الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله
(1)
:
(الدّرجة الثّالثة: أن لا يُناسِمَ رسمُك سبْقَه)
.
الرّسم هو الشخص عندهم، وهو محدثٌ مخلوقٌ، والرّبُّ تعالى هو القديم الخالق، فإذا تحقَّق العبد بالحقيقة شهد الحقَّ وحده منفردًا عن خلقه، فلم يُناسِم رسمُه سبْقَ الحقِّ وأوّليّته. والمناسمة كالمُشَامَّة، يقال: ناسَمَه، أي شَامَّه، فاستعار الشّيخ اللّفظة لأدنى المقاربة والملابسة، أي لا يداني رسمُك سبْقَه، ولو بأدنى مناسمةٍ، بل تشهد الحقَّ وحدَه منفردًا عن كلِّ ما سواه.
وهم يشيرون بذلك إلى أمرٍ، وهو أنّ الله سبحانه كان ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان.
فأمَّا اللّفظ الأوَّل وهو «كان الله ولا شيء معه» فهذا قد رُوي في «الصحيح»
(2)
في بعض ألفاظ حديث عمران بن حصينٍ، وإن كان اللفظ الثابت:«كان الله ولم يكن شيءٌ قبله»
(3)
، وهو المطابق لقوله في الحديث الآخر الصحيح:«أنت الأوّل فليس قبلك شيءٌ»
(4)
، ولم يقل: فليس معك شيءٌ.
وأمّا قوله: «وهو الآن على ما عليه كان» فزيادةٌ في الحديث ليست منه، بل زادها بعض المتحذلقين، وهي باطلةٌ قطعًا
(5)
، فإنّ الله مع خلقه بالعلم
(1)
المصدر نفسه.
(2)
البخاري (3191) بلفظ: «ولم يكن شيء غيره» ، وهو بمعناه. انظر:«فتح الباري» (6/ 289).
(3)
البخاري (7418).
(4)
رواه مسلم (2713) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
نبَّه عليه شيخ الإسلام في مواضع، انظر:«مجموع الفتاوى» (2/ 272 وما بعدها، 18/ 221)، و «جامع المسائل» (4/ 397)، و «الصفدية» (2/ 223)، وغيرها.
والتدبير والقدرة، ومع أوليائه بالحفظ والكلاءة والنُّصرة، وهم معه بالموافقة والمحبّة، وصارت هذه اللّفظة مِجَنًّا وتُرْسًا للملاحدة من الاتِّحاديّة، فقالوا: إنّه لا وجودَ سوى وجوده أزلًا وأبدًا وحالًا، فليس في الوجود إلّا الله وحده، وكلُّ ما تراه وتلمسه وتذوقه وتشمُّه وتباشره فهو حقيقةً الله.
وأمَّا أهل التوحيد فقد يُطلقون هذه اللفظة ويريدون بها معنًى صحيحًا، وهو أنّ الله سبحانه لم يزل منفردًا بنفسه عن خلقه، ليس مخالطًا لهم، ولا حالًّا فيهم، ولا مُمازِجًا لهم، بل هو بائنٌ عنهم بذاته وصفاته.
وأمَّا الشيخ وأرباب الفناء فقد يَعنُون معنًى أخصَّ من ذلك، وهو المشار إليه بقوله:(أن لا يُناسِمَ رسمُك سبْقَه)، أي لا ترى أنّك معه بل تراه وحده، ولهذا قال
(1)
: (فتسقطُ الشّهادات، وتبطُلُ العبارات، وتَفنى الإشارات)، يعني: أنّك إذا لم تشهد معه غيره، وأسقطتَ الغير من الشُّهود لا من الوجود، بخلاف ما يقول الملحد الاتِّحاديُّ: إنّك تُسقِط الغيرَ شهودًا ووجودًا= سقطت الشهاداتُ والعبارات والإشارات؛ لأنّها صفات العبد المُحدَث المخلوق، والفناءُ يوجب إسقاطها.
والمعنى: أنَّ الواصل إلى هذا المقام لا يرى مع الحقِّ سواه، فيمحو السِّوى في شهوده. وعند الملحد يمحوه من الوجود. والله الموفِّق.
* * * *
(1)
«المنازل» (ص 105).
فصل
قال
(1)
: (باب التلبيس. قال الله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9]).
ليته رحمه الله لم يستشهد بهذه الآية في هذا الباب، فإنّ الاستشهاد بها على مقصوده أبعدُ شاهدٍ عليه، وأبطلُه شهادةً. وليتَه لم يُسمِّ هذا الباب بالتّلبيس، واختار له اسمًا أحسنَ منه موقعًا
(2)
.
فأمّا الآية: فإنّ معناها غير ما عقد له الباب من كلِّ وجهٍ، فإنّ المشركين قالوا تعنُّتًا في كفرهم:{(7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ} [الأنعام: 8]، يَعْنُون: ملَكًا نشاهده ونراه، نشهد له ونصدِّقه، وإلّا فالملك كان ينزل عليه بالوحي من الله. فأجاب الله تعالى عن هذا، وبيَّن الحكمة في عدم إنزال الملك على الوجه الذي اقترحوه بأنّه لو أنزل ملَكًا كما اقترحوا، ولم يؤمنوا به ويصدِّقوه= لعُوجِلوا بالعذاب، كما استمرَّتْ به سنَّته تعالى مع الكفار في آيات الاقتراح إذا جاءتهم ولم يؤمنوا، فقال:{مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ} [الأنعام: 8]. ثمّ بيّن سبحانه أنّه لو أنزل ملكًا كما اقترحوا لما حصل به مقصودُهم؛ لأنّه إن أنزله في صورته لم يَقدِروا على التلقِّي عنه، إذ البشر لا يقدر على مخاطبة الملك ومباشرته. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ وهو أقوى الخلق ــ إذا نزل عليه الملَكُ كرب لذلك، وأخذتْه البُرَحَاء، وتحدّر منه العَرَق في اليوم الشّاتي. وإن
جعله في صورة رجلٍ حصل لهم لبسٌ؛ هل هو ملكٌ أم رجلٌ؟ فقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} أي في صورة رجلٍ {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ} في هذه الحال {مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] على أنفسهم حينئذٍ، فإنّهم يقولون إذا رأوا الملَكَ في صورة الإنسان: هذا إنسانٌ، وليس بملكٍ. فهذا معنى الآية، فأين تجده ممّا عُقِد له الباب؟
فصل
قال
(1)
: (التلبيس: توريةٌ بشاهدٍ معارٍ عن موجودٍ قائمٍ).
لمَّا كانت التَّورية إظهار خلاف المراد، بأن يذكر شيئًا يُوهِم أنّه مراده، وليس هو بمراده، بل وَرَّى بالمذكور عن المراد= فسَّر التلبيس بها، وفي الحديث:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوةً وَرَّى بغيرها»
(2)
. مثاله: أن يريد غزو خيبر فيقول للنّاس: كيف بطريقِ
(3)
نجدٍ وما بها من المياه؟ ونحو ذلك.
فهاهنا شيئان: أمر سَتَره المورِّي الملبِّس، وأمر ستر به ما ورّى عنه، فأشار المصنِّف إلى الأمرين بقوله:(تورية بشاهدٍ معارٍ عن موجودٍ قائمٍ). فأمّا التّورية فقد عرفتها، وأمّا الشاهد فهو الذي تُورِّي به عن مرادك وتستشهد به، والشاهد المعار هو الذي استُعِير لغيره ليشهد له، فهو شاهدٌ استعير لمشهودٍ قائمٍ. فالتورية: أن تذكر ما يحتمل معنيين، ومقصودك خلاف الذي
(1)
«المنازل» (ص 106).
(2)
رواه البخاري (2947)، ومسلم (2769) من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.
(3)
ت، ر:«طريق» .
يظهر منهما. والتلبيس: يُشبِه التَّعمية والتخليط، ومنه
(1)
قوله: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42].
فصل
قال الشّيخ
(2)
: (وهو اسمٌ لثلاث معانٍ، أوّلها: تلبيس الحقِّ بالكون على أهل التّفرقة، وهو تعليقه الكوائنَ بالأسبابِ والأماكنِ والأحايينِ، وتعليقه المعارفَ بالوسائط، والقضايا بالحجج، والأحكام بالعلل، والانتقام بالجنايات، والمثوبة بالطاعات، وأخفى الرِّضا والسُّخط اللَّذَين يوجبان الفصل والوصل، ويُظهِران السعادة والشقاوة).
شيخ الإسلام رحمه الله حبيبنا، والحقُّ أحبُّ إلينا منه، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: عمله خيرٌ من علمه. وصدق رحمه الله، فسيرته في الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر وجهادِ أهل البدع لا يُشَقُّ له فيها غبارٌ، وله المقامات المشهورة في نَصْر الله ورسوله، وأبى الله أن يكسوَ ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى. وأخطأ رحمه الله في هذا الباب لفظًا ومعنًى.
