المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المرتبة السادسة: حياة الإرادة والهمة والمحبة - مدارج السالكين - ط عطاءات العلم - جـ ٤

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ الدّرجة الأولى: سرورُ ذوقٍ ذهبَ بثلاثة أحزانٍ:

- ‌الحزن الأوّل: حزنٌ أورثَه خوفُ الانقطاع

- ‌الحزن الثّالث: (حزنٌ بعثَتْه وحشةُ التّفرُّق)

- ‌(الدّرجة الثّانية: سرورُ شهودٍ، كشَفَ حجابَ العلم

- ‌(الدّرجة الثّالثة: سرورُ سماع الإجابة

- ‌ منزلة(1)السِّرِّ

- ‌ الثانية: صفاء القصد

- ‌ الثّالثة: صحّة السُّلوك

- ‌الطّبقة الثّالثة: طائفةٌ أسرَهم الحقُّ عنهم

- ‌النّفَس الثاني: نفَسٌ في حين التجلِّي

- ‌النّفَس الثّالث: نفَسٌ مطهّرٌ بماء القدس

- ‌ الدّرجة الأولى: الغربة عن الأوطان

- ‌(الدّرجة الثّانية: غُربة الحال

- ‌(الدّرجة الثّالثة: غُربة الهمّة

- ‌ الدّرجة الأولى: استغراق العلم في عين الحال

- ‌(الدّرجة الثّانية: استغراق الإشارة في الكشف

- ‌(الدّرجة الثّالثة: استغراق الشّواهد في الجمع

- ‌(الدّرجة الثّانية:

- ‌(الدّرجة الثّالثة:

- ‌ الدّرجة الأولى: تمكُّن المريد

- ‌(الدّرجة الثّانية: تمكُّن السّالك

- ‌(الدّرجة الثّالثة: تمكُّن العارف

- ‌ الدّرجة الأولى: مكاشفةٌ تدلُّ على التّحقيق الصّحيح

- ‌ الدّرجة الأولى: مشاهدة معرفةٍ

- ‌(الدرجة الثانية: مشاهدة معاينةٍ

- ‌(الدّرجة الثّالثة: مشاهدة جَمْعٍ

- ‌ الحياة الأولى: حياة العلم من موت الجهل

- ‌المرتبة الأولى: حياة(2)الأرض بالنّبات

- ‌المرتبة الثانية: حياة النُّموِّ والاغتذاء

- ‌المرتبة السّادسة: حياة الإرادة والهمّة والمحبة

- ‌ سببُ تخلُّفِ النّفس عن طلب هذه الحياة

- ‌(الحياة الثّانية: حياة الجمع من موت التّفرقة

- ‌(الحياة الثّالثة: حياة الوجود. وهي حياةٌ بالحقِّ

- ‌(الدرجة الثانية: اتِّصال الشُّهود

- ‌(الدرجة الثالثة: اتِّصال الوجود

- ‌(الثاني: انفصالٌ عن رؤية الانفصال

- ‌(الثالث: انفصالٌ عن اتِّصال

- ‌ الدرجة الأولى: معرفة الصِّفات والنُّعوت

- ‌ الفرق بين الصِّفة والنّعت

- ‌ كلُّ شركٍ في العالم فأصله التعطيل

- ‌القاعدة الثالثة: تعريف الحال بعد الوصول

- ‌الثالث: عدم تشبيهها بما للمخلوق

- ‌(الدرجة الثانية: معرفة الذات، مع إسقاط التفريق بين الصِّفات والذات

- ‌(الدرجة الثالثة: معرفةٌ مستغرقةٌ في محض التعريف

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌(الدّرجة الثّالثة: أن لا يُناسِمَ رسمُك سبْقَه)

- ‌الثاني: وجود الحقِّ وجود عينٍ»

- ‌الثالث: وجود مقام اضمحلال رسمِ الوجود فيه

- ‌(الدّرجة الأولى: تجريد عين الكشف عن كسب اليقين)

- ‌(الدرجة الثانية: تجريد عين الجمع عن درك العلم)

- ‌(الدرجة الثالثة: تجريد الخلاص من شهود التجريد)

- ‌ تفريد الإشارة بالحقِّ

- ‌«الجمع» ينقسم إلى صحيح وباطل

- ‌المسألة الثّانية: قوله: (ويوجد بتبصير الحقِّ)

- ‌المسألة الثّالثة: قوله: (وينمو على مشاهدة الشّواهد)

- ‌الالتفاتُ إلى الأسباب ضربان: أحدهما شركٌ، والآخر عبوديّةٌ وتوحيدٌ

- ‌فصلقوله: (والصُّعود عن منازعات العقول)

الفصل: ‌المرتبة السادسة: حياة الإرادة والهمة والمحبة

الطبرانيُّ وابن عبد البرِّ وغيرهما

(1)

، وقد روي مرفوعًا إلى النّبيِّ صلى الله عليه وسلم

(2)

، والموقوف أصحُّ

(3)

.

والمقصود قوله: «لأنّ العلم حياة القلوب من الجهل» ، فالقلب ميِّتٌ، وحياته بالعلم والإيمان.

فصل

‌المرتبة السّادسة: حياة الإرادة والهمّة والمحبة

، فإنّ فتور الهمَّة وضعف الإرادة والطّلب من ضعف حياة القلب، وكلّما كان القلب أتمَّ حياةً كانت همّته أعلى، وإرادته ومحبّته أقوى، فإنّ الإرادة والمحبّة تتبع

(4)

الشُّعور بالمراد المحبوب، وسلامة القلب من الآفة التي تحول بينه وبين طلبه وإرادته، فضعفُ الطّلب وفتورُ الهمّة إمّا من نقصان الشُّعور والإحساس، وإمّا من وجود الآفة المُضعِفة للحياة، فقوّةُ الشُّعور وقوّةُ الإرادة دليلٌ على قوّة الحياة، وضعفهما دليلٌ على ضعفها. وكما أنّ علوّ الهمّة وصدق الإرادة

(1)

أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (1/ 238)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 240). ولم أجده في معاجم الطبراني الثلاثة، ولعله رواه في كتاب «العلم» له الذي ذكره أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن مندة في ترجمته الملحقة بـ «المعجم الكبير» (25/ 361).

(2)

رواه مرفوعًا ابن عبد البر في «الجامع» (1/ 239)، والخطيب في «المتفق والمفترق» (1/ 326) بإسنادين ضعيفين. قال ابن عبد البر: هو حديث حسن جدًّا، ولكن ليس له إسناد قوي.

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (4/ 109)، و «مفتاح دار السعادة» (1/ 337).

(4)

ث: «تقتضي» .

ص: 167

والطّلب من كمال الحياة، فهو سببٌ إلى حصول أكمل الحياة وأطيبها

(1)

، فإنّ الحياة الطّيِّبة إنّما تُنال بالهمّة العالية، والمحبّة الصّادقة، والإرادة الخالصة، فعلى قدْرِ ذلك تكون الحياة الطّيِّبة. وأخسُّ النّاس حياةً أخسُّهم همّةً وأضعفُهم محبّةً وطلبًا، وحياة البهائم خيرٌ من حياته، كما قيل

(2)

:

نهارُك يا مغرورُ لهْوٌ وغفلةٌ

وليلك نومٌ والرَّدَى لك لازمُ

تُسَرُّ بما يَفنى وتَفْرَحُ بالمُنى

كما غُرَّ باللّذّاتِ في النّوم حالمُ

(3)

وتكدَحُ فيما سوفَ تَسخَطُ

(4)

غِبَّه

كذلك في الدُّنيا تعيش البهائمُ

والمقصود: أنّ حياة القلب بالعلم والإرادة والهمّة، والنّاس إذا شاهدوا ذلك من الرجل قالوا: هو حيُّ القلب، وحياة القلب بدوامِ الذِّكر وتركِ الذُّنوب، كما قال عبد الله بن المبارك

(5)

رحمة الله ورضوانه عليه:

(1)

«وأطيبها» ليست في ر.

