المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(الحياة الثالثة: حياة الوجود. وهي حياة بالحق - مدارج السالكين - ط عطاءات العلم - جـ ٤

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ الدّرجة الأولى: سرورُ ذوقٍ ذهبَ بثلاثة أحزانٍ:

- ‌الحزن الأوّل: حزنٌ أورثَه خوفُ الانقطاع

- ‌الحزن الثّالث: (حزنٌ بعثَتْه وحشةُ التّفرُّق)

- ‌(الدّرجة الثّانية: سرورُ شهودٍ، كشَفَ حجابَ العلم

- ‌(الدّرجة الثّالثة: سرورُ سماع الإجابة

- ‌ منزلة(1)السِّرِّ

- ‌ الثانية: صفاء القصد

- ‌ الثّالثة: صحّة السُّلوك

- ‌الطّبقة الثّالثة: طائفةٌ أسرَهم الحقُّ عنهم

- ‌النّفَس الثاني: نفَسٌ في حين التجلِّي

- ‌النّفَس الثّالث: نفَسٌ مطهّرٌ بماء القدس

- ‌ الدّرجة الأولى: الغربة عن الأوطان

- ‌(الدّرجة الثّانية: غُربة الحال

- ‌(الدّرجة الثّالثة: غُربة الهمّة

- ‌ الدّرجة الأولى: استغراق العلم في عين الحال

- ‌(الدّرجة الثّانية: استغراق الإشارة في الكشف

- ‌(الدّرجة الثّالثة: استغراق الشّواهد في الجمع

- ‌(الدّرجة الثّانية:

- ‌(الدّرجة الثّالثة:

- ‌ الدّرجة الأولى: تمكُّن المريد

- ‌(الدّرجة الثّانية: تمكُّن السّالك

- ‌(الدّرجة الثّالثة: تمكُّن العارف

- ‌ الدّرجة الأولى: مكاشفةٌ تدلُّ على التّحقيق الصّحيح

- ‌ الدّرجة الأولى: مشاهدة معرفةٍ

- ‌(الدرجة الثانية: مشاهدة معاينةٍ

- ‌(الدّرجة الثّالثة: مشاهدة جَمْعٍ

- ‌ الحياة الأولى: حياة العلم من موت الجهل

- ‌المرتبة الأولى: حياة(2)الأرض بالنّبات

- ‌المرتبة الثانية: حياة النُّموِّ والاغتذاء

- ‌المرتبة السّادسة: حياة الإرادة والهمّة والمحبة

- ‌ سببُ تخلُّفِ النّفس عن طلب هذه الحياة

- ‌(الحياة الثّانية: حياة الجمع من موت التّفرقة

- ‌(الحياة الثّالثة: حياة الوجود. وهي حياةٌ بالحقِّ

- ‌(الدرجة الثانية: اتِّصال الشُّهود

- ‌(الدرجة الثالثة: اتِّصال الوجود

- ‌(الثاني: انفصالٌ عن رؤية الانفصال

- ‌(الثالث: انفصالٌ عن اتِّصال

- ‌ الدرجة الأولى: معرفة الصِّفات والنُّعوت

- ‌ الفرق بين الصِّفة والنّعت

- ‌ كلُّ شركٍ في العالم فأصله التعطيل

- ‌القاعدة الثالثة: تعريف الحال بعد الوصول

- ‌الثالث: عدم تشبيهها بما للمخلوق

- ‌(الدرجة الثانية: معرفة الذات، مع إسقاط التفريق بين الصِّفات والذات

- ‌(الدرجة الثالثة: معرفةٌ مستغرقةٌ في محض التعريف

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌(الدّرجة الثّالثة: أن لا يُناسِمَ رسمُك سبْقَه)

- ‌الثاني: وجود الحقِّ وجود عينٍ»

- ‌الثالث: وجود مقام اضمحلال رسمِ الوجود فيه

- ‌(الدّرجة الأولى: تجريد عين الكشف عن كسب اليقين)

- ‌(الدرجة الثانية: تجريد عين الجمع عن درك العلم)

- ‌(الدرجة الثالثة: تجريد الخلاص من شهود التجريد)

- ‌ تفريد الإشارة بالحقِّ

- ‌«الجمع» ينقسم إلى صحيح وباطل

- ‌المسألة الثّانية: قوله: (ويوجد بتبصير الحقِّ)

- ‌المسألة الثّالثة: قوله: (وينمو على مشاهدة الشّواهد)

- ‌الالتفاتُ إلى الأسباب ضربان: أحدهما شركٌ، والآخر عبوديّةٌ وتوحيدٌ

- ‌فصلقوله: (والصُّعود عن منازعات العقول)

الفصل: ‌(الحياة الثالثة: حياة الوجود. وهي حياة بالحق

الصَّمَم، والبصر على العمى، فيكون الافتخار للنّفس على النّفس، لا للمتنفِّس على النّاس، والله أعلم.

فصل

قال

(1)

: ‌

‌(الحياة الثّالثة: حياة الوجود. وهي حياةٌ بالحقِّ

، ولها ثلاثة أنفاسٍ: نفس الهيبة، وهو يُمِيت الاعتدال. ونفس الوجود، وهو يمنع الانفصال. ونفس الانفراد وهو يورث الاتِّصال، وليس وراء ذلك مَلْحَظٌ للنَّظَّارة، ولا طاقةٌ للإشارة).

هذه المرتبة من الحياة هي حياة الواجد، وهي أكمل من النّوعين اللّذين قبلها، ووجود العبد لربِّه هو الذي أشار إليه في الحديث الإلهيِّ بقوله:«فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي»

(2)

، والمشار إليه في قوله:«ابنَ آدم، اطلبني تجِدْني، فإن وجدتَني وجدتَ كلَّ شيءٍ، وإن فُتُّك فاتَك كلُّ شيءٍ»

(3)

.

وسيأتي في باب الوجود مزيدُ بيانٍ لهذا.

وإنّما كانت حياة الوجود أكمل الحياة، لشرفها وكمالها بموجودها؛ وهو الحقُّ سبحانه، فمن حَيِيَ بوجوده فقد فاز بأعلى أنواع الحياة.

فإن قلت: يصعب عليّ فهمُ معنى الحياة بوجوده.

(1)

«المنازل» (ص 95).

(2)

تقدم.

(3)

تقدم.

ص: 205

قلت: أجَلْ، للحجاب الذي ضرب بينك وبين هذه الحياة، فافهم الحياة بوجود الفناء، وبوجود المالك القادر إذا كان معك وناصرك، دون مجرَّدِ وجوده ولا معرفةَ بينك وبينه البتّةَ، فحقيقة الحياة هي الحياة بالرّبِّ تعالى، لا الحياة بالنفس والغذاء

(1)

وأسباب العيش.

وقد تُفسَّر حياة الوجود بشهود القيُّوميّة، حيث لا يرى

(2)

شيئًا من الأشياء إلّا وهو بالله، هو الذي أقامه، وبحال هذا الشُّهود، وهو أن لا يلتفت بقلبه إلى شيءٍ سوى الله، ولا يخافه ولا يرجوه، بل قد قصرَ خوفَه ورجاءه وتوكُّله وإنابته على قيُّومِ الوجود وقيِّمه وقيَّامه ومُقِيمه وحدَه، فمتى حصل له هذا الشُّهود وهذا الحال فقد حصلتْ له حياة الوجود.

فتارةً يتنفّس بالهيبة، وهي سطوة نور الصِّفات، وذلك عند أوّل ما يسطع نور الوجود، فيقع القلب في هيبةٍ تستغرق حسَّه عن الالتفات إلى شيءٍ من عوالم النّفس، وذلك هو الاعتلال الذي يُمِيته النّفس الثّاني، وهو قوله:«ونفس يميت الاعتلال» ، فتموت منه عللُ أعماله، وآثارُ حظوظه، وشهودُ إنِّيّته.

قوله: (ونفس الوجود) يريد به وجودَ العبد لربّه، فيتنفّس بهذا الوجود، كما يسمع به، ويبصر به، ويبطش به، ويمشي به.

ولا تُصْغِ إلى غير هذا، فتزِلَّ قَدَمٌ بعد ثبوتها.

قوله: (وهو يمنع الانفصال)، الانفصال عند القوم: انقطاع القلب عن الرّبِّ وبقاؤه بنفسه وطبيعته، والاتِّصال: هو بقاؤه بربِّه، وفناؤه عن أحكام

(1)

ش: «الغنا» .

(2)

ش، د:«ترى» .

ص: 206

نفسِه وطبعِه وهواه، وقد يراد بالاتِّصال الفناء في شهود القيُّوميّة، وبالانفصال الغَيبة عن هذا الشُّهود.

وأمّا الملحد فيفسِّر الاتِّصال والانفصال بالاتِّصال الذّاتيِّ والانفصال الذّاتيِّ، وهذا محالٌ أيضًا، فإنّه لم يزل متّصلًا به، بل لم يزل إيّاه عنده. فالأوّل: يتعلّق بالإرادة والهمّة، وهو أعلى الأنواع. والثّاني: يتعلّق بالشُّهود والشُّعور، وهو دونه، وعند الشّيخ هو أعلى؛ لأنّه إنّما يكون في وادي الفناء. والثّالث: للملاحدة القائلين بوحدة الوجود.

قوله: (ونفس الانفراد، وهو يورث الاتِّصال).

نفس الانفراد: هو المصحوب بشهود الفردانيّة، وهي تفرُّد الرّبِّ سبحانه بالرُّبوبيّة والإلهيّة والتّدبير والقيُّوميّة، فلا يُثبِت لسواه قسطًا في الرُّبوبيّة، ولا في الإلهيّة، ولا في القيُّوميّة، بل يُفرِده بذلك في شهوده كما أفرده به في علمه، ثمّ يفرده به في الحال التي أوجبها الشُّهود، فيكون سبحانه فردًا في علم العبد ومعرفته، فردًا في شهوده، فردًا في حاله في شهوده.

وهذا النّفس يُورِثه الاتِّصال بربِّه، بحيث لا يبقى له مرادٌ غيره، ولا إرادةٌ غير مراده الدِّينيِّ الذي يحبُّه ويرضاه، فيستفرغ حبُّه قلبه، وتستفرغ مرضاته سعيه، وليس وراء ذلك مقامٌ تَلْحَظُه النّظّارة، لا بالقلب ولا بالرُّوح. فإنّ كمال هذا الاتِّصال والشُّغل

(1)

بالحقِّ سبحانه: قد استغرقَ المقامات، واستوعب الإشارات، والله المستعان.

* * * *

(1)

«والشغل» ليست في ت.

ص: 207

فصل

قال صاحب «المنازل»

(1)

: (باب القبض. قال الله تعالى: {(45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا} [الفرقان: 46]).

قلت: لقد أبعد في تعلُّقه بإشارة

(2)

الآية إلى القبض الذي يريده، ولا تدلُّ الآية عليه بوجهٍ ما، وإنَّما تشارك القبضَ المترجمَ عليه في اللفظ، فإنَّ القبض في الآية

(3)

قبضُ الظلِّ، وهو تقلُّصه بعد امتداده، قال الله

(4)

تعالى: {(44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا} [الفرقان: 45 - 46]، فأخبر تعالى: أنَّه بسط الظلَّ ومدَّه، وأنَّه جعله متحرِّكًا تبعًا لحركة الشمس، ولو شاء لجعله ساكنًا لا يتحرَّك، إمَّا بسكون المظهر له والدليل عليه، وإمَّا بسببٍ آخر. ثمَّ أخبر: أنَّه قبضه بعد بسطه قبضًا يسيرًا، وهو شيءٌ بعد شيءٍ، لم يقبضه جملةً.

فهذا من أعظم آياته الدالَّة على كمال قدرته وحكمته

(5)

، فندب سبحانه إلى رؤية صنعه

(6)

وقدرته وحكمته في هذا الفرد من مخلوقاته، ولو شاء لجعله لاصقًا بأصلِ ما هو ظلٌّ له من جبلٍ وبناءٍ وشجرٍ وغيره، فلم ينتفع به

(1)

(ص 96).

(2)

ر: «في إشارة» .

(3)

في ر زيادة: «هو» .

(4)

لم يرد الاسم المعظم في ش، د.

(5)

ر: «عظيم قدرته وكمال حكمته» .

(6)

ر: «صنعته» .

ص: 208

أحد، فإن كمال الانتفاع به تابع لمدِّه وبسطه وتحوُّله من مكانٍ إلى مكانٍ. وفي مدِّه وبسطه ثمَّ قبضه شيئًا فشيئًا من المصالح والمنافع ما لا يخفى ولا يحصى، فلو كان ساكنًا دائمًا، أو قُبض دفعةً واحدةً لتعطَّلت مرافق العالم ومصالحه به وبالشمس، فمدُّ الظلِّ وقبضُه شيئًا فشيئًا لازمٌ لحركة الشمس على ما قدِّرت عليه من مصالح العالم. وفي دلالة الشمس على الظِّلال ما يُعرف به أوقات الصلوات، وما مضى من اليوم، وما بقي منه. وفي تحرُّكه وانتقاله ما يبرد ما أصابه حرُّ الشمس، وينفع الحيوان والشجر والنبات. فهو من آيات الله الدالَّة عليه.

وفي الآية وجهٌ آخر، وهو أنَّه سبحانه مدَّ الظلَّ حين بنى السماء كالقبَّة المضروبة، ودحا الأرض تحتها، فألقت القبَّة ظلَّها عليها، فلو شاء سبحانه لجعله ساكنًا مستقرًّا في تلك الحال، ثمَّ خلق الشمس ونصبها دليلًا على ذلك الظلِّ، فهو يتبعها في حركتها، يزيد بها وينقص، ويمتدُّ ويَقْلِص، فهو تابعٌ لها تبعيَّة المدلول لدليله.

وفيها وجهٌ آخر، وهو أن يكون المراد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه، وهي الأجرام التي تلقي الظِّلال. فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه، كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه. وقوله:{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} كأنَّه يشعر بذلك، فقوله:{إِلَيْنَا قَبْضًا} يشبه قوله: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44]. وقوله: {ثُمَّ} بصيغة الماضي لا ينافي ذلك، كقوله:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1].