أمّا اللفظة: فتسميتُه فعْلَ الله الذي هو حقٌّ وصوابٌ وحكمةٌ، وحكْمَه الذي هو عدلٌ وإحسانٌ، وأمْرَه الذي هو دينه وشرعه= «تلبيسًا» . فمعاذَ الله ثمَّ معاذ الله من هذه التسمية! ومعاذَ الله من الرِّضا بها، والإقرار عليها، والذبِّ عنها، والانتصار لها. ونحن نشهد بالله أن هذا تلبيسٌ على شيخ الإسلام،
(1)
ش، د:«ويشبه» .
(2)
«المنازل» (ص 106).
فالتلبيس وقع عليه، ولا نقول: وقع منه، ولكنّه صادقٌ لُبِّس عليه، ولعلّ متعصِّبًا له يقول: أنتم لا تفهمون كلامه! فنحن نُبيِّن مراده على وجهه إن شاء الله، ثمّ نتبع ذلك بما له وعليه.
فقوله: (أوّلها: تلبيس الحقِّ بالكون على أهل التّفرقة)، الحقُّ هاهنا المراد به الربُّ تعالى، والكون اسمٌ لكلِّ ما سواه، وأهل التفرقة ضدُّ أهل الجمع، وسيأتي معنى الجمع عنده بعد هذا إن شاء الله، فأهل التفرقة الذين لم يصلوا إلى مقام الجمع. وأهل التفرقة عنده لُبِّس عليهم الحقُّ بالباطل، فإنّهم لُبِّس عليهم الحقُّ بالكون وهو باطل، وكلُّ شيءٍ ما خلا الله باطلٌ، وأهل التفرقة عنده هم الذين غلب عليهم النظر إلى الأسباب حتّى غفلوا عن المسبِّب، ووقفوا معها دونه. و «التلبيس» فعلٌ من أفعال الربِّ تعالى، وهو سبحانه يُضِلُّ من يشاء ويهدي من يشاء، ولذلك استدلَّ على هذا المعنى بالآية، وهي قوله:{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] ليعرِّفك أنّ هذا الفعل لا يمتنع نسبته إلى الله كما لا يمتنع نسبة الإضلال إليه.
ووجه هذا التلبيس: أنّه سبحانه أضاف الأفعال الصادرة عن محض قدرته ومشيئته إلى أسبابٍ وأزمنةٍ وأمكنةٍ، فلبَّسَ الحقُّ سبحانه على أهل التفرقة حيث علَّق الكوائنَ ــ وهي الأفعال ــ بالأسباب، فنسَبَها أهل التفرقة إلى أسبابها، وعَمُوا عن رؤية الحقِّ سبحانه، ففي الحقيقة لا فعلَ إلَّا لله. وأهل التفرقة يجهلون ذلك، ويقولون: فعل فلانٌ، وفعل الماء، وفعل الهواء، وفعلت النار.
وكذلك تعليقه سبحانه المعارفَ بالوسائط، وهي الأدلَّة السمعيّة والعقليّة والفطريّة، وتعليقه المسموعات والمبصرات والملموسات بآلاتها
وحواسِّها، من السمع والبصر والشمِّ والذوق واللّمس، فهو سبحانه الخالق لتلك الإدراكات مقارنةً لهذه الحواسِّ وعندها، لا بها ولا بقوًى مُودَعةٍ
(1)
فيها، وهو سبحانه قادرٌ على خلق هذه المعارف بغير هذه الوسائط، فحَجَب أهلَ التفرقة بهذه الوسائط عن الفعَّال سبحانه حقيقةً، الذي لا فعْلَ في الحقيقة إلّا له، فكأنّه لبَّس على أهل التفرقة، أي أضلَّهم بشهودهم الأسباب، وغيبتهم بها عنه.
وكذلك القضايا ــ وهي الوقائع بين العباد ــ علَّقها بالحجج الموجبة لها، فكلُّ قضاءٍ وحكمٍ لابدَّ له من حجّةٍ يستند إليها، فيحجُبُ صاحبَ التفرقة بتلك الحجّة عن المصدر الأوّل الذي منه ابتداء كلِّ شيءٍ، ويقف مع الحجّة، ولا ينظر إلى من حكمَ بها، وجعلها مظهرًا لنفوذ حكمه وقضائه.
وكذلك تعليقه الأحكامَ بالعلل، وهي المعاني والمناسبات والحِكَم والمصالح التي لأجلها ثبتت الأحكام، وهو سبحانه واضعُ تلك المعاني، ومضيفُ الأحكام إليها، وإنّما هي في الحقيقة مضافةٌ إليه
(2)
سبحانه.
وكذلك ترتيبه الانتقامَ على الجنايات، وربطُه الثوابَ بالطاعات، كلُّ ذلك مضافٌ إليه وحدَه، لا إلى الجنايات ولا إلى الطاعات، فإضافة ذلك إليها تلبيسٌ على أهل التفرقة.
وموضع التّلبيس في ذلك كلِّه أنّ أهل التّفرقة يظنُّون أنّه لولا تلك الوسائط لما وُجِدتْ معرفةٌ، ولا وقعتْ قضيّةٌ، ولا حكمٌ ولا ثوابٌ، ولا
(1)
ت: «موجودة» .
(2)
ت: «إلى الله» .
عقابٌ ولا انتقامٌ. وهذا تلبيسٌ عليهم، فإنّ هذه الأمور إنّما أوجبها محضُ مشيئة الله، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فانطوى حكم تلك الوسائط والأسباب والعلل في بساط المشيئة الأزليّة، واضمحلَّتْ في عين الحكم الأزليِّ، وصارت من جملة الكائنات التي هي منفعلةٌ لا فاعلةٌ، ومطيعةٌ لا مطاعةٌ، ومأمورةٌ لا آمرةٌ، وخَلْقٌ من خلْقِه، لا واسطةَ بينه وبين خلقه، فهي به لا بهم. ولهذا عاذَ العارفون به منه، وهربوا منه إليه، والتجأوا منه إليه، وفرُّوا منه إليه، وتوكّلوا به عليه، وخافوا بما منه لا من غيره. فشهدوا أوّليَّتَه في كلِّ شيءٍ، وتفرُّدَه في الصُّنع
(1)
، وأنّه ما ثَمَّ ما يُوجِب شيئًا من الأشياء إلّا مشيئتُه وحده، فمشيئته هي السّبب في الحقيقة، وما يُشاهَد ويُعلَم من الأسباب فمحلٌّ ومجرًى
(2)
لنفوذ المشيئة، لا أنّه مؤثِّرٌ وفاعلٌ، فالوسائط لابدَّ أن تنتهي إلى أوّلٍ، لامتناع التسلسل، ولهذا قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«فمَن أَعدَى الأوّلَ؟»
(3)
.
والله سبحانه قدَّر المقادير، وكتبَ الآثار والأعمال، والشّقاوةَ والسّعادة، والثّواب والعقاب، حيث لا واسطةَ هناك ولا سببَ ولا علّة، فأهل التّفرقة وقفوا مع الوسائط، وأهل الجَمْع نفَذَ بصَرُهم من الوسائط والأسباب إلى مَن أقامها وربطَ بها أحكامها.
قوله: (وأخفى الرِّضا والسُّخط اللّذين يوجبانِ الوصل والفصل)، يعني: أنّه سبحانه أخفى عن عباده ما سبقَ لهم عنده من سخطه عمَّن سخِطَ عليه،
(1)
ت: «بالصنع» .
(2)
ت: «مجرد» .
(3)
أخرجه البخاري (5717)، ومسلم (2220) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ورِضاه عمّن رضي عنه، الموجبينِ لوصل من وصله، وقطْعِ من قطعه.
ومراده: أنّ هذا هو السبب الصحيح في نفس الأمر، وهو رضاه وسخطه، وإنّما لبّس سبحانه على أهل التّفرقة الأمرَ بما ذكره من الجنايات والطّاعات، والعلل والحجج، ولا سببَ في الحقيقة إلّا رضاه وسخطه، وذلك لا علّة له، فالرِّضا هو الذي أوجب المثوبة لا الطّاعة، والسُّخط هو الذي أوجب العقوبة لا المعصية، والمشيئة هي التي أوجبت الحكم لا الوسائط، فأخفى الرّبُّ سبحانه ذلك عن خلقه، وأظهر لهم أسبابًا أُخر علّقوا
(1)
بها الأحكام، وذلك تلبيسٌ من الحقِّ عليهم. فأهل التّفرقة وقفوا مع هذا التّلبيس، وأهل الجمع صعدوا عنه، وجاوزوه إلى مصدرِ الأشياء كلِّها ومُوجدِها بمشيئته فقط.