(2)

الأبيات لعمر بن عبد العزيز رحمه الله في «عيون الأخبار» (2/ 309)، و «المجالسة» للدينوري (2/ 424)، و «حلية الأولياء» (5/ 263، 319)، و «أدب الدنيا والدين» (ص 185)، و «بهجة المجالس» (2/ 324)، و «تاريخ دمشق» (45/ 243، 244) وغيرها، وفي بعضها أنه كان يتمثل بها. ونُسبت لمسعر بن كدام في «حلية الأولياء» (7/ 220)، و «سير أعلام النبلاء» (7/ 166)، ولابن عبد الأعلى في «سيرة عمر بن عبد العزيز» لابن الجوزي (ص 225)، و «الحماسة البصرية» (4/ 1682).

(3)

هذا البيت ساقط من د، ت.

(4)

ر: «تكره» .

(5)

«ديوانه» (ص 26)، و «المجالسة» للدينوري (2/ 30)، و «حلية الأولياء» (8/ 279)، و «جامع بيان العلم» (1/ 327)، و «الجامع لشعب الإيمان» (5/ 464)، و «بهجة المجالس» (3/ 334)، و «تاريخ دمشق» (32/ 467، 468).

ص: 168

رأيتُ الذُّنوبَ تُمِيتُ القلوب

وقد يُورِثُ الذُّلَّ إدمانُها

وتركُ الذُّنوبِ حياةُ القلوب

وخيرٌ لنفسكَ عِصيانُها

(1)

وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيميّة يقول: من واظبَ على «يا حيُّ يا قيُّوم، لا إله إلّا أنت» كلّ يومٍ بين سنّة الفجر وصلاة الفجر

(2)

أربعين مرّةً أحيى الله قلبه

(3)

.

وكما أنّ الله سبحانه جعل حياة البدن بالطّعام والشّراب، فحياة القلب بدوام الذِّكر، والإنابة إلى الله، وترك الذُّنوب. والغفلةُ الجاثمة

(4)

على القلب والتّعلُّقُ بالرّذائل والشّهوات المنقطعة عن قُربٍ تُضعِف هذه الحياة، ولا يزال الضّعف يتوالى عليه حتّى يموت، وعلامةُ موته: أنّه لا يعرف معروفًا ولا يُنكِر منكرًا، كما قال عبد الله بن مسعودٍ: أتدرون مَن ميِّتُ الأحياء الذي قيل فيه:

ليس مَن ماتَ فاستراحَ بميْتٍ

إنّما الميْتُ ميِّتُ الأحياء

قالوا: ومن هو؟ قال: الذي

(5)

لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا

(6)

.

(1)

بعدها في المطبوع ثلاثة أبيات ليست في الأصول إلّا في ر، وهي:

وهل أفسد الدينَ إلّا الملوك

وأحبار سوءٍ ورهبانُها

وباعوا النفوسَ ولم يَربَحوا

ولم يغْلُ في البيع أثمانُها

لقد رتَعَ القوم في جِيفةٍ

يَبينُ لذي اللُّبِّ خسرانُها

(2)

ت: «الصبح» .

(3)

تقدم ذكره في الكتاب (2/ 78).

(4)

ش، د:«الجامة» .

(5)

د: «من» .

(6)

رُوي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أخرجه البيهقي في «الشعب» (10188)، ورواه مختصرًا ابن أبي شيبة (38732)، والبيهقي في «الشعب» (7184). وعزاه شيخ الإسلام في «الاستقامة» (2/ 212) إلى ابن مسعود كما هنا. وفي «مختصر الفتاوى المصرية» (ص 580) عزاه إلى بعض السلف. والبيت لعديّ بن الرعلاء الشاعر الجاهلي من قصيدة له في «الأصمعيات» (ص 171)، و «خزانة الأدب» (4/ 187، 188).

ص: 169

والرّجل هو الذي يخاف موتَ قلبه لا موتَ بدنه، إذ أكثر هذا الخلق يخافون موت أبدانهم، ولا يبالون بموت قلوبهم، ولا يعرفون من الحياة إلّا الحياة الطّبيعيّة، وذلك من موت القلب والرُّوح، فإنّ هذه الحياة الطّبيعيّة شبيهةٌ بالظِّلِّ الزّائل، والنّبات السّريع الجفوف

(1)

، والمنام الذي يتخيَّل رائيه أنَّه حقيقةٌ، فإذا استيقظ عَرف أنّه كان خيالًا. كما قال عمر بن الخطّاب: لو أنّ الحياة الدُّنيا من أوّلها إلى آخرها أُوتِيَها رجلٌ واحدٌ، ثمّ جاءه الموت= لكان بمنزلة من رأى في منامه ما يَسُرُّه ثمّ استيقظ، فإذا ليس في يده شيءٌ

(2)

.

وقد قيل: إنّ الموت موتانِ: موتٌ إراديٌّ، وموتٌ طبيعيٌّ

(3)

، فمن أمات نفسَه موتًا إراديًّا كان موته الطّبيعيُّ حياةً له. ومعنى هذا أنّ الموت الإراديّ هو قمْعُ الشّهوات المُردِية، وإخمادُ نيرانها المُحرِقة، وتسكينُ هوائجها المُتلِفة، فحينئذٍ يتفرّغ القلب والرُّوح للتّفكُّر فيما فيه كمالُ العبد ومعرفتُه والاشتغالُ به، ويرى حينئذٍ أنّ إيثار الظِّلِّ الزّائل عن قريبٍ على العيش اللّذيذ الدّائم أخسرُ الخسران. فأمّا إذا كانت الشّهوات واقدةً

(4)

، واللّذّات مُؤثَرةً،

(1)

«والنبات السريع الجفوف» ليست في ت.

(2)

تقدم في الكتاب (3/ 493).

(3)

انظر: «تهذيب الأخلاق» لمسكويه (ص 219).

(4)

أي مشتعلة.

ص: 170

والعوائد غالبةً، والطّبيعة حاكمةً= فالقلب حينئذٍ إمّا أن يكون أسيرًا ذليلًا، أو مهزومًا مُخرَجًا عن وطنه ومستقرِّه الذي لا قرار له إلّا فيه، أو قتيلًا ميِّتًا، ما لِجُرحٍ به إيلامٌ. وأحسن أحواله أن يكون في حربٍ، يُدَال

(1)

فيها مرّةً، ويُدَال عليه مرّةً. فإذا مات العبد موته الطّبيعيّ كانت بعده حياة روحه بتلك العلوم النّافعة، والأعمال الصّالحة، والأحوال الفاضلة، التي حصلت له بإماتة نفسه، فتكون حياته هاهنا على حسب موته الإراديِّ في هذه الدّار.

وهذا موضعٌ لا يفهمه إلّا أَلِبَّاء النّاس وعقلاؤهم، ولا يعملُ بمقتضاه إلّا أهلُ الهِمم العليّة والنُّفوسُ الزّكيّة الأبيّة.

فصل

المرتبة السّابعة من مراتب الحياة: حياة الأخلاق والصِّفات المحمودة، التي هي هيآتٌ راسخةٌ للموصوف بها، فهو لا يتكلَّف التّرقِّيَ في درجات الكمال، ولا تَشُقُّ عليه، لاقتضاء أخلاقه وصفاته لذلك، بحيث لو فارقه لفارقَ ما هو من طبيعته وسجيّته. فحياةُ من قد طُبِع على الحياء والعفّة والجود والسّخاء والمروءة والصِّدق والوفاء ونحوها أتمُّ من حياة من يَقْهَر نفسَه ويُغالِب طبعَه حتّى يكون كذلك، فإنّ هذا بمنزلة من يُعارِضه أسباب الردى وهو يعالجها ويَقمَعُها بأضدادها، وذلك بمنزلة من قد عُوفِيَ من ذلك.

وكلّما كانت هذه الأخلاق في صاحبها أكملَ كانت حياته أقوى وأتمَّ، ولهذا كان خُلق الحياء مشتقًّا من الحياة اسمًا وحقيقةً، فأكمل النّاس حياةً

(1)

في المطبوع بعدها: «له» . وليست في النسخ.

ص: 171

أكملُهم حياءً، ونقصان حياء المرء من نقصان حياته، فإنّ الرُّوح إذا ماتت لم تحسّ بما يُؤلِمها من القبائح، فلا تستحيي منها، وإذا كانت صحيحة الحياة أحسَّتْ بذلك فاستحيتْ منه. وكذلك سائر الأخلاق الفاضلة والصِّفات الممدوحة تابعةٌ لقوّة الحياة، وضدُّها من نقصان الحياة، ولهذا كانت حياة الشُّجاع أكملَ من حياة الجبان، وحياة السّخيِّ أكمل من حياة البخيل، وحياة الفَطِن الذّكيِّ أكمل من حياة الفَدْم البليد. ولهذا لمّا كانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أكملَ النّاس حياةً حتّى إنّ قوّة حياتهم منعَ الأرضَ أن تُبلِي أجسادهم= كانوا أكملَ النّاس في هذه الأخلاق، ثمّ الأمثل فالأمثل من أتباعهم.