والوجه في الآية هو الأوَّل. وهذان الوجهان إن أراد من ذكرهما دلالة الآية عليهما إشارةً وإيماءً فقريب، وإن أراد أنَّ ذلك هو المراد من لفظها

ص: 209

فبعيد؛ لأنَّه سبحانه جعل ذلك آيةً ودلالةً عليه للناظر فيه، كما في سائر آياته التي يدعو عباده إلى النظر فيها، فلا بدَّ أن يكون ذلك أمرًا مشهودًا تقوم به الدلالة وتحصل به التبصرة.

وأبعد من هذا ما تعلَّق به صاحب «المنازل» في باب القبض بقبض الظِّلِّ، كما أشار إليه في خطبة كتابه حيث يقول

(1)

: (الذي مدَّ ظلَّ التكوين على الخليقة مدًّا طويلًا، ثمّ جعل شمس التمكين لصفوته عليه دليلًا، ثمَّ قبض ظلَّ التفرقة عنهم إليه قبضًا يسيرًا)، فاستعار للتكوين لفظ الظلِّ إعلامًا بأنَّ المكوِّنات بمنزلة الظِّلال في عدم استقلالها بأنفسها، إذ لا يتحرَّك الظلُّ إلَّا بحركة صاحبه. وقوله (مدًّا طويلًا) إشارة إلى أنَّه سبحانه لا يزال يخلق شيئًا بعد شيءٍ خلقًا لا يتناهى، لسعة قدرته ووجوب أبديَّته.

ثمَّ إنَّ حقيقة الظلِّ هي عدم الشمس في بقعةٍ ما لساترٍ سترها. فإنَّما تتعيَّن تلك الحقيقة بالشمس، فكذلك التكوُّن إنَّما يتعيَّن حقيقةً

(2)

بالمكوِّن تعالى. و (شمس التمكين) هي التوحيد الجامع لقلوب صفوته عن

(3)

التفرُّق في شعاب ظلِّ التكوين

(4)

.

(ثمَّ قبض ظلَّ التفرقة عنهم إليه قبضًا يسيرًا) أي: أخذ ظلَّ التفرقة عنهم أخذًا سهلًا.

(1)

(ص 1 - 2).

(2)

ت، ر:«حقيقته» .

(3)

ت: «على» .

(4)

غير محررة في د، يشبه:«التمكن» .

ص: 210

فالشيخ أحال باستشهاده بالآية في الباب المذكور على ما تقدَّم له في الخطبة. ووجه الإشارة بالآية يعلم من قوله: {(45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} .

والقبض في هذا الباب لم يرد به قبض الإضافة، ولهذا قال الشيخ

(1)

: (القبض في هذا الباب اسمٌ يشار به إلى مقام الضَّنائن الذين ادَّخرهم الحقُّ اصطناعًا لنفسه).

فالقبض نوعان: قبضٌ في الأحوال، وقبضٌ في الحقائق.

فالقبض في الأحوال أمرٌ يطرق القلب يمنعه عن الانبساط والفرح، وهو نوعان أيضًا:

أحدهما: ما يعرف سببه، مثل تذكُّر ذنبٍ أو تفريطٍ أو بُعدٍ أو جفوةٍ، أو حدوث ذلك.

والثاني: ما لا يعرف سببه، بل يهجم على القلب هجومًا لا يقدر على التخلُّص منه. وهذا هو القبض المشار إليه على ألسنة القوم، وضدُّه البسط. فالقبض والبسط عندهم حالتان للقلب لا يكاد ينفكُّ منهما.

وقد قال أبو القاسم الجنيد: في معنى القبض والبسط معنى الخوف والرّجاء، فالرجاء

(2)

يبسط إلى الطاعة، والخوف يقبض عن

(3)

المعصية

(4)

.

(1)

«المنازل» (ص 96).

(2)

«فالرجاء» سقط من ش.

(3)

ش، د:«عند» . والمثبت من ت، ر موافق لمصدر النقل.

(4)

«اللمع» للطوسي (ص 343 - 344).

ص: 211

وكلُّهم تكلَّم في (القبض والبسط) على هذا المنهج، حتَّى جعلوه أقسامًا: قبض تأديبٍ، وقبض تهذيبٍ، وقبض جمعٍ، وقبض تفريقٍ. ولهذا يمتنع به صاحبُه إذا تمكَّن منه من الأكل، والشُّرب، والكلام، وفعل

(1)

الأوراد، والانبساط إلى الأهل وغيرهم.

فقبض التأديب يكون عقوبةً على غفلةٍ، أو خاطر سوءٍ، أو فكرةٍ رديئةٍ.

وقبض التهذيب يكون إعدادًا لبسطٍ عظيمٍ

(2)

شأنه يأتي بعده، فيكون القبض قبله كالتنبيه عليه والمقدِّمة له، كما كان الغتُّ والغطُّ

(3)

مقدِّمةً بين يدي الوحي وإعدادًا لوروده. وهكذا الشدَّة مقدِّمةٌ بين يدي الفرج، والبلاء مقدِّمةٌ بين يدي العافية، والخوف الشديد مقدِّمةٌ بين يدي الأمن، وقد جرت

(4)

سنَّة الله سبحانه أنّ هذه الأمور النافعة المحبوبة إنَّما يُدخَل إليها من أبواب أضدادها.

وأمَّا قبض الجمع: فهو ما يحصل للقلب حالة جمعيَّته على الله من انقباضه عن العالم وما فيه، فلا يبقى فيه فضلٌ ولا سعةٌ لغير من اجتمع قلبه

(1)

في النسخ عدا ر: «نقل» ، تصحيف.

(2)

ت: «عظُم» .

(3)

يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم في وصف بدء الوحي وهو في غار حراء: «فأخذني (أي: جبريل) فغطَّني حتى بلغ مني الجَهد» . أخرجه البخاري (3) ومسلم (160) من حديث عائشة. وفي رواية ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 236) ــ: «فغتَّني» ، وهما بمعنى.

(4)

سقطت من ش.

ص: 212

عليه. وفي هذه الحال مَن أراد مِن صاحبها

(1)

ما يعهده منه من

(2)

المؤانسة والمذاكرة فقد ظلمه.

وأمَّا قبض التفرقة: فهو القبض الذي يحصل لمن تفرَّق قلبه عن الله، وتشتَّت عنه في الشِّعاب والأودية، فأقلُّ عقوبته: ما يجده من القبض الذي يتمنَّى معه الموت.

وأمّا القبض الذي أشار إليه صاحب «المنازل» فهو

(3)

شيءٌ وراء هذا كلِّه، فإنَّه جعله من قسم الحقائق، وذلك القبض الذي تقدَّم ذكره من أقسام البدايات. ولهذا قال:(القبض في هذا الباب: اسمٌ يشار به إلى مقام الضَّنائن). ومن هاهنا حسن استشهاده بإشارة الآية، لأنَّه تعالى أخبر عن قبض الظلِّ إليه، والقبض في هذا الباب يتضمَّن قبضَ القلب عن غيره إليه، وجمعيَّتَه بعد التفرقة عليه.

والضَّنائن جمع ضَنينةٍ

(4)

، وهي الخاصَّة التي يَضَنُّ بها صاحبُها، أي: يبخل ببذلها ويصطفيها لنفسه، ولهذا قال:(الذين ادَّخرهم الحقُّ اصطناعًا لنفسه)

(5)

.

(1)

ت، ر:«صاحبه» ، ولكلٍّ وجه.

(2)

«منه» ساقطة من ر. و «من» ساقطة من ش، د.

(3)

ش، د:«فهي» .

(4)

انظر: «شرح التلمساني» (ص 529) و «تاج العروس» (35/ 340).

(5)

وقد روي هذا المعنى في حديث مرفوع: «إن لله ضنائنَ من خلقه يحييهم في عافية، وإذا توفاهم توفاهم إلى جنته، أولئك الذين تمر عليهم الفتن كقطع الليل المظلم وهم منها في عافية» . أخرجه ابن أبي الدنيا في «الأولياء» (2) والعقيلي في «الضعفاء» (5/ 425) والطبراني في «الكبير» (12/ 385) و «الأوسط» (6369) وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 6) من حديث ابن عمر بإسناد منكر. وانظر: «الضعيفة» (1239، 3197).

ص: 213

والادِّخار افتعالٌ من الذُّخر، وهو ما يعدُّه المرء لحوائجه ومصالحه، والاصطناع بمعنى الاصطفاء. قال الله تعالى:{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}

(1)

[طه: 41]. والاصطناع في الأصل: اتِّخاذ الصنيعة، وهي الخير تسديه إلى غيرك، قال الشاعر

(2)

:

وإذا اصطنعت صنيعةً فاقصد بها

وجه الذي يولي الصنائع أو دَع

قال ابن عبَّاس: اصطنعتك لوحيي ورسالتي. وقال الكلبيُّ: اخترتك بالرِّسالة لنفسي، لكي تحبَّني وتقوم بأمري. وقيل: اخترتك بالإحسان إليك لإقامة حجّتي لتكلِّم عبادي عنِّي. قال أبو إسحاق: اخترتك لإقامة حجَّتي، وجعلتك بيني وبين خلقي حتَّى صرتَ في الخطاب والتّبليغ عنِّي بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم

(3)

.

(1)

في ش، د:{وَاصْطَنَعْتُكَ} فقط.

(2)

لم أجد البيت فيما رجعت إليه من المصادر. وقد ورد بيتان في المصادر لفظ أحدهما كما في «الإحياء» (3/ 247):

فإذا اصطنعت صنيعةً فاعمد بها

لله أو لذوي القرابة أو دعِ

وهما في «الفاضل» للمبرد (ص 36) دون عزو، وقد نسبهما الماوردي في «أدب الدنيا والدين» (ص 330) إلى حسان بن ثابت، والمرزباني في «معجم الشعراء» (ص 458) إلى الهذيل الأشجعي وهذا أقرب. وكأن البيت الذي نقله المؤلف تصرَّف صاحبه في قول الأشجعي.

(3)

الأقوال كلها من «البسيط» للواحدي (14/ 405 - 406). ولم أجد قول ابن عبَّاس مسندًا. وقول أبي إسحاق الزجاج في «معاني القرآن» له (3/ 365).

ص: 214

وقيل

(1)

: مثَّل حاله بحال من يراه بعض الملوك لجوامع خصالٍ فيه وخصائص أهلًا لكرامته

(2)

وتقريبه، فلا يكون أقربُ منه منزلةً إليه، ولا ألطف محلًّا، فيصطنعه بالكرامة والأثرة، ويستخلصه لنفسه، بحيث يسمع به، ويبصر به، ويطَّلع على سرِّه.

والمقصود: أنَّ الربَّ سبحانه حال بين هؤلاء الضنائن وبين التعلُّق بالخلق، وصرف قلوبهم وهممهم وعزائمهم إليه.

قال

(3)

: (وهم ثلاث فرقٍ: فرقةٌ قبضهم إليه قبضَ التوقِّي، فضنَّ بهم على أعين العالمين).

هذا الحرف في (التّوقِّي)

(4)

بالقاف من الوقاية

(5)

، وليس من الوفاة. أي: سترهم على

(6)

أعين النّاس وقايةً لهم وصيانةً عن ملابستهم، فغيَّبهم عن أعين الناس، فلم يطلعهم عليهم، وهؤلاء أهل الانقطاع والعزلة عن الناس وقت فساد الزمان، ولعلَّهم الذين قال فيهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«يوشك أن يكون خير مال المرء غنمًا يتبع بها شَعَف الجبالِ ومواقع القَطْر»

(7)

، وقوله: «ورجلٌ معتزلٌ في شعبٍ من هذه الشِّعاب، يعبد ربَّه، ويدع الناس من

(1)

قاله الزمخشري في «الكشاف» (2/ 434).

(2)

ش، د:«أهل الكرامة» .

(3)

«المنازل» (ص 96).

(4)

في ت زيد بعده: «هو» .

(5)

وعليه شرحه التلمساني (ص 530) والقاساني (ص 534).

(6)

ت، ر:«عن» .

(7)

أخرجه البخاري (19) عن أبي سعيد الخدري، وتمامه:«يفرُّ بدينه من الفتن» .

ص: 215

شرِّه»

(1)

.

وهذه الحال تحمد في بعض الأماكن والأوقات دون بعضها، وإلَّا فالمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من هؤلاء

(2)

.

فللعزلة وقت تجب فيه، ووقت تستحبُّ فيه، ووقت تباح فيه، ووقت تكره فيه، ووقت تَحرُم فيه.

ويجوز أن يكون (قبض التوفِّي) بالفاء، أي: توفَّى أجسادهم وقلوبهم من بين العالمين وهم في الدُّنيا، لكن لمَّا لم يخالطوهم كانوا بمنزلة من قد تُوفِّي وفارق الدُّنيا.

قال

(3)

: (وفرقةٌ قبضهم بسترهم في لباس التلبيس، وأسبل عليهم أكلَّة

(4)

الرُّسوم، فأخفاهم عن عيون العالم).

هذه الفرقة هم مع الناس مخالطون لهم، والناس يرون ظواهرهم، وقد

(1)

جزء من حديث أبي سعيد أيضًا، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: «رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل في شعب

». أخرجه البخاري (6494) ومسلم (1888). وفي الباب حديث أبي هريرة عند مسلم (1889) وغيره.

(2)

يشير إلى حديث ابن عمر مرفوعًا: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على اذاهم» . أخرجه أحمد (5022) والبخاري في «الأدب المفرد» (388) والترمذي (2507) وابن ماجه (4032) وغيرهم بإسناد صحيح.

(3)

«المنازل» (ص 96).

(4)

ت: «أدلة» ، تصحيف، وسيأتي بيان معناه.