وبالغ الشيخ في ذلك حتّى جعل الرِّضا والسُّخط يُظهِران السعادة والشقاوة، ولم يجعل الرِّضا والسُّخط مؤثِّرينِ فيهما، وذلك لأنّ السّعادة والشّقاوة سبقت عنده سبقًا محضًا مستندًا إلى محض المشيئة لا علّةً لهما، والرِّضا والسُّخط أظهرا ما سبقَ به التقدير من السعادة والشقاوة. فهذا أحسنُ ما يقال في شرح كلامه وتقريره وحَمْلِه على أحسن الوجوه وأجملها.
فأمّا ما فيه من التوحيد وانتهاء الأمور إلى مشيئة الربِّ جل جلاله، وأنّه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن= فذلك عقد نظام الإيمان، ومع ذلك فلا يكفي وحده، إذ غايته تحقيق توحيد الرُّبوبيّة الذي لم يكن ينكره عُبَّاد الأصنام.
(1)
في هامش د: «كذا في الأصل، وفي الهامش: وعلق» صح.
وإنَّما
(1)
الشأن في أمرٍ آخر وراءه؛ هذا بابه، والمدخل إليه، والدليل عليه، ومنه يُوصَل إليه، وهو التوحيد الذي دعت إليه الرُّسل، ونزلت به الكتب، وعليه الثواب والعقاب، والشرائع كلُّها تفاصيله وحقوقه، وهو توحيد الإلهيّة والعبادة، وهو الذي لا سعادةَ للنُّفوس إلّا بالقيام به علمًا وعملًا وحالًا
(2)
، وهو أن يكون الله وحده أحبَّ إلى العبد من كلِّ ما سواه، وأخوف عنده من كلِّ ما سواه، وأرجى له من كلِّ ما سواه، فيعبده بمعاني الحبِّ والخوف والرجاء بما يحبُّه هو ويرضاه، وهو ما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لا بما يريده العبد ويهواه، وتلخيص ذلك في كلمتين «إيَّاكَ أُريد بما تُرِيد» ، فالأولى: توحيدٌ وإخلاصٌ، والثانية: اتِّباعٌ للسُّنة وتحكيمٌ للأمر.
والمقصود: أنَّ ما أشار إليه في هذا الباب غايته تقرير توحيد الأفعال، وهو توحيد الرُّبوبية.
وأمَّا جَعْلُه ما نصَبَه سبحانه من الأسباب في خلْقِه وأمرِه وأحكامِه وثوابِه وعقابِه تلبيسًا، فتلبيسٌ من النفس عليه رحمه الله، وليس ذلك ــ عند العارفين بالله ورسله وأسمائه وصفاته ــ من التلبيس في شيءٍ، وإنّما ذلك مظهر أسمائه وصفاته، وحكمته، ونعمته، وقدرته وعزَّته، إذ ظهور هذه الصِّفات والأسماء يستلزم محالًّا
(3)
ومتعلَّقاتٍ تتعلّق بها، وتظهر فيها آثارها، هذا أمرٌ ضروريٌّ للصِّفات والأسماء، إذ العلم لابدَّ له من معلومٍ، وصفةُ الخالقيَّة والرازقيَّة تستلزم وجودَ مخلوقٍ ومرزوقٍ، وكذلك صفة الرحمة والإحسان والحلم
(1)
ش، د:«وأمَّا» ، تصحيف.
(2)
«وحالا» ليست في ر.
(3)
كذا في النسخ هنا وفي الموضع الآتي، والجادَّة:«محالَّ» .
والعفو والمغفرة والتجاوز تستلزم محالًّا تتعلّق بها، وتظهر فيها آثارها، فالأسباب والوسائط مظاهر الخلق والأمر، فكيف يكون تعليق الأحكام والثواب والعقاب بها تلبيسًا؟ وهل ذلك إلّا حكمةٌ بالغةٌ، وآياتٌ ظاهرةٌ، وشواهدُ ناطقةٌ بربوبيّة مُنْشئِها وكمالِه وثبوت أسمائه وصفاته؟ فإنَّ الكون كما هو محلُّ الخلق والأمر، ومظهر الأسماء والصِّفات، فهو بجميع
(1)
ما فيه شواهد وأدلّةٌ وآياتٌ، دعا الله سبحانه عباده إلى النظر فيها، والاستدلال بها على وجود الخالق، والاعتبار بما تضمَّنَتْه من الحِكَم والمصالح والمنافع على علمه وحكمته ورحمته وإحسانه، وبما تضمَّنته من العقوبات على عدله، وأنّه يغضب ويسخط ويكره ويمقُت، وبما تضمّنته من المثوبات والإكرام على أنّه يُحِبُّ ويرضى ويفرح. فالكون بجملةِ ما فيه آياتٌ وشواهد وأدلّةٌ، لم يخلق منها شيئًا تلبيسًا، ولا وسَّطه عبثًا، ولا خلَقَه سُدًى.
فالأسباب والوسائط والعلل محلُّ أفكار المتفكِّرين، واعتبار الناظرين، ومعارف المستدلِّين، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]. وكم في القرآن من الحثِّ على النظر فيها، والاعتبار بها، والتفكُّر فيها، وذمِّ من أعرض عنها، والإخبار بأنَّ النظر فيها والاستدلال يوجب العلم والمعرفة بصدق رسله؛ فهي آياتٌ كونيّةٌ مشاهدةٌ تصدِّق الآيات القرآنيّة.
فما علَّقَ بها آثارها سُدًى، ولا رتَّبَ عليها مقتضياتها
(2)
وأحكامها باطلًا، ولا جعلَ توسيطَها تلبيسًا البتّةَ، بل ذلك موجب كماله وكمال نعوته
(1)
ت: «بجملة» .
(2)
د، ر:«مقتضاها» .
وصفاته، وبها عُرِفت ربوبيّته وإلهيّته، وملكه وصفاته وأسماؤه.
هذا، ولم يخلقها سبحانه حاجةً منه إليها، ولا توقُّفًا لكماله المقدّس عليها، فلم يتكثّر بها من قلّةٍ، ولم يتعزّز بها من ذلّةٍ، بل اقتضى كماله أن يفعل ما يشاء بما يشاء، ويأمر ويتصرّف ويدبِّر كما يشاء، وأن يُحمَد ويُعرف، ويُذكر ويُعبد، ويَعرِف الخلقُ صفاتِ كماله ونعوتَ جلاله، ولذلك خلق خلقًا يعصونه ويخالفون أمره، ليعرف ملائكتُه وأنبياؤه ورسله وأولياؤه كمالَ مغفرته وعفوه، وحلمه وإمهاله، ثمّ أقبل بقلوب من شاء
(1)
منهم إليه، فظهر
(2)
كرمه في قبول توبته، وبرُّه ولطفُه في العود عليه بعد الإعراض عنه، كما قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«لو لم تُذنِبوا لذهبَ الله بكم، ولجاء بقومٍ يُذنِبون ثمّ يستغفرون فيغفر لهم»
(3)
. فلمن كانت تكون مغفرته لو لم يخلق الأسباب التي يغفر عنها ويغفر بها؟ والعبد الذي له يغفر؟ فخلْقُ العبد المغفور له، وتقديرُ الذّنب الذي يُغفَر، والتّوبة التي يُغفَر بها= هو نفس مقتضى العزّة والحكمة، وموجب الأسماء الحسنى والصِّفات العلا، ليس من التّلبيس في شيءٍ، فتعليق الكوائن بالأسباب كتعليق الثّواب والعقاب بالأسباب، ولهذا سوّى صاحب «المنازل» بين الأمرين، وهو محض الحكمة، وموجب الكمال الإلهيِّ، ومقتضى الحمد التّامِّ، ومظهر صفة العزّة والقدرة والملك. والشّرائع كلُّها ــ من أوّلها إلى آخرها ــ مبنيّةٌ على تعليق الأحكام بالعلل، والقضايا بالحجج، والثّواب بالطاعة، والعقوبات بالجرائم، فهل يقال: إنّ
(1)
في هامش ش: «تاب» .
(2)
ش، د:«نظر» .
(3)
أخرجه مسلم (2749) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الشّرائع كلّها تلبيسٌ، بأيِّ معنًى فُسِّر التلبيس؟
ولعمر الله، لقد كان في غنيةٍ عن هذا الباب وعن هذه التّسمية، ولقد أفسد الكتاب بذلك.
هذا، ولا يُجهَل محلُّ الرجل من العلم والسُّنّة، وطريق السُّلوك وآفاته وعلله، ولكن قصْدَه تجريدَ توحيد الأفعال والرُّبوبيّة قاده إلى ذلك، وانضمَّ إليه اعتقادُه أنَّ الفناء في هذا التوحيد هو غاية السُّلوك ونهاية العارفين، وساعده اعتقادُ كثيرٍ من المنتسبين إلى السُّنَّة، الرادِّين على القدريَّة في الأسباب: أنها لا تأثير لها البتَّة، ولا فيها قوًى، ولا يفعل الله شيئًا بشيءٍ ولا شيئًا لشيءٍ، فينكرون أن يكون في أفعاله باءُ تسبيبٍ أو لام تعليلٍ، وما جاء من ذلك حملوا الباء فيه على المصاحبة، واللّام فيه على لام العاقبة، وقالوا: يفعل الله الإحراق والإغراق والإزهاق عند ملاقاة النار والماء والحديد، لا بها ولا بقوًى فيها، ولا فرق ــ في نفس الأمر ــ بينها وبين الهواء والتُّراب والخشب، وانضمَّ إلى ذلك أنَّ العبد ليس بفاعلٍ أصلًا، وإنّما هو منفعلٌ محضٌ، ومحلٌّ لجريانِ تصاريف الأحكام عليه، وأنّ الفاعل فيه سواه، والمحرِّك له غيره، وإذا قيل: إنّه فاعلٌ أو متحرِّكٌ فهو تلبيسٌ.