فانظر الآن إلى حياة {حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 10 - 13]، وحياة جوادٍ شجاعٍ بَرٍّ عادلٍ عفيفٍ محسنٍ، تَجدِ الأوّلَ ميِّتًا بالنِّسبة إلى الثّاني، ولله درُّ

(1)

القائل:

وما للمرء خيرٌ في حياةٍ

إذا ما عُدَّ من سَقَطِ المتاعِ

(2)

فصل

المرتبة الثّامنة من مراتب الحياة: حياة الفرح والسُّرور وقرّة العين، وهذه الحياة إنّما تكون بعد الظّفر بالمطلوب الذي تَقَرُّ به عينُ طالبه، فلا حياة نافعةً

(1)

«در» ليست في ش، ت.

(2)

البيت لقطري بن الفجاءة من مقطوعة له في «الحماسة» (1/ 161)، و «أمالي المرتضى» (1/ 636، 637)، و «وفيات الأعيان» (4/ 93، 94) وغيرها. وأنشدها المؤلف في «الفروسية» (ص 458).

ص: 172

له بدونه، وحول هذه الحياة يُدندِن النّاس كلُّهم، وكلُّهم قد أخطأ طريقَها، وسلك طرقًا لا تُفضِي إليها، بل تقطعه عنها، إلّا أقلّ القليل. فدارَ طلبُ الكلِّ حول هذه الحياة، وحُرِمَها أكثرهم.

وسبب حرمانها: ضعف العقل والتّمييز والبصيرة، وضعف الهمّة والإرادة، فإنّ مادّتها بصيرةٌ وقَّادةٌ، وهمّةٌ نَفَّاذة، والبصيرة كالبصر تكون عمياءَ وعوراءَ وعَمْشاء ورَمْدَاءَ، وتامّةَ النُّور والضِّياء، وهذه الآفات قد تكون لها بالخِلقة في الأصل، وقد تحدُثُ فيها بالعوارض الكسبيّة.

والمقصود: أنّ هذه المرتبة من مراتب الحياة هي

(1)

أعلى مراتبها، ولكن كيف يصل إليها مَن عقلُه مَسْبِيٌّ في بلاد الشّهوات، وأملُه موقوفٌ على اجتناء اللّذّات، وسيرته جاريةٌ على أسوأ العادات، ودينه مستهلكٌ بالمعاصي والمخالفات، وهمّته واقفةٌ مع السُّفْلِيّات، وعقيدته غير متلقّاةٍ من مشكاة النُّبوّات؟!

فهو في الشّهوات منغمسٌ، وفي الشُّبهات منتكسٌ، وعن النّاصح معرضٌ، وعلى المرشد معترضٌ، وعن السُّرَى نائمٌ، وقلبه في كلِّ وادٍ هائمٌ. فلو أنّه تجرّد من نفسه، ورغِبَ عن مشاركة أبناء جنسه، وخرج من ضيق الجهل إلى فضاء العلم، ومن سجْنِ الهوى إلى ساحة الهدى، ومن نجاسة النّفس إلى طهارة القدس= لرأى الإلْفَ الذي نشأ بنشأته، وزاد بزيادته، وقوي بقوّته، وشَرُفَ عند نفسه وأبناء جنسه بحصوله، قذًى

(2)

في عين بصيرته، وشَجًا في

(1)

«هي» ليست في ش.

(2)

مفعول «لرأى» .

ص: 173

حلق إيمانه، ومرضًا متراميًا إلى هلاكه.

فإن قلت: قد أشرتَ إلى حياةٍ غير معهودةٍ بين أموات الأحياء، فهل يمكنك وصفُ طريقها، لأصِلَ إلى شيءٍ من ذوقها، فقد بان لي أنّ ما نحن فيه من الحياة حياةٌ بهيميّةٌ، ربّما زادت علينا فيه البهائم بخلوِّها من المنكِّدات والمنغِّصات وسلامةِ العاقبة؟

قلت: لعمر الله إنّ اشتياقَ القلب إلى هذه الحياة، وطلبَ علمِها ومعرفتها= دليلٌ على حياته، وأنه ليس من جملة الأموات.

فأوّل طريقها: أن تعرف الله سبحانه، وتهتدي إليه طريقًا يُوصِلك إليه، ويَخْرِق ظلماتِ الطّبع بأشعّة البصيرة، فيقوم بقلبه شاهدٌ من شواهد الآخرة، فينجذب إليها بكلِّيّته، ويَزْهَد في التّعلُّقات الفانية، ويَدْأَب في تصحيح التّوبة، والقيامِ بالمأمورات الظّاهرة والباطنة، وتركِ المنهيّات الظّاهرة والباطنة، ثمّ يقوم حارسًا على قلبه، فلا يسامحه بخَطْرةٍ يكرهها الله، ولا بخَطْرةِ فضولٍ لا تنفعه، فيصفو

(1)

بذلك قلبه عن حديث النّفس ووساوسها، فيُفْدَى من أَسْرِها ويصير طليقًا، فحينئذٍ يخلو قلبه بذكر ربِّه ومحبّته والإنابة إليه، ويخرج من بين بيوت طَبْعِه ونفسه إلى فضاء الخلوة بربِّه وذكْرِه، كما قال:

وأخرجُ من بين البيوتِ لعلَّني

أحدِّثُ عنك النّفسَ في السِّرِّ خَاليَا

(2)

فحينئذٍ يجتمع قلبه وخواطره وحديثُ نفسه على إرادة ربِّه، وطلبِه

(1)

ر: «فيضعف» .

(2)

البيت للمجنون في «ديوانه» (ص 294، 301، 314) من قصيدة طويلة، وهناك التخريج وبيان اختلاف النسبة. وتقدم البيت فيما مضى (3/ 445).

ص: 174

والشّوقِ إليه.

فإذا صدقَ في ذلك رُزِقَ محبّةَ الرسول صلى الله عليه وسلم، واستولتْ روحانيَّته على قلبه، فجعله إمامَه، وأستاذه ومُعلِّمَه، وشيخَه وقدوتَه، كما جعله الله نبيَّه ورسولَه وهادِيَه

(1)

، فيطالع سيرته ومبادئ أموره، وكيفيّة نزول الوحي عليه، ويعرف صفاتِه وأخلاقَه، وآدابَه في حركاته وسكونه، ويقظتِه ومنامه، وعبادته ومعاشرته لأهله وأصحابه، حتّى يصير كأنّه معه من بعض أصحابه.

فإذا رسخ قلبه في ذلك فُتِح عليه بفهم

(2)

الوحي المنزّل عليه من ربِّه، بحيث إذا قرأ السُّورة شاهد قلبُه ماذا أُنزِلت فيه، وماذا أُريد بها، وحظّه المختصّ به منها من الصِّفات والأخلاق والأفعال المذمومة، فيجتهد في التّخلُّص منها كما يجتهد في الشِّفاء من المرض المَخُوف، ومن الصِّفات

(3)

والأفعال الممدوحة، فيجتهد في تكميلها وإتمامها.

فإذا تمكَّن من ذلك انفتحَ في قلبه عينٌ أخرى، يشاهد بها صفات الرّبِّ جل جلاله، حتّى تصير لقلبه بمنزلة المرئيِّ لعينه، فيشهد علوَّ الرّبِّ سبحانه فوقَ خلقه، واستواءه على عرشه، ونزولَ الأمر من عنده بتدبير مملكته، وتكلُّمه بالوحي، وتكليمه لعبده جبريل به

(4)

، وإرسالَه إلى من يشاء بما يشاء، وصعودَ الأمور إليه، وعرضَها عليه.

(1)

ر: «وهاديًا إليه» .

(2)

ت: «فهم» .

(3)

عطف على «من الصفات والأخلاق

».

(4)

«به» ليست في ت.

