المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(الدرجة الثالثة: مشاهدة جمع - مدارج السالكين - ط عطاءات العلم - جـ ٤

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ الدّرجة الأولى: سرورُ ذوقٍ ذهبَ بثلاثة أحزانٍ:

- ‌الحزن الأوّل: حزنٌ أورثَه خوفُ الانقطاع

- ‌الحزن الثّالث: (حزنٌ بعثَتْه وحشةُ التّفرُّق)

- ‌(الدّرجة الثّانية: سرورُ شهودٍ، كشَفَ حجابَ العلم

- ‌(الدّرجة الثّالثة: سرورُ سماع الإجابة

- ‌ منزلة(1)السِّرِّ

- ‌ الثانية: صفاء القصد

- ‌ الثّالثة: صحّة السُّلوك

- ‌الطّبقة الثّالثة: طائفةٌ أسرَهم الحقُّ عنهم

- ‌النّفَس الثاني: نفَسٌ في حين التجلِّي

- ‌النّفَس الثّالث: نفَسٌ مطهّرٌ بماء القدس

- ‌ الدّرجة الأولى: الغربة عن الأوطان

- ‌(الدّرجة الثّانية: غُربة الحال

- ‌(الدّرجة الثّالثة: غُربة الهمّة

- ‌ الدّرجة الأولى: استغراق العلم في عين الحال

- ‌(الدّرجة الثّانية: استغراق الإشارة في الكشف

- ‌(الدّرجة الثّالثة: استغراق الشّواهد في الجمع

- ‌(الدّرجة الثّانية:

- ‌(الدّرجة الثّالثة:

- ‌ الدّرجة الأولى: تمكُّن المريد

- ‌(الدّرجة الثّانية: تمكُّن السّالك

- ‌(الدّرجة الثّالثة: تمكُّن العارف

- ‌ الدّرجة الأولى: مكاشفةٌ تدلُّ على التّحقيق الصّحيح

- ‌ الدّرجة الأولى: مشاهدة معرفةٍ

- ‌(الدرجة الثانية: مشاهدة معاينةٍ

- ‌(الدّرجة الثّالثة: مشاهدة جَمْعٍ

- ‌ الحياة الأولى: حياة العلم من موت الجهل

- ‌المرتبة الأولى: حياة(2)الأرض بالنّبات

- ‌المرتبة الثانية: حياة النُّموِّ والاغتذاء

- ‌المرتبة السّادسة: حياة الإرادة والهمّة والمحبة

- ‌ سببُ تخلُّفِ النّفس عن طلب هذه الحياة

- ‌(الحياة الثّانية: حياة الجمع من موت التّفرقة

- ‌(الحياة الثّالثة: حياة الوجود. وهي حياةٌ بالحقِّ

- ‌(الدرجة الثانية: اتِّصال الشُّهود

- ‌(الدرجة الثالثة: اتِّصال الوجود

- ‌(الثاني: انفصالٌ عن رؤية الانفصال

- ‌(الثالث: انفصالٌ عن اتِّصال

- ‌ الدرجة الأولى: معرفة الصِّفات والنُّعوت

- ‌ الفرق بين الصِّفة والنّعت

- ‌ كلُّ شركٍ في العالم فأصله التعطيل

- ‌القاعدة الثالثة: تعريف الحال بعد الوصول

- ‌الثالث: عدم تشبيهها بما للمخلوق

- ‌(الدرجة الثانية: معرفة الذات، مع إسقاط التفريق بين الصِّفات والذات

- ‌(الدرجة الثالثة: معرفةٌ مستغرقةٌ في محض التعريف

- ‌ الدرجة الأولى:

- ‌(الدرجة الثانية:

- ‌(الدرجة الثالثة:

- ‌(الدّرجة الثّالثة: أن لا يُناسِمَ رسمُك سبْقَه)

- ‌الثاني: وجود الحقِّ وجود عينٍ»

- ‌الثالث: وجود مقام اضمحلال رسمِ الوجود فيه

- ‌(الدّرجة الأولى: تجريد عين الكشف عن كسب اليقين)

- ‌(الدرجة الثانية: تجريد عين الجمع عن درك العلم)

- ‌(الدرجة الثالثة: تجريد الخلاص من شهود التجريد)

- ‌ تفريد الإشارة بالحقِّ

- ‌«الجمع» ينقسم إلى صحيح وباطل

- ‌المسألة الثّانية: قوله: (ويوجد بتبصير الحقِّ)

- ‌المسألة الثّالثة: قوله: (وينمو على مشاهدة الشّواهد)

- ‌الالتفاتُ إلى الأسباب ضربان: أحدهما شركٌ، والآخر عبوديّةٌ وتوحيدٌ

- ‌فصلقوله: (والصُّعود عن منازعات العقول)

الفصل: ‌(الدرجة الثالثة: مشاهدة جمع

ورَوَوا في ذلك أثرًا: «تَخلَّقوا بأخلاقِ الله»

(1)

.

وليس هاهنا غير التّعبُّد بالصِّفات الجميلة والأخلاق الفاضلة، التي يحبُّها الله ويجعلها لمن يشاء من عباده، فالعبد مخلوقٌ، وخِلْعته مخلوقةٌ، وصفاته مخلوقةٌ، والله سبحانه بائنٌ بذاته وصفاته عن خلقه، لا يُمازِجهم ولا يمازجونه، ولا يحلُّ فيهم ولا يحلُّون فيه، تعالى الله علوًّا كبيرًا.

فصل

قال

(2)

: ‌

‌(الدّرجة الثّالثة: مشاهدة جَمْعٍ

، تَجذِب إلى عين الجمع، مالكةً لصحّة الورود، راكبةً بحرَ الوجود).

صاحب هذه الدرجة أثبتُ عند الشيخ في مقام المشاهدة، وأمكنُ في مقام الجمع الذي هو حضرة الوجود، وأملكُ لحمل ما يَرِد عليه في مقامه من أنواع الكشوفات

(3)

والمعارف، ولذلك كانت مشاهدته مالكةً بصحة الورود؛ أي: تشهد لنفسها بصحّة ورودها إلى حضرة الجمع، وتشهد الأشياء كلُّها لها بالصِّدق، ويشهد المشهود أيضًا لها

(4)

بذلك، فلا يبقى عندها احتمال شكٍّ ولا ريبٍ.

(1)

حديث باطل لا أصل له، ذكره الغزالي في «المقصد الأسنى» (ص 150) وغيره. وانظر:«جامع المسائل» (6/ 124، 125)، و «الصفدية» (2/ 337)، و «السلسلة الضعيفة» (2822).

(2)

«المنازل» (ص 94).

(3)

ت: «المشوقات» .

(4)

ش، د:«اتصالها» .

ص: 135

وهذا أيضًا مَورِدٌ للملحد والموحِّد

(1)

:

فالملحد يقول: مشاهدة الجمع هي مشاهدة الوجود الواحد، الجامع لجميع المعاني والصُّور والقوى والأفعال والأسماء، و «حضرة الجمع» عنده هي حضرة هذا الوجود، ومشاهدة هذا الجمع تجذب إلى غيبة

(2)

.

