٍّ من كلٍّ.

ص: 488

لأنّ المعنى: شهد الله أنَّ الدِّين عنده الإسلام؛ فلِمَ عدَلَ إلى لفظ الظّاهر؟

قيل: هذا يرجِّح قراءةَ الجمهور وأنَّها أحسنُ وأفصحُ، ولكن يجوز إقامةُ الظَّاهر مقام المضمَر، وقد ورد في القرآن وكلام العرب كثيرًا. قال تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ} [البقرة: 196] وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 69]. وقال تعالى: {تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ} [الأعراف: 170].

قال ابن عبّاسٍ

(1)

: افتخر المشركون بآبائهم، فقال كلُّ فريقٍ منهم: لا دين إلّا دين آبائنا وما كانوا عليه، فأكذبهم الله تعالى، وقال:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} يعني الذي جاء به محمّدٌ، وهو دينُ الأنبياء من أوّلهم إلى آخرهم، ليس لله دينٌ سواه، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].

وقد دلَّ قولُه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} على أنّه دينُ أنبيائه ورسله وأتباعهم من أوّلهم إلى آخرهم، وأنّه لم يكن لله قطُّ ولا يكون له دينٌ سواه. قال أوَّلُ الرُّسل نوحٌ:{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72]. وقال إبراهيم وإسماعيل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128]، {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]. وقال يعقوب لبنيه عند الموت: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ

(1)

«التفسير البسيط» (5/ 117).

ص: 489

بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)} [البقرة: 133]. وقال موسى لقومه: {مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ} [يونس: 84].

وقال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا} [آل عمران: 52]، وقالت ملكة سبأ:{إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)} [النمل: 44].

فالإسلامُ دينُ أهلِ السَّماوات ودينُ أهلِ التَّوحيد من أهل الأرض، لا يقبل الله من أحدٍ دينًا سواه. فأديانُ أهل الأرضِ ستّةٌ: واحدٌ للرَّحمن، وخمسةٌ للشَّيطان. فدينُ الرَّحمن هو الإسلام، والّتي للشَّيطان: اليهوديَّة، والنَّصرانيَّة، والمجوسيَّة، ودين الصَّابئة، ودين المشركين.

فهذا بعضُ ما تضمّنته هذه الآية العظيمة من أسرار التَّوحيد والمعارف. ولا تستطِلِ الكلامَ فيها، فإنَّه أهمُّ من الكلام على كلام صاحب «المنازل» ، فلنرجع إلى شرح كلامه وبيان ما فيه.

قال

(1)

: (وإنّما نطق العلماء بما نطقوا به، وأشار المحقِّقون إلى ما أشاروا إليه من هذا الطّريق: لقصد تصحيح التَّوحيد، وما سواه من حالٍ أو مقامٍ فكلُّه مصحوب العلل).

يريد: أنَّ التّوحيدَ هو الغاية المطلوبة من جميع المقامات والأعمال

(1)

«منازل السائرين» (ص 110).

ص: 490

والأحوال، فغايتُها كلِّها التَّوحيد، وإنّما كلامُ العلماء والمحقِّقين من أهل السُّلوك كلُّه لقصد تصحيحه. وهذا بيِّنٌ من أوّل المقامات إلى آخرها، فإنّها تشير إلى تصحيحه وتجريده.

قوله: (وما سواه من حالٍ أو مقامٍ فكلُّه مصحوب العلل)، يريد: أنّ تجريد التّوحيد لا علّة معه، إذ لو كان معه علّةٌ تصحبه لم يجرَّد. فتجرُّدُه ينفي عنه العللَ بالكلِّيّة بخلاف ما سواه من المقامات والأحوال، فإنَّ العللَ تصحبها.

وعندهم أنَّ علل المقامات لا تزول إلَّا بتجريد التَّوحيد. مثاله: أنَّ علَّةَ مقام التَّوكُّل أن يشهد متوكِّلًا ومتوكَّلًا فيه، ومتوكَّلًا عليه، ويشهد نفسَ توكُّله. وهذا كلُّه علّةٌ

(1)

في مقام التَّوكُّل، فإنّه لا يصحُّ له مقامُه إلّا بأن لا يشهد مع الوكيل الحقِّ الذي يتوكَّل عليه غيرَه، ولا يرى توكُّلَه سببًا لحصول المطلوب، ولا وسيلةً إليه.

وفيه علّةٌ أخرى أدقُّ من هذه عند أرباب الفناء، وهي: أنَّ المتوكِّلَ قد وكَلَ أمره إلى مولاه، والتجأ إلى كفايته وتدبيره له والقيام بمصالحه. قالوا

(2)

: وهذا في طريق الخاصَّة عمًى عن التّوحيد، ورجوعٌ إلى الأسباب؛

(1)

«ويشهد نفس

علّة» ساقط من ت.

(2)

الكلام الآتي إلى آخره لابن العريف (ت 536) في كتابه «محاسن المجالس» (ص 79 - 80 ط بلاسيوس)، نقل المؤلف بعضه بنصِّه. وفي «طريق الهجرتين» (2/ 555 - 574) نقله كلَّه بنصِّه معزوًّا إليه ونقده من خمسة عشر وجهًا. وقال في «بدائع الفوائد» (2/ 767): «وقد ذكرنا حقيقة التوكل وفوائده وعظم منفعته وشدَّة حاجة العبد إليه في كتاب الفتح القدسي، وذكرنا هناك فساد من جعله من المقامات المعلولة، وأنه من مقامات العوام، وأبطلنا قوله من وجوه كثيرة

».