ص: 175

فيشاهد قلبُه ربًّا قاهرًا فوقَ عباده، آمرًا ناهيًا، باعثًا لرسله، مُنزِلًا لكتبه، معبودًا مطاعًا، لا شريكَ له، ولا مثيلَ له، ولا عدلَ له، ليس لأحدٍ معه من الأمر شيءٌ، بل الأمر كلُّه له، فيشهده سبحانه قائمًا بالملك والتّدبير، فلا حركة ولا سكون، ولا نفع ولا ضرّ، ولا عطاء ولا مَنْع، ولا قبض ولا بسط إلّا بقدرته وتدبيره، فيشهد قيامَ الكون كلِّه به، وقيامَه سبحانه بنفسه، فهو القائم بنفسه، المقيمُ لكلِّ ما سواه.

فإذا رسخَ قلبه في ذلك شهد الصِّفةَ المصحِّحة لجميع صفات الكمال، وهي الحياة التي كمالها يستلزم كمالَ السّمع والبصر والقدرة والإرادة والكلام وسائر صفات الكمال، وصفةَ القيُّوميّة المصحِّحة لجميع الأفعال، فالحيُّ القيُّوم: من له صفة الكمال، وهو الفعّال لما يريد.

فإذا رسخ قلبه في ذلك فُتِح له بمشهد القرب والمعيّة، فيشهده سبحانه حاضرًا معه غيرَ غائبٍ، قريبًا غير بعيدٍ، مع كونه فوقَ سماواته على عرشه، بائنًا من خلقه، قائمًا بالصُّنع والتّدبير والخلق والأمر، فيحصل له مع التّعظيم والإجلال الأنسُ بهذه الصِّفة، فيأْنَس بعد أن كان مستوحشًا، ويَقوى بعد أن كان ضعيفًا، ويفرح بعد أن كان حزينًا، ويجِدُ بعدَ أن كان فاقدًا. فحينئذٍ يجد طعْمَ قوله:«ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليّ بالنّوافل حتّى أُحبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمْعَه الذي يسمع به، وبصَرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يَبطِش بها، ورِجْلَه التي يمشي بها، ولئن سألني لأُعطِينّه، ولئن استعاذني لأُعِيذنَّه»

(1)

.

فأطيبُ الحياة على الإطلاق حياة هذا العبد، فإنّه محبٌّ محبوبَه، يتقرِّبُ

(1)

أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 176

إلى ربِّه، وربُّه قريبٌ منه، قد صار له حبيبُه

(1)

ــ لفرطِ استيلائه على قلبه، ولَهَجِه بذكره، وعكوف همّته على مرضاته ــ بمنزلة سمعه وبصره ويده ورجله، وهذه آلات إدراكِه وعمله وسعيه، فإن سمع سمع بحبيبه، وإن أبصر أبصر به، وإن بطشَ بطشَ به، وإن مشى مشى به.

وإن صعُبَ عليك فهمُ هذا المعنى، وكون المحبِّ الكامل المحبّة يسمع ويبصر ويبطش ويمشي بمحبوبه وذاتُه غائبةٌ عنه= فاضرِبْ عنه صفحًا، ودَعْ هذا الشّأن لأهله.

خَلِّ

(2)

الهوى لأناسٍ يُعرَفون به

قد كابدوا الحبَّ حتّى لانَ أصعبُه

(3)

فإنّ السّالك إلى ربِّه لا تزال همّته عاكفةً على أمرين: استفراغ القلب في صدق الحبِّ، وبذل الجهد في امتثال الأمر، فلا يزال كذلك حتّى يبدو على سرِّه شواهدُ معرفته، وآثارُ صفاته وأسمائه، ولكن يتوارى ذلك عنه أحيانًا ويبدو أحيانًا، يبدو من عين الجود، ويتوارى بحكم الفترة. والفَتَرات أمرٌ لازمٌ للعبد، فلكلِّ عاملٍ شرّةٌ، ولكلِّ شِرّةٍ فترةٌ، فأعلاها فترة الوحي؛ وهي للأنبياء، وفترة الحال الخاصِّ عن العارفين

(4)

، وفترة الهمّة للمريدين، وفترة العمل للعابدين. وفي هذه الفَتَرات أنواعٌ من الحكمة والرّحمة، والتّعرُّفات الإلهيّة، وتعريف قدر النِّعمة، وتجديد الشّوق إليها، وعَضّ النواجذِ عليها، وغير ذلك.

(1)

ت: «حبيبًا» .

(2)

في هامش ش، د:«دَعِ» . وهو كذلك في مصادر التخريج.

(3)

البيت من أبيات لأبي القاسم علي بن أفلح العبسي (ت 533) في «المنتظم» (10/ 82)، و «تاريخ الإسلام» (11/ 598).

(4)

ت: «عن المعارف» . ر: «للعارفين» .

ص: 177

ولا تزال تلك الشّواهد تتكرّر وتتزايد حتّى تستقرّ، وينصبغ بها قلبه، وتصير الفترة غيرَ قاطعةٍ له، بل تكون نعمةً عليه، وراحةً له، وترويحًا وتنفيسًا عنه.

فهمّة المحبِّ

(1)

إذا تعلّقت روحه بحبيبه، عاكفة

(2)

على مزيد محبّته وأسباب قوّتها، فهو يعمل على هذا، ثمّ يترقّى منه إلى طلب محبّة حبيبه له، فيعمل على حصول ذلك، ولا يعدم الطّلب الأوّل ولا يفارقه البتّةَ، بل يندرج في هذا الطّلب الثّاني، فتتعلّق همّته بالأمرين

(3)

جميعًا، فإنّه إنّما يحصُلُ له منزلةُ «كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصَرَه الذي يبصر به» بهذا الأمر الثّاني، وهو كونه محبوبًا لحبيبه، كما قال في الحديث:«فإذا أحببتُه كنتُ سمْعَه وبصَرَه» ، فهو يتقرّب إلى ربِّه حفظًا لمحبّته له، واستدعاءً لمحبّة ربِّه له.

فحينئذٍ يَشُدُّ مِئزرَ الجِدِّ في طلب محبّة حبيبه له بأنواع التّقرُّب إليه، فقلبه للمحبّة والإنابة والتّوكُّل والخوف والرّجاء، ولسانه للذِّكر وتلاوة كلام حبيبه، وجوارحه للطّاعات، فهو لا يَفتُر عن التّقرُّب.

وهذا هو السَّير المُفضِي إلى هذه الغاية التي لا تُنال إلّا به، ولا يُوصَل إليها إلّا من هذا الطّريق، وحينئذٍ تَجتمعُ له في سَيْره جميعُ متفرِّقات السُّلوك من الحضور والهيبة والمراقبة ونفي الخواطر وتخلية الباطن

(4)

.

(1)

ت، ر:«المحبة» .

(2)

«عاكفة» ليست في ش، د.

(3)

د: «بأمرين» .

(4)

ت: «البواطن» .

ص: 178

فإنّ المحبّ يشرع أوّلًا في التّقرُّبات بالأعمال الظّاهرة، وهي ظاهر التّقرُّب. ثمّ يترقّى من ذلك إلى حال التّقرُّب، وهو الانجذاب إلى حبيبه بكلِّيّته، بروحه وقلبه، وعقله وبدنه. ثمّ يترقّى من ذلك

(1)

إلى مقام الإحسان، فيعبد الله كأنّه يراه، فيتقرّب إليه حينئذٍ بأعمال القلوب؛ من المحبّة والإنابة والتّعظيم والإجلال والخشية، فينبعث حينئذٍ من باطنه الجودُ ببذل الرُّوحِ والموجودِ في محبّة حبيبه بلا تكلُّفٍ، فيجود بروحه ونفسِه وأنفاسِه وإراداته وأعمالِه لحبيبه حالًا لا تكلُّفًا. فإذا وجد المحبُّ ذلك فقد ظفِرَ بحال التّقرُّب وسرِّه وباطنه، وإن لم يجده فهو يتقرّب بلسانه وبدنه وظاهره فقط، فليدُمْ على ذلك، وليتكلّف التّقرُّب بالأذكار والأعمال على الدّوام، فعساه أن يَحظَى بحال التقرب.

ووراء هذا التقرب الباطن أمرٌ آخر أيضًا، وهو شيءٌ لا يُعبَّر عنه بأحسنَ من عبارة أقربِ الخلق عن هذا المعنى، حيث يقول حاكيًا عن ربِّه تبارك وتعالى:«من تقرَّبَ منِّي شِبْرًا تقرّبتُ منه ذراعًا، ومن تقرَّبَ منِّي ذراعًا تقرّبتُ منه باعًا، ومن أتاني يَمشي أتيتُه هَرولةً»

(2)

، فيجد هذا المحبُّ في باطنه ذوقَ معنى هذا الحديث ذوقًا حقيقيًّا.