قال

(3)

: وصفة هذا الجذب أن يَحُلَّ الحقُّ تعالى عُقَدَ خَلقيَّتِه بيد حقيقته

(4)

، فيرجع النُّور الفائض على صورة خَلقيَّتِه إلى أصله، ويرجع العبد إلى عدميّته، فيبقى الوجود للحقِّ، والفناء للخلق، ويقيم الحقُّ تعالى وصفًا من أوصافه، نائبًا عنه في استجلاء ذاته، فيكون الحقُّ هو المشاهد ذاتَه بذاته في طورٍ من أطوار ظهوره، وهي مرتبة عبده، فإذا أثبتَ الحقُّ تعالى عبدَه بعد نفيه ومحْوِه، وأبقاه بعد فنائه

(5)

، فعاد كما يعود السّكران إلى صحوه= وجدَ في ذاته أسرارَ ربِّه، وطورَ صفاته، وحقائقَ ذاته، ومعالمَ وجوده، ومطارحَ أشعّةِ نوره، ووجد خَلْقِيَّته أسماءَ مسمّى ذاته وعوده إليه، فيرى العبدُ ثبوتَ ذلك الاسم في حضرة سائر الأسماء المشيرة بدلالتها إلى الموجود

(6)

المنزَّه الأصل، المُوهِم الفرع، فيؤدِّي استصحابُ النّظر إلى أصله أنّ الفرع لم يفارِقْه هو إلّا بشكله، والشّكل على اختلاف ضروبه فمعنًى عدميٌّ

(1)

«والموحد» ليست في ت.

(2)

كذا في النسخ. وفي «شرح التلمساني» : «تجذب وجودَ العبد إلى حضرة الغيب» .

(3)

«شرح التلمساني» (ص 517).

(4)

في «شرح التلمساني» : «حقّيته» .

(5)

د: «قضائه» .

(6)

في «شرح التلمساني» : «وجوده» .

ص: 136

يفنَى

(1)

إمكانه في وجوبه.

فانظر ما في هذا الكلام من الإلحاد والكفر الصُّراح، وجعل عين المخلوق نفس عين الخالق، وأنّ الرّبّ سبحانه أقام نفسَ أوصافه نائبةً عنه في استجلاء ذاته، وأنّه شاهدَ ذاتَه بذاته في مراتب الخلق، وأنّ الإنسان إذا صحا من سُكره وجد في ذاته حقائق ذات الرّبِّ، ووجد خلقيَّتَه أسماء مسمّى ذاته، فيرى ثبوت ذلك الاسم في حضرة سائر الأسماء المشيرة بدلالتها إلى الوجود «المنزَّه الأصل» يعني عن الانقسام والتّكثُّر، «المُوهِم الفرع» يعني الذي يُوهِم فروعُه وتكثُّرُ مظاهرِه واختلافُ أشكاله أنّه متعدِّدٌ، وإنّما هو وجودٌ واحدٌ، والأشكال على اختلاف ضروبها أمورٌ عدميّةٌ، لأنّها ممكنةٌ، وإمكانها يفنى في وجوبها، فلم يبقَ إلّا وجوبُ الوجود، وهو واحدٌ وإن اختلفت الأشكال التي ظهر فيها، والأسماء التي أشارت إليه.

فالاتِّحاديُّ يُشاهد وجودًا واحدًا، جامعًا لجميع الصُّور والأنواع والأجناس، فاض عليها كلِّها، فظهر فيها بحسب قوابلها واستعداداتها.

وذلك الشُّهود يجذبه إلى انجذاب عزمه عن التّقيُّد بمعبودٍ معيّنٍ أو عبادةٍ معيّنةٍ، بل يبقى معبوده الوجود المطلق السّاري في الموجودات، بأيِّ معنًى ظهر، وفي أيِّ ماهيّةٍ تحقَّق، فلا فرقَ عنده بين السُّجود للصّنم والشّمس والقمر والنُّجوم وغيرها، كما قال شاعر القوم

(2)

:

وإن خَرَّ للأحجارِ في البُدِّ عاكفٌ

فلا تَعْدُ في الإنكارِ بالعصبيّةِ

(1)

في الأصول: «لتعيّن» . والتصويب من «شرح التلمساني» ، وسيشرحه المؤلف.

(2)

هو ابن الفارض، والأبيات من تائيته المشهورة، وليس في «ديوانه» ط. دار الكتب العلمية.

ص: 137

وإن عبدَ النّارَ المجوسُ وما انطفَتْ

كما جاء في الأخبار مُذْ ألفِ حجّةِ

فما عبدوا غيري ولا كان قصدُهم

سواي وإن لم يُظهِروا عقدَ نيّةِ

وما عقدَ الزُّنّارَ حكمًا سِوى يدي

وإن حلَّ بالإقرار لي فهي بيعتي

وكما قال عارفهم

(1)

: واعلم أنّ للحقِّ في كلِّ معبودٍ وجهًا يعرفه من عرفه، ويجهله من جهله، فالعارف يعرف من عبد، وفي أيِّ صورةٍ ظهر، قال:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]. قال

(2)

: وما قضى الله بشيء إلّا وقع، وما عُبِد غير الله في كلِّ معبودٍ.

فهذا مشهدُ الملحد.

والموحِّد يشاهد بإيمانه ويقينه ذاتًا جامعةً للأسماء الحسنى والصِّفات العلى، لها كلُّ صفة كمالٍ وكلُّ اسمٍ حسنٍ، وذلك يَجذِبه إلى نفس اجتماع همِّه على الله، وعلى القيام بفرائضه.

والطريق بمجموعها لا تخرج عن هذين الشيئين، وإن طوَّلوا العبارات ودقَّقوا الإشارات، فالأمر كلُّه دائرٌ على جمعِ الهمِّ على الله، واستفراغِ الوسع بغاية النصيحة في التقرُّب إليه بالنّوافل بعد تكميل الفرائض، فلا تُطوِّلْ ولا يُطوَّل عليك!

وشيخ الإسلام مراده بالجمع الجاذب إلى عين الجمع أمرٌ آخر بين

(3)

هذا وبين جمع أهل الوحدة وعينِ جَمْعهم، لا هو هذا ولا هذا، فهو دائرٌ

(1)

ابن عربي في «فصوص الحكم» (1/ 72).

(2)

المصدر نفسه (1/ 192).

(3)

ش، د:«من» . والتصويب من هامشهما.

ص: 138

على الفناء، لا تأخذه فيه لومة لائمٍ، وهو الجمع الذي يدندن حوله. وعينُ الجمع عنده هو تفرُّد الرّبِّ سبحانه بالأزليّة والدّوام، وبالخلق والفعل

(1)

، فكان ولا شيء، ويكون بعد كلِّ شيءٍ، وهو المكوِّن لكلِّ شيءٍ، فلا وجودَ في الحقيقة لغيره، ولا فعلَ لغيره، بل وجودُ غيرِه كالخيال والظِّلال، وفعلُ غيرِه في الحقيقة كحركات الأشجار والنّبات. وهذا تحقيق الفناء في شهود الرُّبوبيّة والأزليّة والأبديّة، وطيُّ بساط شهود الأكوان، فإذا ظهر هذا الحكم انمحقَ وجود العبد في وجود الحقِّ، وتدبيره في تدبير الحقِّ، فصار سبحانه هو المشهود بوجودٍ من العبد متلاشٍ مضمحلٍّ كالخيال والظِّلال.

ولا يَستعدُّ لهذا عندهم إلّا من اجتمعت إرادته على المراد وحده، حالًا لا تكلُّفًا، وطبعًا لا تطبُّعًا، فقد تنبعث الهمّة إلى أمرٍ وتتعلّق به، وصاحبها معرضٌ عن غيرِ مطلبه، متحلٍّ به، ولكنّ إرادة السِّوى كامنةٌ فيه، قد توارى حكمها واستتر، ولمّا يَزَلْ، فإنّ القلب إذا اشتغل بشيءٍ اشتغالًا تامًّا تَوارى عنه إرادتُه لغيره، والتفاتُه إلى ما سواه، مع كونه كامنًا في نفسه، مادّتُه حاضرةٌ عنده، فإذا وجد فجوةَ أدنى تخلٍّ من شاغلِه ظهر حكمُ تلك الإرادات التي كان سلطانُ شهوده يحول بينه وبينها.

