الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله
(1)
:
(الدرجة الثالثة: اتِّصال الوجود
، وهذا الاتِّصال لا يُدرَك منه نعتٌ ولا مقدارٌ، إلَّا اسمٌ معارٌ، ولمحٌ إليه يُشار
(2)
).
يقول: لما لم يُعهَد هذا النوع من الاتِّصال، وكان أعزَّ شيءٍ وأغربه على النُّفوس علمًا وحالًا= لم تَفِ العبارة بكشفه، فإنَّ اللفظ ظلوم
(3)
والعبارة فتَّانة، إمَّا أن يزيغ
(4)
إلى زيادةٍ مُفسدةٍ أو نقصٍ مخلٍّ، أو يَعدِل بالمعنى إلى غيره فيُظَنَّ أنَّه هو.
والذي تُمْكِن العبارةُ عنه مِن ذلك أنَّه: غلبة نور القرب، وتمكُّن المحبَّة، وقوَّة الأنس، وكمال المراقبة، واستيلاء الذِّكر القلبيِّ، فيذهب العبدُ عن إدراكه بحاله لِما قهره من هذه الأمور، فيبقى بوجودٍ آخر غير وجوده الطَّبعي
(5)
.
وما أظنُّك تصدِّق بهذا: أنَّه يُصيِّر له وجودًا
(6)
آخر، وتقول: هذا خيالٌ ووهمٌ! فلا تعجل بإنكار ما لم تُحِط بعلمه، فضلًا عن ذوق حاله؛ وأعط القوس باريها، وخلِّ المطايا وحاديها. فلو أنصفت لعرفت أنَّ الوجود الحاصل لمعذَّبٍ مُضيَّقٍ عليه في أسوأ حالٍ وأضيقِ سجنٍ وأنكدِ عيشٍ إذا
(1)
«المنازل» (ص 100).
(2)
ت، ر:«مُشار» . وهو لفظ مطبوعة «المنازل» وشرحي التلمساني (ص 549) والقاساني (ص 557).
(3)
ر: «لملوم» ، تصحيف.
(4)
أي: اللفظ.
(5)
ت، ر:«الطبيعي» .
(6)
في المطبوع: «يصير له وجودٌ» .
فارق هذه الحال، وصار إلى مُلكٍ هنيٍّ واسعٍ نافذةٍ فيه كلمتُه، مطاعٍ أمره، قد انقادت له الجيوش واجتمعت عليه الأمَّة= فإنَّ وجوده حينئذٍ غير الوجود الذي كان فيه. وهذا تشبيهٌ على التقريب، وإلَّا فالأمر أعظم من ذلك وأعظم، فلهذا قال:(لا يُدرَك منه نعت)، أي: لا يُدرك منه نعتٌ يُطابقه ويحيط به، فإنَّ الأمور العظيمة جدًّا نعتُها لا يكشف حقيقتها على ما هي عليه، وليس في الدُّنيا ممَّا في الآخرة إلَّا الأسماء، وإنَّما يُذكَر بعض لوازمها ومتعلَّقاتها، فيدلُّ بالمذكور على غيره.
وقوله: (ولا مقدار) يريد: مقدار الشرف والمنزلة، كما تقول: فلانٌ كبير المقدار.
وقوله: (إلَّا اسمٌ معارٌ ولمحٌ إليه يُشار)، لمَّا كان الاسم لا يبلغ الحقيقة ولا يطابقها، فكأنَّه لغيرها وأعير إطلاقُه عليها عاريةً. وكذلك اللمح المشار هو الذي يُشار به إشارةً إلى الحقيقة.
وبعد، فالشَّيخ يدندن حول بحر الفناء، وكأنَّه يقول: صاحب هذا الاتِّصال قد فني في الوجود، بحيث صار نقطةً انحلَّ تعيُّنها، واضمحلَّ تكوُّنها، ورجع عودُها على بدئها، ففني من لم يكن، وبقي من لم يزل؛ فهناك طاحت الإشارات، وذهبت العبارات، وفنيت الرُّسوم {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه: 111].
* * * *
فصل
قال صاحب «المنازل»
(1)
: (باب الانفصال. قال الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]. ليس في المقامات شيءٌ فيه من التّفاوت ما في الانفصال).