فذكر من مراتب القرب ثلاثةً، ونبّه بها على ما دونها وما فوقها. فذكر تقرُّب العبد إليه بالسَّير شِبرًا

(3)

، وتقرُّبه سبحانه إلى العبد ذراعًا، فإذا ذاق العبد حقيقة هذا التّقرُّب انتقل منه إلى تقرُّب الذِّراع، فيجد ذوق تقرُّب الرّبِّ

(1)

ت: «ذلك المقام» .

(2)

أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

«شبرا» ليست في ش، د.

ص: 179

إليه باعًا. فإذا ذاق حلاوة هذا التقرب الثّاني أسرعَ المشيَ حينئذٍ إلى ربِّه، فيذوق حلاوة إتيانه إليه هرولةً. وهاهنا انتهى الحديث، منبِّهًا

(1)

على أنّه إذا هرولَ عبده إليه كان قربُ حبيبه منه فوق هرولة العبد إليه، فإمّا أن يكون أمسك عن ذلك لِعظَم شأنِ هذا الجزاء، وأنه يدخل في الحدّ الذي لم تسمع به أذنٌ، ولم يَخطُرْ على قلب بشرٍ، أو أحاله على المراتب المتقدِّمة، فكأنّه قيل

(2)

: وقِسْ على هذا، فعلى قدر ما تبذلُ منك متقرِّبًا إلى ربِّك يتقرَّبُ إليك بأكثر منه، وعلى هذا فلازمُ هذا التّقرُّبِ المذكور في مراتبه: أنّ

(3)

من تقرَّب إلى حبيبه بروحه وجميع قُواه وإراداته وأقواله وأعماله تقرّب الرّبُّ سبحانه منه بنفسه في مقابلة تقرُّب عبده إليه.

وليس القرب في هذه المراتب كلِّها قرب مسافةٍ حسِّيّةٍ ولا مماسّةٍ، بل هو قربُ حقيقةٍ، والرّبُّ تعالى فوق سماواته على عرشه، والعبدُ في الأرض.

وهذا الموضع هو سرُّ السُّلوك، وحقيقة العبوديّة، وهو معنى الوصول الذي يُدندِن حولَه القومُ.

ومِلاكُ هذا الأمر هو قصد التّقرُّب أوّلًا، ثمّ التّقرُّب ثانيًا، ثمّ حال التقرُّب ثالثًا، وهو الانبعاث

(4)

بالكلِّيّة إلى الحبيب.

وحقيقة هذا الانبعاث: أن تَفنى بمراده عن هواك، وبما يحبُّه عن حظِّك،

(1)

«منبِّهًا» ليست في ت.

(2)

في هامش ش: «قال» .

(3)

ت، ر:«أي» .

(4)

ت: «الانتقال» .

ص: 180

بل يصير ذلك هو مجموع حظِّك ومرادك. وقد عرفتَ أنّ من تقرّب إلى حبيبه بشيءٍ من الأشياء جُوزِي على ذلك بقربٍ هو أضعافه، وعرفتَ أنّ أعلى أنواع التّقرُّب تقرُّب العبد بجملته بظاهره وباطنه وبوجوده إلى حبيبه، فمن فعلَ ذلك فقد تقرَّبَ بكلِّه، ولم تبقَ منه بقيّةٌ لغير حبيبه، كما قيل:

لا كان مَن لِسواكَ فيه بقيّةٌ

يجد السّبيل بها إليه العُذَّلُ

(1)

وإذا كان المتقرّب إليه بالأعمال يُعطى أضعافَ أضعافِ ما تقرَّب به، فما الظّنُّ بمن أعطي حال التّقرُّب وذوقه ووجده؟ فما الظّنُّ بمن تقرّب إليه بروحه وجميعِ إرادته

(2)

وهمّته، وأقوالِه وأعماله؟

وعلى هذا فكما جاد لحبيبه بنفسه فإنّه أهلٌ أن يُجادَ عليه، بأن يكون ربُّه سبحانه هو حظُّه ونصيبه عوضًا عن كلِّ شيءٍ جزاءً

(3)

وِفاقًا، فإنّ الجزاء من جنس العمل. وشواهد هذا كثيرةٌ:

منها: قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2]، ففرّق بين الجزاءين كما ترى، وجعل جزاء المتوكِّل عليه كونه سبحانه حَسْبَه.

ومنها: أنّ الشّهيد لمّا بذل حياته لله أعاضَه الله سبحانه حياةً أكملَ منها عنده في محلِّ قربه وكرامته.

ومنها: أنّ من بذلَ لله شيئًا منه أعاضه الله خيرًا منه.

(1)

تقدم البيت (3/ 388) بقافية «اللُّوَّمُ» . وهناك التخريج.

(2)

ت: «إراداته» .

(3)

ش: «آخر» .

ص: 181

ومنها: قوله تعالى: {(151) فَاذْكُرُونِي} [البقرة: 152].

ومنها: قوله: «مَنْ ذَكرَني في نفسه ذكرتُه في نفسي، ومن ذكرني في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ خيرٍ منه»

(1)

.

ومنها: قوله: «مَن تقرّبَ منِّي شِبرًا تقرّبتُ منه ذراعًا» الحديث.

فالعبد لا يزال رابحًا على

(2)

ربِّه أفضلَ ممّا تقرَّب

(3)

به له، وهذا المتقرِّب بروحه وقلبِه وعملِه يُفتَح عليه بحياةٍ لا تُشبِه ما النّاس فيه من أنواع الحياة، بل حياة من ليس كذلك بالنِّسبة إلى حياته، كحياة الجنين في بطن أمِّه بالنِّسبة إلى حياة أهل الدُّنيا ولذّتهم

(4)

فيها، بل أعظم من ذلك.

فهذا أُنموذجٌ من بيان شرفِ هذه الحياة وفضلها، وإن كان علمُ هذا يوجب لصاحبه حياةً طيِّبةً، فكيف إن

(5)

انصبغ القلب به، وصار حالًا ملازمًا لذاته؟ فالله المستعان.

فهذه الحياة هي حياة الدُّنيا ونعيمها في الحقيقة، فمن فقدَها ففقدُه

(6)

لحياته الطّبيعيّة أولى به.

هذي حياةُ الفتى فإن فُقِدَتْ

ففقدُه للحياة أليقُ بِهْ

(7)

(1)

ضمن الحديث القدسي الذي سبق قريبًا عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

في هامش ت: «راجيًا إلى» .

(3)

ر، ت:«قدمه» .

(4)

ت: «وكدّهم» .

(5)

ت: «إذا» .

(6)

ش، د:«فقده» .

(7)

تصرَّف المؤلف فيه، وهو من بيتين بلا نسبة في «العقد» (2/ 423) و «معجم الأدباء» (1/ 19) كما يلي:

ما وهبَ الله لامرئ هبةً

أفضلَ من عقلِه ومن أدبِهْ

هما حياة الفتى فإن فُقِدا

فإنَّ فقْد الحياة أحسنُ بِهْ

ص: 182

فلا عيشَ إلّا عيشُ المحبِّين، الذين قرَّتْ أعينهم بحبيبهم، وسكنت نفوسهم إليه، واطمأنّت قلوبهم به، واستأنسوا بقربه، وتنعَّموا بحبِّه، ففي القلب فاقةٌ لا يَسُدُّها إلّا محبّة الله والإقبالُ عليه والإنابة إليه، ولا يُلَمُّ شَعَثُه

(1)

بغير ذلك البتّةَ. ومن لم يظفَرْ بذلك فحياته كلُّها همومٌ وغمومٌ، وآلامٌ وحسراتٌ، فإنّه إن كان ذا همّةٍ تقطَّعتْ نفسُه على الدُّنيا حسراتٍ، فإنّ همّته لا ترضى منها بالدُّون، وإن كان مَهِينًا خسيسًا فعيشُه كعيشِ أخسِّ الحيوانات، فلا تَقَرُّ العيون إلّا بمحبّة الحبيب الأوّل.