ص: 491

لأنَّ الموحِّدَ قد رفض الأسباب، ووقف مع المسبِّب وحده؛ والمتوكِّلُ وإن رفَض الأسبابَ فإنّه واقفٌ مع توكُّله، فصار توكُّله بدلًا من تلك الأسباب التي رفضها، فهو متعلِّقٌ بما رفضه.

وتجريدُ التّوكُّل عندهم وحقيقته

(1)

هو: تخليص القلب من علّة التّوكُّل، وهو أن يعلم أنّ الله سبحانه فرغ من الأشياء وقدَّرها، وهو سبحانه يسوق المقادير إلى المواقيت. فالمتوكِّلُ حقيقةً ــ عندهم ــ هو من أراح نفسه من كدِّ النّظر ومطالعة السَّبب سكونًا إلى ما سبَق له من القَسْم، مع استواء الحالتين عنده، وهو أن يعلَم أنَّ الطلبَ لا ينفع، والتّوكُّلَ لا يجمع

(2)

. ومتى طالع بتوكُّله عوضًا كان توكُّله مدخولًا، وقصدُه معلولًا. فإذا خلَص من رقِّ هذه الأسباب ومطالعة العوض، ولم يلاحظ في توكُّله سوى خالص حقِّ الرَّبِّ سبحانه، كفاه الله تعالى كلَّ مهمٍّ، كما أوحى إلى موسى: كُنْ لي كما أريد، أكُنْ لك كما تريد

(3)

.

وهذا الكلام وأمثاله بعضه صوابٌ، وبعضه خطأٌ، وبعضه محتملٌ.

(1)

ت: «عندهم حقيقته» .

(2)

في «طريق الهجرتين» (2/ 556): «أن الطلب لا يجمع وأن التوكل لا يمنع» ، وكذا في النسخة التي اعتمد عليها محقق «محاسن المجالس» (ص 79) في متن الكتاب. وفي الأخرى كما ورد هنا.

(3)

أورد ابن العريف حكاية عن موسى عليه السلام لخَّصها المؤلف في «طريق الهجرتين» بأنه «في رعايته نام عن غنمه، فاستيقظ، فوجد الذئب واضعًا عصاه على عاتقه يرعاها، فعجب من ذلك، فأوحى الله إليه

» وانظر الحكاية في «نزهة المجالس» للصفوري (1/ 99).

ص: 492

فقولهم: «إنَّ التّوكُّلَ في طريق الخاصّة عمًى عن التّوحيد، ورجوعٌ إلى الأسباب» خطأٌ محضٌ، بل التّوكُّلُ حقيقةُ التَّوحيد، ولا يتمُّ التَّوحيدُ إلّا به. وقد تقدَّم في باب التّوكُّل بيانُ ذلك وأنَّه من مقامات الرُّسل، وهم خاصَّةُ الخاصَّة، وإنّما المتحذلقون المتنطِّعون جعلوه من مقامات العامَّة، ولا أخصَّ من رُسُلِ الله، ولا أعلى من مقاماتهم.

وقولهم: «إنّه رجوعٌ إلى الأسباب» ، يقال: بل هو قيامٌ بحقِّ الأمر، فإنَّ الله سبحانه اقتضت حكمتُه ربطَ المسببات بأسبابها، وجعل التّوكُّل والدُّعاء من أقرب الأسباب التي تحصِّل المقصود. فالتّوكُّلُ امتثالٌ لأمر الله، وموافقةٌ لحكمته، وعبوديّةُ القلب، فكيف يكون مصحوبَ العلل؟ وكيف يكون من مقامات العامّة؟

وقوله

(1)

: «لأنَّ الموحِّدَ قد رفض الأسباب كلّها» ، يقال له: هذا الرَّفضُ لا يخرج عن الكفر تارةً، والفسق تارةً، والتّقصير تارةً؛ فإنّ الله أمرَ بالقيام بالأسباب، فإذا رفَضَ ما أمَره الله أن يقوم به فقد ضادَّ الله في أمره. وكيف يحلُّ لمسلمٍ أن يرفض الأسباب كلَّها؟

فإن قلتَ: ليس المرادُ رفضَ القيام بها، وإنّما المرادُ: رفضُ الوقوف معها.

قلتُ: وهذا أيضًا غير مستقيمٍ، فإنَّ الوقوفَ مع الأسباب قسمان:

وقوفٌ مأمورٌ به مطلوبٌ، وهو أن يقفَ معها حيث أوقفه الله ورسوله، فلا يتعدَّى حدودها ولا يقصِّرَ عنها، فيقفَ مع مراعاة حدودها وأوقاتها

(1)

كذا هنا بدلًا من «قولهم» كما سبق وكما سيأتي، لأنَّ الكلام أصلًا لابن العريف.

ص: 493

وشرائطها. وهذا الوقوف لا تتمُّ العبوديّة إلّا به.

ووقوفٌ معها، بحيث يعتقد أنّها هي الفاعلة المؤثِّرة بنفسها، وأنّها تنفع وتضرُّ بذاتها، فهذا لا يعتقده موحِّدٌ، ولا يحتاج أن يحترز منه من يتكلّم في المعرفة والسُّلوك.

نعم، لا ينقطع بها عن رؤية المسبِّب، ويعتقدها هي الغاية المطلوبة منه، بل هي وسيلةٌ تُوصِل إلى الغاية، ولا تصل إلى الغاية المطلوبة بدونها. فهذا حقٌّ، لكن لا يجامع رفضَها والإعراضَ عنها، بل يقوم بها معتقدًا أنّها وسيلةٌ مُوصِلةٌ إلى الغاية. فهي كالطَّريق الحسِّيِّ الذي يقطعه المسافر إلى مقصده، فإن قيل له: ارفُضِ الطَّريقَ ولا تلتفت إليها انقطع عن المسير بالكلِّيّة. وإن جعَلهَا غايتَه ولم يقصد بالسَّير فيها وصولَه إلى مقصدٍ معيَّنٍ كان معرضًا عن الغاية، مشتغلًا بالطّريق. وإن قيل له: التفِتْ إلى طريقك ومنازل سيرك، وراعِها، وسِرْ فيها ناظرًا إلى المقصود، عاملًا على الوصول إليه= فهذا هو الحقُّ.