وجه الإشارة بالآية أنَّه سبحانه المقرِّب المُبعد، فليحذر القريب من الإبعاد والمتَّصل من الانفصال، فإنَّ الحقَّ ــ جل جلاله ــ غيورٌ، لا يرضى ممَّن عرفه ووجد حلاوة معرفته، واتَّصل قلبه بمحبَّته والأنس به، وتعلَّقت روحه بإرادة وجهه الأعلى= أن يكون له التفاتٌ إلى غيره البتَّة.
ومِن غَيرته سبحانه حرَّم الفواحش، والله سبحانه يغار أشدَّ الغَيرة على عبده أن يلتفت إلى سواه؛ فإذا أذاقه حلاوةَ محبَّتِه، ولذَّةَ الشَّوق إليه، وأنسَ معرفته، ثمَّ ساكن غيره= باعَدَه مِن قربه، وقطعه مِن وصله، وأوحش سرَّه، وشتَّت قلبه، ونَغَّص عيشه، وألبسه رداءَ الذلِّ والصغار والهوان؛ فنادى عليه حالُه، إن لم يصرِّح به قالُه: هذا جزاء من تعوَّض عن وليِّه وإلهه وفاطره ومَن لا حياة له إلَّا به بغيره، وآثر غيرَه عليه، فاتَّخذ سواه له حبيبًا، ورضي بغيره أَنيسًا، واتّخذ سواه وليًّا،
(2)
فإذا ضُرب هذا القلب بسوط البعد والحجاب، وسلِّط عليه من يسومه سوء العذاب، وملئ من الهموم والغموم والأحزان، فصار محلًّا للجيف والأقذار والأنتان، وبُدِّل بالأنس وحشةً، وبالعزِّ ذلًّا، وبالقَنَع حرصًا، وبالقرب بعدًا وطردًا، وبالجمع شتاتًا وتفرقةً= كان هذا بعض جزائه. وحينئذٍ فتَطْرُقه الطوارق المؤلمات، وتعتريه وفود الأحزان والهموم بعد وفود المسرَّات.
قرأ قارئٌ بين يدي السَّريِّ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45]، فقال السريُّ: تدرون ما هذا الحجاب؟ هذا حجاب الغيرة، ولا أحد أغير من الله
(1)
. فمن عرفه وذاق حلاوة قربِه ومحبَّته، ثمَّ رجع عنه إلى مساكنة غيره= ثبَّطَ جوارحَه عن طاعته، وعقل قلبه عن إرادته ومحبَّته، وأخَّره عن محلِّ قربه، وولَّاه ما اختاره لنفسه.
وقال بعضهم: احذره
(2)
، فإنَّه غيورٌ، لا يحبُّ أن يرى في قلب عبده سواه
(3)
.
ومن غيرته سبحانه: أنَّ صفيَّه آدم لمَّا ساكن بقلبه الجنَّة، وحرص على الخلود فيها أخرجه منها.
ومن غيرته سبحانه: أنَّ إبراهيم خليله لمَّا أخذ إسماعيلُ شعبةً من قلبه
(1)
«القشيرية» (ص 546).
(2)
ت: «احذروه» .
(3)
«القشيرية» (ص 550).
أمره بذبحه، حتّى يخرج من قلبه
(1)
.
إنَّما كان الشِّرك عنده ذنبًا لا يُغفَر لتعلُّق قلب المشرك به وبغيره، فكيف بمن علَّق قلبَه كلَّه بغيره وأعرض عنه بكلِّيَّته؟
إذا أردت أن تعرف ما حلَّ بك من بلاء الانفصال وذلِّ الحجاب، فانظر لمن استعبد قلبَك، واستخدم جوارحَك، وبمن شُغِل سرُّك، وأين يبيت قلبك إذا أخذت مضجعك؟ وإلى أين يطير إذا استيقظتَ من منامك؟ فذلك هو معبودك وإلهك؛ فإذا سمعت النِّداء يوم اللقاء: لينطلق كلُّ أحدٍ مع من كان يعبده
(2)
، انطلقت معه كائنًا من كان.
لا إله إلَّا الله! ما أشدَّ غبنَ من باع أطيب الحياة في هذه الدار المتَّصلة بالحياة الطيِّبة هناك والنعيمَ المقيمَ بالحياة المنغَّصة المنكَّدة
(3)
المتَّصلة بالعذاب الأليم؛ والمدَّةُ ساعةٌ من نهارٍ، أو عشيَّةٌ أو ضحاها، أو يومٌ أو بعض يومٍ، فيه ربح الأبد وخسارة الأبد
(4)
.