ص: 216

ستر الله سبحانه حقائقهم وأحوالهم عن رؤية الخلق لها. فحالهم ملتبسٌ على الناس لا يعرفونه

(1)

، فإذا رأوا منهم ما يرون من أبناء الدُّنيا من الأكل والشُّرب، واللِّباس والنِّكاح، وطلاقة الوجه وحسن العشرة= قالوا: هؤلاء من أبناء الدُّنيا. وإذا رأوا ذلك الجدَّ والهمم، والصبر والصِّدق، وحلاوة المعرفة والإيمان والذِّكر، وشاهدوا أمورًا ليست من دأب

(2)

أبناء الدُّنيا= قالوا: هؤلاء أبناء الآخرة، فالتبس حالهم عليهم، فهم مستورون عن الناس بأسبابهم وصنائعهم ولباسهم، لم يجعلوا لطلبهم وإرادتهم إشارةً تشير إليهم: اعرفوني، فهؤلاء هم الصادقون، وهؤلاء يكونون مع الناس، والمحجوبون لا يعرفونهم، ولا يرفعون بهم رأسًا، وهم من سادات أولياء الله، صانهم الله عن معرفة الناس لهم كرامةً لهم، لئلَّا يفتتنوا بهم، وإهانةً للجهَّال بهم فلا ينتفعون بهم.

وهذه الفرقة بينها وبين الأولى من الفضل ما لا يعلمه إلّا الله، فهم بين الناس بأبدانهم، وبين الرفيق الأعلى بقلوبهم، فإذا فارقوا هذا العالم انتقلت أرواحهم إلى تلك الحضرة، فإنَّ روح كلِّ عبدٍ تنتقل بعد مفارقة البدن إلى حضرة من كان يألفهم ويحبُّهم

(3)

، فإنَّ المرء مع من أحبَّ.

قوله: (وأسبل عليهم أكلَّة

(4)

الرُّسوم)، أي: أجرى عليهم أحكام

(1)

د: «يعرفونهم» .

(2)

«دأب» من ت.

(3)

ت: «ما كان يألفه ويحبه» .

(4)

ت: «أدلة» ، تصحيف. والأكلة جمع «الكِلَّة» بكسر الكاف، وهو ستر رقيق يخاط شبه البيت، يُتوقَّى فيه من البعوض ونحوه.

ص: 217

الخلق: يأكلون كما يأكلون، ويشربون كما يشربون، ويسكنون حيث يسكنون، ويمشون معهم في الأسواق، ويعانون معهم الأسباب؛ وهم في وادٍ والناس في وادٍ، فمشاركتهم إيَّاهم في ذلك هي التي سترتهم عن معرفتهم وإدراك حقائقهم، فهم تحت ستور المشاركة.

ووراء هاتيك السُّتور محجَّبٌ

بالحسن كلُّ العزِّ تحت لوائه

لو أبصرت عيناك بعضَ جماله

لبذلتَ منك الرُّوحَ في إرضائه

ما طابت الدُّنيا بغير حديثه

كلَّا ولا الأخرى بدون لقائه

يا خاسرًا هانت عليه نفسه

إذ باعها بالغبن من أعدائه

لو كنت تعلم قدر ما قد بعتَه

لفسختَ ذاك البيع قبل وفائه

أو كنت كفؤًا للرشاد وللهدى

أبصرت لكن لستَ من أكْفائه

(1)

قوله

(2)

: (وفرقةٌ قبضهم منهم إليه، فصافاهم مصافاةَ سرٍّ، فضنَّ بهم عليهم).

هذه الفرقة إنَّما كانت أعلى من الفريقين المتقدِّمين لأنَّ الحقَّ سبحانه قد سترهم عن نفوسهم، لكمال ما أطلعهم عليه، وشَغْلِهم به عنهم. فهم في أعلى الأحوال والمقامات، ولا التفات لهم إليها، فهؤلاء قلوبهم معه سبحانه لا مع سواه، فلم يكونوا مع

(3)

السِّوى ولا السِّوى منهم، بل هم مع السِّوى بالمجاورة والامتحان، لا بالمساكنة والألفة؛ قلوبٌ عامرةٌ بالأسرار، وأرواحٌ

(1)

لعل الأبيات للمؤلف.

(2)

«المنازل» (ص 96).

(3)

ت: «من» .

ص: 218

تحنُّ إليه حنين الطُّيور إلى الأوكار، قد سترهم وليُّهم وحبيبهم عنهم، وأخذهم إليه منهم.

قوله: (فصافاهم مصافاةَ سرٍّ)، أي: جعل مواجيدهم في أسرارهم وقلوبِهم للطف إدراكهم، فلم يظهر عليهم في ظواهرهم لقوَّة الاستعداد.

وقوله: (فضنَّ بهم عليهم)، أي: أخذهم عن رسومهم، فأفناهم عنهم، وأبقاهم به.

وقد علمت من هذا أنَّ (القبض) المشار إليه في هذا الباب ليس هو القبض الذي يشير إليه القوم في البدايات والسُّلوك، والله أعلم.

* * * *

ص: 219

فصل

قال صاحب «المنازل»

(1)

: (باب البسط. قال الله تعالى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11]).

قلت: وجه تعلُّقه بإشارة الآية هو أن معناها: أنَّ الله سبحانه يُعيشكم فيما خلق لكم من الأنعام المذكورة. قال الكلبيُّ

(2)

: يكثِّركم في هذا التزويج، ولولا هذا التزويج لم يكثر النسل. والمعنى: يخلقكم في هذا الوجه الذي ذكر من جعله لكم أزواجًا، فإنَّ سبب خلقنا وخلق الحيوان: بالأزواج. والضمير في قوله: {يَذْرَؤُكُمْ} يرجع إلى الجعل. ومعنى الذَّرْء: الخلق، وهو هاهنا الخلق

(3)

الكثير، فهو خلقٌ وتكثير. فقيل:(في) بمعنى الباء، أي: يكثِّركم بذلك، وهذا قول الكوفيِّين

(4)

. والصحيح: أنَّها على بابها، والفعل مضمَّن معنى (يُنشئكم) وهو يتعدَّى بـ (في)، كما قال تعالى:{وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الواقعة: 61]. فهذا تفسير الآية.

ولمَّا كانت الحياة حياتين: حياة الأبدان وحياة الأرواح، وهو سبحانه هو الذي يحيي قلوب أوليائه وأرواحهم بإكرامه ولطفه وبسطه كان

(5)

ذلك تنميةً لها وتكثيرًا وذرءًا، والله أعلم.

(1)

(ص 96).

(2)

«قال الكلبي» سقط من د. والمؤلف صادر عن «البسيط» للواحدي (19/ 493).

(3)

«وهو هاهنا الخلق» سقط من ت لانتقال النظر.

(4)

كالفراء في «معاني القرآن» (3/ 22).

(5)

ت: «فإن في» .

ص: 220

قال صاحب «المنازل»

(1)

: (البسط: أن يُرسِل شواهد العبد في مدارج العلم، ويُسبِل على باطنه رداء الاختصاص، وهم أهل التلبيس. وإنَّما بُسطوا في ميدان البسط لأحد

(2)

ثلاث معانٍ، لكلِّ معنًى طائفة).

يريد: أنَّ البسط إرسال ظواهر العبد وأعماله على مقتضى العلم، ويكون باطنه معمورًا بالمراقبة والمحبَّة والأنس بالله، فيكون جماله في ظاهره وباطنه، فظاهره قد أُلبس الجمال بموجب العلم، وباطنه قد اكتسى

(3)

الجمال بالمحبَّة والرجاء والخوف والمراقبة والأنس، فالأعمال الظاهرة له دثارٌ، والأحوال الباطنة له شعارٌ. فلا حالُه ينقص عليه ظاهر حكم، ولا علمه يقطع عليه وارد حالٍ.

وقد جمع سبحانه بين الجمالين ــ أعني: جمال الظاهر والباطن ــ في غير موضعٍ من كتابه:

منها قوله: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26].

ومنها قوله في نساء الجنّة: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ} [الرحمن: 70] فهنّ حسان الوجوه، خيرات

(4)

الأخلاق.

(1)

(ص 96).

(2)

هكذا في نسخةٍ كما في هامش ر، وهو الذي في مطبوعة «المنازل» وشرحي التلمساني (ص 534) والقاساني (ص 537، 538). وفي النسخ: «بعد» ، والظاهر أنه تحريف.

(3)

ت: «ألبس» .

(4)

ش، د:«خير» .

ص: 221

ومنها قوله: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11]، فالنضرة جمال الوجوه، والسُّرور جمال القلوب.

ومنها قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22]، فالنضرة تزيِّن ظواهرها، والنّظر يجمِّل بواطنها.

ومنها قوله: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، فالأساور جمَّلت ظواهرهم، والشراب الطهور طهَّر بواطنهم.

ومنها قوله: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات: 6 - 7]، فجمَّل ظاهرها بالكواكب، وباطنها بالحراسة من الشياطين.

رجعنا إلى شرح كلامه.

قوله: (وهم أهل التّلبيس) يعني: أنَّهم المذكورون في باب القبض وهم الفرقة الثانية الذين سُتروا بلباس التلبيس في

(1)

أعين الناس، فلا تُرى حقائقهم.

قوله: (وإنَّما بسطوا في ميدان البسط)، أي: بسطهم الحقُّ سبحانه، ولم يتعمَّلوا البسط من أنفسهم. وميدان البسط هو الذي نصبه لهم الحق سبحانه

(2)

على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لا ما يظنُّه الملحد

(3)

أنَّه السماع الشهيُّ، وملاحظة

(1)

ت، ر:«عن» .

(2)

«ولم يتعملوا

الحق سبحانه» ساقط من ر، وطبعة الفقي.

(3)

أي: التلمساني في «شرحه» (ص 534).

ص: 222

المنظر البهيِّ، ورؤية الصُّور المستحسنات، وسماع الآلات المطربات.

نعم، هذا ميدانٌ بسَطَه الشيطان يقتطع به النفوس عن الميدان الذي نصبه الرحمن، فميدان الرحمن الذي بسطه لأنبيائه وأوليائه هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وأهله ومع الغريب والقريب مِن: سعة الصدر، ودوام البشر، وحسن الخلق، والسلام على من لقيه، والوقوف مع من استوقفه، والمزح بالحقِّ مع الصغير والكبير أحيانًا، وإجابة الدعوة، ولين الجانب حتَّى يظنَّ كلُّ واحدٍ من أصحابه أنَّه أحبُّهم إليه. وهذا الميدان لا تجد فيه إلَّا واجبًا، أو مستحبًّا، أو مباحًا يُعين عليهما.

قوله

(1)

: (فطائفةٌ بسطت رحمةً للخلق، يباسطونهم ويلابسونهم فيستضيئون بنورهم؛ والحقائق مجموعة، والسَّرائر مصونة).

أي: جعل الله سبحانه انبساطهم مع الخلق رحمةً لهم، كما قال تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، فالرّبُّ سبحانه بسط هؤلاء مع خلقه ليقتدي بهم السالك، ويهتدي بهم الحيران، ويُشفى بهم العليل، ويُستضاء بنور هدايتهم ونصحهم ومعرفتهم في ظلمات دياجي الطَّبع والهوى، فالسالكون يقتدون بهديهم إذا سكتوا، وينتفعون بكلماتهم إذا نطقوا

(2)

، فإنَّ حركاتِهم وسكونَهم ونُطقهم وسكوتهم لمَّا كانت بالله ولله وعلى أمر الله= جذبت قلوب الصادقين إليهم. وهذا النُّور الذي أضاء على الناس منهم هو نور العلم والمعرفة.

(1)

«المنازل» (ص 97).

(2)

«والهوى

نطقوا» ساقط من ت.

ص: 223

والعلماء ثلاثة:

- عالمٌ استنار بنوره واستنار به الناس، فهذا من خلفاء الرُّسل وورثة الأنبياء.

- وعالمٌ استنار بنوره ولم يستنر به غيرُه، فهذا إذا لم يفرِّط كان نفعه قاصرًا على نفسه، وبينه وبين الأوَّل ما بينهما.

- وعالمٌ لم يستنر بنوره ولا استنار به غيرُه، فهذا علمه وبالٌ عليه، وبسطته للناس فتنةٌ لهم، وبسطة الأوَّل رحمةٌ لهم.

قوله: (والحقائق مجموعة، والسرائر مصونة)، أي: انبسطوا والحقائق التي في سرائرهم مجموعةٌ

(1)

في بواطنهم، لم تتفرق بالانبساط الذي اشتغلت به ظواهرهم، فالانبساط لم يشتِّت قلوبهم، ولم يفرِّق هممهم، ولم يحلَّ عقد عزائمهم. وسرائرهم مصونةٌ مستورةٌ لم يكشفوها لمن انبسطوا إليه وإن كان البسط يقتضي الإلف واطِّلاعَ كلٍّ من المتباسطين على سرِّ صاحبه. فإيَّاك ثمَّ إيَّاك أن تُطلع من باسطتَه على سرِّك مع الله، ولكن اجذبه وشوِّقه، واحفظ وديعة الله عندك، لا تعرِّضها للاسترجاع.

قال

(2)

: (وطائفةٌ بُسطت لقوَّة معاينتهم

(3)

، وتصميم مناظرهم، لأنَّهم

(1)

«والسرائر مصونة

مجموعة» سقط من ت.

(2)

«المنازل» (ص 97).

(3)

في مطبوعة «المنازل» : «معانيهم» ، وعليه شرح القاساني (ص 540). والمثبت من النسخ هو مقتضى شرح التلمساني (ص 536)، وإن كان المثبت في مطبوعته أيضًا:«معانيهم» .

ص: 224

طائفةٌ لا تخالج الشواهدُ شهودهم

(1)

، ولا تضرب رياحُ الرسوم موجودهم، فهم منبسطون

(2)

في قبضة القبض).

إنَّما كانت هذه الدرجة أعلى ممَّا قبلها، لأنَّ ما قبلها لأرباب الأعمال، وهذه لأرباب الأحوال، بُسطت

(3)

الأولى رحمةً للخلق، وبسطت هذه اختصاصًا بالحقِّ.