وقولهم: «المتوكِّل وإن رفَضَ الأسبابَ واقفٌ مع توكُّله» . فيقال: إن وقف مع توكُّله امتثالًا لأمر الله، وأداءً لحقِّ عبوديّته، معتقدًا أنَّ الله هو الذي منَّ عليه بالتّوكُّل، وأقامَه فيه، وجعله سببًا موصِلًا له

(1)

إلى مطلوبه، فنعم الوقوفَ وقَفَ! وما أحسنه من وقوفٍ! وإن وقف معه اعتقادًا أنَّ

(2)

بنفس توكُّله وعمله يصل، مع قطع النّظر عن فضل ربِّه وإعانته ومنِّه عليه بالتّوكُّل؛

(1)

ت: «يوصله» .

(2)

ش: «أنه» وكأن بعضهم زاد الهاء.

ص: 494

فهو وقوفٌ منقطعٌ عن الله.

وقولهم: «إنّ التّوكُّل بدلٌ من الأسباب التي رفضها، فالمتوكِّل متنقِّلٌ من سببٍ إلى سببٍ» . يقال لهم: إن كانت الأسبابُ التي رفَضَها غيرَ مأمورٍ بها، فالتّوكُّلُ المجرَّدُ خيرٌ منها. وإن كانت مأمورًا بها. فرفضُه لها إلى التّوكُّل معصيةٌ وخروجٌ عن الأمر.

نعم، للتّوكُّل ثلاثُ عللٍ:

أحدها: أن يترك به ما أُمِرَ به من الأسباب استغناءً بالتّوكُّل عنها. فهذا توكُّل عجزٍ وتفريطٍ وإضاعةٍ، لا توكُّلُ عبوديّةٍ وتوحيدٍ؛ كمن يترك الأعمالَ التي هي سببُ النّجاة ويتوكَّلُ في حصولها، ويتركُ القيامَ بأسباب الرِّزق من العمل والحراثة والتِّجارة ونحوها ويتوكَّلُ في حصوله؛ ويترك طلبَ العلم ويتوكَّل في حصوله= فهذا توكُّلُه عجزٌ وتفريطٌ، كما قال بعض السَّلف: لا تكن ممَّن يجعل توكُّلَه عجزًا، وعجزَه توكُّلًا

(1)

.

العلّة الثّانية: أن يتوكَّل في حظوظه وشهواته دون حقوق ربِّه، كمن يتوكَّل في حصول مالٍ أو زوجةٍ أو رياسةٍ. وأمّا التّوكُّلُ في نصرة دين الله وإعلاء كلماته، وإظهار سنّة رسوله، وجهاد أعدائه. فليس فيه علّةٌ، بل هو مزيلٌ للعلل.

العلّة الثّالثة: أن يرى توكُّله منه، ويغيب بذلك عن مطالعةِ المنّة وشهود الفضل، وإقامةِ الله له في مقام التّوكُّل. وليس مجرَّدُ رؤية التّوكُّل علّةً كما يظنُّه

(1)

لم أقف عليه، وقد ضمَّنه المؤلف كلامه في غير كتاب له. انظر مثلًا:«الداء والدواء» (ص 34).

ص: 495

كثيرٌ من النّاس، بل رؤيةُ التّوكُّل وأنَّه من عينِ الجود ومحضِ المنّة ومجرَّدِ التَّوفيق عبوديّةٌ، وهي أكمَلُ من كونه يغيب عنه ولا يراه. فالأكمَلُ أن لا يغيب بفضل ربِّه عنه، ولا به عن شهود فضله، كما تقدَّم بيانه.

فهذه العللُ الثّلاثُ هي التي تعرض في مقام التّوكُّل وغيره من المقامات، وهي التي يعمل العارفون بالله وأمره على قطعها. وهكذا الكلام في سائر علل المقامات، وإنّما ذكرنا هذا مثالًا لما يذكر من عللها. وقد أفرد لها صاحبُ «المنازل» مصنّفًا لطيفًا

(1)

، وجعل غالبَها معلولًا. والصَّوابُ: أنَّ عللها هذه الثّلاثة المذكورة: أن يتركَ بها ما هو أعلى منها، وأن يعلِّقَها بحظِّه والانقطاعُ بها عن المقصود، وأن لا يراها من عين المنّة ومحض الجود. وبالله التّوفيق.

قوله

(2)

: (والتّوحيد على ثلاثة أوجهٍ: الوجه الأوّل: توحيد العامّة، الذي يصحُّ بالشّواهد. والوجه الثّاني: توحيد الخاصَّة، وهو الذي يثبت بالحقائق. والوجه الثّالث: توحيدٌ قائمٌ بالقِدَم، وهو توحيد خاصَّة الخاصَّة).

فيقال: لا ريب أنَّ أهلَ التّوحيد متفاوتون في توحيدهم ــ علمًا ومعرفةً وحالًا ــ تفاوتًا لا يحصيه إلّا الله. فأكمَلُ النّاس توحيدًا: الأنبياءُ صلوات الله وسلامه عليهم، والمرسلون منهم أكمَلُ في ذلك، وأولو العزم من الرُّسل أكملُهم توحيدًا، وهم نوحٌ، وإبراهيم، وموسى، ومحمّدٌ صلوات الله وسلامه عليهم. وأكمَلُهم توحيدًا: الخليلان محمّدٌ وإبراهيم صلوات الله وسلامه

(1)

اسمه «علل المقامات» ، وعليه اعتمد ابن العريف في «محاسن المجالس». انظر:«مجموع الفتاوى» (10/ 35).