فهذه الأصول أوجبت هذا التّلبيسَ على نفاة الحكم والأسباب، وقابلهم آخرون، فمزّقوا لحومهم كلَّ ممزّقٍ، وفَرَوْا أديمَهم، وقالوا: عطّلتم
(1)
الشّرائع والثّواب والعقاب، وأبطلتم حقيقة الأمر والنّهي، فإنّ
(2)
(1)
ش: «أعطلتم» .
(2)
د: «فانه» .
مبنى ذلك على أنّ العباد فاعلون حقيقةً، وأنّ أفعالهم منسوبةٌ إليهم على الحقيقة، وأنّ قُدَرهم وإراداتهم ودواعيهم مؤثِّرةٌ في أفعالهم، وأفعالهم واقعةٌ بحسب دواعيهم وإراداتهم، وعلى ذلك قامت الشّرائع والنُّبوّات، والثّواب والعقاب، والحدود والزّواجر، وفطرة الله التي فطر النّاس عليها والحيوان
(1)
.
وسوّيتم بين ما فرّق الله بينه، فإنّ الله سبحانه ما سوّى بين حركة المختار وحركة من حُرِّك قسرًا بغير إرادةٍ منه أبدًا، ولا سوّى بين حركات الأشجار وحركات بني آدم، ولا جعل الله سبحانه أفعال عباده وطاعاتهم ومعاصيهم أفعالًا له، بل نسبها إليهم حقيقةً، وأخبر أنّه هو الذي جعلهم فاعلين، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [السجدة: 24]، وقال:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41]. وقال سادات العارفين به: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128]، وقال إبراهيم خليله:{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} [إبراهيم: 40]. فهو الذي جعل العبد كذلك، والعبد هو الذي صلّى وصام وأسلم، وهو الفاعل حقيقةً بجَعْلِ الله له فاعلًا، وهو السائر بتسيير الله له، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ} [يونس: 22]، فهذا فعلُه والسَّيرُ فعلهم، والإقامة فعلُه والقيام فعلهم، والإنطاق فعلُه والنُّطق فعلهم، فكيف تُجعل نسبة الأفعال إلى محالِّها القائمة بها وأسبابِها المظهرة لها تلبيسًا؟
ومعلومٌ أنّ طيَّ بساطِ الأسباب والعلل تعطيلٌ للأمر والنّهي والشرائع والحكم، وأمّا الوقوف مع الأسباب واعتقاد تأثيرها فلا يُعلَم من أتباع الرُّسل
(1)
ت: «بل والحيوان» .
من قال: إنّها مستقلّةٌ بأنفسها، حتّى يُحتاج إلى نفي هذا المذهب، وإنّما قالت طائفةٌ من النّاس ــ وهم القدريّة ــ: إنّ أفعال الحيوان خاصّةً غير مخلوقةٍ لله، ولا واقعة بمشيئته، وهؤلاء هم الذين أطبق الصّحابة والتّابعون وأئمّة الإسلام على ذمِّهم وتبديعهم وتضليلهم، وبيَّنَ أئمّة السُّنّة أنّهم أشباه المجوس، وأنّهم مخالفون للعقول والفِطَر ونصوص الوحي، فالتلبيس في الحقيقة حصل لهؤلاء، ولمنكري الأسباب والقوى والطبائع والحكم، ولُبِّس على الفريقين الحقُّ بالباطل.
والحقُّ ــ الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وفطَرَ عليه عباده، وأودعَه في عقولهم ــ بين مذهب هؤلاء وهؤلاء، فالهدى بين الضلالتين، والاستقامة بين الانحرافين.
والمقصود: أنَّ القرآن بل وسائر كتب الله تضمَّنتْ تعليقَ الكوائن بالأسباب والأماكن والأحايين، وتعليقَ المعارف بالوسائط، والقضايا بالحجج والأحكام بالعلل، والانتقامَ بالجنايات، والمثوباتِ بالطاعات، فإن كان هذا تلبيسًا عاد الوحي والشرع والكتب الإلهيّة تلبيسًا.
نعم، التلبيس على من ظنَّ أنَّ ذلك التعليق على وجه الاستقلال، بقطع النظر عن مسبِّب الأسباب وناصِبِ الحكمِ والعلل، فإن كان مراده: أنّه لُبِّس الأمر على هؤلاء، ولم يهتدوا إلى الصواب= فأبعد الله من ينتصر لهم، ويَذُبُّ عنهم، فإنهم أضلُّ من الأنعام. وإن كان المراد: مَن أثبتَ الأسباب والحِكَم والعلل، وعلَّق بها ما علّقه الله بها من الحكم والشرع، وأنزلها بالمحلِّ الذي أنزلها الله به، ووضعها حيث وضعها= فقد لُبِّس عليه، فنحن نَدِين الله بذلك وإن سمِّي تلبيسًا، كما نَدِين الله بإثبات القدر وإن سمِّي جَبْرًا، ونَدِين بإثبات
الصِّفات وحقائق الأسماء وإن سُمِّي تجسيمًا، ونَدِين بإثبات علوِّ الله على عرشه فوق سماواته وإن سُمِّي تحيُّزًا وجهةً، ونَدين بإثبات وجهه الأعلى ويديه المبسوطتين وإن سُمِّي تركيبًا، وندين بحبِّ أصحاب رسوله جميعهم وموالاتهم وإن سُمِّي نَصْبًا، وندين بأنّه مكلِّمٌ متكلِّمٌ حقيقةً كلامًا يسمعه من خاطبه، وأنّه يُرى بالأبصار عيانًا حقيقةً يوم لقائه، وإن سُمِّي ذلك تشبيهًا.
ويا لله العجب! أليست الكوائن كلُّها متعلِّقةً بالأسباب؟ أوليس الرّبُّ تعالى كلَّ وقتٍ يسوق المقادير إلى المواقيت التي وقَّتها لها، ويظهرها بأسبابها التي سبَّبها لها، ويخُصُّها بمحالِّها من الأعيان والأمكنة والأزمنة التي عيّنها لها؟
أو ليس قد قدَّر المقادير، وسبَّب الأسباب التي تظهر بها، ووقَّتَ المواقيت التي تنتهي إليها، ونصَبَ العلل التي توجد لأجلها، وجعل للأسباب أسبابًا أخر تُعارضها وتدافعها؟ فهذه تقتضي آثارها، وهذه تمنعها اقتضاءها، وتطلب ضِدَّ ما تطلبه تلك.
أوليس قد رتّب الخلْقَ والأمر على ذلك، وجعله محلَّ الامتحان والابتلاء والعبوديّة؟ أوليس عمارة الدّارين ــ أعني الجنّة والنّار ــ بالأسباب والعلل والحكم؟ ولا حاجة بنا أن نقول: وهو خلق الأسباب ونصب العلل، فإنّ ذكر هذا من باب بيان الواضحات التي لا يجهلها إلّا أجهلُ خلق الله، وأقلُّهم نصيبًا من الإيمان والمعرفة.
أوليس القرآن من أوّله إلى آخره قد عُلِّقت أخبارُه وقصصُه عن الأنبياء وأممهم، وأوامره ونواهيه وزواجره، وثوابه وعقابه: بالأسباب والحكم والعلل؟ وعُلِّقت فيه المعارف بالوسائط، والقضايا بالحجج، والعقوبات
والمثوبات بالجنايات والطّاعات؟
أوليس ذلك مقتضى الرِّسالة، وموجب الملك الحقِّ، والحكمة البالغة؟
نعم، مرجع ذلك كلِّه إلى المشيئة الإلهيّة المقرونة بالحكمة والرّحمة والعدل، والمصلحة والإحسان، ووَضْع الأشياء في مواضعها، وتنزيلها منازلَها، وهو سبحانه الذي جعل لها تلك المواضع والمنازل والصِّفات والمقادير، فلا تلبيسَ هناك بوجهٍ، وإنما التلبيس في إخراج الأسباب
(1)
عن موضوعها وإلغائها، أو في إنزالها غير منزلها، والغَيْبة بها عن مُسبِّبها وواضعها، وبالله التوفيق.
فصل
قال
(2)
: (والتلبيس الثاني: تلبيس أهل الغَيرة على الأوقات بإخفائها، وعلى الكرامات بكتمانها
(3)
).