فإذًا الجمعُ وعين الجمع ثلاث مراتب:

أعلاها: جمع الهمِّ على الله إرادةً ومحبّةً وإنابةً، وجمعُ القلبِ والرُّوح والنّفس والجوارح على

(2)

استفراغ الوُسْعِ في التّقرُّب إليه بما يحبُّه ويرضاه، دون رسوم النّاس وعوائدهم، فهذا جمعُ خواصِّ المقرّبين وسادتهم.

(1)

«وبالخلق والفعل» ليست في ت.

(2)

د: «عن» .

ص: 139

الثاني: الاستغراق في الفناء في شهود الرُّبوبيّة، وتفرُّد الرّبِّ سبحانه بالأزليّة والدّوام، وأنّ الوجود الحقيقيّ له وحده. وهذا الجمع دون الجمع الأوّل بمراتبَ كثيرةٍ.

الثالث: جمع الملاحدة الاتِّحاديّة وعينُ جمْعِهم؛ وهو جمع الشُّهود في وحدة الوجود.

فعليك بتمييز المراتب، لتسلم من المعاطب، والله المستعان. وسيأتي ذكر مراتب الجمع والتّمييز بين صحيحها وفاسدها في آخر باب التّوحيد من هذا الكتاب إن شاء الله.

قوله: (مالكةً لصحّة الورود)، أي: ضامنةً لصحّة ورودها، شاهدةً بذلك مشهودًا لها به، لأنّها فوق مشاهدة المعرفة، وفوق مشاهدة المعاينة.

قوله: (راكبةً بحرَ الوجود)، يعني: تلك المشاهدة راكبةٌ بحرَ الوجود، فهي في لُجَّةِ بحره، لا في أنواره ولا في بوارقه.

وقد تقدّم الكلام على مراده بالوجود، وأنّه وجود علمٍ ووجود عينٍ ووجود مقامٍ. وسيأتي تمام الكلام عليه في بابه إن شاء الله.

* * * *

ص: 140

فصل

قال شيخ الإسلام

(1)

: (باب المعاينة: قال الله تعالى: {(44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ} [الفرقان: 45]).

قلت: المعاينة مفاعلةٌ من العِيان، وأصلها من الرُّؤية بالعين، يقال: عاينَه إذا وقعت عينُه عليه، كما يقال: شافَهَه إذا كلَّمه شِفاهًا، وواجَهَه إذا قابله بوجهه. وهذا مستحيلٌ في هذه الدّار أن يظفر به بشرٌ.

وأمّا قوله تعالى: {(44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ} فالرُّؤية واقعةٌ على نفس مدِّ الظِّلِّ، لا على الذي مَدَّه سبحانه، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح: 15]، وقوله:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1]. فهاهنا أوقع الرُّؤية على نفس الفعل، وفي قوله:{(44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ} أوقعَها في اللّفظ عليه سبحانه، والمراد فِعْلُه من مدِّ الظِّلِّ، وهذا كلامٌ عربيٌّ بيِّنٌ معناه، غير محتملٍ ولا مجملٍ، كما قيل في العُزّى: كُفرانَكِ اليومَ لا سبحانَكِ، إنِّي رأيتُ الله قد أهانكِ

(2)

.

وهو كثيرٌ في كلامهم، يقولون: رأيتُ الله قد فعلَ كذا وكذا، والمراد رأيتُ فعْلَه. فالعيان والرُّؤية واقعٌ على المفعول، لا على ذاتِ الفاعل وصفتِه ولا فِعْلِه القائم به.

(1)

«المنازل» (ص 94).

(2)

قاله خالد بن الوليد عندما واجهها، ثم ضربها وفلق رأسها، كما في كتاب «الأصنام» لابن الكلبي (ص 25 - 26)، و «تلبيس إبليس» (ص 53 - 54)، و «إغاثة اللهفان» (2/ 965).

ص: 141

فصل

قال صاحب «المنازل»

(1)

: (المعاينات ثلاثة. إحداها: معاينة الأبصار. والثّانية: معاينة عين القلب، وهي معرفة الشّيء على نَعْته، علمًا يقطع الرِّيبة، ولا تَشُوبُه حيرةٌ. الثّالثة: معاينة عين الرُّوح، وهي التي تُعايِنُ الحقَّ عيانًا محضًا، والأرواح إنّما ظهرت

(2)

وأُكرِمت بالبقاء لِتُناغي سَنا الحضرة، وتُشاهِد بهاء العزّة، وتجذب القلوب إلى فناء الحضرة).

جعل الشّيخ المعاينة للعين والقلب والرُّوح، وجعل لكلِّ معاينةٍ منها حكمًا.

فمعاينة العين: هي رؤية الشّيء عيانًا، إمّا بانطباع صورة المرئيِّ في القوّة الباصرة عند أصحاب الانطباع، وإمّا باتِّصال الشُّعاع المنبسط من العين المتّصل بالمرئيِّ عند أصحاب الشُّعاع، وإمّا بالنِّسبة والإضافة الخاصّة بين العين وبين المرئيِّ عند كثيرٍ من المتكلِّمين. والأقوال الثّلاثة لا تخلو عن خطأٍ وصوابٍ، والحقُّ غيرها، وأنّ الله سبحانه جعل في العين قوّةً باصرةً، كما جعل في الأذن قوّةً سامعةً، وفي الأنف قوّةً شامّةً، وفي اللِّسان قوّةً ناطقةً، فهذه قُوًى أودعَها الله سبحانه هذه الأعضاءَ، وجعل بينها وبينها رابطةً، وجعل لها أسبابًا من خارجٍ

(3)

، وموانعَ تمنع حكمها، وكلُّ ما ذكروه من انطباعٍ ومقابلةٍ وشعاعٍ ونسبةٍ وإضافةٍ: فهو سببٌ وشرطٌ، والمقتضي هو القوّة القائمة بالمحلِّ. وليس الغرض ذكر هذه المسألة، فالمقصود أمرٌ آخر.

(1)

(ص 94).

(2)

كذا في الأصول وأكثر نسخ «المنازل» . وفي المطبوع منه: «طهرت» .

(3)

في هامش ش: «ومخارجها» .

ص: 142

وأمّا معاينة القلب: فهي انكشاف صورة المعلوم له، بحيث تكون نسبته إلى القلب كنسبة المرئيِّ إلى العين، وقد جعل الله سبحانه القلبَ يُبصِر ويَعمى، كما تبصر العين وكما تعمى، قال تعالى:{لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46]. فالقلب يرى ويسمع، ويعمى ويَصَمُّ، وعَماه وصَمَمُه أبلغ من عمى البصر وصممِه.

وأمّا ما يُثبِته متأخِّرو القوم من هذا القسم الثّالث وهو رؤية الرُّوح وسَمْعُها وإرادتها وأحكامها، التي هي أخصُّ من أحكام القلب= فهؤلاء اعتقادهم أنّ الرُّوح غير النّفس والقلب.