وقوله: (لقوَّة معاينتهم)، إمَّا أن يكون المعنى: لقوَّة إدراك معاينتهم، أو لقوَّة ظهور معاينتهم لبواطنهم، أو لقوَّتها وثباتها

(4)

في نفسها. والمعنى: أنَّه لا يطمع البسط أن يحجبهم عن معاينة مطلوبهم؛ لأنَّ قوَّة المعاينة منعت وصول البسط إلى إزالتها أو إضعافها.

وقوله: (وتصميم مناظرهم) يعني: ثبات مناظر قلوبهم وصحَّتها، فليسوا ممَّن يحول بين نظر قلوبهم وبين ما تراه قَتَرٌ من شكٍّ، ولا غيمٌ من ريب، فاللطيفة الإنسانيَّة المدرِكة لحقيقة ما أُخبروا به من الغيب صحيحة، وهي شديدة التوجُّه إلى مشهودها، فلم يقدر البسط على حجبها عن مشهودها.

قوله: (لأنَّهم طائفةٌ لا تخالج الشواهد شهودهم

(5)

) أي: لا تمازج

(1)

ر: «مشهودهم» . وكذا في مطبوعة «المنازل» و «شرح القاساني» . والمثبت أقرب إلى مقتضى شرح التلمساني والمؤلف.

(2)

ش، د، ر:«مبسوطون» . والمثبت من ت موافق للمصادر، وهو الذي يأتي لاحقًا عند شرح المؤلف له.

(3)

ت: «بسطة» ، وكذا في الموضع الآتي.

(4)

ش، ر، المطبوع:«بيانها» ، تصحيف.

(5)

ت، ر:«مشهودهم» .

ص: 225

الشواهد شُهودهم

(1)

فيكونَ إدراكهم بالاستدلال، بل مشهودهم حاضرٌ لهم لم يدركوه بغيره، فلا يخالط مشاهدتَهم له شواهدُ من غيره. والشواهد مثل الأمارات والعلامات.

وهذا الكلام يحتاج إلى

(2)

بيانٍ وتفصيلٍ:

فإنَّ الله سبحانه أقام الشواهد عليه، وملأ بها كتابه، ودعا عباده إلى النظر فيها والاستدلال بها، ولكنَّ العارف إذا حصل له منها الدلالة، ووصل منها إلى اليقين انطوى حكمُها في شهوده، وسافر قلبه منها إلى المطلوب المدلول عليه بها، ورآها كلَّها أثرًا من آثار أسمائه

(3)

وصفاته وأفعاله، فعاين المشهود المدلول عليه بها معاينةَ القلب والبصيرة للصانع إذا عاين صُنعَه، فكأنَّه يرى الباني وهو يبني ما يشاهده

(4)

من البناء المحكم المتقن؛ لا أن الشواهد والأدلَّة تَبطُل ويَبطُل حكمُها.

فتأمّل هذا الموضع، فإنَّه غلط فيه فريقان: فريقٌ أساؤوا الظنَّ بمن طوى حكم الشواهد والأدلَّة، ونسبوهم إلى ما نسبوهم إليه. وفريقٌ رأوا أنَّ الشواهد نفس المشهود، والدليل عين المدلول عليه، ولكن كان في الابتداء شاهدًا ودليلًا، وفي الانتهاء مشهودًا

(5)

ومدلولًا.

(1)

ر: «مشهودهم» .

(2)

زيد في ر: «شرح و» .

(3)

في النسخ عدا ر: «إيمانه» ، تصحيف.

(4)

ت، ر:«شاهده» .

(5)

ش، د:«شهودًا» .

ص: 226

قوله: (ولا تضرب رياح الرُّسوم موجودهم

(1)

)، شبَّه الرُّسوم بالرِّياح؛ لأنَّ

(2)

معاني الصُّور الخلقيَّة تمرُّ على أهل الشُّهود الضعيف فتحرِّك بواطنهم بنوعٍ من الشكِّ والريب، فهؤلاء الذين بسطهم الحقُّ تعالى سالمون من ذلك.

قوله: (فهم منبسطون في قبضة القبض)، أي: هم في حال انبساطهم غير محجوبين عن معاني القبض، بل هم مبسوطون

(3)

بقبضه إيَّاهم عن غيره، فلا يتنافى في حقِّهم البسط والقبض، بل قبضهم إليه

(4)

في بسطهم، وبسطهم

(5)

به في قبضهم. وجَعَل للقبض قبضةً ترشيحًا للاستعارة.

قال

(6)

: (وطائفةٌ بُسطت أعلامًا على الطريق، وأئمَّةً للهدى، ومصابيح للسالكين).

إنَّما كانت هذه الفرقة أعلى من الفرقتين لأنَّها شاركتهما في درجتيهما واختصَّت عنهما بهذه الدرجة، فاتَّصفت بما اتَّصفت به الأولى من الأعمالِ والثانيةُ من الأحوال، وزادت عليهما بالنفع للسالكين، والهداية للحائرين، والإرشاد للطالبين؛ فاهتدى بهم الحائر، وسار بهم الواقف، واستقام بهم

(1)

ش، د:«بوجودهم» ، وقد سبق على الصواب.

(2)

سقطت النون من ش. وكذا في د، ثم أصلح فيها إلى:«أي» .

(3)

ت: «منبسطون» .

(4)

ت: «الله» .

(5)

«وبسطهم» ساقط من ش، د.

(6)

«المنازل» (ص 97).

ص: 227

الجائر

(1)

، وأقبل بهم المعرض، وكمل بهم الناقص، ورجع بهم الناكص، وتقوَّى بهم الضعيف، وتنبَّه على المقصود من هو في الطريق.

وهؤلاء هم خلفاء الرُّسل حقًّا، وهم أولو الصبر واليقين، فجمعوا بين البصيرة والصبر؛ قال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، فنالوا إمامة الدِّين بالصبر واليقين.

* * * *

(1)

ر، المطبوع:«الحائد» . وجار عن الطريق وحاد بمعنى.

ص: 228

فصل

قال صاحب «المنازل»

(1)

: (باب السُّكر. قال الله تعالى حاكيًا عن كليمه موسى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]).

وجه استدلاله بإشارة الآية أنَّ موسى لمَّا استغرق قلبَه وسمعَه وروحَه

(2)

الاستلذاذُ بكلام ربِّه له، فحصل له من سماع ذلك الكلام، وطيبِ ذلك الخطاب، ولذَّةِ ذلك التكليم ما يَجِلُّ ويَعظُم ويَكبُر أن يسمَّى سكرًا أو يُشبَّه بالسُّكر= جرى على لسانه طلبُ الرؤية له سبحانه في تلك الحال.

قال

(3)

: (السُّكر في هذا الباب اسمٌ يشار به إلى سقوط التمالك في الطَّرب. وهذا من مقامات المحبِّين خاصَّةً، فإنَّ عيون الفناء لا تقبله، ومنازل العلم لا تبلغه).

قوله: (يشار به إلى سقوط التمالك)، يعني: عدم الصبر، تقول: ما تمالكتُ أن أفعل كذا، أي: ما قدرت أن أصبر عنه، فكأنَّه قال: هو اسمٌ لقوَّة الطرب الذي لا يدفعه الصبر.

وهذا المعنى لم يعبِّر عنه القرآن ولا السنَّة ولا العارفون من السلف بالسُّكر أصلًا، وإنَّما ذلك من اصطلاح المتأخِّرين. وهو بئس الاصطلاح، فإنَّ لفظ السُّكر والمُسكِر من الألفاظ المذمومة شرعًا وعقلًا، وعامَّةً ما

(1)

(ص 97).

(2)

زيد في ر، طبعة الفقي:«وبصره» ، وهو خطأ.

(3)

«المنازل» (ص 97).

ص: 229

يستعمل في السُّكر المذموم الذي يمقته الله ورسوله، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]. وعبَّر سبحانه به

(1)

عن الهول الشديد الذي يحصل للناس عند قيام السّاعة فقال: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2]. ويقال: فلان أسكره حبُّ الدنيا، وكذلك

(2)

يستعمل في سكر الهوى المذموم.

فأين أطلق الله سبحانه أو رسوله أو الصحابة أو أئمَّة الطريق

(3)

المتقدِّمون على هذا المعنى الشريف الذي هو من أشرف أحوال محبِّيه وعابديه= اسمَ السُّكر المستعمل في سكر الخمر وسكر الفواحش؟! كما قال تعالى عن قوم لوطٍ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، فوصف بالسُّكر أرباب الفواحش، وأرباب الشراب المسكر؛ فلا يليق استعماله في أشرف الأحوال والمقامات، ولا سيَّما في قسم الحقائق. ولا يطلق على كليم الرحمن اسم السُّكر في تلك الحال. والاصطلاحاتُ لا مشاحَّة فيها إذا لم تتضمَّن مفسدةً.

وأيضًا فمن المعلوم أنَّ هذه الحال تحصل في الجنَّة عند رؤية الربِّ تعالى وسماع كلامه على أتمِّ الوجوه، ولا تسمَّى سكرًا.

ونحن لا ننكر المعنى المشار إليه بهذا الاسم، وإنَّما المنكر تسميته بهذا

(1)

سقط من ش، د. وفي ر تقدَّم على «سبحانه» .

(2)

رسمه في ش، د، ت يحتمل:«ولذلك» .

(3)

«الطريق» سقط من ش. وكذا من د، ولكنه أصلح السياق بإدخال لام التعريف على «أئمة» .

ص: 230

الاسم، ولا سيَّما إذا انضاف إلى ذلك اسمُ (الشرب) وتسميةُ المعارف بـ (الخمر)، والواردات بـ (الكؤوس)، واللهِ جل جلاله بـ (الساقي)؛ فهذه الاستعارة والتسمية هي التي فتحت هذا الباب.

وأمَّا قوله: (وهو من مقامات المحبِّين خاصَّةً)، فلا بدَّ من بيان حقيقة السُّكر وسببه وتولُّده، وهل هو مقدورٌ أم غير مقدورٍ، وبيان انقسامه باعتبار ذاته وأسبابه ومحلِّه، لتكون الفائدة بذلك أتمَّ.

فنقول وبالله التوفيق: السُّكر لذّةٌ ونشوةٌ يغيب معها العقل الذي يحصل به التمييز ويعلم صاحبه ما يقول. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، فجعل

(1)

الغاية التي يزول بها حكم السُّكر: أن يعلم ما يقول

(2)

، فإذا علم ما يقول خرج عن

(3)

حدِّ السكران. قال الإمام أحمد: السكران من لم يعرف ثوبه من ثوب غيره، ونعلَه من نعل غيره

(4)

. ويُذكر عن الشافعيِّ أنَّه إذا اختلط كلامه المنظوم، وأفشى سرَّه المكتوم

(5)

.

فالسكر يجمع معنيين: وجودَ لذَّةٍ وعدمَ تمييزٍ، وقاصد السُّكر قد يقصدهما جميعًا، وقد يقصد أحدهما. فإنَّ النفس لها هوًى وشهواتٌ

(1)

ش، د:«فحصل» ، تصحيف.

(2)

«فجعل

يقول» ساقط من ر.

(3)

د، ر:«من» .

(4)

ذكره في «الإنصاف» (22/ 146) بنحوه من رواية حنبل.

(5)

انظر: «نهاية المطلب» (14/ 169).

ص: 231

تَلَذَّذُ

(1)

بإدراكها، والعلمُ بما في تلك اللذَّات من المفاسد العاجلة والآجلة يمنعها من تناولها، والعقل يأمرها بأن لا تفعلي، فإذا زال العلم الكاشف المميِّز والعقل الآمر الناهي انبسطت النفس في هواها، وصادفت مجالًا

(2)

واسعًا.

وحرَّم الله سبحانه السُّكر لسببين

(3)

ذكرهما في كتابه، وهما: إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين، والصدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة. وذلك يتضمَّن حصولَ المفسدة الناشئة من النُّفوس بواسطة زوال العقل، وانتفاءَ المصلحة التي لا تتمُّ إلَّا بالعقل؛ فإيقاع العداوة من الأوَّل، والصدُّ عن ذكر الله من الثاني.

وقد يكون سبب السُّكر غير تناول المسكر، إمَّا ألم شديد يُغيِّب العقل حتَّى يصير كالسكران، وقد يكون سببَه

(4)

مخوفٌ عظيمٌ هجم وهلةً واحدةً حتَّى غيَّب عقلَ من هجم عليه. ومِن هذا قوله تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج: 2]، فهم سكارى من الدهش والخوف، وليسوا سكارى

(5)

من الشراب، فسكرهم سكر خوفٍ ودهشٍ، لا سكر لذَّةٍ وطربٍ.

وقد يكون سببه قوَّة الفرح بإدراك المحبوب، بحيث يختلط كلامُه وتتغيَّر أفعاله، بحيث يزول عقله ويُعربد أعظم من عربدة شارب الخمر.

(1)

ت، ر:«تلتذ» .

(2)

ت: «محلا» ، تصحيف.

(3)

ت، ر:«لشيئين» .

(4)

زيد في هامش د: «أمر» مصححًا عليه.

(5)

ر: «بسكارى» .

ص: 232

وربَّما قتله سكرُ هذا الفرح بسببٍ

(1)

طبيعيٍّ، وهو انبساط دم القلب وهلةً واحدةً انبساطًا غير معتادٍ، والدَّم هو حامل الحارِّ الغريزيِّ، فيبرد القلب بسبب انبساط الدم عنه، فيحدث الموت. ومن هذا قول سكران الفرح بوجود راحلته في المفازة بعد أن استشعر الموت:«اللهمَّ أنت عبدي وأنا ربُّك» ، أخطأ من شدَّة فرحه

(2)

.

وسكرة الفرح فوق سكرة الشراب، فصوِّر في نفسك حال فقيرٍ مُعْدِمٍ، عاشقٍ للدُّنيا أشدَّ العشق، ظَفِر بكنزٍ عظيمٍ، فاستولى عليه آمنًا مطمئنًّا، كيف يكون سكره

(3)

؟ أو من غاب عنه غلامه بمالٍ له عظيمٍ مدَّة سنين حتَّى أضرَّ به العُدْم، فقَدِم عليه من غير انتظارٍ له بماله كلِّه وقد كسب أضعافه؟

وقد يوجبه غضبٌ شديدٌ، يحول بين الغضبان وبين تمييزه، بل قد يكون سكر الغضب أقوى من سكر الطرب، ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان»

(4)

.