إطلاق «التلبيس» على هذه الدرجة ليس كإطلاقه على الدرجة الأولى، فإنّ التلبيس في هذه الدّرجة راجعٌ إلى فعل العبد، وفي الأولى إلى فعل الرّبِّ، ولهذا لمّا كانت تسمية الدّرجة الأولى تلبيسًا شنيعٌ
(4)
جدًّا، وطَّأَ له قوله تعالى:{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9]، أي لا تستوحش من إطلاق ذلك على الله، فإنّه قد أطلقه على نفسه؛ وقد عرفتَ ما فيه.
(1)
ت: «الأشياء» .
(2)
«المنازل» (ص 106).
(3)
ت: «بكمالها» .
(4)
كذا في النسخ مرفوعًا.
والمقصود: أنّ العبد يقوى إخلاصه لله، وصدقه ومعاملته له، حتّى لا يحبّ أن يطّلع أحدٌ من الخلق على حاله مع الله ومقامه معه، فهو يُخفِي أحوالَه غيرةً عليها من أن تَشُوبَها شائبة الأغيار، وأنفاسَه خوفًا عليها من المداخلة. وكان بعضهم إذا غلبه البكاء وعجَزَ عن دفعه قال: لا إله إلّا الله، ما أمرَّ الزُّكام
(1)
! فالصّادق إذا غلب عليه الوجد والحال، وهاج من قلبه لواعج الشّوق= أخلد إلى السُّكون ما أمكنه، فإن غُلِب أظهر ألمًا ووجعًا يستُر به حالَه مع الله، كما أظهر إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم لقومه أنّه سقيمٌ، حين أراد أن يفارقهم، ويرجع بذلك الوارد وتلك الحال إلى الآلهة الباطلة، فيجعلها جُذاذًا.
فالصّادقون يعملون في كتمان المعاني واجتناب الدّعاوي، فظواهرهم ظواهر النّاس، وقلوبهم مع الحقِّ تعالى، لا تلتفت عنه يَمْنةً ولا يَسْرةً، فهم في وادٍ، والنّاس في وادٍ.
فقوله: (تلبيس أهل الغيرة على الأوقات بإخفائها) يعني: أنّهم يَغَارون على الأوقات التي عمرتْ لهم بالله وصَفَتْ لهم أن يُظهِروها للنّاس، وإن اطَّلع غيرُهم عليها من غير قصدهم
(2)
لكشفها وإظهارها= لم يقدح ذلك في طريقهم، فلا يفزَعون إلى الجحد والإنكار وشكاية الحال، بل يَسَعُهم الإمساك عن الإظهار والجحد.
قوله: (وعلى الكرامات بكتمانها)، يعني: أنّهم يَغارون على كراماتهم أن
(1)
روي هذا عن أيوب السختياني، انظر:«الثقات» لابن حبان (8/ 146)، و «صفة الصفوة» (3/ 295)، و «تلبيس إبليس» (ص 228)، و «سير أعلام النبلاء» (6/ 20).
(2)
ت: «قصد منهم» .
يعلم بها الناس، فهم يُخفونها أبدًا غيرةً عليها، إلّا إذا كان في إظهارها مصلحةٌ راجحةٌ من حجّةٍ أو حاجةٍ، فلا يُظهِرونها إلّا لحجّةٍ على مبطلٍ، أو حاجةٍ تقتضي إظهارها.
قوله
(1)
: (والتلبيس بالمكاسب والأسباب، وتعليق الظاهر بالشواهد والمكاسب= تلبيسٌ على العيون الكليلة والعقول العليلة)، يعني: أنّ التلبيس المذكور إنّما يكون على أهل العيون الكليلة، أي أهل الإحساس الضعيف، والعقول العليلة هي المنحرفة التي لا تدرك الحقَّ لمرضٍ بها.
قوله
(2)
: (مع تصحيح التحقيق عقدًا وسلوكًا ومعاينةً)، يعني: أنّ هذه الطّائفة يُلبِّسون على أهل العيون الكليلة أحوالَهم وكراماتِهم بستْرهم لها عنهم، مع كونهم قائمين بالتحقيق اعتقادًا وسلوكًا ومعاينةً، فهم معتقدون للحقِّ، سالكون الطريقَ المُوصِلة إلى المقصود، أهل مراقبةٍ وشهودٍ.
قوله
(3)
: (وهذه الطائفة رحمةٌ من الله على أهل التّفرقة والأسباب في ملابستهم).
إنّما كانوا رحمةً من الله عليهم من وجهين:
أحدهما: أنّهم ذاكرون لله بين الغافلين، وهم في وسطهم، فيرحمهم الله بهم، فإنّهم القوم لا يَشْقَى بهم جليسُهم.
الثّاني: أنّهم لا يتركونهم في غَفَلاتهم، بل يقومون فيهم بالنصيحة لهم،
(1)
«المنازل» (ص 106).
(2)
المصدر نفسه.
(3)
المصدر نفسه.
والأمر لهم بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة لهم إلى الله، فيرحمون بهم، وينالون بهم سعادة الدُّنيا والآخرة، فهم يتصرَّفون مع الخلق بحكم العلم والشّرع، وأحوالُهم ومقاماتهم بينهم وبين الله خاصّةٌ.
قوله
(1)
: (التلبيس الثالث: تلبيس أهل التمكين
(2)
على العالَم، ترحُّمًا عليهم بملابسة الأسباب، وتوسيعًا على العالَم لا على أنفسهم، وهذه درجة الأنبياء، ثمّ هي للأئمّة الربّانيِّين، الصادرين عن وادي الجَمْع، المشيرين عن عينه).
هذا أيضًا من النّمط الأوّل، ممّا يُنكَر لفظُه وإطلاقه غايةَ الإنكار، ويجب على أهل الإيمان مَحْو
(3)
هذا اللّفظ القبيح وإطلاقه في حقِّ الأنبياء، وكيف تَسَعُ مسامع المؤمن ليسمع أنّ الأنبياء لَبَّسوا على الناس بأيِّ اعتبارٍ كان؟ سبحانك هذا بهتانٌ عظيمٌ! بل الرُّسل ــ صلوات الله وسلامه عليهم ــ كشفوا عن النّاس التّلبيس الذي لبّسوه على أنفسهم، ولبّسه عليهم طواغيتُهم، جاؤوا بالبيان والبرهان.
وكان النّاس في لَبْسٍ عظيمٍ
…
فجاؤوا بالبيان فأظهروه
وكان النّاس في جهلٍ شديدٍ
…
فجاؤوا باليقين فأذهبوه
وكان النّاس في كفرٍ عظيمٍ
…
فجاؤوا بالرّشاد فأبطلوه
(4)
(1)
المصدر نفسه (ص 107).
(2)
في «المنازل» : «التمكن» .
(3)
ت: «هجر» .
(4)
يبدو أنها من كلام المؤلف.
والمصنِّف رحمه الله من أثبت النّاس قدمًا في مقام الإيمان بالرُّسل وتعظيمهم وما جاؤوا به، ولكن لُبِّس عليه في ذلك ما لُبِّس على غيره، والله يغفر لنا وله، ويجمع بيننا وبينه في دار كرامته.
وقد صرّح بأنّ أهل التّمكين هم الأنبياء والأئمّة بعدهم، وجعل هذه الدّرجة من التّلبيس لهم، ثمّ فسَّرها بأنّها تلبيس ترحُّمٍ وتوسيعٍ على العالم، ومقصوده: أنّهم يأمرونهم بتعاطي الأسباب رحمةً لهم وتوسيعًا عليهم، مع علمهم بأنّها لا أثرَ لها في خلقٍ ولا رزقٍ، ولا ضرٍّ ولا نفعٍ، ولا عطاءٍ ولا منعٍ، بل الله وحده هو الخالق الرّازق، الضّارُّ النّافع، المعطي المانع، لكن لمّا علموا عجز النّاس عن إدراك ذلك والتّحقُّق به لبَّسوا عليهم وأمروهم بالأسباب رحمةً بهم وتوسيعًا عليهم.
فهذه الدرجة تتضمَّن الرُّجوع إلى الأسباب رحمةً وتوسيعًا، مع الانقطاع عن الالتفات إليها والوقوف معها تجريدًا وتوحيدًا.
وقوله: (لا إلى أنفسهم) يعني: أنَّ أمرهم بالأسباب إحسانٌ إليهم، وتوسيعٌ عليهم، لا لحظِّ الآمر وجرِّ النفع إلى نفسه، بل لقصد الإحسان إلى الخلق وحصول النفع لهم. وهذا قريبٌ، مع أنّ فيه ما فيه لمن تأمَّله، فإنّ من أمر غيره بمصلحته وقصد نفعه: فبنفسه بدأ، ولها نفعَ أولًا، ومصلحتَها حصَّلَ قبل مصلحة المأمور، والإحسانَ إلى نفسه قصدَ بإحسانه
(1)
إلى غيره، فإنّه عبدٌ فقيرٌ محتاجٌ، والله وحده هو الغنيُّ بذاته، الذي يُحسِن إلى خلقه لا لأجل معاوضةٍ منهم، وأمَّا المخلوق فإنَّه يريد العوض، لكن
(1)
ت: «بالإحسان» .