(2)

«منازل السائرين» (ص 110).

ص: 496

عليهما، فإنَّهما قاما من التَّوحيد بما لم يقم به غيرُهما علمًا ومعرفةً وحالًا، ودعوةً للخلق وجهادًا. فلا توحيد أكمَلُ من الذي قامت به الرُّسلُ، ودعَوا إليه، وجاهَدوا الأمم عليه.

ولهذا أمر الله سبحانه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم فيه، كما قال سبحانه بعد ذكر إبراهيم ومناظرته قومَه في بطلان الشِّرك وصحّة التّوحيد، وذكَر الأنبياءَ من ذرِّيّته، ثمّ قال:{أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 89]. فلا أكملَ من توحيد مَن أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم.

ولمَّا قاموا بحقيقة التوحيد علمًا وعملًا ودعوةً وجهادًا جعَلَهم الله أئمّةً للخلائق، يهدُون بأمره، ويدعُون إليه. وجعل الخلائقَ تبعًا لهم، يأتمرون بأمرهم، وينتهون إلى ما وقفوا بهم عنده

(1)

؛ وخصَّ بالسَّعادة والفلاح والهدى أتباعَهم، وبالشَّقاء والضّلال مخالفيهم؛ وقال لإمامهم وشيخهم إبراهيم خليله:{قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي} [البقرة: 124]، أي لا ينال عهدي بالإمامة مشركًا.

ولهذا أوصى نبيَّه محمَّدًا صلى الله عليه وسلم أن يتَّبع ملّةَ إبراهيم. وكان يعلِّم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا: «أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبيِّنا محمَّدٍ، وملَّةِ أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين»

(2)

، فملّةُ

(1)

«عنده» ساقط من ش.

(2)

أخرجه أحمد (15363، 15367) والدارمي (2730) والنسائي في «الكبرى» (9743، 10103) وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (34) وغيرهم من حديث عبد الرحمن بن أبزى. والحديث حسَّنه الحافظ في «نتائج الأفكار» (2/ 410)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (2989) وقد فصَّل القول فيه.

ص: 497

إبراهيم: التَّوحيد. ودينُ محمّدٍ: ما جاء به من عند الله قولًا وعملًا واعتقادًا. وكلمةُ الإخلاص هي شهادة أن لا إله إلّا الله. وفطرةُ الإسلام هي ما فطَر الله عليه عبادَه من محبّته وعبادته وحده لا شريك له، والاستسلامِ له عبوديّةً وذلًّا

(1)

وانقيادًا وإنابةً.

فهذا هو توحيدُ خاصَّة الخاصّة، الذي مَن رغب عنه فهو من أسفه السُّفهاء.

قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 130 - 131]. فقسَّم التَّوحيدُ الخلائقَ قسمين: سفيهًا لا أسفه منه

(2)

، ورشيدًا. فالسَّفيهُ: من رغب عنه إلى الإشراك. والرَّشيدُ: من تبرّأ من الشِّرك قولًا وعملًا وحالًا، فكان قولُه توحيدًا، وعملُه توحيدًا، وحالُه توحيدًا، ودعوتُه إلى التَّوحيد.

وبهذا أمر الله سبحانه جميعَ المرسلين من أوّلهم إلى آخرهم. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 51 - 52].

(1)

ت: «وولاء» ، ولعله تصحيف.

(2)

ش: «له منه» .

ص: 498

وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا يُوحَى

(1)

إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45].

وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} [الأنبياء: 21 - 24]، أي هذا الكتابُ الذي أُنزِل عليّ وهذه كتبُ الأنبياء كلِّهم، هل وجدتم في شيءٍ منها اتِّخاذَ آلهةٍ مع الله أم كلُّها ناطقةٌ بالتّوحيد آمرةٌ به؟

وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. والطَّاغوتُ اسمٌ لكلِّ ما عبدوه من دون الله، فكلُّ مشركٍ إلهُه طاغوتُه.

وقد تكلّم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى على ما ذكره صاحب «المنازل» في التّوحيد، فقال

(2)

بعد أن حكى كلامه إلى آخره: أمَّا التوحيد الأوّل الذي ذكره فهو التوحيد الذي جاءت به الرُّسل كلُّهم، ونزلت به الكتب كلُّها، وبه أمر الله الأوّلين والآخرين. وذكر الآيات الواردة

(3)

بذلك.

(1)

كذا في ت، ش بالياء وفتح الحاء على قراءة أبي عمرو وغيره.

(2)

في «منهاج السنة» (5/ 346 وما بعدها) بعد قوله: «وقد بسطت الكلام على هذا وأمثاله في غير هذا الموضع» .

(3)

لفظ «الواردة» من ر.

ص: 499

ثمّ قال: وقد أخبر الله عن كلِّ رسولٍ من الرُّسل أنّه قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . وهذا أوَّلُ دعوة الرُّسل وآخرُها. قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرتُ أن أقاتلَ النّاسَ حتّى يشهدوا أن لا إله إلّا الله، وأنِّي رسولُ الله»

(1)

. وقال: «من مات وهو يعلم أنَّه لا إله إلّا الله دخَلَ الجنّة»

(2)

.