ولا ريبَ أنّ هاهنا أمورًا معلومةً، وهي: البدن، وروحه القائم به

(1)

، والقلب المشاهَد فيه وفي سائر الحيوان، والغريزة وهي القوّة العاقلة التي محلُّها القلب، ونسبتها إلى القلب كنسبة القوّة الباصرة إلى العين، والقوَّةِ السّامعة إلى الأذن، ولهذا تسمّى تلك

(2)

القوّة قلبًا، كما تُسمّى القوّة الباصرة بصرًا، قال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]، ولم يُرَدْ شكلُ القلب، فإنّه لكلِّ أحدٍ، وإنّما أريد القوّة والغريزة المودعة فيه.

والرُّوح هي الحاملة للبدن ولهذه القوى كلِّها، فلا قِوامَ للبدن ولا لقواه إلّا بها، ولها باعتبار إضافتها إلى كلِّ محلٍّ حكمٌ واسمٌ يخصُّها، فإذا أضيفتْ إلى محلِّ البصر سمِّيت بصرًا، وكان لها

(3)

حكمٌ يخصُّها هناك، وإذا أضيفت إلى

(1)

«به» ليست في ش.

(2)

«تلك» ليست في ش.

(3)

ش، د:«له» .

ص: 143

محلِّ السّمع سمِّيت سمعًا، وكان لها حكمٌ يخصُّها، وإذا أضيفت إلى محلِّ العقل وهو القلب سمِّيت قلبًا، ولها حكمٌ يخصُّها، وهي في ذلك كلِّه روحٌ.

فالقوّة الباصرة والسّامعة والعاقلة والنّاطقة روحٌ باصرةٌ وسامعةٌ وعاقلةٌ وناطقةٌ، ففي الحقيقة هذا العاقلُ الفاهمُ المُدرِك المحبُّ العارفُ المحرِّك للبدن الذي هو محلُّ الخطاب والأمر والنّهي= هو شيءٌ واحدٌ له صفاتٌ متعدِّدةٌ بحسب متعلَّقاته، فإنّه يُسمّى نفسًا مطمئنّةً ونفسًا لوّامةً ونفسًا أمّارةً، وليس هو ثلاثةَ أنفسٍ بالذّات والحقيقة، ولكن هو نفسٌ واحدةٌ لها صفاتٌ متعدِّدةٌ.

وهم يشيرون بالنّفس إلى الأخلاق والصِّفات المذمومة، فيقولون: فلانٌ له نفسٌ، وفلانٌ ليس له نفسٌ، ومعلومٌ أنّه لو فارقَ نفسَه مات، ولكن يريدون تجرُّده

(1)

عن صفات النّفس المذمومة.

والمحقِّقون

(2)

منهم

(3)

يقولون: إنّ النّفس إذا تلطَّفتْ وفارقتِ الرّذائلَ صارت روحًا، ومعلومٌ أنّها لم تُعْدَم، ويُخْلَقْ له مكانَها روحٌ لم تكن، ولكن عُدِمَتْ منها الصِّفاتُ المذمومة، وصار مكانَها الصِّفاتُ المحمودة، فسُمِّيت روحًا.

وهذا اصطلاحٌ مجرَّدٌ، وإلّا فالله سبحانه سمّاها نفسًا في القرآن في جميع أحوالها: أمّارةً، ولوّامةً، ومطمئنّةً. وقال:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42]، ويدخل في هذا جميع أنفس العباد حتّى الأنبياء، وسمَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم روحًا على الإطلاق، مؤمنةً كانت أو كافرةً، بَرَّةً أو فاجرةً،

(1)

ش، د:«مجردة» .

(2)

ش: «والمحقق» .

(3)

«منهم» ليست في د.

ص: 144

كقوله: «إنّ الرُّوح إذا قُبِضَ تَبِعَه البصرُ»

(1)

، وقوله:«إنّ الله قَبضَ أرواحَنا حيث شاء، وردَّها حيث شاء»

(2)

، وقوله في حديث قَبْض الرُّوح وصفته: فإن كان مؤمنًا كان كذا وكذا، وإن كان كافرًا كان كذا وكذا

(3)

. فسمّى المقبوض روحًا، كما سمّاه الله في كتابه نفسًا، وهذا المقبوض والمتوفّى شيءٌ واحدٌ، لا ثلاثةٌ ولا اثنان، وإذا قُبض تبعتْه القوى كلُّها: العقل وما دونه؛ لأنّه كان حامل الجميع ومَرْكبه

(4)

.

إذا عُرِف هذا، فالمعاينة نوعان: معاينة بصرٍ، ومعاينة بصيرةٍ. فمعاينة البصر: وقوعه على نفس المرئيِّ أو مثالِه الخارجيِّ، كرؤية مثال الصُّورة في المرآة والماء. ومعاينة البصيرة: وقوع القوّة العاقلة على المثال العلميِّ المطابق للخارجيِّ، فيكون إدراكه له بمنزلة إدراك العين للصُّورة الخارجيّة

(5)

، وقد يقوى سلطان هذا الإدراك الباطن، بحيث يصير الحكم له، ويقوى استحضار القوّة العاقلة لمدركها

(6)

، بحيث يستغرق فيه، فيغلب حكمُ القلب على حكم الحسِّ والمشاهدة، فيستولي على السّمع والبصر، بحيث يراه ويسمع خطابه في الخارج، وهو في النّفس والذِّهن، لكن لغلبة

(1)

أخرجه مسلم (920) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.

(2)

رواه مالك في «الموطأ» (26) من حديث زيد بن أسلم مرسلًا، وهو صحيح بشواهده المسندة. انظر:«التمهيد» (5/ 204).

(3)

يشير إلى حديث البراء بن عازب الطويل الذي أخرجه أحمد (18534)، وأبو داود (4753)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 37، 38). وهو حديث صحيح.

(4)

«ومركبه» ليست في ت.

(5)

ت: «الخارجة» .

(6)

د: «ليدركها» .

ص: 145

الشُّهود وقوّةِ الاستحضار وتمكُّنِ حكم

(1)

القلب واستيلائه على القوى صار كأنّه مرئيٌّ بالعين، مسموعٌ بالأذن، بحيث لا يشكُّ المُدرِك في ذلك ولا يرتاب البتّةَ، ولا يقبل عذلًا.

وحقيقة الأمر: أنّ ذلك كلّه شواهدُ وأمثلةٌ علميّةٌ تابعةٌ للمعتقد، فذلك الذي أدرك بعين القلب والرُّوح إنّما هو شاهدٌ دالٌّ على الحقيقة، وليس نفس الحقيقة

(2)

، فإنّ شاهِدَ نورِ جلال الذّات في قلب العبد ليس هو نفس نور الذّات الذي لا تقوم له السّماوات والأرض، فإنّه لو ظهر لها لتدكدكتْ، وأصابَها ما أصاب الجبل. وكذلك شاهدُ نورِ العظمة في القلب، إنّما هو نور التّعظيم والإجلال، لا نور نفس المعظّم ذي

(3)

الجلال والإكرام.

وليس مع القوم إلّا الشّواهد والأمثلة العلميّة، والرّقائق التي هي ثمرة قرب القلب، وأنسه به، واستغراقه في محبّته وذكره، واستيلاء سلطان معرفته عليه، والرّبُّ تبارك وتعالى وراء ذلك كلِّه، منزّهٌ مقدّسٌ عن اطِّلاع البشر على ذاته أو أنوارِ ذاته، أو صفاتِه أو أنوار صفاته، وإنّما هي الشّواهد التي تقوم بقلب العبد، كما يقوم بقلبه شاهدٌ من الآخرة والجنّة والنّار وما أعدّ الله لأهلها.