نَقِّلْ فؤادَك حيثُ شئتَ من الهوى

ما الحبُّ إلّا للحبيب الأوّلِ

كم منزلٍ في الأرض يألَفُه الفتى

وحنينُه أبدًا لأوّلِ منزلِ

(2)

فصل

المرتبة التّاسعة من مراتب الحياة: حياة الأرواح بعد مفارقتها لأبدانها وخَلاصِها من هذا السِّجن وضِيْقه، فإنّ من ورائه فضاءً ورَوْحًا وريحانًا وراحةً، نسبةُ هذه الدّار إليه كنسبة بطن الأمِّ إلى هذه الدّار أو أدنى من ذلك. قال بعض العارفين: لتكنْ مبادرتُك إلى الخروج من الدُّنيا كمبادرتك إلى الخروج من السِّجن الضّيِّق

(3)

إلى أحبّتك، والاجتماع بهم في البساتين

(1)

ت: «ولا تتم نعمة» .

(2)

البيتان لأبي تمام في «ديوانه» (4/ 253)، وقد تقدما (3/ 411).

(3)

ش: «الضنك» .

ص: 183

المُؤْنِقة. قال تعالى في هذه الحياة: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 88].

ويكفي في طيب هذه الحياة: مفارقةُ الرّفيق المؤذي المُنَكِّد

(1)

، الذي تُنغِّص الحياةَ رؤيتُه ومشاهدتُه، فضلًا عن مخالطته وعِشْرته إلى الرّفيق الأعلى الذين أنعمَ الله عليهم من النّبيِّين والصِّدِّيقين والشُّهداء والصّالحين، في جوار الرّبِّ الرّحيم

(2)

.

ولو لم يكن في الموت

(3)

من الخير إلّا أنّه باب الدُّخول إلى هذه الحياة، وجِسْرٌ يُعبَر منه إليها= لكفى به تحفةً للمؤمن.

جزى الله عنّا الموتَ خيرًا فإنّه

أبرُّ بنا من كلِّ برٍّ وألطفُ

يُعجِّل تخليصَ النُّفوسِ من الأذى

ويُدنِي إلى الدّار التي هي أشرفُ

(4)

فالاجتهاد في هذا العمر القصير والمدّة القليلة، والسّعي والكَدْح،

(1)

د: «المتكدّر» .

(2)

بعده في المطبوع بيتان ليسا في الأصول:

قد قلتُ إذ مدحوا الحياة فأسرفوا

في الموت ألفُ فضيلةٍ لا تُعرفُ

منها أمانُ لقائه بلقائه

وفراقُ كلِّ معاشرٍ لا يُنصِفُ

وهما لمنصور الفقيه في «العزلة» للخطابي (ص 91)، و «معجم الأدباء» (6/ 2725)، و «طبقات الشافعية» (3/ 478) وغيرها، ونسبا لابن الرومي في «ديوان المعاني» (2/ 172).

(3)

ت: «القرب» .

(4)

البيتان بلا نسبة في «المحاسن والأضداد» (ص 255)، و «التمثيل والمحاضرة» (ص 406)، و «اللطائف والظرائف» للثعالبي (ص 270) وغيرها.

ص: 184

وتحمُّلُ الأثقال، والتّعب والمشقّة= إنّما هو لهذه الحياة، والعلومُ والأعمال وسيلةٌ إليها، وهي يقظةٌ، وما قبلها من الحياة نومٌ، وهي عينٌ، وما قبلها أثرٌ، وهي حياةٌ جامعةٌ بين فَقْد المكروه، وحصول المحبوب في مقام الأنس وحضرة

(1)

القدس، حيث لا يتعذَّرُ مطلوبٌ، ولا يُفقَد محبوبٌ؛ حيث الطُّمأنينةُ والرّاحة، والبهجة والسُّرور، حيثُ لا عبارةَ للعبد عن حقيقة كُنْهِها؛ لأنّها في بلدٍ لا عهدَ لنا به، ولا إلفَ بيننا وبين ساكنيه، فالنّفس لإلْفِها هذا السِّجنَ الضّيِّق النَّكِد

(2)

زمانًا طويلًا تكره الانتقال منه إلى ذلك البلد، وتستوحش إذا استشعرتْ مفارقتَه.

وحصول العلم بهذه الحياة إنّما وصل إلينا بنورٍ

(3)

إلهيٍّ على يد أكمل الخلق وأعلمهم وأنصحهم، فقامت شواهدها في قلوب أهل الإيمان، حتّى صارت لهم بمنزلة العيان، فعَزَفَتْ نفوسهم عن هذا الظِّلِّ الزّائل، والخيال المضمحلِّ، والعيش الفاني المَشُوب بالتّنغيص وأنواع الغُصَص، رغبةً في هذه الحياة، وشوقًا إلى ذلك الملكوت، ووجدًا بهذا السُّرور، وطربًا على هذا الحدِّ، واستنشاقًا

(4)

لهذا النّسيم الوارد من محلِّ النّعيم المقيم.

ولعمر الله إنّ من سافرَ إلى بلد العدل والخصب والأمن والسُّرور صبرَ في طريقه على كلِّ مشقّةٍ وإعوازٍ وجَدْبٍ، وفارقَ المتخلِّفين أحوجَ ما كان

(5)

(1)

ت: «وحظيرة» .

(2)

د: «المتكدر» .

(3)

ر: «بخبر» .

(4)

ر: «واشتياقًا» .

(5)

ت: «يكون» .

ص: 185

إليهم، وأجاب

(1)

المناديَ إذا نادى به حيَّ على الفلاح، وبذل نفسه في الوصول بذْلَ المحبِّ بالرِّضا والسّماح، وواصل السّير بالغُدوِّ والرّواح، فحمِدَ عند الوصول مسراه، وإنّما يحمَدُ المسافر السُّرى عند الصّباح.

عند الصّباح يحمَدُ القومُ السُّرى

وفي الممات يحمَدُ القومُ التُّقَى

(2)

وما هذا والله بالصّعب ولا بالشّديد، مع هذا العمر القصير الذي هو بالنِّسبة إلى تلك الدّار كساعةٍ من نهارٍ {يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ} [الأحقاف: 35]، {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ

(3)

كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 45]، {(45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ} [النازعات: 46]، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55]، {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 112 - 114]. فلو أنّ أحدنا يُجَرُّ على وجهه يتّقي به الشّوك والحجارة إلى هذه الحياة لم يكن ذلك كثيرًا ولا غبنًا في جنب ما يؤمِّلُه.

فوا

(4)

حسرتاه على بصيرةٍ تشاهد هاتين الحياتين على ما هما عليه،

(1)

الواو ليست في ش، ت، ر.

(2)

الشطر الأول من الأمثال السائرة، انظر:«مجمع الأمثال» (2/ 318). ضمَّ إليه المؤلف الشطر الثاني على منواله، فأصبح بيت شعر. وقد ذكرهما المؤلف في «بدائع الفوائد» (2/ 825) بصورة فقرتين من النثر.

(3)

قراءة العشرة غير عاصم، كما في «النشر» (2/ 262).

(4)

ت: «فيا» .

ص: 186

وعلى همّةٍ تُؤثِر الأعلى على الأدنى، وما ذاك إلّا بتوفيقِ مَن أزِمّةُ الأمور بيديه، ومنه ابتداء كلِّ شيءٍ وانتهاؤه إليه، أقعَدَ نفوسَ من غلبت عليهم الشّقاوة عن السّفر إلى هذه الدّار، وجذَبَ قلوبَ من سبقت لهم منه الحسنى، وأقامهم في الطّريق، وسهّل عليهم ركوبَ الأخطار، فأضاع أولئك مراحلَ أعمارهم مع المتخلِّفين، وقطع هؤلاء مراحلَ أعمارهم مع السّائرين، وعَقِدَت الغبرةُ وثار العَجَاجُ، فتوارى عنه السائرون والمتخلِّفون. وسينجلي عن قريبٍ، فيفوز العاملون، ويخسر المبطلون.