ولا يستريب من شمَّ رائحة الفقه أنَّ الغضب إذا وصل بصاحبه إلى هذه الحال فطلَّق، لم يقع طلاقه. وقد نصَّ الإمام أحمد

(5)

على أنَّ الإغلاق الذي

(1)

ر: «لسبب» .

(2)

كما في حديث أنس عند مسلم (2474)، وهو في البخاري (6309) من طريق آخر مختصرًا، ليس فيه محل الشاهد.

(3)

ت، ر:«تكون سكرته» .

(4)

أخرجه أحمد (20389) ــ واللفظ له ــ والبخاري (7158) ومسلم (1717) من حديث أبي بكرة.

(5)

في رواية حنبل، كما في «زاد المسافر» لغلام الخلال (3/ 265، 273).

ص: 233

قال فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق»

(1)

أنَّه الغضب. وقال أبو داود

(2)

: أظنُّه الغضب. والشافعي يُسمِّي نذر اللِّجاج والغضب: نذر الغَلَق

(3)

، وذلك لأنَّ الغضبان قد انغلق عليه باب القصد والتمييز بشدَّة غضبه. وإذا كان الإكراه غَلَقًا، فالغضب

(4)

الشديد أولى أن يكون غلقًا. وكذلك السُّكر غلقٌ أيضًا، والجنون غلقٌ. فالغَلَق والإغلاق كلمةٌ جامعةٌ لمن انغلق عليه باب القصد والتمييز بسببٍ من الأسباب. [وقد أشبعنا الكلام في هذا في كتابنا المسمَّى بـ «إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان»]

(5)

.

فصل

ومن أسباب السُّكر: حبُّ الصُّور وغيرِها، سواءٌ كانت مباحةً أو محرَّمةً، فإنَّ الحبَّ إذا استحكم وقوي أسكر صاحبَه، وهذا مشهورٌ في أشعارهم وكلامهم، كما قال

(6)

:

(1)

أخرجه أحمد (26360) وأبو داود (2193) وابن ماجه (2046) والحاكم (2/ 198) من حديث عائشة بإسناد فيه ضعف، وقد تعقَّب الذهبي على الحاكم تصحيحه. وله إسناد آخر عند الدارقطني (3989) والبيهقي (7/ 357)، وفيه أيضًا ضعف وانقطاع. والحديث يحتمل التحسين بمجموعهما. وانظر:«تنقيح التحقيق» (2822) و «إرواء الغليل» (2047) و «أنيس الساري» (4433).

(2)

عقب الحديث (2193).

(3)

انظر: «الأم» (3/ 659، 664).

(4)

د: «فإن الغضب» .

(5)

ما بين الحاصرتين تفرَّدت به ر. والكتاب المذكور مطبوع عدة طبعات، منها طبعة دار عالم الفوائد بتحقيق أخينا الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن قائد.

(6)

في ر زيادة: «الشاعر» . والبيت لديك الجنِّ الحمصي في «ديوانه» (ص 224).

ص: 234

سُكرانِ سكرُ هوًى وسكرُ مُدامةٍ

ومتى إفاقةُ مَن به سُكران

وقال الآخر

(1)

من أبياتٍ:

[تسقيك من عينها خمرًا ومن يدها

خمرًا فما لك مِن سُكرَينِ من بدِّ]

(2)

لي سكرتان وللنَّدمان واحدةٌ

شيءٌ خُصِصتُ به من بينهم وحدي

وفي «المسند»

(3)

عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «حبُّك الشيءَ يُعمي ويُصمُّ» ، أي: يعمي عن رؤية مساوئ المحبوب، ويصمُّ عن سماع العذل واللَّوم، وإذا تمكَّن واستحكم

(4)

أعمى قلبَه وأصمَّه بالكلِّيَّة. وهذا أبلغ من السُّكر، فإذا انضمَّ إلى سكر المحبَّة فرحةُ الوصال قوي السُّكرُ وتضاعف، فيخرج صاحبه عن حكم العقل وهو لا يشعر. وأكثر ما ترى من عربدة العاشق المواصل وتخليطه هو من هذا السُّكر. ولكن لمَّا ألف الناس ذلك واشتركوا فيه لم ينكروه، وإنَّما ينكره من كان خارجًا عنه، فإذا أفاقوا

(5)

بين الأموات

(6)

علموا حينئذٍ أنَّهم كانوا في سكرتهم يعمهون.

(1)

ت، ر:«آخر» بدون لام التعريف. وهو أبو نواس كما في «طبقات الشعراء» لابن المعتز (ص 73).

(2)

هذا البيت تفرَّدت به ر.

(3)

برقم (21694) من حديث أبي الدرداء، وقد سبق تخريجه (3/ 377) وبيان ضعفه وأن الأشبه فيه الوقف.

(4)

ر: «واستمكن» .

(5)

ت: «أقاموا» .

(6)

ش، د، ت:«الأبواب» ، ثم أُصلح في د.

ص: 235

فصل

ومن أقوى أسباب السُّكر الموجبة له: سماع الأصوات المطربة، لا سيَّما إن كانت من صورةٍ مستحسنةٍ، وصادفت محلًّا قابلًا، فلا تَسَلْ

(1)

عن سكرة السامع، وهذا السُّكر يحدث عندها من جهتين:

إحداهما في نفسها، أنها

(2)

توجب لذَّةً قويَّةً ينغمر معها العقل.

الثانية: أنَّها تحرِّك النّفس إلى نحو محبوبها وجهته كائنًا ما كان؛ فيحصل بتلك الحركة والشوق والطلب، مع التخيُّل للمحبوب وإحضاره في النفس، وإدناء صورته إلى القلب، واستيلائها على الفكر= لذَّةٌ عظيمةٌ تقهر العقل، فتجتمع لذَّة الألحان ولذَّة الأشجان، فتُسكر الرُّوح سكرًا عجبًا

(3)

، أطيب وألذَّ من سكر الشراب، وتحصل به نشوةٌ ألذُّ من نشوة الشراب.

ومن هاهنا استشهد الشيخ على السُّكر بقول موسى عليه السلام لمَّا سمع كلام الربِّ جل جلاله: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]. وقد ذكر الإمام أحمد

(4)

وغيره: أنَّ الله سبحانه يقول يوم القيامة لداود: «مجِّدني

(1)

ر: «تسأل» .

(2)

«أنها» ساقطة من ت. وفي ر تقدَّمت قبل «في» .

(3)

ت، ر:«عجيبًا» .

(4)

في «الزهد» ــ كما في «حادي الأرواح» (1/ 552) و «الدر المنثور» (12/ 550)، وليس في القدر المطبوع منه ــ وابن أبي الدنيا في «صفة الجنة» (336) وأبو عوانة في «المستخرج» (4359) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (10/ 3240) والدِّينَوَري في «المجالسة» (705) والبيهقي في «البعث والنشور» (382) عن التابعي الزاهد مالك بن دينار بنحوه، فسَّر به قوله تعالى:{(39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ} .

ص: 236

بذلك الصوت الذي كنت

(1)

تمجِّدني به في الدُّنيا»، فيقول: يا ربِّ، كيف وقد أذهبته المعصية؟ فيقول:«أنا أردُّه عليك» ، فيقوم عند ساق العرش ويمجِّده، فإذا سمع أهل الجنَّة صوته استفرغ نعيمَ أهل الجنَّة.

وأعظم من ذلك إذا سمعوا كلام الربِّ ــ جل جلاله ــ وخطابَه لهم منه إليهم بلا واسطة، وقد ذكر

(2)

عبد الله بن أحمد في «كتاب السُّنَّة»

(3)

أثرًا في ذلك: كأنَّ الناس يوم القيامة لم يسمعوا القرآن

(4)

إذا سمعوه من الرحمن جل جلاله.

وإذا انضاف إلى ذلك: رؤيتهم وجهه الكريم الذي تغنيهم لذَّة رؤيته عن الجنَّة ونعيمها، فأمر لا تدركه العبارة، ولا قليلًا من كثيرٍ. وهذه صفة

(5)

لا تلج كلَّ أذن، وصَوْبٌ

(6)

لا يحيا به كلُّ أرض، وعينٌ لا يشرب منها كلُّ وارد، وسماعٌ لا يطرب عليه كلُّ سامع

(7)

، ومائدة لا يجلس عليها طُفيلي.

(1)

«كنت» من ت، ر.

(2)

«ذكر» سقط من ش، د. ثم أُلحق في الثاني:«روى» مصححًا عليه.

(3)

برقم (104) نشرة عادل آل حمدان، وأخرجه أيضًا الخلال في «السنة» (2/ 119 - نشرة عادل آل حمدان) وأبو يعلى في «إبطال التأويلات» (363) عن التابعي الثقة محمد بن كعب القرظي موقوفًا عليه من قوله. وقد روي عنه عن أبي هريرة مرفوعًا، ولا يصحّ.

(4)

أي: كأنهم لم يسمعوه قبل ذلك.

(5)

ر: «فهذا صوت» .

(6)

ر: «صيِّب»

(7)

«وسماع

سامع» ساقط من ر.

ص: 237

فلنرجع إلى ما نحن بصدده، فنقول: السُّكر سببه اللذَّة القاهرة للعقل، وسبب اللذَّة إدراك المحبوب. فإذا كانت المحبَّةُ قويَّةً وإدراكُ المحبوب قويًّا، كانت اللذَّة بإدراكه تابعةً لقوَّة هذين الأمرين

(1)

. فإن كان العقل قويًّا مستحكمًا لم يتغيَّر لذلك، وإن كان ضعيفًا حدث السُّكر المُخرج له عن حكمه، فقد يضاف إلى قوَّة الوارد، وقد يضاف إلى ضعف المحلِّ، وقد

(2)

يجتمع الأمران.

قال صاحب «المنازل»

(3)

: (وعيون الفناء لا تقبله، ومنازل العلم لا تبلغه).

لمَّا كان الفناء يُفني من العبد كلَّ ما سوى مشهوده، ويُفني معاني كلِّ شيءٍ، وكان السُّكر كما حدَّه بأنَّه سقوط التمالك في الطرب= كان في السَّكران بقيَّةٌ طَرِبَ بها، وأحسَّ بها بطربه، بحيث لم يتمالك في الطرب؛ والفناء يأبى ذلك، فحقائقه لا تقبل السُّكر. والحاصل: أنَّ الفناء استغراقٌ محضٌ، والسُّكر معه لذَّةٌ وطربٌ لا يتمالك صاحبها، ولا يقدر أن يعبِّر

(4)

عنها.

والمقصود: أنَّ السُّكر ليس من أعلى مقامات العارفين الواصلين، لأنَّ أعلى مقاماتهم هو الفناء عنده، فمقامهم لا يقبل السُّكر.

قوله: (ومنازل العلم لا تبلغه) صحيح، فإنَّ علم المحبَّة والشوق

(1)

«الأمرين» ساقط من ش، د.

(2)

«قد» ساقط من ش، د.

(3)

(ص 97).

(4)

ت، ر:«يفنى» .

ص: 238

والعشق شيء، وحال المحبَّة شيءٌ آخر، والسُّكر لا ينشأ من علم المحبَّة، وإنّما ينشأ من حالها. فكأنَّه يقول: السُّكر صفةٌ وحالة تعرض لمن مقامه فوق مقام العلم، ودون مقام الشُّهود والفناء. وهو مختصٌّ بالمحبَّة، لأنَّ المحبَّة هي آخر منزلةٍ يلتقي فيها مقدِّمةُ العامَّة وهم أهل طور العلم، وساقةُ الخاصَّة وهم أهل طور الشُّهود والفناء، فالبرزخ الحاصل بين المقامين هو مقام المحبَّة، فاختصَّ به السُّكر.

فصل

قال

(1)

: (وللسُّكر ثلاث علاماتٍ: الضِّيق عن الاشتغال بالخبرِ والتعظيمُ قائم، واقتحام لجَّة الشوقِ والتمكُّنُ دائم، والغرق في بحر السُّرورِ والصبرُ هائم).

يريد: أنَّ المحبَّ تَشْغَلُه شدَّةُ وجده بالمحبوب، وحضورُ قلبه معه، وذوبانُ جوارحه من شدَّة الحبِّ= عن سماع الخبر عنه. وهذا الكلام ليس على إطلاقه، فإنَّ المحبَّ الصادق أحبُّ شيءٍ إليه الخبرُ عن محبوبه وذكرُه، كما قال عثمان بن عفّان رضي الله عنه: لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله

(2)

. وقال بعض العارفين: كيف يشبعون من كلام محبوبهم، وهو غاية مطلوبهم؟

(1)

«المنازل» (ص 98).

(2)

أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على «الزهد» (ص 159) و «فضائل الصحابة» (775) ــ ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» (7/ 272) ــ من طريق سفيان بن عيينة عن عثمان، وهو ظاهر الانقطاع.

ص: 239

والذي يريده الشيخ وأمثاله بهذا الكلام: أنَّ المحبَّ الصادق يمتلئ قلبه بالمحبَّة، فتكون هي الغالبة عليه، فتحمله غلبتها وتمكُّنها على أن لا يغفل عن محبوبه، ولا يشتغل

(1)

قلبه بغيره البتَّة، فيسمع من الفارغين ما ورد في حقِّ المحبِّين، ويسمع منهم أوصاف حبيبه والخبر عنه، فلا يكاد يقدر على أن يسمع ذلك أبدًا، لضيق قلبه عن سماعٍ

(2)

من قلبٍ غافلٍ، وإلَّا فلو سمع هذا الخبر ممَّن هو شريكه في شَجْوه، وأنيسه في طريقه، وصاحبه في سفره، لما ضاق عنه ولاتَّسع له غاية الاتِّساع، فهذا وجه.