فما هي إلَّا ساعةٌ ثمَّ تنقضي
…
ويذهب هذا كلُّه ويزولُ
(5)
(1)
زِيد في ر: «ذلك المزاحم» .
(2)
كما ثبت من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الطويل في الشفاعة. أخرجه البخاري (806) ومسلم (182).
(3)
ش، د:«المنكرة» ، تصحيف. ت:«النكدة» .
(4)
ر: «أو خسارة الأبد» .
(5)
أنشده المؤلف في «بدائع الفوائد» (2/ 672) و «الداء والدواء» (ص 454) و «روضة المحبين» (ص 9). ولعله أخذه من شعرٍ لبهاء الدين زُهير الكاتب في «ديوانه» (ص 279):
وما هي إلا غيبةٌ ثم نلتقي
…
ويذهب هذا كلُّه ويزولُ
فصل
قال الشيخ
(1)
: «ليس في المقامات شيءٌ فيه من التفاوت ما في الانفصال» .
يعني: أنَّ بين درجات المقامات تناسب
(2)
واختلاف قريب
(3)
، ومقام الانفصال قليل التناسب في درجاته كثيرُ التفاوت، كما سنذكره.
قال
(4)
: (ووجوهه ثلاثة. أحدها: انفصالٌ هو شرط الاتِّصال، وهو الانفصال عن الكونين بانفصال نظرك إليهما، وانفصالِ توقُّفك عليهما، وانفصالِ مبالاتك بهما).
يعني: أنَّ انفصال العبد عن رسومه بالفناء هو شرط اتِّصال وجوده بالبقاء، فلا ولاءَ إلا ببراءٍ
(5)
: لا ولاءَ لله ورسوله إلَّا بالبراء ممَّا يضادُّ ذلك ويخالفه. وقد قال إمام الحنفاء لقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26 - 27]. وقال الفتية: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف: 16]، أي: فلم تعتزلوه.
وهذه العبارة التي ذكرها الشيخ في بادئ الرأي لا تخلو عن إنكارٍ حتَّى
(1)
«المنازل» (ص 100).
(2)
كذا، والجادة النصب.
(3)
ر: «يسير» .
(4)
«المنازل» (ص 100).
(5)
في ت وُضعت إشارة لحذف «ولاء إلا ببراء» .
يتبيَّن
(1)
معناها والمراد بها، فإنَّ الكونين عبارةٌ عن جميع ما خلقه الله في الدُّنيا والآخرة، ويعبَّر عنهما بعالم الغيب وعالم الشهادة، وفيهما الرُّسل والأنبياء، والملائكة والأولياء، فكيف ينفصل عنهم ولا ينظر إليهم، ولا يقف بقلبه عليهم، ولا يبالي بهم؟
فاعلم أنَّ في لسان القوم من الاستعارات، وإطلاق العامِّ وإرادة الخاصِّ، وإطلاق اللَّفظ وإرادة إشارته دون حقيقة معناه= ما ليس في لسان أحدٍ من الطوائف غيرهم. ولهذا يقولون: نحن أصحاب الإشارة لا أصحاب العبارة
(2)
، والإشارة لنا والعبارة لغيرنا. وقد يطلقون العبارة التي يطلقها الملحد، ويريدون بها معنًى لا فساد فيه. وصار هذا سببًا لفتنة طائفتين: طائفة تعلَّقوا عليهم بظاهر عباراتهم، فبدَّعوهم وضلَّلوهم؛ وطائفة نظروا إلى مقاصدهم ومغزاهم، فصوَّبوا تلك العبارات، وصحَّحوا تلك الإشارات. وطالب الحقِّ يقبله ممَّن كان، ويردُّ ما خالفه على من كان.
ومراد الشيخ وأهل الاستقامة: أنَّ النفس لمَّا كانت مائلةً إلى الملذوذات المحسوسة والمعنويَّة المشاهدة والغائبة
(3)
= كان النظر إليها والوقوفُ معها علَّةً في الطريق والقصد جميعًا، فكان شاغلًا لها عن النظر إلى نفس المقصود وحده، والوقوفِ معه دون غيره، والالتفاتِ إليه دون ما سواه.
فمتى قوي تعلُّق القلب بالمقصود الأعلى، بحيث يَشْغَله ذكرُه عن ذكر
(1)
ت، ر:«يبين» .
(2)
ت، ر: «إشارةٍ
…
عبارةٍ».
(3)
ت، ر:«المعاينة» ، ولعل المثبت أقرب.