الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
قال
(1)
: (فأمّا تفريد الإشارة إلى الحقِّ فعلى ثلاث درجاتٍ: تفريد القصد عطشًا، ثمّ تفريد المحبّة تلفًا، ثمّ تفريد الشُّهود اتِّصالًا).
وذكر في هذه الدرجة ثلاثة أمورٍ: تفريد القصد والمحبّة والشُّهود، فالقصد بدايةٌ، والشُّهود نهايةٌ، والمحبّة واسطةٌ، فيُفرد قصدَه وحبَّه وشهودَه، وذلك يتضمّن إفراد مطلوبه ومحبوبه ومشهوده، فيكون فردًا لفردٍ، فلا ينقسم طلبه ولا حبُّه ولا شهوده، ولا ينقسم مطلوبه ومحبوبه ومشهوده، فتفريد الطّلب والمحبّة والشُّهود صدقٌ، وتفريد المطلوب والمحبوب والمشهود إخلاصٌ.
فالصِّدق والإخلاص: هو أن تبذل كلَّك لمحبوبك وحده، ثمّ تحتقر ما بذلتَ في جنْبِ ما يستحقُّه، ثمّ لا تنظر إلى بَذْلِك.
وقيَّد تفريد القصد بالعطش، وتفريد المحبَّة بالتَّلَف، وتفريد الشُّهود بالاتِّصال. والعطش ــ كما قال ــ: هو غلبة ولوعٍ بمأمولٍ، والتَّلَف: هو المحبّة المهلكة، والاتِّصال: سقوط الأغيار عن درجة الاعتبار. فهذا حكم التفريد في الدرجة الأولى.
قال
(2)
: (وأمّا
تفريد الإشارة بالحقِّ
فعلى ثلاث درجاتٍ: تفريد الإشارة بالافتخار بَوْحًا، وتفريد الإشارة بالسُّلوك مطالعةً، وتفريد الإشارة بالقبض غيرةً).
(1)
«المنازل» (ص 108).
(2)
المصدر نفسه.
ذكر أيضًا في هذه الدّرجة ثلاثة أمورٍ: الافتخار والسُّلوك والقبض، فالافتخار نوعان: مذمومٌ ومحمودٌ، فالمذموم: إظهار مرتبته على أبناء جنسه ترفُّعًا عليهم، وهذا غير مرادٍ، والمحمود: إظهار الأحوال السّنيّة والمقامات الشريفة بَوْحًا بها، أي تصريحًا وإعلانًا، لا على وجه الفخر، بل على وجه تعظيم النِّعمة، والفرح بها، وذكرها، ونشرها، والتحدُّث بها، والتّرغيب فيها، وغير ذلك من المقاصد في إظهارها، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«أنا سيِّد ولد آدم ولا فخْرَ، وأنا أوّل من تنشقُّ عنه الأرض يومَ القيامة ولا فَخْرَ، وأنا أوّل شافعٍ ومشفَّعٍ ولا فَخْرَ»
(1)
.
وقال سعد بن أبي وقاصٍ: أنا أوّل من رمى بسهمٍ في سبيل الله
(2)
. وقال أبو ذرٍّ رضي الله عنه: لقد أتى عليَّ كذا وكذا وإنِّي لثُلُث الإسلام
(3)
. وقال عليٌّ رضي الله عنه: إنّه
(4)
لعهد النبيِّ الأمِّيِّ إليّ: أنْ لا يُحِبّني إلّا مؤمنٌ، ولا يُبغِضني إلّا منافقٌ
(5)
. وقال عمر رضي الله عنه: وافقتُ ربِّي في ثلاثٍ
(6)
. وقال عليٌّ
(1)
أخرجه أحمد (10987)، والترمذي (3615)، وابن ماجه (4308) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان ضعيف. وهو صحيح بشواهده من حديث ابن عباس عند مسلم (2278)، ومن حديث أنس في «المسند» (3693)، ومن حديث واثلة بن الأسقع عند ابن حبان (6242).
(2)
رواه البخاري (4326).
(3)
رواه البخاري (3727، 3858) عن سعد بن أبي وقاص من قوله، لا عن أبي ذر.
(4)
«إنه» ليست في ش، ر.
(5)
رواه مسلم (78).
(6)
رواه البخاري (402)، ومسلم (2399).
