الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذلك أبلغ من حال السُّكر، ولكن لا تدوم له هذه الحال، ولا يمكن أن يعيش عليها.
فصل
قال
(1)
: (وهو على ثلاث درجاتٍ.
الدرجة الأولى:
فناءُ المعرفة في المعروفِ وهو الفناء علمًا، وفناءُ العِيان في المعايَن وهو الفناء جحدًا، وفناءُ الطلب في الوجود وهو الفناء حقًّا).
هذا تفصيلُ ما أجمله أوَّلًا، وتبيينُ ما أراد بالعلم والجحد والحقِّ.
فـ (فناء المعرفة في المعروف) هو غيبة العارف بمعروفه عن شعوره بمعرفته ومعانيها، فيفنى به سبحانه عن وصفه هو وما قام به، فإنَّ المعرفة فعله ووصفه، فإذا استغرق في شهود المعروف فني عن صفة نفسه وفِعلها. ولمَّا كانت المعرفةُ فوق العلم وأخصَّ منه كان فناءُ المعرفة في المعروف مستلزمًا لفناء العلم في المعرفة، فيفنى أوَّلًا في المعرفة ثمَّ تفنى المعرفةُ في المعروف.
وأمَّا (فناء العِيان في المعاين)، فالعيان فوق المعرفة، فإنَّ المعرفة مرتبةٌ فوق العلم ودون العيان، فإذا انتقل من المعرفة إلى العيان فني عيانُه في مُعايَنه، كما فنيت معرفتُه في معروفه.
وأمَّا (فناء الطلب في الوجود)، فهو أن لا يبقى لصاحب هذا الفناءِ طلبٌ، لأنَّه ظفر بالمطلوب المشاهَد، وصار واجدًا بعد أن كان طالبًا، فكان إدراكه
(1)
«المنازل» (ص 104).
أوَّلًا علمًا، ثمَّ قوي فصار معرفةً، ثمَّ قوي فصار عيانًا
(1)
، ثمَّ تمكَّن فصار وجودًا.
ولعلَّك أن تستنكر أو تستبعد هذه الألفاظ ومعانيها
(2)
، فاسمع ضربَ مثلٍ يسهِّل
(3)
عليك ذلك
(4)
ويقرِّبه منك: مثل ملكٍ عظيم السُّلطان، شديد السطوة، تامِّ الهيبة، قويِّ البأس، استدعى رجلًا من رعيَّته قد اشتدَّ جرمه وعصيانه له، فحضر بين يديه، وغلب على ظنِّه إتلافُه له، فأحواله في حال حضوره مختلفةٌ بالنِّسبة إلى ما يشاهده، فتارةً يتذكَّر جرمَه وسطوة السُّلطان وقدرتَه عليه فيفكِّر فيما يلقاه، وتارةً تقهره الحال التي هو فيها فلا يذكر ما كان منه ولا ما أُحضر له، لغلبة الخوف على قلبه ويأسه من الخلاص، ولكنَّ عقله وذهنه معه، وتارةً يغيب قلبُه وذهنه بالكلِّيَّة فلا يشعر أين هو، ولا مَن إلى جانبه، ولا بما يراد به، وربَّما جرى على لسانه في هذه الحال ما لا يريده، فهذا فناء الخوف.
ومثالٌ ثانٍ في فناء الحبِّ: محبٌّ استغرقت محبَّتُه شخصًا في غاية الجمال والبهاء، وأكبر أمنيَّته الوصولُ إليه ومحادثتُه ورؤيتُه، فبينا هو على حاله ــ وقد
(5)
ملأ الحبُّ قلبه، وقد استغرق فكره في محبوبه ــ وإذا به قد
(1)
في طبعة الفقي زيادة: «ثمَّ تمكَّن فصار معرفة» ، وليست في شيء من النسخ، وقد سبق ذكر المعرفة.
(2)
طمس «ومعانيها» في د، فكتب بعضهم مكانه:«المذكورة» .
(3)
ر: «يهوِّن» .
(4)
ساقط من ش، د.
(5)
واو الحال ساقطة من ت، ر.