ووجهٌ ثانٍ وهو: أنَّ السكران بالمحبَّة قد امتلأ قلبه بمشاهدة المحبوب، فاجتمعت قوى قلبه وهمُّه وإرادتُه عليه، ومعاني الخبر فيها كثرةٌ وانتقالٌ من معنًى إلى معنًى، فقلبه يضيق في هذه الحال عنها حتَّى إذا صحا اتَّسع قلبه لها.

قوله: (والتعظيم قائم)، أي: ضيق قلبه عن اشتغاله بالخبر ليس اطِّراحًا له ورغبةً عنه، كيف وهو خبرٌ عن محبوبه واردٌ منه؟ بل لضيقه في تلك الحال عن الاشتغال به، وتعظيمُه قائمٌ في قلبه، فهو مشغولٌ بوجده وحاله عمَّا يفرِّقه عنه. وهذا يَحْسُن إذا كان المشتغَل به أحبَّ إلى حبيبه من المشتغَل عنه، فأمَّا إذا كان ما أعرض

(3)

عنه أحبَّ إلى الحبيب ممَّا اشتغل به فشَرْعُ المحبَّة يوجب عليه إيثارَ أعظم المحبوبين إلى حبيبه، وإلَّا كان مع نفسه ووَجْده ولذَّته.

(1)

ت: «يشغل» .

(2)

ر: «سماعه» .

(3)

ش، د:«أعرضه» ، خطأ.

ص: 240

قوله: (واقتحام لجَّة الشوق، والتمكُّن دائم)، اقتحام لجَّة الشوق هو ركوب بحره وتوسُّطُه، لا الدُّخول في حاشيته وطرفه. والتمكُّن المشار إليه هو لزوم أحكام العلم من العمل به، ولزومُ أحكام الورع، والقيامُ بالأوراد الشرعيَّة؛ فلزوم ذلك ودوامه علامة صحَّة الشوق.

قوله: (والغرق في بحر السُّرور، والصبر هائم) أي: يكون المحبُّ غريقًا في بحر السُّرور، لا

(1)

يفارقه السُّرور، حتَّى كأنَّه بحرٌ قد غرق فيه، فكما أنَّ الغريق لا يفارقه الماء، كذلك المحبُّ لا يفارقه السُّرور

(2)

.

ومن ذاق مقام المحبَّة عرف صحَّة ما يقوله الشيخ، فإنَّ نعيم المحبَّة في الدُّنيا رقيقة ولطيفة من نعيم الجنَّة في الآخرة، بل هو جنَّة الدُّنيا، فما طابت الدُّنيا إلَّا بمعرفته ومحبَّته، ولا الجنَّة إلَّا برؤيته ومشاهدته، فنعيم المحبِّ دائمٌ، وإن مزج بالآلام أحيانًا. فلو عرف المشغولون بغير الحقِّ سبحانه ما فيه أهلُ محبَّته وذكرِه ومعرفته من النعيم= لتقطعت قلوبهم حسراتٍ، ولعلموا أنَّ الذي حصَّلوه لا نسبة له إلى ما ضيَّعوه وحُرِموه.

كما قيل

(3)

:

ولا خير في الدُّنيا ولا في نعيمها

وأنت وحيدٌ مفردٌ غيرُ عاشق

(1)

ر: «ولا» .

(2)

«حتى كأنه

السرور» سقط من ش، د.

(3)

أنشده المؤلف في «روضة المحبين» (261) ومغلطاي في «الواضح المبين» (ص 64) بلا نسبة. وعامَّة الأبيات الآتية أنشدها المؤلف في «روضة المحبين» (ص 260 - 264).

ص: 241

وقال الآخر

(1)

:

وما الناس إلَّا العاشقون ذوو الهوى

ولا خير فيمن لا يحبُّ ويعشَقُ

وقال الآخر

(2)

:

هل العيشُ إلا أن تروح وتغتدي

وأنت بكأس العشق في الناس نشوانُ

(3)

وقال الآخر

(4)

:

وما تَلِفت إلَّا من العشق مُهجتي

وهل طاب عيشٌ لامرئٍ غيرِ عاشق

وقال الآخر

(5)

:

وما سرَّني أنِّي خليٌّ من الهوى

ولو أنَّ لي ما بين شرقٍ ومغرب

وقال آخر

(6)

:

ولا خير في الدُّنيا بغير صبابةٍ

ولا في نعيمٍ ليس فيه حبيبُ

(1)

هو العباس بن الأحنف في «ديوانه» (ص 197). وقد عزاه المؤلف إليه في «روضة المحبين» (ص 260).

(2)

الظاهر أن البيت صاغه المؤلف من بيتٍ لمسلم بن الوليد في «الواضح المبين» لمغلطاي (ص 64). انظر: «روضة المحبين» (ص 261).

(3)

د، ش، ت:«نشوانا» .

(4)

بلا نسبة في «الموشَّى» (ص 123) و «الواضح المبين» (ص 64).

(5)

بلا نسبة في «الزهرة» (ص 69) و «الموشَّى» (ص 123) و «الصناعتين» (ص 112)، ونسب في «العقد» (6/ 192) إلى مجنون بن عامر. وروايته عندهم:«شرقٍ إلى غربِ» .

(6)

بلا نسبة في «الواضح المبين» (ص 64) و «ديوان الصبابة» (ص 42).

ص: 242

وقال آخر

(1)

:

وما طابت الدُّنيا بغير محبَّةٍ

وأيُّ نعيمٍ لامرئٍ غيرِ عاشق

وقال آخر

(2)

:

اسكُنْ إلى سكنٍ تلذُّ بحبِّه

(3)

ذهب الزمان وأنت منفردُ

(4)

وقال آخر

(5)

:

إذا لم تذق في هذه الدار صبوةً

فموتك فيها والحياة سواءُ

وقال آخر

(6)

:

وما ذاق طعم العيش من لم يكن له

حبيبٌ إليه يطمئنُّ ويسكنُ

وقال آخر

(7)

:

ولا خير في الدُّنيا إذا أنت لم تَزُر

حبيبًا ولا وافى إليك حبيبُ

(1)

لم أجده إلا عند المؤلف في «روضة المحبين» (ص 263).

(2)

البيت لبشَّار بن برد في «ديوانه» (3/ 62).

(3)

ت: «تلذُّ به» ، ورواية الديوان:«تُسرُّ به» .

(4)

ر: «منفردٌ به» .

(5)

بلا نسبة في «ديوان الصبابة» (ص 42).

(6)

لم أجده إلا عند المؤلف في «روضة المحبين» (ص 264) و «رسالته إلى أحد إخوانه» (ص 33).

(7)

البيت للأقرع بن معاذ في «روضة المحبين» (ص 264) و «الواضح المبين» (ص 66)، وللورد بن الورد العجلي في «الزهرة» (ص 306)، ولرجل من بني عبس في «أمالي القالي» (2/ 40).

ص: 243

وقال آخر

(1)

:

يزور فتنجلي عنِّي همومي

لأنَّ جلاء حزني في يديه

ويمضي بالمسرَّة حين يمضي

لأنَّ حوالتي فيها عليه

وقال أبو المنجاب

(2)

: رأيت في الطواف فتًى نحيف الجسم، بيِّن الضعف، يلوذ ويتعوَّذ، وينشد:

وددت بأنَّ الحبَّ يُجمع كلُّه

فيُقذفُ في قلبي وينغلق الصدرُ

ولا ينقضي ما في فؤادي من الهوى

ومن فرحي بالحبِّ أو ينقضي العمرُ

والأخبار في المحبِّين وأشعارهم في ذلك أكثر من أن تُحصى.

هذا، وكلٌّ منهم معذَّبٌ بكل بمحبوبٍ سوى الحقِّ سبحانه ولو ظفر بوصاله، فما الظنُّ بمن قصر حبَّه على الحبيب الأوَّل

(3)

؟ وكلَّما دعته نفسه إلى محبَّة غيره تمثَّل بقول القائل

(4)

:

نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى

ما الحبُّ إلَّا للحبيب الأوَّل

(1)

هو إبراهيم بن أحمد بن محمد بن معالي الرقِّي الحنبلي (ت 703)، كما في «الوافي بالوفيات» (5/ 313). وللبيتين ثالث هو:

ولولا أنه يعد التلاقي

لكنت أموت من شوقي إليه

(2)

أسنده عنه الخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 336). وذكره المؤلف في «روضة المحبين» (ص 265 - 266) بأطول مما هنا.

(3)

«الأول» من ت، ر.

(4)

أبو تمَّام في «ديوانه» (4/ 253). وقد تقدم (ص 183).

ص: 244

قوله: (والصبر هائم)، أي: يكون غريقًا

(1)

في سروره بالمحبَّة وصبرُه مفقودٌ، و «الهَيَمان» هو التشتُّت والحيرة.

قوله

(2)

: (وما سوى هذا فحيرةٌ تنحل اسم السُّكر جهلًا، أو هيمانٌ يسمَّى باسمه جورًا)

يقول: وما سوى ما ذكرناه من العلامات الثلاث وإن كان من المحبَّة إلَّا أنَّه لا ينبغي أن يسمَّى سُكرًا، مثل الحيرة فإنَّها تعطى اسم السُّكر عند الجهَّال، ومثل الهيمان فإنَّه يسمِّيه من لا يعرف السُّكر سكرًا، وذلك جورٌ وخروجٌ عن التحقيق، وعدولٌ عن الصواب.

قوله

(3)

: (وما سوى ذلك فكلُّه يناقض البصائر، كسكر الحرص، وسكر الجهل، وسكر الشهوة).

أي: هذه الأنواع من السُّكر أنواع مذمومة تناقض البصائر، فسكر الحرص ينشأ من شدَّة الرغبة في الدُّنيا وعدم الزُّهد فيها، فالحريص عليها سكرانُ في صورة صاحٍ.

وكذلك سكر الجهل، فإنَّ الجهل جهلان: جهل العلم، وجهل العمل، فإذا تحكَّم الجهلان فلا تَسَلْ عن سكر صاحبهما

(4)

.

وكذلك سكر الشهوة، فإنَّ لها سكرًا أشدَّ من سكر الخمر. وكذلك سكر

(1)

ت: «غارقًا» .

(2)

«المنازل» (ص 98).

(3)

«المنازل» (ص 98) و «شرح التلمساني» (ص 542) واللفظ له.

(4)

في النسخ عدا ر: «صاحبها» .

ص: 245

الغضب، وسكر الفرح. وكذلك سكر السُّلطان والرياسة

(1)

، فإنَّ للرِّياسة سكرًا وعربدةً لا تخفى. وكذلك الشباب له سكرةٌ قويَّةٌ، وهي شعبةٌ من الجنون. وكذلك الخوف له سكرةٌ تحول بين الخائف وبين حكم العقل.

سكراتٌ خمسٌ إذا مُني المر

ءُ

(2)

بها صار ضحكةً للزمان

سكرة الحرص والحداثة والعشـ

ـق وسكر الشراب والسُّلطان

(3)

وآخر ذلك كلِّه سكرة الموت التي تأتي بالحقِّ؛ {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس: 30].

* * * *

(1)

«الرياسة» ساقط من ش، د.

(2)

«المرء» ساقط من ش، د.

(3)

البيتان أنشدهما التلمساني في «شرحه» (ص 542) بلا نسبة.

ص: 246

فصل

قال صاحب «المنازل»

(1)

: (باب الصَّحْو. قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ

(2)

} [سبأ: 23]).

وجه استدلاله بإشارة الآية: أنَّ الله سبحانه إذا تكلّم بالوحي صَعِقت الملائكة، وأخذهم شبه الغشي مِن تكلُّم الرب جل جلاله، فإذا كُشف الفزعُ عن قلوبهم، وجُلِّي عنها، وأفاقوا من ذلك الغشي، قال بعضهم لبعضٍ: ماذا قال ربُّكم؟ فيستخبر أهلُ كلِّ سماءٍ مَن يليهم، حتى ينتهي الأمر إلى أهل السماء السابعة، فيسألون جبريل: يا جبريل، ماذا قال الله؟ فيقول: الحقَّ، وهو العليُّ الكبير

(3)

.

قال

(4)

: (الصَّحو فوق السُّكر، وهو يناسب مقام البسط. والصحو مقامٌ صاعدٌ عن الانتظار، مغنٍ عن الطلب، طاهرٌ من الحرج، فإنَّ السُّكر إنَّما هو في الحقِّ، والصَّحو إنَّما هو بالحقِّ؛ وكلُّ ما كان في عين الحقِّ لم يخلُ من حيرةٍ، لا حيرة الشُّبهة، بل حيرة في مشاهدة نور العزَّة؛ وما كان بالحقِّ لم يخلُ من صحَّةٍ، ولم يُخَفْ عليه نقيصةٌ، ولم تتعاوره علَّة. والصحو من منازل

(1)

(ص 98).

(2)

أكملت الآية في ت، ر. والقدر المثبت موافق لمطبوعة «المنازل» و «شرح التلمساني» (ص 543).

(3)

انظر: «تفسير الطبري» (19/ 274 - 280)، وحديث ابن مسعود عند أبي داود (4738) وابن حبان (37).

(4)

«المنازل» (ص 98 - 99).

ص: 247

الحياة، وأودية الجمع، ولوائح الوجود).

قوله: (الصحو فوق السُّكر)، يعني: أنَّ السُّكر يكون في الانفصال، والصحو في الاتِّصال. وأيضًا فالسُّكر فناءٌ، والصحو بقاء. وأيضًا فالسُّكر غيبةٌ والصحو حضور. وأيضًا فالسُّكر غلبةٌ والصحو تمكُّن. وأيضًا فالسُّكر كالنوم والصحو كاليقظة.

وبعضهم يفضِّل مقام السُّكر على مقام الصحو ويقول: لولا البقيَّة التي بقيت فيه لما صحا، وينشد متمثِّلًا

(1)

:

ومهما بقيْ للصَّحو فيك بقيَّةٌ

يجد نحوك اللاحي سبيلًا إلى العذل

وهذا غلطٌ محضٌ لما ذكرنا. نعم، السُّكر فوق صحو الفراغ

(2)

، والسَّكران بالمحبَّة خيرٌ من الصاحي منها، والصَّاحي بها خيرٌ من السَّكران فيها.