الأعواض تتفاوت، ومن يطلب منه العوض يختلف.
والمقصود: أنّ قوله: (لا لأنفسهم) ليس على إطلاقه، وفي أثرٍ إلهيٍّ
(1)
: «ابنَ آدم، كلٌّ يريدك لنفسه، وأنا أريدك لك»
(2)
.
وقوله: (ثمَّ هي للأئمَّة الربَّانيِّين، الصادرين عن وادي الجمع)، يعني: الذين فَنُوا في الجمع، ثمّ حصلوا في البقاء بعد الفناء، فذلك صدورهم عن وادي الجمع.
قوله: (المشيرين عن عينه)، يعني: الذين إذا أشاروا أشاروا عن عينٍ لا عن علمٍ، فإنّ الإشارة تختلف باختلاف مصدرها: فإشارةٌ عن علمٍ، وإشارةٌ عن كشفٍ، وإشارةٌ عن شهودٍ، وإشارةٌ عن عينٍ.
فصل
قد عرفتَ أنّ هذا الباب مبناه على محو الأسباب، وعدم الالتفات إليها والوقوف معها، ولهذا سمّى المصنِّف نَصْبَها «تلبيسًا» .
ونحن نقول: إنَّ الدِّين هو إثبات الأسباب، والوقوف معها، والنظر إليها، والالتفات إليها، وإنّه لا دينَ إلّا بذلك، كما لا حقيقة إلّا به، فالحقيقة والشريعة مبناهما على إثباتها، لا على محوها، ولا يُنكَر الوقوف معها، فإنَّ الوقوف معها فرضٌ على كلِّ مسلمٍ، لا يتمُّ إيمانُه إلّا بذلك. والله تعالى أمرنا بالوقوف معها، بمعنى أنَّا نُثبِت الحُكْم إذا وُجِدتْ، وننفيه إذا عُدِمَتْ، ونستدلُّ بها على حكمه الكونيِّ، فوقوفنا معها بهذا الاعتبار هو مقتضى
(1)
ت: «الأثر الإلهي» .
(2)
ذكره المؤلف في «الداء والدواء» (ص 536)، ولم أجده مسندًا.
الحقيقة والشريعة، وهل يُمكِن حيوانًا أن يعيش في هذه الدُّنيا إلّا بوقوفه
(1)
مع الأسباب؟ فينتجع مساقطَ غَيْثِها ومواقعَ قَطْرِها، ويَرعى في خصبها دون جدبها، ويُسالمها ولا يُحاربها. وكيف وتنفُّسه في الهواء بها، وتحرُّكه بها، وسمعه وبصره بها، وغذاؤه بها، ودواؤه بها، وهُداه بها، وسعادته بها، وفلاحه بها، وضلالُه وشقاؤه بالإعراض عنها وإلغائها. فأسعدُ النّاس في الدّارين: أقومُهم بالأسباب المُوصِلة إلى مصالحهما، وأشقاهم في الدارين: أشدُّهم تعطيلًا لأسبابهما.
فالأسباب محلُّ الأمر والنهي، والثواب والعقاب، والنجاح والخسران. وبالأسباب عُرِف الله، وبها عُبِد، وبها أُطِيع، وبها تقرَّب إليه المتقرِّبون، وبها نال أولياؤه رضاه وجواره في جنّته، وبها نصر حزبُه دينَه، وأقاموا دعوته، وبها أرسل رسله وشرع شرائعه، وبها انقسم النّاس إلى سعيدٍ وشقيٍّ، ومهتدٍ وغويٍّ، فالوقوف معها والالتفات إليها والنّظر إليها هو الواجب شرعًا، كما هو الواقع قدرًا.
ولا تكن ممّن غلُظ حجابه، وكثُفَ طبعه فيقول: لا نقف معها وقوفَ من يعتقد أنّها مستقلّةٌ بالإحداث والتّأثير، وأنّها أربابٌ من دون الله. فإن وجدتَ أحدًا يزعم ذلك، ويظنُّ أنّها أربابٌ وآلهةٌ مع الله مستقلّةٌ بالإيجاد وأنّها عونٌ لله يحتاج في فعله إليها، وأنّها شركاء له= فشأنك به، فمزِّقْ أديمَه، وتقرَّبْ إلى الله بعداوته ما استطعتَ. وإلَّا فما هذا النفي لِما أثبتَه الله؟ والإلغاء لما اعتبره؟ والإهدار لما حقَّقه؟ والحطُّ والوضع لما نصبه؟ والمحو لما كتبه؟ والعزل لما ولّاه؟ فإن زعمتَ أنّك تَعزِلها عن رتبة الإلهيَّة فسبحانَ الله! مَن
(1)
ش، د:«موقوفه» .
ولّاها هذه الرُّتبة حتّى تجعل كدَّكَ في عزلها؟
ويالله! ما أجهلَ كثيرًا من أهل الكلام والتصوُّف، حيث لم يكن عندهم تحقيق التوحيد إلّا إلغاءَها ومحوها، وإهدارها بالكلِّيّة، وأنّه لم يجعل الله في المخلوقات قوًى ولا طبائعَ ولا غرائزَ لها تأثيرٌ بوجهٍ ما، ولا في النّار حرارةٌ ولا إحراقٌ، ولا في الدّواء قوّةٌ، ولا في الخبز قوّةٌ مشبعةٌ، ولا في الماء قوّةٌ مُروِيةٌ، ولا في العين قوّةٌ باصرةٌ، ولا في الأنف قوّةٌ شامّةٌ، ولا في السُّمِّ قوّةٌ قاتلةٌ، ولا في الحديد قوّةٌ قاطعةٌ؟ وأنّ الله لم يفعل شيئًا بشيءٍ، ولا فعلَ شيئًا لأجل شيءٍ.
فهذا غاية توحيدهم الذي يَحُومون حوله، ويبالغون في تقريره.
ولعَمْر الله لقد أضحكوا عليهم العقلاء، وأشمتوا بهم الأعداء، ونهجوا
(1)
لأعداء الرُّسل طريقَ إساءة الظّنِّ بهم، وجَنَوا على الإسلام والقرآن أعظمَ جنايةٍ، وقالوا: نحن أنصار الله ورسوله، الموكَّلُون بكسر أعداء الإسلام وأعداء الرُّسل. ولعمر الله لقد كسروا الدِّين وسلَّطوا عليه المبطلين. وقد قيل: إيّاك ومصاحبةَ الجاهل، فإنّه يريد أن ينفعك فيضرُّك.
فقِفْ مع الأسباب حيث أُمِرْتَ بالوقوف، وفارِقْها حيث أُمِرْتَ بمفارقتها، كما فارقها الخليلُ وهو في تلك السفرة من المنجنيق، حيث عرض له [جبريل]
(2)
أقوى الأسباب، فقال: ألك حاجةٌ؟ فقال: أمّا إليك فلا
(3)
.
(1)
ت: «فتحوا» .
(2)
ليست في ش، د. وأشير إليها في هامش ت.
(3)
تقدم.
ودُرْ معها حيث دارت، ناظرًا إلى مَن أزِمَّتُها بيديه، والتفتْ إليها التفاتَ العبد المأمور إلى تنفيذِ ما أُمِر به والتّحديقِ نحوه، وارْعَها حقَّ رعايتها، ولا تَغِبْ عنها ولا تَفْنَ عنها، بل انظر إليها وهي في رتبتها التي أنزلها الله إيّاها.
واعلم أنّ غيبتك بمسبِّبها عنها نقصٌ في عبوديّتك، بل الكمال أنّ تشهد المعبود، وتشهد قيامك بعبوديّته، وتشهد أنّ قيامك به لا بك، ومنه لا منك، وبحوله وقوّته لا بحولك وقوّتك. ومتى خرجتَ عن ذلك وقعتَ في انحرافين، لابدَّ لك من أحدهما: إمّا أن تغيب بها عن المقصود لذاته، لضعف نظرك وعقلك، وقصور علمك ومعرفتك، وإمّا أن تغيب بالمقصود عنها، بحيث لا تلتفت إليها. والكمالُ أن يُسلِّمك الله من الانحرافين، فتبقى عبدًا ملاحظًا للعبوديّة، ناظرًا إلى المعبود، والله المستعان، وعليه التُّكلان، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.