دخل عليه بغتةً على أحسن هيئةٍ، فقابله قريبًا منه، وليس دونه سواه، أفليس
(1)
هذا حقيقًا أن يفنى عن رؤية غيره بمشاهدته، وأن يفنى عن شهوده بمشهوده، بل وعن حبِّه بمحبوبه؟ فيملك عليه المحبوبُ سمعَه وبصره وإرادته وإحساسه، ويغيب به عن ذاته وصفاته؟
وانظر إلى النِّسوة كيف قطَّعن أيديهنَّ لمَّا طلع عليهنَّ يوسف وشاهدن ذلك الجمال، ولم يتقدَّم لهنَّ من عشقه ومحبَّته ما تقدَّم لامرأة العزيز، بل أفناهنَّ
(2)
شهود جماله عن حالهنَّ حتَّى قطَّعن أيديهنَّ. وأمَّا امرأة العزيز، فإنَّها وإن كانت صاحبة المحبَّة، فإنَّها كانت قد ألفت رؤيتَه ومشاهدتَه، فلمَّا خرج لم يتغيَّر عليها حالُها كما تغيَّر على العواذل، فكان مقامها البقاء ومقامهنَّ الفناء، وحصل لهنَّ الفناء من وجهين:
أحدهما: ذهولهنَّ عن الشُّعور بقطع ما في أيديهنَّ حتَّى تخطَّاه القطع إلى الأيدي.
الثاني: فناؤهنَّ عن الإحساس بألم القطع. وهكذا الفناء بالمخوف والفرح بالمحبوب يُفني صاحبه عن شعوره وعن إحساسه بالكيفيَّات النفسانيَّة.
هذا في مشاهدة مخلوقٍ محدثٍ له أشباهٌ وأمثال، وله من يقاربه ويدانيه في الجمال، وإنَّما فاق بني جنسه في الحسن والجمال ببعض الصِّفات، وامتاز ببعض المعاني المخلوقة المصنوعة. فما الظنُّ بمن له الجمالُ كلُّه، والكمال كلُّه، والإحسانُ والإجمال، ونسبةُ كلِّ جمالٍ في الوجود إلى جماله وجلاله
(1)
همزة الاستفهام ساقطة من ش، د.
(2)
ر: «فأفناهن» .
أقلُّ من نسبة سراجٍ ضعيفٍ إلى عين الشمس؟
ولمَّا علم سبحانه أنَّ قوى الأبصار
(1)
لا تحتمل في هذه الدار رؤيتَه، احتجب عن عباده إلى يوم لقائه
(2)
، فينشئهم نشأةً يتمكَّنون بها من مشاهدة جماله ورؤية وجهه؛ وأنت ترى بعض آياته ومخلوقاته ومبدعاته كيف يفنى فيها مشاهدها عن غيرها!
ولكنَّ هذا كلَّه في المشاهدات العيانيَّة، والواردات الوجدانيَّة. وأمَّا المعارف الإلهيَّة، فإنَّ حالة البقاء فيها أكمل من حالة الفناء، وهي حالة نبيِّنا صلوات الله وسلامه عليه، وحال الكُمَّل من أتباعه، ولهذا رأى ما رأى ليلة الإسراء وهو ثابت القلب، رابط الجأش، حاضر الإدراك، تامُّ التمييز، ولو رأى غيرُه بعضَ بعضِ
(3)
ذلك لما تمالك.
فإن قلت: ربَّما أفهمُ معنى فناء المعرفة في المعروف وفناء العِيان في المعايَن، فما معنى (فناء الطلب في الوجود)، حتَّى يكون (هو الفناء حقًّا)؟
قلت: متى فهمت الأمرين اللَّذَين قبله فهمت معناه، فإنَّ الواجد لمَّا ظفر بموجوده فني طلبُه له واضمحلَّ. وهذا مشهودٌ في الشاهد، فإنَّك ترى طالب أمرٍ مهمٍّ إذا ظفرت يداه به وبرَدَ له
(4)
كيف يفنى طلبُه في وجوده
(5)
. لكن هذا
(1)
ر: «البشر» ، وفوقه:«لعله» .
(2)
ت، ر:«القيامة» .
(3)
كذا في جميع النسخ بتكرار «بعض» ، ولم يرد في المطبوعات إلا مرة واحدة.
(4)
ر: «وبِدَركه» ، تصحيف. ومعنى «برد له» أي: حصل له بحيث تمكَّن مِن أخذه. ومنه قول المؤلف في «زاد المعاد» (3/ 594): «وبردت الغنائم لأهلها» .
(5)
ر، طبعة الفقي:«كيف يبرد طلبه ويفنى في وجوده» .
محالٌ في حقِّ العارف، فإنَّ طلبه لا يفارقه، بل إذا وجد اشتدَّ طلبه، فلا يزال طالبًا، فكلَّما كان أوجد كان أطلب.