وهذا هو الذي وجده عبد الله بن حَرامٍ يومَ أحدٍ، لمّا قال: واهًا لريح

(4)

الجنّة! إنِّي أجدُ ريحَها دون أُحُدٍ

(5)

. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مررتم برياض

(1)

«حكم» ليست في د.

(2)

«فذلك

الحقيقة» ساقطة من ت.

(3)

ر: «ذو» . ت: «حسن» .

(4)

ر: «لروح» .

(5)

قالها أنس بن النضر رضي الله عنه، كما أخرجه البخاري (2805)، ومسلم (1903) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 146

الجنّة فارْتَعُوا»

(1)

. قالوا: وما رياض الجنّة؟ قال: «حِلَقُ الذِّكر»

(2)

. ومنه قوله: «ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنّة»

(3)

، فهو روضةٌ لأهل العلم والإيمان، لِما يقوم بقلوبهم من شواهد الجنّة، حتّى كأنّها لهم رأيَ عينٍ، وإذا قعد المنافق هناك لم يكن ذلك المكان في حقِّه روضةً من رياض الجنّة. ومن هذا قوله:«الجنّة تحت ظلال السُّيوف»

(4)

.

فالعمل إنّما هو على الشّواهد، وعلى حسب شاهد العبد يكون عملُه.

ونحن نشير بعون الله وتوفيقه إلى الشّواهد إشارةً يُعلَم بها حقيقة الأمر.

فأوّل شواهد السّائر إلى الله والدّار الآخرة: أن يقوم به

(5)

شاهدٌ من الدُّنيا وحقارتها، وقلّة وفائها، وكثرة جفائها، وخِسَّة شركائها، وسرعة انقضائها، ويرى أهلها وعشّاقها صَرْعى حولَها، قد بَدَّعتْ

(6)

بهم، وعذَّبتْهم

(1)

ش، د:«فارتعوها» .

(2)

أخرجه أحمد والترمذي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بإسناد ضعيف. وله شاهد من حديث جابر رضي الله عنه عند أبي يعلى والحاكم وغيرهما، وهو ضعيف أيضًا. وقد تقدَّم تخريج الحديث مفصَّلًا في المجلد الثالث (ص 216).

(3)

أخرجه البخاري (1195) عن عبد الله بن زيد المازني، و (1196) عن أبي هريرة رضي الله عنهما. وأخرجه أيضًا مسلم (1390، 1391).

(4)

أخرجه البخاري (2818) من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه. وأخرجه مسلم (1902) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(5)

في هامش ر: لعله «بقلبه» .

(6)

مِن «أَبدَعَت الراحلةُ به» : كلَّت أو عطِبت، ولم يرد في كتب اللغة «بدَّع» بهذا المعنى.

ص: 147

بأنواع العذاب، وأذاقتْهم أمرَّ الشّراب، أضحكتْهم قليلًا وأبكَتْهم طويلًا، سَقَتْهم كؤوسَ سُمِّها بعد كؤوس خمرها، فسَكِروا بحبِّها، وماتوا بهجرِها.

فإذا قام بالعبد هذا الشّاهد منها ترحَّلَ قلبه عنها، وسافر في طلب الدّار الآخرة، وحينئذٍ يقوم

(1)

بقلبه شاهدٌ من الآخرة ودوامها، وأنّها الحيوان حقًّا، فأهلُها لا يرتحلون منها، ولا يَظْعَنون عنها، بل هي دار القرار، ومحطُّ الرِّحال، ومنتهى السّير، وأنّ الدُّنيا بالنِّسبة إليها كما قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«ما الدُّنيا في الآخرة إلّا كما يجعل أحدُكم إصبعَه في اليمِّ، فلينظر بم تَرجِع؟»

(2)

. وقال بعض التّابعين: ما الدُّنيا في الآخرة إلّا أقلُّ من ذرّةٍ واحدةٍ في جبال الدُّنيا.

ثمّ يقوم بقلبه شاهدٌ من النّار، وتوقُّدِها واضطرامها، وبُعْدِ قَعْرِها، وشدّة حرِّها، وعظيم

(3)

عذاب أهلها، فيشاهدهم وقد سِيقوا إليها سُودَ الوجوه، زُرْقَ العيون، والسّلاسل والأغلال في أعناقهم، فلمّا انتهوا إليها فُتِحت في وجوههم أبوابها، فشاهدوا ذلك المنظر الفظيع، وقد تقطّعت قلوبهم حسرةً وأسفًا، {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف: 53].

فيراهم

(4)

شاهد الإيمان وهم إليها يُدفَعون، وأتى النِّداء من قِبَل الرحمن أن قِفُوهم إنهم مسؤولون

(5)

، ثمّ قيل لهم: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ

(1)

ر: «فيقوم» .

(2)

أخرجه مسلم (2858) من حديث مُستَورِد رضي الله عنه.

(3)

ر: «وعظم» .

(4)

ت: «فرآهم» .

(5)

نظر إلى آية سورة الصافات: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} .

ص: 148

بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 14 - 16].

فيراهم شاهد الإيمان وهم في الحميم على وجوههم يُسحَبون، وفي النّار كالحطب يُسْجَرون، {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41]، فبئس اللِّحاف وبئس الفراش، وإن يستغيثوا من شدّة العطش يُغاثوا بماءٍ يشوي الوجوه

(1)

، فإذا شربوه قطَّع أمعاءهم في أجوافهم، وصَهَر ما في بطونهم، شرابُهم الحميم، وطعامهم الزّقُّوم {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 36 - 37].

فإذا قام بقلب العبد هذا الشّاهد انخلع من الذُّنوب والمعاصي، واتِّباع الهوى، ولبسَ ثيابَ الخوف والحذر، وأخصبَ

(2)

قلبُه من مَطرِ أجفانه، وهان عليه كلُّ مصيبةٍ في غير دينه وقلبه.

وعلى حسب قوّة هذا الشّاهد يكون بُعْدُه من المعاصي والمخالفات، فيُذِيب هذا الشّاهدُ من قلبه الفضلاتِ والموادَّ المهلكة، ويَنْضَحُها ثمّ يُخرِجها، فيجد القلب لذّةَ العافية وسرورها.

فيقوم به بعد ذلك شاهدٌ من الجنّة، وما أعدَّ الله لأهلها فيها ممّا لا عينٌ

ص: 149

رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطَرَ على قلب بشرٍ، فضلًا عمّا وصفه لعباده على لسان رسوله من النّعيم المفصّل، الكفيل بأعلى أنواع اللّذّة، من المطاعم والمشارب، والملابس والصُّور، والبهجة والسُّرور، فيقوم بقلبه شاهدُ دارٍ قد جعل النّعيم المقيم الدّائم بحذافيره فيها، ترابُها المِسك، وحصباؤها الدُّرُّ، وبناؤها لَبِنُ الذّهب والفضّة وقَصَبُ اللُّؤلؤ، وشرابها أحلى من العسل، وأطيب رائحةً من المسك، وأبرد من الكافور، وألذُّ من الزّنجبيل، ونساؤها لو برزَ وجهُ إحداهنّ في هذه الدُّنيا لغلبَ على ضوء الشّمس، ولباسهم الحرير من السُّندس والإستبرق، وخَدَمُهم وِلدانٌ كاللُّؤلؤ المنثور، وفاكهتهم دائمةٌ، لا مقطوعةٌ ولا ممنوعةٌ، وغذاؤهم لحمُ طيرٍ ممّا يشتهون، وشرابهم عليه خمرةٌ لا فيها غَوْلٌ ولا هم عنها يُنزَفُون، وخضرتهم فاكهةٌ ممّا يتخيّرون، ومشاهدهم حورٌ عِينٍ كأمثال اللُّؤلؤ المكنون، فهم على الأرائك متّكئون، وفي تلك الرِّياض يُحبَرون، وفيها ما تشتهي

(1)

الأنفس وتلذُّ الأعين وهم فيها خالدون.