والقرآنُ مملوءٌ من هذا التّوحيد، والدَّعوةِ إليه، وتعليقِ النَّجاة والسَّعادة في الآخرة به. وحقيقتُه: إخلاصُ الدِّين كلِّه لله. والفَناءُ في هذا التّوحيد مقرونٌ بالبقاء، وهو أن تُثبت إلهيّةَ الحقِّ تعالى في قلبك، وتنفي إلهيّةَ ما سواه، فتجمعَ بين النّفي والإثبات. فالنَّفيُ هو الفَناء، والإثباتُ هو البقاء. وحقيقتُه: أن تفنى بعبادته عن عبادة ما سواه، وبمحبَّته عن محبَّة ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه. وكذلك بموالاته، وسؤالِه، والاستعانةِ به، والتّوكُّلِ عليه، ورجائِه ودعائه، والتَّفويضِ إليه، والتّحاكُمِ إليه، واللَّجَأ إليه، والرّغبةِ فيه.

قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 14].

وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: 114].

وقال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164].

وقال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ

(1)

أخرجه البخاري (25) ومسلم (22) من حديث أبي هريرة.

(2)

أخرجه مسلم (26) من حديث عثمان بن عفان.

ص: 500

إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 64 - 65].

وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قَيِّمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 161 - 163].

وقال تعالى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 213].

وقال تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22]، وقال تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39].

وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88].

و قال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ كَاشِفَاتٌ ضُرَّهُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ مُمْسِكَاتٌ رَّحْمَتَهُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ}

(1)

[الزمر: 38].

وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107].

(1)

في النسخ: «قل أرأيتم» ، سهو.

ص: 501

وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2 - 3].

وقال عن أصحاب الكهف: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف: 14]. وقال عن صاحب يس: {(21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا} [يس: 22]. وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} [الشورى: 9].

وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}

(1)

[الزمر: 43 - 44].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 73 - 74].

وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].

وهذا في القرآن أكثر من أن يذكر. وهو

(2)

أوّلُ الدِّين وآخرُه وظاهرُه وباطنُه، وذروةُ سنامه، وقطبُ رحاه.

(1)

في النسخ: «من دونه» ، سهو، فصححه بعضهم في متن ش.

(2)

ش: «وهي» .

ص: 502

وأمَرنا تعالى أنّ نتأسّى بإمام هذا التَّوحيد في نفيه وإثباته، كما قال تعالى:{(3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَأَئُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [الممتحنة: 4].

وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26].

وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهْوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهْوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 69 - 82].

وإذا تدبَّرتَ القرآن من أوّله إلى آخره رأيتَه يدور على هذا التَّوحيد وتقريره وحقوقه.

قال شيخنا

(1)

: والخليلان هما أكمَلُ خاصَّة الخاصَّة توحيدًا. ولا يجوز أن يكون في الأمّة من هو أكمل توحيدًا من نبيٍّ من الأنبياء، فضلًا عن الرُّسل، فضلًا عن أولي العزم، فضلًا عن الخليلين. وكمالُ هذا التّوحيد هو أن لا

(1)

في «منهاج السنة» (5/ 355).

ص: 503

يبقى في القلب شيءٌ لغير الله أصلًا، بل يبقى العبد مواليًا لربِّه في كلِّ شيءٍ، يحبُّ ما أحبَّ، ويُبغض ما أبغضَ، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عمّا نهى عنه.

فصل

قوله: (وهذا توحيد العامّة، الذي يصحُّ بالشّواهد).

قد تبيَّن أنَّ هذا توحيدُ خاصَّة الخاصَّة، الذي لا شيء فوقه ولا أخصَّ منه، وأنَّ الخليلين أكملُ النّاس فيه، فَلْيَهْنِ العامَّةَ نصيبُهم منه!

قوله: (يصحُّ بالشّواهد)، أي بالأدلّة والآيات والبراهين. وهذا ممّا يدلُّ على كماله وشرفه أن قامت عليه الأدلَّةُ، ونادت عليه الشَّواهدُ، وأوضحته الآياتُ والبراهينُ. وما عداه فدعاوٍ مجرَّدةٌ لا يقوم عليها دليلٌ، ولا تصحُّ بشاهدٍ. فكلُّ توحيدٍ لا يصحُّ بشاهدٍ فليس بتوحيدٍ. فلا يجوز أن يكون توحيدٌ أكملَ من التَّوحيد الذي يصحُّ بالشّواهد والآيات، وتوحيدُ القرآن من أوّله إلى آخره كذلك.

وقوله: (هذا هو التّوحيدُ الظَّاهرُ الجليُّ الذي نفى الشِّركَ الأعظمَ).

فنعم لَعَمْرُ الله. ولظهوره وجلائه أرسل الله به رسلَه، وأنزل به كتبَه، وأمر به الأوّلين والآخرين من عباده. وأمَّا الرَّمزُ والإشارةُ والتَّعقيدُ الذي لا يكاد أن يفهمه أحدٌ من النّاس إلّا بجهدٍ وكلفةٍ، فليس ممّا جاءت به الرُّسل، ولا دعَوا إليه. فظهوُر هذا التّوحيد وانجلاؤه ووضوحه، وشهادةُ الفِطَر والعقول به: من أعظم الأدلّة أنّه أعلى مراتب التّوحيد وذروةُ سنامه. ولذلك قوِيَ على نفي الشِّرك الأعظم، فإنَّ الشَّيءَ كلَّما عظُم لا يدفعه إلّا العظيمُ، فلو كان

ص: 504

شيءٌ أعظمَ من هذا التّوحيد لَدفَع الشِّركَ الأعظمَ. ولعظمته وشرفه، نُصِبت عليه القبلة وأُسِّست عليه الملَّة، ووجبت به الذِّمّة، وحُقِنت به الدِّماء وانفصلت به دارُ الكفر من دار الإسلام، وانقسم به النّاس إلى سعيدٍ وشقيٍّ، ومهتدٍ

(1)

وغويٍّ، ونادت عليه الكتب والرُّسل.