ــ وأشار إلى صدره ــ: إنّ هاهنا علمًا جَمًّا، لو أصبتُ له حملةً
(1)
. وقال عبد الله بن مسعودٍ: أخذتُ من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورةً، وإنّ زيدًا ليلعب مع الغلمان
(2)
. وقال أيضًا: ما من كتاب الله آيةٌ إلّا وأنا أعلم أين نزلت؟ وماذا أريد بها؟ ولو أعلم أنّ أحدًا أعلم بكتاب الله منِّي تبلغه الإبل لرحلت إليه
(3)
. وقال بعض الصّحابة: لأَنْ تختلف فيَّ الأسنَّةُ أحبُّ إليَّ من أن أحدِّث نفسي في الصلاة بغير ما أنا فيه
(4)
. وهذا أكثر من أن يُذكر.
والصادق تختلف عليه الأحوال، فتارةً يبوح بما أولاه ربُّه، ومنَّ عليه به، لا يطيق كتمان ذلك، وتارةً يُخفِيه ويكتمه، لا يطيق إظهاره، وتارةً يقبض، وتارةً يبسط وينشط، وتارةً يجد لسانًا قائلًا لا يسكت، وتارةً لا يقدر أن ينطق بكلمةٍ، وتارةً تجده ضاحكًا مسرورًا، وتارةً باكيًا حزينًا، وتارةً يجد جمعيّةً لا سبيلَ للتّفرقة عليها، وتارةً تفرقةً لا جمعيَّةَ معها، وتارةً يقول: واطرباه! وأخرى يقول: واحُزناه! بخلاف من هو على لونٍ واحدٍ لا يوجد على غيره، فهذا لونٌ والصّادق لونٌ.
(1)
رواه أبو نعيم في «الحلية» (1/ 79)، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 182) وغيرهما، وإسناده ضعيف، وروي من طرق أخرى ضعيفة. قال ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/ 984): هو حديث مشهور عند أهل العلم، يستغني عن الإسناد لشهرته عندهم.
(2)
روى البخاري (5000) الجزء الأول منه. وهو بتمامه عند النسائي (5064).
(3)
رواه مسلم (2463).
(4)
رواه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (26/ 23) عن عامر بن قيس رحمه الله. وأورده الغزالي في «الإحياء» (1/ 282).
وقوله: (وتفريد الإشارة بالسُّلوك مطالعةً)، أي تجريد الإشارة إلى المطلوب بالسُّلوك اطِّلاعًا على حقائقه.
وقوله: (وتفريد الإشارة بالقبض غيرةً)، أي تخليص الإشارة إلى المطلوب بالقبض غيرةً عليه.
والمقصود: أنّه تارةً يُفرِد إشارتِه بما أولاه الحقُّ، لا يكتمه ولا يخفيه، وتارةً يُفرد إشارته بحقائق السُّلوك اطِّلاعًا عليها، وإطْلاعًا لغيره، وتارةً يشير بالقبض غيرةً وسترًا، فيشير بالافتخار تارةً، وبالاطِّلاع تارةً، وبالقبض تارةً. فافتخارُه بالمنعم ونعمته، لا بنفسه وصفته، وإطْلاعُه لغيره تعليمٌ وإرشادٌ وتبصيرٌ، وقبضُه غيرةٌ وسترٌ. وحقيقة الأمر ما ذكرناه: أنّ الصّادق بحسب دواعي صدقه وحاله مع الله، وحكم وقته وما أقيم فيه.
فصل
قوله
(1)
: (وأمّا تفريد الإشارة عن الحقِّ فانبساطٌ ببسطٍ ظاهرٍ، يتضمّن قبضًا خالصًا، للهداية إلى الحقِّ والدّعوة إليه).
يريد أنّ صاحب هذه الإشارة منبسطٌ بسطًا ظاهرًا، مع أنّ باطنه مجموعٌ على الله، وهو القبض الخالص الذي أشار إليه، فهو في باطنه مقبوضٌ لِما هو فيه من جمعيَّته على الله، وفي ظاهره مبسوطٌ مع الخلق بسطًا ظاهرًا لقوّته، قصدًا لهدايتهم إلى الحقِّ، ودعوتهم إليه.
وحاصل الأمر: أنّه مبسوطٌ بظاهره لدعوة الخلق إلى الله، ومقبوضٌ
(1)
«المنازل» (ص 109).