فإذا انضمَّ إلى

(2)

هذا الشّاهد شاهدُ يومِ المزيد، والنّظر إلى وجه الرّبِّ جل جلاله، وسماعِ كلامه منه بلا واسطةٍ، كما قال صلى الله عليه وسلم: «بَيْنا أهل الجنّة في نعيمهم إذ سطَعَ لهم نورٌ، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرّبُّ تبارك وتعالى قد أشرفَ عليهم من فوقهم، وقال

(3)

: يا أهل الجنّة، سلامٌ عليكم. ثمَّ قرأ قوله:{سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]، ثمَّ يتوارى عنهم، وتبقى رحمته وبركته في

(1)

ر، ت:«تشتهيه» .

(2)

«إلى» ليست في ش، د.

(3)

«وقال» ليست في د.

ص: 150

ديارهم»

(1)

.

فإذا انضمّ هذا الشّاهد إلى الشاهد الذي قبله فهناك يسير القلب إلى ربِّه أسرعَ من سيرِ الرِّياح من مَهابِّها، فلا يلتفت في طريقه يمينًا ولا شمالًا.

هذا، وفوق ذلك شاهدٌ آخر تضمحلُّ فيه هذه الشّواهد، ويغيب العبد به عنها كلِّها، وهو شاهد جلالِ الرّبِّ تعالى وجمالِه وكماله، وعزِّه وسلطانه، وقيُّوميّته وعلوِّه فوق عرشه، وتكلُّمِه بكتبه وكلماتِ تكوينه، وخطابه لملائكته وأنبيائه.

فإذا شاهدَ بقلبه قيُّومًا قاهرًا فوقَ عباده، مستويًا على عرشه، منفردًا بتدبير مملكته، آمرًا ناهيًا، مرسلًا رسله، ومُنزِلًا كتبه، يرضى ويغضب، ويُثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويحبُّ ويبغض، يرحم إذا اسْتُرحِم، ويغفر إذا استُغْفِر، ويُعطي إذا سْئل، ويجيب إذا دُعي، ويُقِيل إذا استُقِيل، أكبرُ من كلِّ شيءٍ، وأعظمُ من كلِّ شيءٍ، وأعزُّ من كلِّ شيءٍ، وأقدرُ من كلِّ شيءٍ، وأعلمُ من كلِّ شيءٍ، وأحكمُ من كلِّ شيءٍ، فلو كانت قوى الخلائق كلِّهم على واحدٍ منهم، ثمّ كانوا كلُّهم على تلك القوّة، ثمّ نُسِبَتْ تلك القوى إلى قوّتِه تعالى لكانت أقلَّ من قوّة البعوضة بالنِّسبة إلى قوّة الأسد، ولو قُدِّر جمالُ الخلق كلُّهم على واحدٍ منهم، ثمّ كانوا كلُّهم بذلك الجمال، ثمّ نُسِب إلى جمال الرّبِّ تعالى لكان دونَ سِراجٍ ضعيفٍ بالنِّسبة إلى عين الشّمس، ولو كان علمُ الأوّلين والآخرين على رجلٍ منهم، ثمّ كان

(1)

أخرجه ابن ماجه (184) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. وفي إسناده الفضل بن عيسى الرقاشي متروك.

ص: 151

كلُّ الخلق على ذلك، ثمّ نُسِب إلى علم الرّبِّ تعالى لكان كنَقْرِة عصفورٍ من البحر.

وهكذا سائر صفاته، كسمعه وبصره وسائر نعوت كماله، فإنّه يسمع ضجيجَ الأصوات باختلاف اللُّغات على تفنُّن الحاجات، فلا يَشْغَلُه سمعٌ عن سمعٍ، ولا تُغلِّطه المسائل، ولا يَتبرَّمُ بإلحاح المُلِحِّين، سواءٌ عنده من أسرَّ القولَ ومن جهر به، فالسِّرُّ عنده علانيةٌ، والغيب عنده شهادةٌ، يرى دبيبَ النّملة السّوداء على الصّخرة الصّمّاء في اللّيلة الظّلماء، ويرى عُروقَ نِيَاطِها

(1)

ومجاريَ القُوتِ في أعضائها، يضع السّماوات على إصبعٍ من أصابع يده، والأرض على إصبعٍ، والجبالَ على إصبعٍ، والشّجر على إصبعٍ، والماء على إصبعٍ، ويقبض سماواتِه بإحدى يديه، والأرضين باليد الأخرى، والسّماوات السّبع في كفِّه كخَرْدلةٍ في كفِّ العبد. ولو أنّ الخلق كلَّهم من أوّلهم إلى آخرهم قاموا صفًّا واحدًا ما أحاطوا بالله عز وجل، لو كَشَفَ الحجابَ عن وجهه لأحرقَتْ سُبُحاتُه ما انتهى إليه بصره من خلقه.

فإذا قام بقلب العبد هذا الشّاهد اضمحلَّتْ فيه الشّواهد المتقدِّمة من غير أن تُعْدَم، بل تصير الغلبة والقهر لهذا الشّاهد، وتندرج فيه الشّواهد كلُّها، ومن هذا شاهدُه، فله

(2)

سلوكٌ وسيرٌ خاصٌّ، ليس لغيره ممّن هو عن هذا في غفلةٍ أو معرفةٍ مجملةٍ.

فصاحبُ هذا الشّاهد سائرٌ إلى الله في يقظته ومنامه، وحركته وسكونه،

(1)

نياط جمع نَوْط: عِرق غليظ ممتدّ من الرئتين عُلِّق به القلب.

(2)

ش، د:«شاهد قلبه» .

ص: 152

وفطرِه وصيامه، له شأنٌ وللنّاس شأنٌ، هو في وادٍ وهم في وادٍ.

خليليَّ لا واللهِ ما أنا منكما

إذا عَلَمٌ من آلِ ليلى بَدَا ليا

(1)

والمقصود: أنّ العيان والكشف والمشاهدة في هذه الدّار إنّما يقع على الشّواهد والأمثلة العلميّة، وهو المثل الأعلى الذي ذكره سبحانه في ثلاثة مواضع من كتابه: في سورة النّحل والرُّوم وسورة الشُّورى، وهو ما يقوم بقلوب عابديه ومحبِّيه والمنيبين إليه من هذا الشّاهد، وهو الباعث لهم على العبادة والمحبّة والخشية

(2)

والإنابة، وتفاوتُهم فيه لا ينحصر طرفاه، كلٌّ منهم له مقامٌ معلومٌ لا يتعدّاه. وأعظمُ النّاس حظًّا في ذلك معترفٌ بأنّه لا يُحصِي ثناءً عليه سبحانه، وأنّه فوقَ ما يُثنِي عليه المُثْنُون، وفوق ما يَحْمَدُه به الحامدون.

وما بلغَ المُهْدُونَ نحوَك مِدحةً

وإن أَطْنبوا إلَّا الذي فيك أعظمُ

لك الحمدُ كلُّ الحمدِ لا مبدأٌ له

ولا مُنتهى والله بالحمد أعلمُ

(3)

وطهارة القلب ونزاهتُه من الأوصاف المذمومة والإراداتِ السُّفليّة، وخلوُّه وتفريغُه من التّعلُّق بغيرِ الله سبحانه، هو كرسيُّ هذا الشّاهد

(4)

الذي

(1)

البيت للمجنون في «ديوانه» (ص 298).