وقوله: (وإن لم يقوموا بحسن الاستدلال)، يعني: هو مستقِرٌّ في قلوب أهله، وإن كان أكثَرُهم لا يحسن أن يقوم بحسن الاستدلال

(2)

عليه تقريرًا وإيضاحًا، وجوابًا عن المعارض، ودفعًا لشُبه المعاند.

ولا ريب أنَّ أكثرَ النّاس لا يُحسنون ذلك، وهذا قدرٌ زائدٌ على وجود التَّوحيد في قلوبهم. فما كلُّ مَن وجَد شيئًا وعلِمَه وتيقَّنَه أحسَنَ أن يستدِلَّ عليه، ويقرِّرَه، ويدفعَ الشُّبه القادحة فيه. فهذا لونٌ، ووجوده لونٌ. ولكن لابدَّ ــ مع ذلك ــ من نوع استدلالٍ قام عنده، وإن لم يكن على شروطِ الأدلّة التي ينظِّمها أهلُ الكلام وغيرهم وترتيبِها، فهذه ليست شرطًا في التّوحيد، لا في معرفته والعلم به، ولا في القيام به عملًا وحالًا. فاستدلالُ كلِّ أحدٍ بحسبه، ولا يحصي أنواعَ الاستدلال ووجوهَه ومراتبَه إلّا الله. فلكلِّ قومٍ هادٍ، ولكلِّ علمٍ صحيحٍ ويقينٍ دليلٌ يُوجبه، وشاهدٌ يصحُّ به. وقد لا يمكن صاحبَه التَّعبيرُ عنه عجزًا وعيًّا، وإن عبَّر عنه فقد لا يمكنه التَّعبيرُ عنه باصطلاح أهل العلم وألفاظهم. وكثيرًا ما يكون الدَّليلُ الذي عُرِفَ به الحقُّ أصَحَّ من كثيرٍ من أدلّة المتكلِّمين ومقدِّماتها، وأبعدَ عن الشُّبه، وأقربَ تحصيلًا للمقصود وإيصالًا إلى المدلول عليه.

(1)

ت: «رشيد» .

(2)

ر: «لا يحسن الاستدلال» .

ص: 505

بل من استقرى أحوالَ النَّاس رأى أنَّ كثيرًا من أهل الإسلام ــ أو أكثرَهم ــ أعظمُ توحيدًا، وأكثرُ معرفةً، وأرسخُ إيمانًا من أكثر المتكلِّمين وأرباب النّظر والجدال؛ وتجد عندهم من أنواع الأدلّة والآيات التي يصحُّ بها إيمانُهم ما هو أظهرُ وأوضحُ وأصحُّ ممّا عند المتكلِّمين.

وهذه الآياتُ التي ندَب الله عبادَه إلى النَّظر فيها والاستدلال بها على توحيدِه، وثبوتِ صفاته وأفعاله، وصدقِ رسله= هي آياتٌ مشهودةٌ بالحسِّ، معلومةٌ بالعقل، مستقِرّةٌ في الفِطَر، لا يحتاج النّاظر فيها إلى أوضاعِ أهل الكلام والجدل واصطلاحِهم وطرقِهم البتّة. وكلُّ من له حسٌّ سليمٌ وعقلٌ يميِّز به يعرفُها، ويُقِرُّ بها، وينتقل من العلم بها إلى العلم بالمدلول.

وفي القرآن ما يزيد على عشرات الألوف من هذه الآيات البيِّنات. ومن لم يحفظ القرآنَ إذا سمعها وفهمها وعقَلها انتقل ذهنُه منها إلى المدلول أسرعَ انتقالٍ وأقرَبَه.

وبالجملة: فما كلُّ من علِمَ شيئًا أمكنه أن يستدلَّ عليه، ولا كلُّ من أمكنه الاستدلالُ عليه يُحسن ترتيبَ الدّليل وتقريرَه والجوابَ عن المعارض.

والشَّواهد التي ذكرها هي الأدلَّة، كالاستدلال بالمصنوع على الصَّانع، والمخلوق على الخالق. وهذه طريقة القرآن الذي لا توحيدَ أكمَلُ من توحيده.

قوله: (بعد أن يسلموا من الشُّبهة، والحيرة، والرِّيبة). الشُّبهة: الشُّكوك التي تُوقع في اشتباه الحقِّ بالباطل، فيتولَّدُ عنها الحيرةُ والرِّيبةُ. وهذا حقٌّ، فإنَّ هذا التَّوحيدَ لا ينفع إن لم يسلَم قلبُ صاحبه من ذلك. وهذا هو القلبُ السَّليمُ الذي لا يُفلح إلّا من أتى الله به، فيسلَم من الشُّبهِ المعارضةِ لخبره،

ص: 506

والإراداتِ المعارضةِ لأمره، بل ينقاد للخبرِ تصديقًا واستيقانًا، وللطَّلبِ إذعانًا وامتثالًا.

قوله: (بصدق شهادةٍ صحَّحها قبولُ القلب)، أي سلِموا من الشُّبهة والحيَرة والرِّيبة، بصدق شهادةٍ تواطأ عليها القلبُ واللِّسانُ، فصحَّت شهادتُهم بقبولِ قلوبهم لها، واعتقادِهم صحّتَها، والجَزمِ بها، بخلاف شهادة المنافق التي لم يقبلها قلبُه، ولم يواطئ عليها لسانُه.