بباطنه عمّا سوى الله، وظاهره منبسطٌ مع الخلق، وباطنه منقبضٌ عنهم لقوَّة تعلُّقه بالله واشتغاله به عنهم، فهو كائنٌ بائنٌ، داخلٌ خارجٌ، متّصلٌ منفصلٌ. قال تعالى:{وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 87 - 88]، فأمره بتجريد الدعوة إليه، وتجريد عبوديّته وحده، وهذان هما أصلا الدِّين وعليهما مداره، وبالله التوفيق.
* * * *
فصل
قال
(1)
: (باب الجمع: قال الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]).
قلت: اعتقد جماعةٌ أنّ المراد بالآية: سلبُ فعل الرّسول صلى الله عليه وسلم عنه وإضافتُه إلى الرّبِّ تعالى، وجعلوا ذلك أصلًا في الجبر، وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد، وتحقيق نسبتها إلى الرّبِّ تعالى وحده.
وهذا غلطٌ منهم في فهم القرآن، ولو صحّ ذلك لوجب طرده [في جميع الأعمال]
(2)
، فيقال: ما صلّيتَ إذ صلّيتَ، ولا صمتَ إذ صمتَ، ولا ضحَّيتَ إذ ضحَّيتَ، ولا فعلتَ كلَّ فعلٍ إذ فعلتَه، ولكنّ الله فعل ذلك. فإن طردوا ذلك لزمهم في جميع أفعال العباد: طاعاتهم ومعاصيهم، إذ لا فرق. وإن خصُّوه بالرّسول صلى الله عليه وسلم وحده وأفعاله جميعها أو رميه وحده تناقضوا. فهؤلاء لم يوفَّقوا
(3)
لفهم ما أريد بالآية.
وبعد، فهذه الآية نزلت في شأن رميه صلى الله عليه وسلم المشركين يوم بدرٍ بقبضةٍ من الحصى
(4)
، فلم تدَعْ وجهَ أحدٍ منهم إلّا أصابته
(5)
. ومعلومٌ أنّ تلك الرّمية
(1)
«منازل السائرين» (ص 109).
(2)
ما بين الحاصرتين من ر وحدها.
(3)
ما عدا ت: «يقفوا» ، تحريف.
(4)
ت، ر:«الحصباء» .
(5)
انظر: «سيرة ابن هشام» (1/ 668) و «تفسير الطبري» (11/ 83).
من البشر لا تبلغ هذا المبلغ، فكان منه صلى الله عليه وسلم مبدأُ الرّمي، وهو الحذف
(1)
، ومن الرَّبِّ تعالى نهايتُه، وهو الإيصال. فأضاف إليه رميَ الحذف الذي هو مبدؤه، ونفى عنه رميَ الإيصال الذي هو نهايته
(2)
.
ونظير هذا: قوله في الآية نفسها: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} ، ثمّ قال:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، فأخبر: أنّه وحده هو الذي تفرَّد بقتلهم، ولم يكن ذلك بكم
(3)
أنتم، كما تفرّد بإيصال الحصى إلى أعينهم، ولم يكن ذلك برسوله
(4)
.
ولكن وجه الإشارة بالآية: أنّه سبحانه أقام أسبابًا ظاهرةً لدفع المشركين، وتولَّى دفعَهم وإهلاكَهم بأسبابٍ باطنةٍ غير الأسباب التي تظهر للنّاس، فكان ما حصل من الهزيمة والقتل والنُّصرة مضافًا إليه وبه، وهو خير النَّاصرين.
قال
(5)
: (الجمعُ: ما أسقطَ التفرقة، وقطَع الإشارة، وشخَص عن الماء والطِّين، بعد صحّة التمكين، والبراءة من التلوين، والخلاص من شهود
(1)
في ت بالخاء المعجمة هنا وفيما يأتي.
(2)
وانظر: «زاد المعاد» (3/ 213، 713) و «شفاء العليل» (ص 59). وانظر من كتب شيخ الإسلام: «منهاج السنة» (3/ 218)، و «الرد على البكري» (ص 143)، وكذا «مجموع الفتاوى» (2/ 331، 375)، (15/ 39).
(3)
«بكم» من ت، ر.
(4)
ر: «من رسوله» .
(5)
«منازل السائرين» (ص 109).