نعم، الذي يفنى: طلبُ حظِّه في طلب محبوبه وطلبِ مراضيه، وليس بعد هذا غاية، ولكنَّ الذي يشير إليه القوم: أنَّ العبد يصل في منزلة المحبَّة والمعرفة والاستغراق في المشاهدة إلى حالةٍ يستولي عليه أنوارُ القرب وآثارُ الصِّفات بحيث يذهل لبُّه عن شعوره وطلبه
(1)
وإرادته ومحبَّته.
وإيضاح ذلك: أنَّ العبد إذا أقبل على ربِّه، وتفقَّد أحوالَه، وتمكَّن مِن شهود قيام ربِّه عليه، فإنَّه يكون في أوَّل أمره مكابدًا مصابرًا، فإذا صبر وصابر ورابط ــ صبر في نفسه، وصابر عدوَّه، ورابط على ثغر قلبه أن يدخل فيه خاطرٌ لا يحبُّه وليُّه الحقُّ ــ ظهر حينئذٍ في قلبه نورٌ من إقباله على ربِّه، فإذا قوي ذلك النُّور غيَّبه عن وجوده الذهنيِّ، وسرى به في مطاوي الغيب، وحينئذٍ يصفو له إقبالُه على ربِّه، فإذا صفا له ذلك غاب عن وجوده العينيِّ والذهنيِّ، فغاب بنور إقباله على ربِّه لوصول خالص الذِّكر وصافيه إلى قلبه، حيث خلا من كلِّ شاغلٍ من الوجود العينيِّ والذهنيِّ، وصار واحدًا لواحدٍ، فيستولي نور المراقبة على أجزاء باطنه، فيمتلئ قلبه من نور التوجُّه، بحيث يَغْمُر قلبَه ويستره عمَّا سواه، ثمَّ يسري ذلك النُّور من باطنه ويعمُّ أجزاء ظاهره، فيتشابه الظاهر والباطن فيه. وحينئذٍ فيفنى العبدُ عمَّا سواه، ويبقى بالمشهد الرُّوحيِّ الذاتيِّ الموجِب
(2)
للمحبَّة الخاصَّة الملهبة للروح.
(1)
ر: «بطلبه» .
(2)
ش، د:«الموجبة» .
فمنهم من يَضعُف لقوَّة الوارد، فلا يمكنه أن يتَّسع لغير ما باشر سرُّه وقلبُه من آثار الحبِّ الخاصِّ. ومنهم
(1)
من يقوى فيتَّسع
(2)
نظره، فيجد آثار الجلال والجمال المقدَّس في قلبه وروحه، ويجد العبوديَّةَ والمحبَّة والدُّعاء والافتقارَ والتوكُّل والخوف والرجاء وسائرَ الأعمالِ القلبيَّةِ قائمةً بقلبه، لا يَشْغَله عن مشهد الرُّوح، ولا يستغرقه مشهدُ الرُّوح عنه. ويجد ملاحظتَه للأوامر والنواهي حاضرًا في جذر قلبه حيث نزلت الأمانة، فلا يَشْغَله مشهدُ الرُّوح المستغرق، ولا مشهد القلب عن ملاحظة مراضي الربِّ تعالى ومحابِّه وحقِّه على عبده. ويجد ترك التدبير والاختيار وصحَّة التفويض موجودًا في محلِّ نفسه، فيعامل الله سبحانه بذلك، بحيث لا تشغله مشاهدةُ الأولى عنه، ويقوم بملاحظة عقله لأسرار حكمة الله في خلقه وأمره.
ولا يحجبه ذلك كلُّه عن ملاحظة عبوديَّته، فيبقى مغمورَ الرُّوح بملاحظة الفردانيَّة وجلالِها وجمالِها وكمالِها، قد استغرقَتْه محبَّتُه والشوق إليه، معمورَ القلب بعبادات القلوب، معمورَ العقل بملاحظة الحكمة ومعاني الخطاب، طاهرَ القلب عن سَفْساف الأخلاق مع الله تعالى ومع الخلق، قد صار عبدًا محضًا لربِّه بروحه وقلبه وعقله ونفسه وبدنه وجوارحه، قد قام كلٌّ بما عليه من العبوديَّة، بحيث لا تحجبه عبوديَّةُ بعضه عن عبوديَّة البعض الآخر
(3)
، قد فني عن نفسه وبقي بربِّه. كما قال أبو بكرٍ الكتَّاني: جرت مسألةٌ في المحبَّة بمكَّة أيَّام الموسم، فتكلَّم الشيوخ فيها، وكان الجنيدُ أصغرَهم