وعن طيب هذه الحياة ولذّتها قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما من نفسٍ تموت لها عند الله خيرٌ يَسُرُّها أن ترجع إلى الدُّنيا وأنّ لها الدُّنيا وما فيها، إلّا الشّهيد، فإنّه يتمنّى الرُّجوع إلى الدُّنيا، لِما يرى من كرامة الله»

(1)

. يعني لِيُقْتَلَ مرّةً أخرى. وسمع بعض العارفين منشدًا ينشد

(2)

:

إنّما العيشُ في بَهيميَّةِ اللَّذْ

ذَةِ لا ما يقولُه الفلسفيُّ

حكْمُ كأسِ المَنُونِ أن يتساوى

في حَسَاها البليدُ والألمعيُّ

(3)

ويصير الغبيُّ تحتَ ثرى الأر

ضِ كما صار تحتَها اللَّوذعيُّ

فسَلِ الأرضَ عنهما إن أزالَ الشَّـ

كَّ والشُّبهةَ السُّؤالُ الخفيُّ

فقال: قاتله الله، ما أشدَّ معاندتَه للدِّين والعقل! هذا نفسُ عدوِّ الفطرة والشّريعة والعقل والإيمان والحكمة، يا مسكين أمن أجلِ أنّ الموت تَساوى

(1)

أخرجه البخاري (2795)، ومسلم (1877) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(2)

الأبيات لأبي سليمان المنطقي السجستاني في «عيون الأنباء» (2/ 362)، ومنه في «الوافي بالوفيات» (3/ 166) وفيه أنها مذكورة في ترجمة الفارابي.

(3)

هذا البيت ليس في ت.

ص: 187

فيه الصّالح والطّالح، والعالم والجاهل، وصاروا تحت أطباق

(1)

الثّرى، يجب أن يتَساوَوْا في العاقبة؟ أما تساوى قومٌ سافروا من بلدٍ إلى بلدٍ في الطّريق؟ فلمّا بلغوا القصدَ نزلَ كلُّ واحدٍ في مكانٍ كان مُعَدًّا له، وتُلُقِّي بغير ما تلقِّي به رفيقُه في الطريق؟ أما لكلِّ قومٍ دارٌ أُدخِلَ

(2)

كلُّ واحدٍ منهم حيث يليق به؟ وقوبل هذا بشيءٍ، وهذا بضدِّه؟ أما قدِمَ على الملك من جاءه بما يحبُّه فأكرمه عليه، ومن جاءه بما يُسخِطه فعاقبه عليه؟ أما قدِمَ ركبُ المدينة فنزل بعضهم في قصورها وبساتينها وأماكنها الفاضلة، ونزل قومٌ على قوارع الطّرق بين الكلاب؟ أما قدِمَ اثنان من بطن الأمِّ، فصار هذا إلى الملك، وهذا إلى الأسر والعناء؟

وقولك «سَلِ الأرضَ عنهما» ، أما قد سألناها، فأخبرتْنا أنّها قد ضمَّتْ أجسادَهم وجُثَثَهم وأوصالَهم، لا كفرهم وإيمانهم، ولا إساءتَهم وإحسانَهم، ولا حلمهم

(3)

وسفههم، ولا طاعتهم ومعصيتهم، ولا يقينَهم وشكَّهم، ولا توحيدهم وشركهم، ولا جورهم وعدلهم، ولا علمهم وجهلهم، فأخبرتْنا عن هذه الجثث البالية، والأبدان المتلاشية، والأوصال المتفرّقة، واللُّحوم المتمزِّقة، وقالت: هذا خبر ما عندي.

وأمّا خبر تلك الأرواح وما صارت إليه، فسَلُوا عنها

(4)

كتب ربِّ العالمين، ورسله الصّادقين، وخلفاءهم الوارثين، سلوا القرآن فعنده الخبر

(1)

«أطباق» ليست في ت، ر.

(2)

ت، ر:«فأجلس» .

(3)

ش، د:«حكمتهم» .

(4)

ش: «فسلوها» .

ص: 188

اليقين، وسلوا من جاء به فهو بذلك أعرف العارفين، وسلوا العلم والإيمان فهما الشّاهدان المقبولان، وسلوا العقول والفطر فعندها حقيقة الخبر. {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]. تعالى الله أحكم الحاكمين عن هذا الظّنِّ والحسبان، الذي لا يليق إلّا بأجهل الجاهلين.

ثمّ قال: النّاظر في هذا الباب رجلان، رجلٌ ينظر إلى الأشياء، ورجلٌ ينظر في الأشياء، فالأوّل: يَحَار فيها، فإنّ صورها وأشكالها وتخاطيطها تستفرغ ذهنَه وحسَّه، وتُبدِّد فكره وقلبه، فنظَرُه إليها بعين حسِّه لا يُفيده منها ثمرة الاعتبار، ولا زبدة الاختبار؛ لأنّه لمّا فقدَ الاعتبار أوّلًا فاتَه الاختيار ثانيًا.

وأمّا النّاظر في الأشياء: فإنّ نظره يبعثه على العبور من صورها إلى حقائقها والمراد بها، وما اقتضى وجودها من الحكمة البالغة والعلم التّامِّ، فيفيده هذا النّظر تمييزَ مراتبها، ومعرفةَ نافعها من ضارِّها، وصحيحها من سقيمها، وباقيها من فانيها، وقِشْرَها من لبِّها، ويميِّز

(1)

بين الوسيلة والغاية، وبين وسيلة الشّيء ووسيلة ضدِّه، فيعرف

(2)

حينئذٍ أنّ الدُّنيا قشر والآخرة لُبٌّ، وأنّ الدُّنيا محلُّ الزّرع، والآخرة وقتُ الحصاد، وأنّ الدُّنيا مَعْبَرٌ وممرٌّ، والآخرة مستقرٌّ.

وإذا عرف أنّ الدُّنيا طريقٌ وممرٌّ كان حرِيًّا بتهيئة الزّاد لقراره، ويعلم

(1)

ت: «وميّز» .

(2)

ت، ر:«فعرف» .

ص: 189

حينئذٍ أنّه

(1)

لم ينشأ في هذه الدّار للاستيطان والخلود، ولكن للجواز إلى مكانٍ آخر هو المنزل والمتبوَّأُ، وأنّ الإنسان دُعِي إلى ذلك بكلِّ شريعةٍ، وعلى لسان كلِّ نبيٍّ، وبكلِّ إشارةٍ ودليلٍ، ونُصِب له على ذلك كلُّ عَلَمٍ، وضُرِب له لأجله كلُّ مثلٍ، ونُبِّه عليه بنشأته الأولى ومبدئه وسائر أحواله، وأحوال طعامه وشرابه، وأرضه وسمائه، بحيث أُزِيلت عنه الشُّبهة، وأوضِحت له المحجّة، وأُقِيمت عليه الحجّة، وأُعذِر إليه غاية الإعذار، وأُمِهل أتمّ الإمهال، فاستبان لذي العقل الصّحيح والفطرة السّليمة أنّ الظَّعْن عن هذا المكان ضروريٌّ، والانتقال عنه حقٌّ لا مريةَ فيه، وأنّ له محلًّا آخر له أُنشِئ ولأجله خُلِق وله هُيِّئ، فمصيره إليه، وقدومه بلا ريبٍ عليه، وأنّ داره هذه منزلُ عبورٍ لا منزلُ قرارٍ.

وبالجملة: من نظر في الموجودات، ولم يقنع بمجرَّد النظر إليها= وجدها دالّةً على أنّ وراء هذه الحياة حياةً أخرى أكمل منها، وهذه الحياة بالنِّسبة إليها كالمنام بالنِّسبة إلى اليقظة، وكالظِّلِّ بالنِّسبة إلى الشّخص، وسمِعَها كلَّها تُنادِي بما نادى به ربُّها وخالقها وفاطرها:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ} [فاطر: 5]، وتُنادي بلسان الحال بما نادى به ربُّها بصريح المقال:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45]. وقال تعالى: {(23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ

(1)

ت: «أنه حينئذ» .

ص: 190

الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ} [يونس: 24].

وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]، ثمّ ندَبَهم إلى المسابقة إلى الدّار الباقية التي لا زوالَ لها، فقال:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].

وسمع بعض العارفين منشدًا ينشد عن بعض الزّنادقة عند موته، وهو محمّد بن زكريّا الرازي المتطبِّب

(1)

:

لعمري ما أدري وقد آذنَ البِلى

بعاجلِ تَرْحالي إلى أينَ تَرْحالي

وأين مكانُ الرُّوح بعد خروجه

عن الهيكل المنحلِّ والجسدِ البالي

فقال: وما علينا من جهْلِه إذا لم يدرِ أين ترحاله؟ لكنَّا ندري إلى أين تَرحالنا

(2)

وترحاله، أمّا تَرحاله فإلى دار الأشقياء، ومحلِّ المُنكِرين لقدرة الله وحكمته، المكذِّبين بما اتّفقت عليه كلمة المرسلين عن ربِّهم، {أُولَئِكَ

(1)

البيتان له في «عيون الأنباء» (2/ 351)، و «الوافي بالوفيات» (3/ 77)، و «نكت الهميان» (ص 250). وفي المصدرين الأخيرين ردُّ الصفدي عليه ببيتين في وزنه ورويّه.