قوله: (وهذا توحيد العامّة الذي يصحُّ بالشّواهد). قد عرفتَ أنَّ هذا هو التَّوحيدُ الذي دعت إليه الرُّسلُ، ونزلت به الكتبُ، واتّفقت عليه الشّرائعُ. ثمَّ بيَّن مراده بالشّواهد أنّها الرِّسالة والصَّنائع. والشَّواهد هي

(1)

الأدلّة الدَّالَّة على التَّوحيد، والرِّسالةُ أرشدت إليها وعرَّفت بها. ومقصوده: أنّ الشّواهد نوعان: آياتٌ متلوّةٌ وهي الرِّسالة، وآياتٌ مرئيّةٌ وهي الصَّنائع.

قوله: (يجب بالسَّمع، ويوجد بتبصير الحقِّ، وينمو على مشاهدة الشَّواهد). هذه ثلاث مسائل، إحداها: ما يجب به، والثّانية: ما يوجد به، والثّالثة: ما ينمو به.

فأمّا المسألة الأولى، فاختلف فيها النّاس. فقالت طائفةٌ: يجب بالعقل، ويعاقَب على تركه، والسَّمعُ مقرِّرٌ لما وجب بالعقل مؤكِّدٌ له. فجعلوا وجوبَه والعقابَ على تركه ثابتين بالعقل، والسَّمعُ مبيِّنٌ ومقرِّرٌ للوجوب وللعقاب. وهذا قول المعتزلة ومن وافقهم من أتباع الأئمّة في مسألة التّحسين والتّقبيح العقليَّين.

(1)

لم يرد لفظ «هي» في ش، د.

ص: 507

وقالت طائفةٌ: لا يثبت بالعقل، لا هذا ولا هذا، فلا يجب بالعقل شيءٌ، وإنّما الوجوبُ بالشَّرع، ولذلك لا يستحقُّ العقاب على تركه. وهذا قول الأشعريّة ومَن وافقهم على نفي التّحسين والتّقبيح.

والقولان لأصحاب أحمد والشّافعيِّ وأبي حنيفة رحمهم الله تعالى.

والحقُّ: أنَّ وجوبه ثابتٌ بالعقل والسَّمع. والقرآن على هذا يدلُّ، فإنَّه يذكر الأدلَّة والبراهين العقليَّة على التَّوحيد، ويبيِّن حسنَه وقبحَ الشِّرك عقلًا وفطرةً، ويأمر بالتَّوحيد وينهى عن الشِّرك. ولهذا ضرب سبحانه الأمثال، وبيَّنَ الأدلَّةَ العقليَّةَ، وخاطَب العبادَ بذلك خطابَ من قد استقرَّ في عقولهم وفِطَرهم حسنُ التَّوحيد ووجوبُه، وقبحُ الشِّرك وذمُّه.

والقرآن مملوءٌ بالبراهين العقليّة الدّالّة على ذلك، كقوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَالِمًا

(1)

لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29]، وقوله:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهْوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهْوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى} [النحل: 75 - 76]، وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ

(1)

على قراءة أبي عمرو وابن كثير من السبعة.

ص: 508

عَزِيزٌ} [الحج: 73] إلى أضعافِ أضعافِ ذلك من براهين التَّوحيد العقليّة التي أرشد إليها القرآن ونبَّه عليها.

ولكن هاهنا أمرٌ آخر، وهو أنّ العقاب على ترك هذا الواجب

(1)

يتأخَّر إلى حين ورود الشَّرع، كما دلَّ عليه قولُه تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقولُه:{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك: 8 - 9]، وقولُه:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]، وقولُه:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]

(2)

.

فهذا يدلُّ على أنّهم ظالمون قبل إرسال الرُّسل، وأنّه لا يهلكهم بهذا الظُّلم قبل إقامة الحجّة. فالآيةُ ردٌّ على الطّائفتين معًا: من يقول: إنّه لا يثبت الظُّلم والقبح إلّا بالسَّمع، ومن يقول: إنّهم معذَّبون على ظلمهم بدون السَّمع. فالقرآن يبطل قول هؤلاء وهؤلاء، كما قال تعالى:{وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47]، فأخبر: أنَّ ما قدَّمت أيديهم قبل إرسال الرَّسول

(1)

ش، د:«الوجوب» .

(2)

وقع في النسخ: «وأهلها غافلون» ، ولعله سهو، وقد غيَّر بعضهم في متن ش ليوافق قوله تعالى في سورة الأنعام (131):{ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا} ، وأثبت بعده في الهامش الآية 117 من سورة هود. ومثله في د.

ص: 509

سببٌ لإصابتهم بالمصيبة

(1)

،

ولكن لم يفعل سبحانه ذلك قبل إرسال الرَّسول الذي يقيم به حجَّتَه عليهم، كما قال تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال تعالى:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 155 - 157]، وقوله:{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ} [الزمر: 56 - 59]

(2)

وهذا كثيرٌ في القرآن، يخبر أنَّ الحجّةَ قامت عليهم بكتابه ورسوله، كما ينبِّههم بما في عقولهم وفِطَرهم من حسن التَّوحيد والشُّكر، وقبح الشِّرك والكفر.

وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاةً في كتاب «المفتاح»

(3)

وذكرنا هنالك

(4)

نحوًا من ستِّين وجهًا تُبطل قولَ من نفى القبحَ العقليَّ وزعَم أنّه ليس في الأفعال ما يقتضي حسنها وقبحها، وأنّه يجوز أن يأمر الله بعين ما نهى عنه، وينهى عن عين ما أمر به، وأنّ ذلك جائزٌ عليه، وإنّما فرَّق بين المأمور والمنهيِّ بمجرَّد الأمر والنّهي، لا بحسن هذا وقبح هذا، وأنّه لو نهى عن

(1)

«بالمصيبة» ساقط من ش، د ..