* * * *
فصل
قال شيخ الإسلام
(1)
: (باب الوجود. أطلق الله تعالى في القرآن اسم الوجود صريحًا في مواضع، فقال: {يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، {اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)} [النساء: 64]، {شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ} [النور: 39]. الوجود: الظَّفَر بحقيقة الشّيء، وهو اسمٌ لثلاثة معانٍ، أوّلها: وجود علمٍ لدنِّيٍّ، يقطع علوم الشّواهد في صحّة مكاشفة الحقِّ إيّاك
(2)
، والثّاني: وجودُ الحقِّ وجودَ عينٍ منقطعًا عن مَساغِ الإشارة، والثّالث: وجود مقام اضمحلال رسم الوجود فيه بالاستغراق في الأوّليّة)
(3)
.
هذا الباب هو العلم الذي شمَّر إليه القوم، والغاية التي قصدوها، ولا ريبَ أنّهم قصدوا معنًى صحيحًا، وعبّروا عنه بالوجود، واستدلُّوا عليه بهذه الآيات ونظيرها، ولكن ليس مقصودهم ما تضمّنه الوجدان
(4)
في هذه الآيات، فإنّه وجدان لمطلوب تعلّق باسمٍ أو صفةٍ، قال تعالى:{أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)} [النساء: 64]، فهذا وجودٌ مقيّدٌ بظَفَرهم بمغفرة الله ورحمته لهم. وكذلك قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
(1)
«المنازل» (ص 107).
(2)
«في صحة مكاشفة الحق إياك» ليست في ش، د.
(3)
ش: «الأزلية» .
(4)
ت: «الوجودان» .
يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، ومعناه: أنّه يجد ما ظنّه من مغفرة الله، فيجد مغفرة الله له حاصلةً. وكذلك:{شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39]، فهذا وجدان الكافر لربِّه عند حسابه له على أعماله، وليس هذا هو الوجود الذي يشير إليه القوم، بل منه الأثر المعروف:«ابنَ آدم، اطلُبْني تجِدْني، فإن وجدتَني وجدتَ كلّ شيءٍ، وإن فتُّك فاتَك كلُّ شيءٍ، وأنا أَحبُّ إليك من كلِّ شيءٍ»
(1)
، ومنه الحديث:«أنا عند ظنِّ عبدي بي»
(2)
، ومنه الأثر الإسرائيليُّ: أنّ موسى صلى الله عليه وسلم قال: يا ربِّ أين أجدُك؟ قال: عند المنكسرةِ قلوبُهم من أجلي
(3)
.
ومنه الحديث الصّحيح: «إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة: عبدي، استطعمتُك فلم تُطعِمْني، قال: يا ربِّ كيف أُطعِمك وأنت ربُّ العالمين؟ قال: استطعمَك عبدي فلانٌ فلم تُطعِمه، أَمَا لو أطعمتَه لوجدتَ ذلك عندي. عبدي، استسقيتُك فلم تَسْقِني، قال: يا ربِّ كيف أَسْقِيك
(4)
وأنت ربُّ العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلانٌ فلم تَسْقِه، أَمَا لو سقيتَه لوجدتَ ذلك عندي. عبدي، مرضتُ فلم تَعُدْني، قال: يا ربِّ، كيف أعودك وأنت ربُّ العالمين؟ قال: مرض عبدي فلانٌ فلم تعده، أَمَا لو عُدْتَه لوجدتَني عنده»
(5)
.
فتأمّلْ قولَه في الإطعام والإسقاء: «لوجدتَ ذلك عندي» أي: لوجدتَ
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم.
(3)
تقدم.
(4)
«أسقيك» ليست في ش، د.
(5)
تقدم.
جزاءه وثوابه عندي. وقوله في العيادة: «لوجدتَني عنده» ، ولم يقل: لوجدت ذلك عندي، إيذانًا بقُربِه من المريض، وأنّه عنده، لذلِّه وخضوعه، وانكسار قلبه، وافتقاره إلى ربِّه، فأوجب ذلك له وجود الله عز وجل عنده. هذا، وهو فوق سماواته مستوٍ على عرشه بائنٌ من خلقه، وهو عند عبده. فوجودُ العبد ربَّه ظَفَرهُ بالوصول إليه.
والناس ثلاثةٌ: سالكٌ، وواصلٌ، وواجدٌ.
فإن قلت: اضرِبْ لي مثلًا أفهم به معنى الوصول في هذا الباب والوجود.
قلت: إذا بلغَك أنّ بمكان كذا وكذا كنزًا عظيمًا، من ظَفِرَ به أو بشيء منه
(1)
استغنى غِنَى الدهر، وترحّل عنه الفقر والعُدْم، فتحرّكتْ نفسُه للسير إليه، فأخذ في التأهُّب للمسير
(2)
، فلمّا جدَّ به السيرُ انتهى إلى الكنز ووصل إليه، ولكن لم يظفَرْ بتحويله إلى داره وحصولِه عنده بعدُ، فهو واصلٌ غير واجدٍ، والذي في الطريق سالكٌ، والقاعد عن الطلب منقطعٌ، وآخذُ
(3)
الكنزِ ــ بحيث حصل عنده، وصار في داره ــ واجدٌ. فهذا المعنى حولَه حام القوم، وعليه دارت إشارتُهم، فعندهم التواجد بدايةٌ، والوجد واسطةٌ، والوجود نهايةٌ.
ومعنى ذلك: أنّه في الابتداء يتكلَّف التواجد، فيقوى عليه حتّى يصير
واجدًا
(1)
، ثمّ يستغرق في وجده حتّى يصل إلى موجوده.
ويستشكل قول أبي الحسن النُّوريِّ رحمه الله: أنا منذ عشرين سنةً بين الوجد والفقد، إذا وجدتُ ربِّي فقدت قلبي، وإذا وجدتُ قلبي فقدت ربِّي
(2)
. ومعنى هذا: أنّ الوجود الصّحيح يُغيِّب الواجدَ عنه، ويُجرِّده منه، فيفنى بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، فإذا وجد الحقيقة غاب عن قلبه وعن صفاته، وإذا غابت عنه الحقيقة بقي مع صفاته. وفي هذا قيل
(3)
:
وجودي أن أغيبَ عن الوجودِ
…
بما يبدُو عليَّ من الشُّهودِ
وما في الوجدِ موجودٌ ولكن
…
فخرتُ بوجْدِ موجودِ الوجود
وقد مُثِّل التواجد والوجد والوجود بمشاهدة البحر وركوبه والغرق فيه، فقيل: التّواجد يوجب استيعابَ العبد، والوجد يوجب استغراقَ العبد، والوجود يوجب استهلاك العبد. وهذه عباراتٌ واستعاراتٌ للمراتب الثّلاثة، وهي البداية والتوسُّط والنِّهاية. والسُّلوك والوصول عندهم قصودٌ، ثمّ ورودٌ، ثمّ شهودٌ، ثمّ وجودٌ، ثمّ خمودٌ، فيَقْصِد أوّلًا، ثمّ يَرِد، ثمّ يشهد، ثمّ يجد، ثمّ تَخْمُد نفسُه وتذهبُ بالكلِّيّة.
والوجد ما يرِد على الباطن من الله تعالى يُكسِبه فرحًا أو حزنًا، وهو
(1)
ت: «وجدا» .
(2)
«الرسالة القشيرية» (ص 247).
(3)
البيتان لجنيد في «ذيل تاريخ بغداد» لابن النجار (3/ 127). والأول بلا نسبة في «الرسالة القشيرية» (ص 247).
فرحةٌ يجدها المغلوب عليه بصفاتٍ شريفةٍ ينظر إلى الله منها. والتواجد استجلاب الوجد بالتذكُّر والتفكُّر، كاتِّساع فرجة الوجد بالخروج إلى فضاء الوجدان، ولا وجْدَ عندهم مع الوجدان، كما لا خبر مع العيان، فالوجد عُرضةٌ للزّوال، والوجود
(1)
ثابتٌ ثبوت
(2)
الجبال، وقد قيل
(3)
:
قد كان يُطرِبني
(4)
وَجْدي فأقعدَني
…
عن رؤية الوجد مَن
(5)
بالوجدِ موجود
والوجد يُطرِب مَن في الوجد راحتُه
…
والوجدُ عند حضور الحقِّ مفقودُ
فالتّواجد: استدعاء الوجد بنوع اختيارٍ وتكلُّفٍ، وليس لصاحبه كمال الوجد، إذ لو كان له ذلك لكان وجدًا، وباب التّفاعل يُنبِئ عن ذلك، فإنّ مبناه على إظهار الصِّفة، وليست كذلك، كما قال
(6)
:
إذَا تَخَازرتُ وما بي مِن خَزَرْ
وقد اختلف الناس في التواجد: هل يُسلَّم لصاحبه؟ على قولين، فقالت
(1)
ت، ر:«والوجدان» .
(2)
ش، د:«بثبوت» .
(3)
البيتان في «عوارف المعارف» للسهروردي (2/ 319 - ط. دار المعارف) بلا نسبة كما هنا، والمؤلف صادر عنه في هذه الفقرة.
(4)
ش، د:«يطرقني» .
(5)
في هامش ش، د:«ما» .