(2)

«والخشية» ليست في ش.

(3)

أولهما بقافية (أفضلُ) من قصيدة للخنساء في «ديوانها» (ص 320)، ونُسب في «الزهرة» (2/ 579) إلى معن بن أوس، وفي «المصون» (ص 21) إلى أوس بن مغراء. ولعل المصنف ضمَّنه شعره بعد تبديل القافية.

(4)

ت: «الشأن» .

ص: 153

يجلس عليه، ومقعدُه الذي يتمكَّنُ فيه. فحرامٌ على قلبٍ متلوِّثٍ بالخبائث والأخلاق والصِّفات الذّميمة متعلِّقٍ بالمراداتِ السّافلة= أن يقوم به هذا الشّاهد أو يكون من أهله.

نَزِّهْ فؤادَك عن سِوانا وَائْتِنا

فجَنابُنا حِلٌّ لكلِّ مُنزِّهِ

والصَّبرُ طِلَّسمٌ لكنزِ لقائنا

مَن حَلَّ ذا الطِّلَّسمَ فازَ بكنزِهِ

(1)

إذا طلعتْ شمسُ التّوحيد، وباشرت حرارتُها

(2)

الأرواح، ونورُها البصائر= تجلَّتْ بها ظلمات النّفس والطّبع، وتحرّكت بها الروحُ في طلب من ليس كمثله شيءٌ، فسافر القلب في بيداء الأمر، ونزل منازلَ العبوديّة منزلًا منزلًا، فهو ينتقل من عبادةٍ إلى عبادةٍ، مقيمًا على معبودٍ واحدٍ، فلا تزال شواهد الصِّفات قائمةً بقلبه، تُوقِظه إذا رقد، وتُذَكِّره إذا غَفَل، وتَحْدُو به إذا سار، وتُقِيمه إذا قعد.

إن قام بقلبه شاهدٌ من الرُّبوبيّة والقيُّوميّة: رأى أنّ الأمر كلّه لله، ليس لأحدٍ معه من الأمر شيءٌ، {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهْوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 2 - 3]، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107]، {(37) وَلَئِنْ

(1)

أنشدهما المؤلف في «الفوائد» (ص 42، 112)، و «طريق الهجرتين» (2/ 579). وتقدما في الكتاب (2/ 87) ضمن تسعة أبيات، ولعلها من نظم المؤلف.

(2)

د: «حرارها» . ت: «جواذبها» .

ص: 154

سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ} [الزمر: 38]، {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ اَللَّهُ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ اَللَّهُ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89].

وإن قام بقلبه شاهدٌ من الإلهيّة: رأى في ذلك الشاهدِ الأمرَ والنّهيَ، والنُّبوّاتِ والكتبَ والشّرائع، والمحبّة والرِّضا، والكراهة والبغض، والثّواب والعقاب، وشاهدَ

(1)

الأمرَ نازلًا ممّن هو مستوٍ على عرشه، وأعمال العباد صاعدةٌ إليه معروضةٌ عليه، يَجزِي بالإحسان منها في هذه الدّار وفي العقبى نضرةً وسرورًا، ويَقْدَمُ إلى

(2)

ما لم يكن على أمره وشرْعِه منها فيجعله هباءً منثورًا.

وإن قام بقلبه شاهدٌ من الرّحمة: رأى الوجود كلَّه قائمًا بهذه الصِّفة، قد وَسِعَ مَن هي صفته كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا، فانتهتْ رحمته إلى حيث انتهى علمه، فاستوى على عرشه برحمته، يَسَعُ كلَّ شيءٍ، كما وسِعَ عرشُه كلَّ شيءٍ.

وإن قام بقلبه شاهدُ العزّة والكبرياء والعظمة والجبروت: فله شأنٌ آخر.

(1)

ت: «ورأى» .

(2)

«إلى» ليست في ش، د.

ص: 155

وهكذا جميعُ شواهد الصِّفات، وما ذكرناه أدنى تنبيهٍ عليها

(1)

، فالكشف والعيان والمشاهدة لا تتجاوز هذه الشّواهدَ البتّةَ. فلنرجِعْ إلى شرح كلامه.

فقوله في الدّرجة الثّانية: (إنّها معاينة عين القلب، وهي معرفة الشّيء على نعته)، لا يريد به معرفته على نعته الذي هو عليه في الخارج من كلِّ وجهٍ، فإنّ هذا ممتنعٌ على معرفة ما في الآخرة من المخلوقات، كما قال ابن عبّاسٍ: ليس في الدُّنيا ممّا في الآخرة إلّا الأسماء

(2)

، فكيف بمعرفة ربِّ الأرض والسموات؟ وغايةُ المعرفة: أن يتعلَّق به على نعته على وجهٍ مجملٍ أو مفصّلٍ تفصيلًا من بعض الوجوه.

قوله: (علمًا يقطع الرِّيبة، ولا تَشُوبه حَيرةٌ)، هذا حقٌّ، فإنّ المعرفة متى شَابَها ريبةٌ أو حيرةٌ لم تكن معرفةً صحيحةً، كما أنّ رؤية العين لو شَابَها ذلك لم تكن رؤيةً تامّةً، فالمعرفة ما قطعَ الشّكَّ والرِّيبة والوساوس.

قوله: (والمعاينة الثّالثة: معاينةُ عين الرُّوح، وهي التي تُعايِن الحقَّ عيانًا محضًا).

إن أراد بالحقِّ ضدَّ الباطل، أي: تعاين ما هو حقٌّ، بحيث ينكشف لها كما ينكشف المرئيُّ للبصر= فصحيحٌ. وإن أراد بالحقِّ الرّبَّ تبارك وتعالى، فإن لم يُحمَلْ كلامُه على قوّة اليقين، ومزيد الإيمان، ونزول الرُّوح في مقام

(1)

ت: «عليه» .

(2)

أخرجه مسدّد كما في «المطالب العالية» (5202)، وهنّاد في «الزهد» (3، 8)، والطبري في «تفسيره» (1/ 416)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 66).

ص: 156

الإحسان= وإلّا فهو باطلٌ، فإنّ الرّبّ تعالى لا يُعايِنه في هذه الدّار بصرٌ ولا روحٌ، بل المثال العلميُّ حظُّ الرُّوح والقلب، كما تقدّم.

قوله: (والأرواح إنّما ظهرت وأكرِمتْ بالبقاء، لتعاين سَنَا الحضرة، وتُشاهد بهاءَ العزّة، وتجذِبَ القلوب إلى فناء الحضرة).

يعني: أنّ الأرواح خُلِقت للبقاء لا للفناء، هذا هو الحقُّ، وما خالفتْ فيه إلّا شِرْذِمةٌ من النّاس من أهل الإلحاد القائلين: إنّ الأرواح تفنى بفناء الأبدان، لكونها قوّةً من قُواها، وعَرَضًا

(1)

من أعراضها.

وهؤلاء قسمان؛ أحدهما: مُنِكرو مَعادِ الأبدان، والثّاني: من يُقِرُّ بمعاد الأبدان، ويقول: إنّ الله يُعِيد قوى البدن

(2)

وأعراضه، ومنها الأرواح، فتفنى بفناء الأبدان. فليس عند الطّائفتين روحٌ قائمةٌ بنفسها، تُساكِنُ البدنَ وتُفارِقه، وتتّصل به وتنفصل عنه.