(2)

في ش، د في موضع الآية 58:«إلى قوله» .

(3)

(2/ 1017 - 1172) وقد أحال عليه من قبل (1/ 140) في هذه المسألة.

(4)

«هنالك» ساقط من ش، د.

ص: 510

التّوحيد والإيمان والشُّكر لكان قبيحًا، ولو أمرَ بالكفر والشكر والظُّلم والفواحش لكانت حسنةً! وبيَّنَّا أنَّ هذا القولَ مخالفٌ للعقول والفِطَر والقرآن والسُّنّة.

والمقصود: الكلام على قول الشّيخ: (ويجب بالسَّمع)

(1)

، وأنَّ الصَّوابَ وجوبُه بالعقل والسَّمع، وإن اختلفت جهةُ الإيجاب، فالعقلُ يوجبه بمعنى اقتضائه لفعله، وذمِّه على تركه، وتقبيحه لضدِّه؛ والسَّمعُ يوجبه بهذا المعنى، ويزيد: إثباتَ العقاب على تركه، والإخبارَ عن مقت الرَّبِّ تعالى لتاركه وبغضه له. وهذا أيضًا قد يُعلم بالعقل، فإنَّه إذا تقرَّر قبحُ الشَّيء وفحشُه بالعقل، وعُلِمَ ثبوتُ كمال الرَّبِّ جل جلاله بالعقل أيضًا= اقتضى ثبوتُ هذين الأمرين علمَ العقل بمقت الرَّبِّ تعالى لمرتكبه. وأمّا تفاصيلُ العقاب وما يوجبه مقتُ الرَّبِّ منه فإنّما يُعلَم بالسَّمع.

واعلم أنّه إن لم يكن حسنُ التَّوحيد وقبحُ الشِّرك معلومًا بالعقل مستقِرًّا في الفطَر، فلا وثوق بشيءٍ من قضايا العقل، فإنَّ هذه القضيَّةَ من أجلى

(2)

القضايا البديهيَّات، وأوضحِ ما رُكِّب في العقول والفطَر. ولهذا يقول سبحانه عقيبَ تقرير ذلك:{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ، {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} . وينفي العقلَ عن أهل الشِّرك، ويُخبر عنهم بأنّهم يعترفون في النّار أنّهم لم يكونوا يسمعون ولا يعقلون، وأنّهم خرجوا عن موجَب السَّمع والعقل، وأخبر أنّهم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]، وأخبر أنّ سمعَهم وأبصارهم وأفئدتهم لم

(1)

كذا وقع هنا في النسخ «ويجب» بزيادة الواو.

(2)

في المطبوع: «أجلِّ» ، تحريف.

ص: 511

تُغنِ عنهم شيئًا. وهذا إنّما يكون في حقِّ من خرج عن موجَب العقل الصَّريح والفطرة الصَّحيحة.

ولو لم يكن في صريح العقل ما يدلُّ على ذلك لم يكن في قوله تعالى: {انْظُرُوا} و {اعتبروا} و {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا} فائدةٌ، فإنّهم يقولون: عقولُنا لا تدلُّ على ذلك، وإنّما هو مجرَّدُ إخبارك، فما هذا النّظرُ والتّفكُّرُ والاعتبارُ والسَّيرُ في الأرض؟ وما هذه الأمثال المضروبة والأقيسة العقليّة والشّواهد العيانيّة؟ أفليس في بعض ذلك أظهرُ دليلٍ على أنَّ حسنَ التّوحيد والشُّكر وقبحَ الشِّرك والكفر مستقرٌّ في العقول والفطر، معلومٌ لمن له قلبٌ حيٌّ وعقلٌ سليمٌ وفطرةٌ صحيحةٌ؟

قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر: 27]. وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]. وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]. وقال تعالى: {يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46]. وقال تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)} [البقرة: 219]. وقال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]. وقال تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 25].

ومن بعض أدلَّته العقليّة: ما أبقاه الله سبحانه من آثار عقوبات أهل

ص: 512

الشِّرك وآثار ديارهم، وما حلَّ بهم، وما أبقاه من نصر أهل التَّوحيد وإعزازهم، وجعلِ العاقبة لهم. قال تعالى:{وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} [العنكبوت: 38]. وقال في ثمود: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل: 52 - 53]. وقال في قوم لوطٍ: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 34 - 35]. وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر: 75 - 79]. وقال تعالى في قرى لوطٍ: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137 - 138].

وهو سبحانه في سورة الشُّعراء يذكر ما أوقَعَ بالمشركين من أنواع العقوبات، ويذكر نجاتَه

(1)

لأهل التّوحيد، ثمّ يقول:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهْوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}

(2)

، فيذكر شركَ هؤلاء الذين استحقُّوا به الهلاك، وتوحيدَ هؤلاء الذين استحقُّوا به النَّجاة، ثمّ يخبر أنَّ في ذلك آية وبرهان

(3)

، ثمّ يذكر مصدر ذلك كلِّه، وأنّه عن أسمائه وصفاته،

(1)

كذا في جميع النسخ ومثله في أصول «مفتاح دار السعادة» (1/ 15). استعمل «النجاة» بمعنى التنجية كالزكاة والذَّكاة بمعنى التزكية والتذكية.

(2)

في الآيات [8 - 9، 67 - 68، 103 - 104، 121 - 122، 139 - 140، 174 - 175، 190 - 191] من سورة الشعراء.

(3)

في المطبوع: «في ذلك آية وبرهانًا» خلافًا للأصل.

ص: 513