قوله: (وهو يناسب مقام البسط)، وجه المناسبة بينهما: أنَّ الانبساط لا يكون إلَّا مع الصَّحو، وإلَّا فالسُّكر لا يحتمل الانبساط.

قوله: (والصَّحو مقامٌ صاعدٌ عن الانتظار) يعني: انتظار الحضور، فإنَّ الصاحي متمكِّنٌ في الحضور، ولذلك أشبه مقامه مقام البسط، فالصَّحو أعلى من أن يصحبه الانتظار، لأنَّ صاحبه قد اتَّصل، فهو لا ينتظر الاتِّصال. ولذلك قال:(مغنٍ عن الطلب)، فإنَّ الطالب إنَّما يطلب الوصول إلى

(1)

البيت للتلمساني من أبياتٍ ميمية أوردها النابلسي في «خمرة الحان» (ص 78)، وآخره:«إلى الظُّلم» . وقد أنشده المؤلف في «طريق الهجرتين» (2/ 503) أيضًا.

(2)

ر: «الصحو الفارغ» .

ص: 248

مطلوبه، وهذا قد اتَّصل، فصحوه مغنٍ له عن طلبه.

وهذا الكلام ليس على إطلاقه، فإنَّ الطلب لا يفارق العبد ما دامت الحياة تصحبه. نعم، صحوه مغنٍ

(1)

عن طلب حظٍّ من حظوظه، وأمَّا طلب محابِّ محبوبه ومراضيه فهو أكمل ما يكون لها طلبًا.

فإن قيل: مراد الشيخ أنَّه مغنٍ عن التوجُّه والسُّلوك، فإنَّه واصلٌ، والسالك في الطريق.

قلت: العبد لا يزال في الطريق حتَّى يلحق بالله، قال تعالى:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، وهو الموت بإجماع أهل العلم كلِّهم. قال الحسن: لم يجعل الله لعبادة المؤمنين

(2)

أجلًا دون الموت

(3)

.

وتقسيم أبناء الآخرة إلى طالبٍ وسالكٍ وواصلٍ: صحيحٌ باعتبارٍ، فاسدٌ باعتبارٍ؛ فكأنَّهم جعلوا السير إلى الله تعالى بمنزلة السير إلى بيته، فالناس ثلاثةٌ: طالبٌ للسَّفر، ومسافرٌ في الطريق، وواصلٌ إلى البيت.

وهذا موضعٌ زلَّت فيه أقدامٌ، وضلَّت فيه أفهامٌ، ولا بدَّ من تحقيقه. فنقول ــ وبالله التوفيق ومنه الاستمداد وهو المستعان ــ:

هذا المثال غير مطابقٍ، فإنَّ الوصول إلى البيت هو غاية الطريق، فإذا وصل فقد انقطعت طريقه، وانتهى سفره. وليس كذلك الوصول إلى الله، فإنَّ

(1)

زيد في د فوق السطر: «له» بخط مغاير.

(2)

ت: «المؤمن» . وفي المطبوع: «لعبادِه

»، تصحيف أفسد المعنى.

(3)

أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (18) ــ ومن طريقه ابن المقرئ في «معجمه» (720) ــ وأحمد في «الزهد» (ص 332 - 333) بنحوه.

ص: 249

العبد إذا وصل إلى الله جدَّ به سيرُه، وقوي سفره؛ فعلامة الوصول إلى الله: الجدُّ في السَّير، والاجتهاد في السَّفر.

وهذا الموضع هو مفرق الطريقين بين الموحِّدين والملحدين، فالملحد يقول: السفر وسيلةٌ، والاشتغال بالوسيلة بعد الوصول إلى الغاية بطالة، ومتى وصل العبدُ سقطت عنه أحكام السفر، وصار كما قيل

(1)

:

فألقت عصاها واستقرَّ بها النوى

كما قرَّ عينًا بالإياب المسافرُ

ودُعي بعض هؤلاء إلى الصلاة وقد أقيمت، فقال

(2)

:

يطالَب بالأوراد من كان غافلًا

فكيف بقلبٍ كلُّ أوقاته وردُ

وقيل لملحدٍ آخر منهم: لِمَ لا تصلِّي؟ فقال: أنتم مع أورادكم، ونحن مع وارداتنا!

وهؤلاء هم

(3)

الذين صاح بهم أئمَّة الطريق وأخرجوهم من دائرة الإسلام. وقال بعضهم: نعم وصلوا، ولكن إلى الشيطان لا إلى الرحمن. وقال آخر: وصلوا ولكن إلى سقر.

فكلُّ واصلٍ إلى الله: فهو طالبٌ له، وسالكٌ في طريق مرضاته.

نعم، بداية الأمر: الطلب، وتوسُّطه: السُّلوك، ونهايته: الوصول، وسيأتي بيان حقيقة الوصول الذي يشير إليه القوم في الباب الذي يلي هذا، إن شاء الله تعالى.

(1)

بيت سائر، اختُلف في قائله، وقد تقدَّم تخريجه (3/ 526).

(2)

لم نقف له على قائل، وقد تقدم البيت غير مرة (1/ 133، 380، 3/ 524).

(3)

ليست في ش، د.

ص: 250

والمقصود: أنَّ قوله: (مغنٍ عن الطلب) كلامٌ يحتاج إلى تأويلٍ وحملٍ على معنًى يصحُّ. فإمَّا أن يُحمَل على أنَّه مغنٍ عن تكلُّف الطلب، ولا يريد هذا المعنى

(1)

.

وإمَّا أن يُحمل على أنَّه مغنٍ عن رؤية الطلب، وهذا أقرب، ولا يريده.

وإمَّا أن يحمل على أنَّه قد وصل إلى مشاهدة الأوَّليَّة، حيث تنطوي الأكوان والأسباب، ولا يبقى للطلب تأثيرٌ البتَّة، فإنَّه من عين الجود، وحصول المطلوب لم يكن موقوفًا عليه ولا به، وإنَّما هو ممَّن وجود كلِّ شيءٍ به وحده، فهو المُوجِد والمُعِدُّ والمُمِدُّ، وبيده الأسباب وسببيَّتها وقُواها وموانعها ومُعارضها، فالأمر كلُّه

(2)

له وبه، ومصيره كلُّه

(3)

إليه. فهذا معنًى صحيحٌ في نفسه، ولكنَّ صاحب هذا المقام لا يستغني عن الطلب.

قوله: (طاهرٌ من الحرج) أي: خالٍ منه، لا حرج عليه، لأنَّه قائمٌ بوظائف العبوديَّة في سكره وصحوه.

قوله: (فإنَّ السُّكر إنَّما هو في الحقِّ، والصحو إنَّما هو بالحقِّ)، يريد: أنَّ السُّكر إنَّما هو في محبَّته والشوق إليه، فقلبه مستغرقٌ في الحبِّ. والصَّحو إنَّما هو بالحقِّ

(4)

، أي: بوجوده. وهذا كلامٌ يحتاج إلى شرحٍ وبيانٍ وعبارةٍ وافيةٍ بالغرض، فنقول والله المستعان:

(1)

أي أن صاحب «المنازل» لم يُرِده. والسياق في ر: «فلا يريد هذا على هذا المعنى» ، وفي هامشه:«لعله: يَرِد» .

(2)

في ت زيادة: «ليس» ، خطأ.

(3)

«كلُّه» سلقطة من ت، ر.

(4)

«يريد .. بالحق» ساقط من ت لانتقال النظر.

ص: 251

المحبُّ له حالتان: حالة استغراقٍ في محبَّةِ محبوبه، كاستغراق صاحب السُّكر في سكره. وذلك عند استغراقه في شهود جماله

(1)

وكماله، فلا يبقى فيه متَّسعٌ لسواه، ولا فضل لغيره، فإذا رآه من لم يعرف حاله ظنَّه سكرانًا

(2)

. فهذا استغراقٌ في محبوبه وصفاته ونعوته.

الحالة الثانية: حالة صحوٍ، يفيق فيها على عبوديَّته والقيام بمرضاته والمسارعة إلى محابِّه. وهو في هذه الحالة: به، أي متصرِّفٌ في أوامره ومحابِّه به، ليس غائبًا عنه بأوامره، ولا غائبًا به عن أوامره، فلا يَشْغَلُه واجبُ أوامره وحقوقه عن واجب محبَّته والإنابةِ إليه والرِّضا به، ولا يَشْغَله واجبُ حبِّه عن أوامره. بل هو مقتدٍ بإمام الحنفاء إبراهيم الخليل عليه السلام، فإنَّه كان في أعلى مقامات المحبَّة وهي الخلَّة، ولم يَشْغَله ذلك عن القيام بخصال الفطرة من الختان، وقصِّ الشارب، وتقليم الأظفار، فضلًا عمَّا هو فوق ذلك؛ فوفَّى المقامين حقَّهما، ولهذا أثنى الله سبحانه عليه بذلك فقال:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37].

قوله: (وكلُّ ما كان في عين الحقِّ لم يخلُ من حيرةٍ)، يريد بذلك تفضيلَ مقام الصحو على مقام السُّكر، ورفْعَه عليه، وأنَّ السُّكر لمَّا كان في عين الحقِّ كان مستلزمًا لنوعٍ من الحيرة.

ثمَّ استدرك فقال: (لا حيرة الشُّبهة)، فإنَّها تنافي أصل عقد الإيمان،

(1)

د، ش:«حاله» . ت: «حاله وجماله» .

(2)

ر: «سكر» . ت: «سكران» ، غير منصرف على الجادَّة. والصرف لغة لبعض العرب، فإنهم يصرفونه ويقولون في مؤنثه:«سكرانة» . انظر: «ارتشاف الضرب» (2/ 856).

ص: 252

(ولكن حيرة مشاهدة نور العزَّة)، وهي دهشةٌ تعتري المُشاهِد لأمرٍ عظيمٍ جدًّا لا عهد له بمثله؛ بخلاف مقام الصحو، فإنَّه لقوَّته وثباته وتمكُّنه لا يعرض له ذلك.

وحاصل كلامه: أنَّ

(1)

من كان ناظرًا في عين الحقيقة لزمته الحيرة، وهي حيرة مشاهدة أنوار العزَّة، لا حيرةُ مَن ضلَّ عن طريق مقصوده، فإنَّ الشُّبهة هي اشتباه الطريق على السالك بحيث لا يدري أعلى حقٍّ هو أم باطلٍ؟ وقد تقدَّم

(2)

بيان أنَّ مشاهدة نور الذات المقدَّسة في هذه الدار محالٌ، فلا نعيده.

قوله: (وما كان بالحقِّ لم يخلُ من صحَّةٍ، ولم يُخَف عليه نقيصةٌ، ولم تتعاوره علَّة)، هذا تقريرٌ منه لرفع مقام الصحو على مقام السُّكر، فإنَّه لمَّا كان بالله كان محفوظًا محروسًا من النفس والشيطان اللَّذَين هما مصدر كلِّ باطلٍ. وهذا الحفظ هو من معنى قوله:«فإذا أحببتُه كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها» ، فأين الباطل هاهنا؟ ثمَّ قال:«فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي»

(3)

تحقيقًا لحفظ سمعه وبصره وبطشه ومشيه.

وقوله: (ولم تتعاوره علَّة)، التعاور: الاختلاف، أي: لم تتخالف عليه العلل. والعلل: ملاحظة الأغيار، وطاعة القلب للسِّوى، وإجابته لداعيه.

(1)

من ت، ر.

(2)

(3/ 503).

(3)

أخرج البخاري (6502) أوَّله من حديث أبي هريرة، وليس فيه: «فبي يسمع

» إلخ، فهي زيادة لا تثبت، وقد سبق تخريجها (1/ 408).

ص: 253

قوله: (والصحو من منازل الحياة، وأودية الجمع، ولوائح الوجود)، هذا تقريرٌ أيضًا لرفع مقامه على مقام السُّكر، وقد تقدَّم ذكر الحياة ومراتبها وأقسامها.

والمناسبة بين الصَّحو والحياة: أنَّ الحياة هي المصحِّحة لجميع المقامات والأحوال، فهي التي ترمي على جميعها، كما ترمي الأودية أمواهَها

(1)

على البحار.

قوله: (وأودية الجمع) الجمع يراد به جمعُ

(2)

الوجود، وجمعُ الشُّهود، وجمعُ الإرادة؛ فالأوَّل جمع أهل الإلحاد الاتِّحاديَّة، والثّاني جمع أهل الفناء، والثالث جمع الرُّسل وورثتهم، كما سيأتي تفصيل ذلك في باب الجمع إن شاء الله تعالى

(3)

. فالصَّحو من أودية الجمع العالي، لا النازل ولا المتوسِّط.

قوله: (ولوائح الوجود)، اللَّوائح جمع لائحةٍ، وهي ما يلوح لك كالبرق وغيره، وسيأتي الكلام على الوجود الذي الصَّحوُ من لوائحه في بابه إن شاء الله تعالى.

* * * *

(1)

أي: مِياهها. د: «أمواجها» ، كأن الجيم زيدت لاحقًا بخط مغاير.

(2)

«جمع» سقطت من ش، د.

(3)

(ص 411).

ص: 254

فصل

قال صاحب «المنازل»

(1)

: (باب الاتِّصال. قال الله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8 - 9] أَيْأَسَ

(2)

العقولَ فقطع البحثَ بقوله: {أَوْ أَدْنَى} ).

كأنَّ الشيخ فهم من الآية: أنَّ الذي دنى فتدلَّى فكان من محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم

(3)

قاب قوسين أو أدنى: هو الله عز وجل. وهذا وإن قاله جماعةٌ من المفسِّرين، فالصحيح: أنَّ ذلك هو جبريل عليه الصلاة والسلام، فهو الموصوف بما ذُكر من أوَّل السُّورة إلى قوله:{وَلَقَدْ رَأَىهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 13 - 14]. هكذا فسَّره النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: قالت عائشة رضي الله عنها: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقال:«ذاكِ جبريل، لم أره في صورته التي خلق عليها إلَّا مرَّتين»

(4)

. ولفظ القرآن لا يدلُّ على غير ذلك من وجوهٍ:

أحدها: أنَّه قال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5]. وهذا جبريل الذي وصفه بالقوَّة في سورة التكوير، فقال:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ} .