وأمّا الحقُّ الذي اتّفقت عليه الرُّسل وأتباعهم: فهو أنّ هذه الأرواح باقيةٌ بعد مفارقة أبدانها، لا تَفنى ولا تُعدَم، وأنّها

(3)

منعّمةٌ أو معذّبةٌ في البرزخ، فإذا كان يوم معاد الأبدان رُدَّتْ إلى أبدانها، فتنعَّم معها أو تُعذَّب، ولا تُعدَم ولا تفنى.

فقوله: (والأرواح إنما ظهرت وأُكرِمت بالبقاء لِتُعايِن سَنا الحضرة)،

(1)

ت، ر:«عرض» .

(2)

ر: «الأبدان» .

(3)

ش: «وإنما» .

ص: 157

يريد: الأرواح الطّاهرة الزّكيّة، وفي نسخةٍ:(لِتُناغِي سَنا الحضرة)، والأوّل أظهر وألصق بالباب الذي تَرجَمَه بباب المعاينة. والمراد بالحضرة: الحضرة الإلهيّة، وبالسّنا: النُّور الذي يلمع، قال تعالى:{يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ} [النور: 43]. ومعاينةُ ذلك إنّما هو في الدّار الآخرة، والمعاين هاهنا هو نور المعرفة والمثال العلميِّ.

قوله: (وتُشاهِد بَهاء العِزّة)، البهاء في اللُّغة: الحسن، قاله الجوهريُّ

(1)

، تقول منه: بَهِيَ الرّجلُ بالكسر وبَهُوَ أيضًا، فهو بَهِيٌّ.

والعزّة يراد بها ثلاث معانٍ: عزّة القوّة، وعزّة الامتناع، وعزّة القهر. والربُّ تعالى له العزّة التامّة بالاعتبارات الثّلاث، ويقال من الأوّل: عَزَّ يَعَزُّ بفتح العين في المستقبل، ومن الثاني: عَزَّ يَعِزُّ بكسرها، ومن الثالث: عَزَّ يَعُزُّ بضمِّها، أَعطَوا أقوى الحركات لأقوى المعاني، وأخفَّها لأخفِّها، وأوسطَها لأوسطها

(2)

. وهذه العزّة مستلزمةٌ للوحدانيّة، إذ الشّركة تنقُص العزّةَ، ومستلزمةٌ لصفات الكمال؛ لأنّ الشّركة تُنافي كمالَ العزّة، ومستلزمةٌ لنفي أضدادها، ومستلزمةٌ لنفي مماثلة غيرِه له في شيءٍ منها.

فالرُّوح تُعايِن بقوّة معرفتها وإيمانها بهاءَ العزّة وجلالها وعظمتَها، وهذه المعاينة هي نتيجة العقيدة الصّحيحة المطابقة

(3)

للحقِّ في نفس الأمر، المتلقّاة من مشكاة الوحي، فلا يَطمعُ فيها واقفٌ مع أقيسة المتفلسفين،

(1)

في «الصحاح» (بها). وما بعدها أيضًا منه.

(2)

انظر نحوه في «طريق الهجرتين» (1/ 231).

(3)

«المطابقة» ليست في ت.

ص: 158

وجَدَلِ

(1)

المتكلِّمين، وخيالاتِ المتصوِّفين.

قوله: (وتَجذِبُ القلوبَ إلى فِناء الحضرة)، هو بكسر الفاء؛ أي جانب الحضرة، يعني: أنّ الأرواح لقوّة طلبها وشدّةِ شوقها تَسُوقُ القلوب وتجذبها إلى هناك، فإنّ طلب الرُّوح وسيرها أقوى من طلب القلب وسيرِه، كما كانت معاينتها أتمَّ من معاينته. وبالجملة، فأحكام الرُّوح عندهم فوق أحكام القلب وأخصُّ منها.

والمقصود: أنّ الرُّوح متى عاينت الحقَّ جذَبتِ القوى كلَّها والقلبَ إلى حضرته، فينقاد معها انقيادًا بلا استعصاءٍ، بخلاف جَذْب القلب، فإنّ الجوارح قد تستعصي عليه بعض الاستعصاء، وتأبى شيئًا من الإباء. وأمّا جذْبُ الرُّوح فلا استعصاء معه ولا إباء، وبالله التّوفيق.

* * * *

(1)

ر: «وجدال» .

ص: 159

فصل

قال صاحب «المنازل»

(1)

: (باب الحياة. قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]).

استشهاده بهذه الآية في هذا الباب ظاهرٌ جدًّا، فإنّ المراد

(2)

بها: من كان ميِّتَ القلب بعدمِ روحِ العلم والهدى والإيمان، فأحياه الرّبُّ تعالى بروحٍ أخرى غير الرُّوح التي أحيا بها بدنه

(3)

، وهي روحُ معرفته وتوحيده ومحبّته وعبادته وحدَه لا شريك له؛ إذ لا حياة للرُّوح إلّا بذلك، وإلّا فهي في جملة الأموات، ولهذا وصفَ الله تعالى من عَدِمَ ذلك بالموت، فقال:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} ، وقال:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [النمل: 80].

وسَمَّى وحيه روحًا، لِما يحصُل به من حياة القلوب والأرواح، فقال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]. فأخبر أنّه روحٌ

(4)

تحصل به الحياة، ونورٌ تحصُل به الإضاءة. وقال تعالى:{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2]، وقال تعالى: {(14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ

(1)

(ص 95).

(2)

د: «فالمراد» .

(3)

ش: «بدونه» .

(4)

ت: «نور» ، خطأ.

ص: 160

عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ} [غافر: 15]. فبالوحي حياةُ الرُّوح، كما أنّ بالرُّوحِ حياة البدن، ولهذا من فقد هذا الرُّوح فقدَ الحياةَ النّافعة في الدُّنيا والآخرة، أمّا في الدُّنيا فحياته حياة البهائم، وله المعيشة الضَّنْك، وأمّا في الآخرة فله جهنّم لا يموت فيها ولا يحيا.

وقد جعل تعالى الحياةَ الطّيِّبة لأهل معرفته ومحبّته وعبادته، فقال تعالى:{يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا} [النحل: 97]. وقد فُسِّرت الحياة الطّيِّبة بالقناعة والرِّضا والرِّزق الحسن وغير ذلك

(1)

. والصّواب: أنّها حياة القلب ونعيمه وبهجته وسروره بالإيمان ومعرفة الله، ومحبّته، والإنابة إليه، والتّوكُّل عليه، فإنّه لا حياةَ أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيمَ فوق نعيمه إلّا نعيم الجنّة، كما كان بعض العارفين

(2)

يقول: إنّه لتمرُّ بي أوقاتٌ أقول فيها إن كان أهل الجنّة في مثل هذا إنّهم لفي عيشٍ طيِّبٍ. وقال غيره

(3)

: إنّه لَتَمرُّ بالقلب أوقاتٌ يَرقُص فيها طربًا.

وإذا كانت حياة القلب حياةً طيِّبةً تبعتْه حياة الجوارح، فإنّه مَلِكها، ولهذا جعل سبحانه المعيشةَ الضَّنْك لمن أعرض عن ذكره، وهي عكس الحياة الطّيِّبة.

(1)

انظر: «زاد المسير» (4/ 488، 489).

(2)

هو أبو سليمان المغربي، وقد سبق عزوه (2/ 88).

(3)

لم أجده، ولكن روي عن أبي سليمان الداراني ــ كما في «تاريخ دمشق» (34/ 147) ــ أنه قال:«لَأهل الطاعة في ليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم، ولربما رأيت القلب يضحك ضحكًا» .

ص: 161