(2)

ش: «ترحالها» .

ص: 191

الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرعد: 5]، {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 10 - 12].

وأمّا ترحالنا

(1)

أيُّها المسلمون والصدِّيقون المصدِّقون بلقاء ربِّهم وكتبه ورسله فإلى نعيمٍ دائمٍ، وخلودٍ متّصلٍ، ومقامٍ كريمٍ، وجنّةٍ عرضها السّماوات والأرض في جوار ربِّ العالمين، وأرحمِ الرّاحمين، وأقدر القادرين، وأحكم الحاكمين، الذي له الخلق والأمر، وبيده النّفع والضَّرُّ، الأوّل بالحقِّ، الموجود بالضّرورة، المعروف بالفطرة، الذي أقرَّتْ به العقول، ودلّت عليه الموجودات، وشهدت بوحدانيّته وربوبيّته المخلوقات، وأقرّت بها الفِطَر، المشهود وجوده وقيُّوميّته بكلِّ حركةٍ وسكونٍ، وبكلِّ ما كان وما هو كائنٌ وما سيكون، الذي خلق السّماوات والأرض، وأنزل من السّماء ماءً فأنبتَ به أنواع النبات، وبثَّ به في الأرض جميع الحيوانات، {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} [النمل: 61]، الذي يجيب المضطرّ إذا دعاه، ويُغِيث الملهوفَ إذا ناداه، ويكشف السُّوء، ويُفرِّج الكربات، ويُقِيل العَثَرات، الذي يهدي خلْقَه في ظلمات البرِّ والبحر، ويرسل الرِّياح بُشرًا بين يدي رحمته، فيحيي الأرض بوابل القَطْر، الذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده، ويرزق من في

(1)

ش: «ترحالها» .

ص: 192

السّماوات والأرض من

(1)

خلقه وعبيده، الذي يملك السّمع والأبصار، ويُخرج الحيّ من الميِّت، ويُخرج الميِّت من الحيِّ، ويدبِّر الأمر، الذي {بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88]، {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، المستعان به على كلِّ نائبةٍ وفادحةٍ، والمعهود منه كلُّ برٍّ وكرامةٍ، الذي عَنَتْ له الوجوه، وخَشَعَت له الأصوات، وسبَّحتْ بحمده الأرض والسّماوات وجميع الموجودات، الذي لا تسكنُ الأرواح إلّا بحبِّه، ولا تطمئنُّ القلوب إلّا بذكره، ولا تزكُو العقول إلّا بمعرفته، ولا يُدرَك النّجاحُ إلّا بتوفيقه، ولا تحيا القلوب إلّا بنسيم قربه ولطفه، ولا يقع أمرٌ إلّا بإذنه، ولا يهتدي ضالٌّ إلّا بهدايته، ولا يستقيم ذو أَوَدٍ إلّا بتقويمه، ولا يفهم أحدٌ شيئًا إلّا بتفهيمه، ولا يتخلّص من مكروهٍ إلّا برحمته، ولا يُحفَظ شيءٌ إلّا بكلاءته، ولا يُفتتَح أمرٌ إلّا باسمه، ولا يَتِمُّ إلّا بحمده، ولا يُدرَك مأمولٌ إلّا بتيسيره، ولا تُنال سعادةٌ إلّا بطاعته، ولا حياةٌ إلّا بذكره ومحبّته ومعرفته، ولا طابت الجنّة إلّا بسماع خطابه ورؤيته، الذي وسع كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا، وأوسع كلَّ مخلوقٍ فضلًا وبرًّا.

فهو الإله الحقُّ، والرّبُّ الحقُّ، والملك الحقُّ، والمنفرد

(2)

بالكمال المطلق من كلِّ الوجوه، المبرّأ عن النّقائص والعيوب من كلِّ الوجوه، لا يبلغ المُثْنُون وإن استوعبوا جميعَ الأوقات بكلِّ أنواع الثّناء ثناءً عليه، بل ثناؤه أعظم من ذلك، فهو كما أثنى على نفسه.

(1)

«من» ليست في ش، د ..

(2)

ت: «المتفرد» .

ص: 193

هذا الجار، وأمّا الدّار فلا تعلم نفسٌ حسنها وبهاءها، وسعتها ونعيمها، وبهجتها وروحها وراحتها، فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطَرَ على قلب بشرٍ، فيها ما تشتهي الأنفس، وتلذُّ الأعين، فهي الجامعة لجميع أنواع الأفراح والمسرّات، الخالية من جميع المنكِّدات والمنغِّصات، ريحانةٌ تهتزُّ، وقصرٌ مشيدٌ، وزوجةٌ حسناء، وفاكهةٌ نضيجةٌ.

فترحالنا أيُّها المصدِّقون إلى هذه الدّار بإذن ربِّنا وتوفيقه وإحسانه. وترحال المكذِّبين إلى الدّار التي أُعِدّت لمن كفر بالله ولقائه وكتبِه ورسله. فلن يجمع الله بين الموحِّدين له، الطّالبين لمرضاته، السّاعين في طاعته، الدّائبين في خدمته، المجاهدين في سبيله، وبين الملحدين، السّاعين في مساخطه، الدّائبين في معصيته، المستفرغين جهدَهم في أهوائهم وشهواتهم= في دارٍ واحدةٍ، إلّا على وجه الجواز والعبور، كما جمع بينهم في هذه الدُّنيا، ويجمع بينهم في موقف القيامة. فحاشاه من هذا الظّنِّ السّيِّئ الذي لا يليق بكماله وحكمته.

فصل

وفي هذه المرتبة تُعلَم حياة الشُّهداء عند ربِّهم، وأنّها أكمل من حياتهم في هذه الدُّنيا، وأتمُّ وأطيب، وإن كانت أجسادهم متلاشيةً، ولحومهم متمزِّقةً، وأوصالهم متفرِّقةً، فليس العمل على الطّلل، الشّأن في السّاكن، قال تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، وقال تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154]. وإذا كان الشُّهداء إنّما نالوا هذه الحياة بمتابعة الرُّسل وعلى أيديهم، فما الظّنُّ بحياة الرُّسل في البرزخ؟ ولقد أحسن القائل ما شاء:

ص: 194

فالعيشُ نومٌ والمنيّةُ يقظةٌ

والمرء بينهما خيالٌ سارِي

(1)

فللرُّسل والشُّهداء والصِّدِّيقين من هذه الحياة التي هي يقظةٌ من نوم الدُّنيا أكملُها وأتمُّها، وعلى قدر حياة العبد في هذا العالم يكون شوقُه إلى هذه الحياة، وسعيُه لها وحرصه على الظّفر بها، والله المستعان.

فصل

المرتبة العاشرة من مراتب الحياة: الحياة الدائمة الباقية بعد طيِّ هذا العالم، وذهابِ الدُّنيا وذهاب أهلها في دار الحيوان، وهي الحياة التي شمَّر إليها المشمِّرون، وتسابقَ إليها المتسابقون، وتنافس فيها المتنافسون، وهي التي أجرينا الكلام إليها، ونادت الكتب السّماويّة ورسل الله جميعهم عليها، وهي التي يقول من فاته الاستعداد لها {دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 21 - 26]، وهي التي قال الله فيها:{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].

والحياة المتقدمة كالنّوم بالنِّسبة إليها، وكلُّ ما تقدّم من وصف السفر ومنازله، وأحوال السّائرين، وعبوديّتهم الظّاهرة والباطنة= فوسيلةٌ إلى هذه الحياة، وإنّما الحياة الدُّنيا بالنِّسبة إليها كما قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما الدُّنيا في

(1)

البيت من رائية التهامي المشهورة التي مطلعها:

حكم المنيّةِ في البرية جاري

ما هذه الدنيا بذاتِ قرارِ

انظر: «ديوانه» (ص 155).

ص: 195