(6)
قاله عمرو بن العاص يومَ صفين ضمن أبيات من الرجز. ويُروى للنجاشي الحارثي وأرطاة بن سُهية وغيرهما. انظر: «شرح أبيات سيبويه» (2/ 394)، و «لسان العرب» (مرر)، و «الدلائل» للسرقسطي (1/ 82). وتخازر الرجلُ: إذا قبض جفنَيْه ليحدِّد النظر.
طائفةٌ: لا يسلَّم لصاحبه، لما فيه من التكلُّف وإظهار ما ليس عنده، وقومٌ قالوا: يسلَّم للصادق الذي ترصَّد لوجدان المعاني الصحيحة، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«ابكُوا، فإن لم تبكُوا فتباكَوْا»
(1)
.
والتحقيق: أنّ صاحب التواجد إن تكلَّفه لحظٍّ وشهوة نفسٍ لم يُسلَّم له، وإن تكلَّفه لاستجلاب حالٍ أو مقامٍ مع الله سُلِّم له، وهذا يُعرَف من حالِ المتواجد وشواهدِ صدقه وإخلاصه.
فصل
وقد تكلّم في «الوجود» الفلاسفة والمتكلِّمون والاتِّحاديّة بما هو أبعد شيءٍ عن الصواب: هل وجود الشّيء عين ماهيَّته أو غير ماهيَّته؟ أو وجود القديم نفسُ ماهيَّته ووجودُ الحادث زائدٌ على ماهيَّته؟
وكلُّ هذه الأقوال خطأٌ، وأصحابها كخابطِ عَشْواء.
والتحقيق: أنّ الوجود والماهيّة إن أُخِذا ذهنيَّينِ فالوجود الذِّهنيُّ عين الماهيّة الذِّهنيّة، وكذلك إن أُخِذا خارجيّين اتَّحدا أيضًا، فليس في الخارج وجودٌ زائدٌ على الماهيّة الخارجة، بحيث يكون كالثوب المشتمل على البدن، هذا خيالٌ محضٌ. وكذلك حصول الماهيّة في الذِّهن هو عين وجودها، فليس في الذِّهن ماهيّةٌ ووجودٌ متغايرينِ
(2)
، بل إن أُخِذ أحدهما ذهنيًّا والآخر خارجيًّا، فأحدهما غير الآخر.
(1)
رواه ابن ماجه (4196) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وفي إسناده أبو رافع إسماعيل بن رافع ضعيف متروك.
(2)
كذا في النسخ بالياء والنون، والسياق يقتضي كونه مرفوعًا بالألف والنون.
وليس المقصود بحث هذه المسألة، فإنّها بعيدةٌ عمّا نحن فيه، وهي من وظائف أرباب الجدل والكلام والفلسفة، لا من وظائف أرباب القلوب والمعاملات، فهؤلاء هِمَمُهم أن يجدوا مطلوبهم ويَظْفَروا به، وأولئك شاكُّون في وجوده: هل هو عين ماهيّته أو زائدٌ على ماهيّته؟ وهل هو وجود مجرَّد مطلقٌ لا يُضاف إليه وصفٌ ولا اسمٌ؟ أم وجودٌ خاصٌّ تُضاف إليه الصِّفات والأسماء؟ فهؤلاء في وادٍ وهؤلاء في وادٍ.
وأعظم الخلق كفرًا وضلالًا: من زعم أنَّه
(1)
نفسُ وجودِ هذه الموجودات، وأن عين وجوده فاض عليها فاكتست من وجوده، فاتّخذ حجابًا من أعيانها، واكتست جلبابًا من وجوده. ولُبِّس عليهم ما لُبِّس على ضعفاء العقول والبصائر من عدم التفريق بين وجود الحقِّ سبحانه وإيجاده، وأنّ إيجاده هو الذي فاض عليها، وهو الذي اكتسته
(2)
، وأمّا وجوده فمختصٌّ به لا يشاركه فيه غيره، كما هو مختصٌّ بماهيّته وصفاته، فهو بائنٌ عن خلقه، والخلق بائنون عنه، فوجودُ ما سواه مخلوقٌ كائنٌ بعد أن لم يكن، حاصلٌ بإيجاده له، فهو الذي أعطى كلّ شيءٍ خَلْقه ووجودَه المختصَّ به، وبان بذاته وصفاته ووجوده عن خلقه.
فصل
قوله: (الوجود: اسمٌ للظّفر بحقيقة الشيء)، هذا الوجود الذي هو مصدر وجد الشيء يجده وجودًا، ووجد ضالّته وجدانًا. وفي «الصِّحاح»
(3)
:
(1)
أي: أنّ وجود الله
…
(2)
ت: «اكتسبته» .
(3)
مادة (وجد).
أوجدَه الله مطلوبَه أي أظفَرَه به، وأوجَدَه أي أغناه. قلتُ: أي جعله ذا جِدَةٍ، قال تعالى:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]. ويقال: وجدَ فلانٌ وُجْدًا ووَجْدًا ووِجْدًا ــ بضمِّ الواو وفتحها وكسرها ــ إذا صار ذا جِدَةٍ وثروةٍ، ووُجِد الشّيء فهو موجودٌ وأوجده الله. ويقال: وجدَ الله الشّيءَ كذا وكذا، على غير معنًى أوجده، كما قال تعالى:{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102]. فالله سبحانه أوجدَه على علمه بأنه يكون على صفةٍ، ثمّ وجده بعد إيجاده على تلك الصِّفة التي علم أنه يكون عليها.
وأمّا الواجد في أسمائه سبحانه فهو بمعنى ذو الوجد والغنى، وهو ضدُّ الفاقد، وهو كالمُوسِع ذي السّعة، قال تعالى:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]، أي ذو سعةٍ وقدرةٍ وملكٍ، كما قال تعالى:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]. ودخل في أسمائه سبحانه الواجد دون الموجد، فإنّ الموجد صفة فعلٍ، وهو مُعطِي الوجود، كالمحيي معطي الحياة، وهذا الفعل لم يجئ إطلاقه في أفعال الله في الكتاب ولا في السُّنّة، فلا يُعرف إطلاقُ: أوجد الله كذا وكذا، وإنّما الذي جاء: خلَقه وبَرَأَه وصَوَّره وأعطاه خَلْقه ونحو ذلك، فلمّا لم يُستعمل فعله لم يجئ اسم الفاعل منه في أسمائه الحسنى، فإنّ الفعل أوسعُ من الاسم. ولهذا أطلق على نفسه أفعالًا لم يَتَسمَّ منها بأسماء الفاعل، كأراد وشاء وأحدثَ ولم يُسَمِّ نفسَه بالمريد والشّائي والمُحدِث، كما لم يُسمِّ نفسَه بالصّانع والفاعل والمُتْقِن وغير ذلك من الأسماء التي أطلقَ أفعالها على نفسه، فباب الأفعال أوسعُ من باب الأسماء.
وقد أخطأ أقبحَ خطأٍ من اشتَقَّ له من كلِّ فعلٍ اسمًا، وبلغ بأسمائه زيادةً على الألف، فسمّاه الماكر والمُخادع والفاتن والكائد ونحو ذلك. وكذلك باب الإخبار عنه بالاسم أوسعُ من تسميته به، فإنّه يُخبَر عنه بأنّه شيءٌ وموجودٌ ومذكورٌ ومعلومٌ ومرادٌ ولا يُسمّى بذلك.
فأمَّا الواجد فلم تجئ تسميته به إلّا في حديث تعداد الأسماء الحسنى
(1)
، والصحيح: أنّه ليس من كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعناه صحيحٌ، فإنه ذو الوجد والغنى، فهو أولى بأن يُسمَّى به من الموجود ومن المُوجِد. أمّا الموجود
(2)
فإنّه منقسمٌ إلى كاملٍ وناقصٍ، وخيرٍ وشرٍّ، وما كان مسمّاه منقسمًا لم يدخل اسمه في الأسماء الحسنى، كالشيء والمعلوم، ولذلك لم يُسَمَّ بالمريد ولا بالمتكلِّم، وإن كان له الإرادة والكلام، لانقسام مسمّى المريد والمتكلِّم. وأمّا المُوجِد فقد سمّى نفسه بأكمل أنواعه، وهو الخالق البارئ المصوِّر، فالمُوجِد كالمُحدِث والفاعل والصّانع.
وهذا من دقيق فقه الأسماء الحسنى، فتأمَّلْه، وبالله التّوفيق.
فصل
الظَّفَر بحقيقة الشّيء، إن كان في باب العلم والمعرفة فهو معرفةٌ تجري فوق حدود العلم، وإن كان للمعاين كان معاينةً، وهو فوق المعرفة، وإن كان للطّالب فهو جمعيَّتُه له بكلِّه على مطلوبه، وإن كان لصاحب الجَمْع كان
(1)
هو ما أخرجه الترمذي (3507) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي عقب روايته: وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نعلم في كبير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث.
(2)
ش، ت:«الوجود» .