الثاني: أنَّه قال: {ذُو مِرَّةٍ} [النجم: 6] أي: حَسَن الخَلْق، وهو الكريم

(1)

«المنازل» (ص 99).

(2)

ت، ر:«آيَسَ» ، وهما بمعنى.

(3)

«من محمد صلى الله عليه وسلم» ساقط من ت.

(4)

أخرجه مسلم (177) بنحوه. وهو في البخاري (3235) موقوفًا عليها.

ص: 255

المذكور في التكوير.

الثالث: أنَّه قال: {فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} ، وهو ناحية السماء العليا، وهذا استواء جبريل بالأفق. وأمَّا استواء الربِّ جل جلاله فعلى عرشه.

الرابع: أنَّه قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} ، فهذا دنوُّ جبريل وتدلِّيه إلى الأرض حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمَّا الدُّنوُّ والتدلِّي في حديث المعراج

(1)

، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان فوق السماوات، فهناك دنا الجبَّار ــ جل جلاله ــ منه وتدلَّى.

فالدُّنوُّ والتدلِّي في الحديث غير الدُّنوِّ والتدلِّي في الآية، وإن اتَّفقا في اللفظ.

الخامس: أنَّه قال: {وَلَقَدْ رَأَىهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} ، والمرئيُّ عند السِّدرة: هو جبريل قطعًا، وبهذا فسَّره النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال:«ذاك جبريل» .

السادس: أنَّ مفسِّر

(2)

الضمير في قوله: {وَلَقَدْ رَأَىهُ} ، وقولِه:{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} ، وقولِه:{فَاسْتَوَى} ، وقولِه:{وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} = واحدٌ، فلا

(1)

يشير إلى حديث شريك بن أبي نمر عن أنس عند البخاري (7517) وفيه: «حتى جاء سدرةَ المنتهى، ودنا الجبارُ ربُّ العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله فيما أوحى إليه: خمسين صلاة

». وهذه من الألفاظ التي تفرد بها شريك في هذا الحديث، وقد أنكرت عليه. انظر:«فتح الباري» لابن رجب (2/ 114).

(2)

د، ش، ت:«نفس» ، والظاهر أنه تصحيف.

ص: 256

يجوز أن يخالَف بين المفسِّر من غير دليلٍ.

السابع: أنَّه سبحانه ذكر في هذه السُّورة الرسولين الكريمين: الملكيَّ والبشريَّ، ونزَّه البشريَّ عن الضلال والغِواية، والملكيَّ عن أن يكون شيطانًا قبيحًا ضعيفًا، بل هو قويٌّ كريمٌ حَسَن الخَلْق. وهذا نظير المذكور في سورة التّكوير سواءً.

الثامن: أنّه أخبر هناك أنَّه رآه بالأفق المبين، وهاهنا أنَّه رآه بالأفق الأعلى، وهو واحدٌ وُصِف بصفتين، فهو مبينٌ وأعلى، فإنَّ الشيء كلَّما علا بانَ وظهر.

التاسع: أنَّه قال: {ذُو مِرَّةٍ} ، والمرَّة: الخَلْق الحَسَن المُحكَم، فأخبر عن حُسن خَلْق الذي علَّم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ ساق الخبر كلَّه عنه نسقًا واحدًا.

العاشر: أنَّه لو كان خبرًا عن الربِّ تعالى لكان القرآن قد دلَّ على أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه مرَّتين: مرَّةً بالأفق، ومرّةً عند سدرة المنتهى

(1)

، ومعلومٌ أنَّ الأمر لو كان كذلك لم يقل النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأبي ذرٍّ وقد سأله: هل رأيت ربّك؟ فقال: «نورٌ، أنَّى أراه؟!»

(2)

. فكيف يخبر القرآن أنَّه رآه مرَّتين ثمَّ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنَّى أراه» ؟ وهذا أبلغ من قوله: لم أَرَه، لأنَّه مع النفي يقتضي الإخبار عن عدم الرُّؤية فقط، وهذا يتضمَّن النفي وطرفًا من الإنكار على السائل، كما إذا قال لرجلٍ: هل كان كيت وكيت؟ فيقول: كيف يكون ذلك؟!

(1)

ت، ر:«السدرة» .

(2)

أخرجه مسلم (178).

ص: 257

الحادي عشر: أنَّه لم يتقدَّم للربِّ ــ جل جلاله ــ ذكرٌ يعود الضمير عليه في قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} . والذي يعود الضمير عليه لا يصلح له، وإنَّما هو لعبده.

الثاني عشر: أنَّه كيف يعود الضمير إلى ما لم يُذكَر، ويُترَك عوده إلى المذكور مع كونه أولى به؟

الثالث عشر: أنّه قد تقدَّم ذكر {صَاحِبُكُمْ} [النجم: 2]، وأعاد عليه الضمائر التي تليق به، ثمَّ ذكر بعده شديدَ القوى ذا المرَّةِ

(1)

وأعاد عليه الضمائر التي تليق به

(2)

، والخبر كلُّه عن هذين المفسِّرين، وهما: الرسول الملكيُّ والبشريّ.

الرابع عشر: أنَّه سبحانه أخبر أنَّ هذا الذي دنا فتدلَّى كان بالأفق الأعلى وهو أفق السماء، بل هو تحتها، فدنا من الأرض فتدلَّى من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودنوُّ الربِّ تعالى وتدلِّيه على ما في حديث شريكٍ

(3)

كان من فوق العرش لا إلى الأرض.

الخامس عشر: أنَّهم لم يُماروه ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ على رؤية ربِّه، ولا أخبرهم بها لتقع مماراتهم له عليها، وإنَّما مارَوه على رؤية ما أخبرهم به من الآيات التي أراه الله إيَّاها. ولو أخبرهم برؤية الربِّ تعالى لكان مماراتهم له عليها أعظمَ من مماراتهم على رؤية المخلوقات.

(1)

ت: «ذو المرة» .

(2)

«ثم ذكر

تليق به» ساقط من ش، د لانتقال النظر.

(3)

سبق لفظه وتخريجه قريبًا.

ص: 258

السادس عشر: أنّه سبحانه قرَّر صحَّة ما رآه وأنَّ مماراتهم له على ذلك باطلةٌ بقوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18]، ولو كان المرئيُّ هو الربُّ تعالى، والمماراة على ذلك منهم= لكان تقرير تلك الرُّؤية أولى، والمقامُ إليها أحوج، والله أعلم.

قوله: (أيأس العقول بقوله: {أَوْ أَدْنَى})، يعني: أنَّ العقول لا تقدر تثبت على معرفة اتِّصالٍ هو أدنى مِن قابِ قوسين. وهذا بناءً على ما فهمه من الآية، وإلَّا فالعقول غير آيسةٍ من دنوِّ رسوله الملكيِّ من رسوله البشريِّ، حتّى صار في القرب منه قاب قوسين أو أدنى من قوسين، فإنَّه دنوُّ عبدٍ من عبدٍ، ومخلوقٍ من مخلوقٍ.

يبقى أن يقال: فما فائدة ذكر {أَوْ} ؟

فيقال: هي لتقرير المذكور قبلها، وأنَّ القرب إن لم ينقص عن قدر قوسين لم يزد عليهما. وهذا كقوله:{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]، والمعنى: أنَّهم إن لم يزيدوا على المائة الألف لم ينقصوا عنها، فهو تقريرٌ لنصِّيَّة عدد المائة الألف، فتأمَّلْه.

قال

(1)

: (والاتِّصال ثلاث درجاتٍ، الدرجة الأولى: اتِّصال

(2)

الاعتصام، ثمَّ اتِّصال الشُّهود، ثمَّ اتِّصال الوجود. فاتِّصال الاعتصام: تصحيح القصد، ثمَّ تصفية الإرادة، ثمَّ تحقيق الحال).

أمَّا القسمان الأوَّلان ــ وهما: اتِّصال الاعتصام واتِّصال الشُّهود ــ فلا

(1)

«المنازل» (ص 99).

(2)

سقط من ش، د، ثم استدرك في الثاني لحقًا.

ص: 259

إشكال فيهما، فإنَّهما مقاما الإيمان والإحسان، فاتِّصال الاعتصام مقام الإيمان، واتِّصال الشُّهود مقام الإحسان. وعندي أنَّه ليس وراء ذلك مرمًى، وكلُّ ما يُذكر بعد ذلك من اتِّصالٍ صحيحٍ فهو من مقام الإحسان، فاتِّصال الوجود لا حقيقة له. ولكن لا بدَّ من ذكر مراد الشيخ وأهل الاستقامة بهذا الاتِّصال، ومرادِ أهل الإلحاد القائلين بوحدة الوجود منه، إذا انتهينا إلى ذكره إن شاء الله.

فأمَّا (اتِّصال الاعتصام)، فقد قال تعالى:{بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]، وقال:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء: 146]، وقال:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103].

فالاعتصام به نوعان:

اعتصام توكُّلٍ واستعانةٍ وتفويضٍ ولَجْءٍ وعياذٍ، وإسلام النفس إليه، والاستسلام له سبحانه.

والثاني: اعتصامٌ بوحيه، وهو تحكيمه دون آراء الرِّجال ومقاييسهم ومعقولاتهم، وأذواقهم وكشوفاتهم ومواجيدهم، فمن لم يكن كذلك فهو مُتخلٍّ من هذا الاعتصام.

فالدِّين كلُّه في الاعتصام به وبحبله، علمًا وعملًا، وإخلاصًا واستعانةً ومتابعةً، واستمرارًا على ذلك إلى يوم لقائه.

ص: 260

قوله: (ثمَّ اتِّصال الشُّهود)، تقدَّم ذكر المشاهدة قريبًا

(1)

، وبيَّنَّا أنَّ المشاهدة هي تحقيق مقام الإحسان. فالاتِّصال الأوَّل: اتِّصال العلم والعمل، والثاني: اتِّصال الحال والمعرفة.

قوله: (ثمَّ اتِّصال الوجود)، الوجود: الظفر بحقيقة الشيء، ومعاذ الله أن يريد الشيخ أنَّ وجود العبد يتَّصل بوجود الربِّ، فيصير الكلُّ وجودًا واحدًا، كما يظنُّه الملحد

(2)

، فإنَّ كفر النصارى جزءٌ يسير من هذا الكفر. وهو أيضًا كلامٌ لا معنى له، فإنَّ العبد ــ بل لا عبدَ في الحقيقة عندهم ــ لم يزل كذلك، ولو كان أفسق الخلق وأفجرهم، فنفس وجوده متَّصِلٌ بوجود ربِّه، بل هو عين وجوده، بل لا ربَّ عندهم ولا عبد!

وإنّما يريد الشَّيخ باتِّصال الوجود: أنَّ العبد يجد ربَّه بعد أن كان فاقدًا له، فهو بمنزلة من كان يطلب كنزًا ولا وصول له إليه، فظفر به بعد ذلك ووجده، واستغنى به غاية الغنى، فهذا اتِّصال الوجود، كما في الأثر:«اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كلَّ شيءٍ، وإن فُتُّك فاتك كلُّ شيءٍ»

(3)

.

وهذا الوجود من العبد لربِّه يتنوَّع بحسب حال العبد ومقامه، فالتائب الصادق في توبته إذا تاب إليه وجده غفورًا رحيمًا، والمتوكِّل إذا صدق في التوكُّل عليه وجده حسيبًا كافيًا، والداعي إذا صدق في الرغبة إليه وجده قريبًا مجيبًا، والمحبُّ إذا صدق في محبَّته وجده ودودًا حبيبًا، والملهوف إذا صدق

(1)

(ص 260).

(2)

أي: التلمساني في «شرحه» (ص 549 - 550).

(3)

سبق تخريجه (3/ 100).

ص: 261

في الاستغاثة به وجده كاشفًا للكرب مخلِّصًا منه

(1)

، والمضطرُّ إذا صدق في الاضطرار إليه وجده رحيمًا مغيثًا، والخائف إذا صدق في اللَّجْءِ إليه وجده مؤمِّنًا

(2)

له من المخوف، والراجي إذا صدق في الرجاء وجده عند ظنِّه به.

فمحبُّه وطالبه ومريده، ومن لا يبغي به بدلًا، ولا يرضى بسواه عوضًا، إذا صدق في محبَّته وإرادته وجده أيضًا وجودًا أخصَّ من تلك الوجودات، فإنَّه إذا كان المريد منه يجده، فكيف مريدُه ومحبُّه!

فيظفر هذا الواجد بنفسه وبربِّه. أمَّا ظفره بنفسه فتصير منقادةً له، مطيعةً له، تابعةً مرتاضةً

(3)

، غيرَ أبيَّةٍ ولا أمَّارةٍ، بل تصير خادمةً له مملوكةً بعد أن كانت مخدومةً مالكةً. وأمَّا ظفره بربِّه فقربُه منه وأنسه به، وعمارةُ سرِّه به، وفرحُه وسرورُه به أعظمَ فرحٍ وسرورٍ. فهذا حقيقة اتِّصال الوجود، والله المستعان.

قوله: (فاتِّصال الاعتصام: تصحيح القصد، ثمَّ تصفية الإرادة، ثمَّ تحقيق الحال).

قلت: تصحيح القصد يكون بشيئين: إفراد المقصود، وجمع الهمِّ عليه. وحقيقته توحيد القصد والمقصود، فمتى انقسم قصده أو مقصوده لم يكن صحيحًا. وقد عبَّر عنه الشيخ فيما تقدَّم

(4)

بأنَّه: (قصدٌ يبعث على الارتياض،

(1)

ت: «للكروب مخلصًا منها» .

(2)

في هامش د: «صوابه: مأمنًا» . والمثبت صواب لا غبار عليه.

(3)

ش، د، ر:«مرضاته» . في المطبوعات: «لمرضاته» . والمثبت من ت أقرب.

(4)

(1/ 202).

ص: 262