الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسيح كان يقول: على قدر ما تتعبون ههنا
(1)
تستريحون هنالك، وعلى قدر ما تستريحون ههنا تتعبون هنالك.
فالعالِمُ يحذِّرك ويمنعك الوقوف حتّى تبلغ المأمَن، وعارِفُ الملاحدةِ يُريحك
(2)
مِن كدِّ السير
(3)
ومؤنة السّفر، حتّى تؤخَذ في الطّريق.
فصل
قال
(4)
:
(الدّرجة الثّالثة: سرورُ سماع الإجابة
، وهو سرورٌ يمحو آثار الوَحْشة، ويقرع بابَ المشاهدة، ويُضحِك الرُّوح).
قيّد الشّيخُ السّماع بكونه سماع إجابةٍ
(5)
، فإنّه السّماعُ المنتفَعُ به، لا مجرّد سماع الإدراك، فإنّه مشتركٌ بين المجيب والمعرض، وبه تقومُ الحجّةُ وينقطع العذر. ولهذا قال
(6)
أصحابُه: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93].
و
(7)
قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم لليهوديِّ الذي سأله عن أمورٍ من الغيب: «ينفعك إن
(1)
د: «هنا» .
(2)
ط: «يوهمك الراحة»
(3)
ر: «المسير» .
(4)
«المنازل» (ص 85).
(5)
د: «الإجابة» .
(6)
ط: «قال الله عن» .
(7)
في هامش د لحق: «ولهذا» مصححًا عليها.
حدّثتك؟ قال: أسمع بأذني»
(1)
.
وأمّا سماع الإجابة: ففي مثل قوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] أي مستجيبون لهم، وفي قوله:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 41] أي: مستجيبون له. وهو المراد.
وهو المراد
(2)
بقول المصلِّي: «سمع الله لمن حمده» ، أي أجاب حَمْد مَن حمدَه، وهو السّمع الذي نفاه الله عمّن لم يُرِد به خيرًا، كقوله:{(22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] أي لجعلهم يسمعون سمعَ إجابةٍ وانقيادٍ. وقيل: المعنى لأفهمهم. وعلى هذا فالمعنى: لأسْمَع قلوبَهم، فإنّ سماعَ القلب يتضمّن الفهمَ. والتّحقيق: أنّ كلا الأمرين مرادٌ، فلو علم فيهم خيرًا لأفْهَمَهم، وجعلهم مستجيبين
(3)
لما سمعوه وفهموه.
والمقصود: أنّ سماع الإجابة هو سماع انقياد القلب والرُّوح والجوارح لما سمعَتْه
(4)
.
قوله: (وهو يمحو آثار الوحشة) يعني: يزيل بقايا الوحشة التي سبّبها تركُ الانقياد التّامِّ. فإنّه على قدْر ذلك تكون الوحشة، وزوالُها إنّما يكون بالانقياد التّامِّ.
(1)
أخرجه مسلم (315) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
(2)
ر: «وهذا .. » ، وقوله:«وهو المراد» ليست في د، ت.
(3)
ط: «ولجعلهم يستجيبون» .
(4)
ط زيادة: «الأذنان» .
وأيضًا: فإنّه يبقى على أهل الدّرجة الثّانية آثارٌ، وهم أهل كشف حجاب العلم. فإنّه إذا كُشِف عنهم حجاب العلم، وأفضوا إلى المعرفة بقيت عليهم بقايا من آثار ذلك الحجاب، فإذا حصلوا في هذه الدّرجة زالت تلك البقايا.
وقد يُوجّه كلامُه على معنًى آخر، وهو أنّه إذا دعا ربّه سبحانه، فسمع ربُّه دعاءَه سماعَ إجابةٍ، وأعطاه ما سأله، على حسب مراده ومطلبه، أو أعطاه خيرًا منه
(1)
= حصَل له بذلك سرورٌ يمحو مِن قلبه آثار ما كان يجده من وَحشة البُعد، فإنّ للعطاء والإجابة سرورًا وأُنْسًا وحلاوةً، وللمنع وحشةً ومرارةً. فإذا تكرّر منه الدُّعاء، وتكرّر من ربِّه سماعُ إجابته لدعائه= محا عنه آثارَ الوحشة، وأبْدَله بها أنسًا وحلاوةً.
قوله: (ويقرع
(2)
باب المشاهدة). يريد ــ والله أعلم ــ مشاهدة حضرة الجمع التي يشمِّر إليها السّالكون عنده، وإلّا فمشاهدة الفضل والمنّة قد سبقت في الدّرجتين الأولتين، وانتقل المُشاهِد لذلك إلى ما هو أعلى منه، وهو مشاهدة الحضرة المذكورة.
قوله: (ويُضحِك الرُّوح) يعني: أنّ سماعَ الإجابة يُضحك الرُّوحَ لسرورها بما حصل لها من ذلك السّماع. وإنّما خصّ الرُّوحَ بالضّحك ليُخرجَ به سرورًا يُضحك النّفسَ والعقلَ والقلب، فإنّ ذلك يكون قبل رفع الحجاب الذي أشار إليه، إذ محلُّه النّفس، فإذا ارتفع ومحا الشُّهود رسم النّفس بالكلِّيّة: كان الإدراك حينئذٍ بالرُّوح، فيُضحكها السُّرور.
وهذا مبنيٌّ على قواعد القوم في الفرق بين أحكام النّفس والقلب والرُّوح
(1)
.
و «الفتح» عندهم نوعان: فتحٌ قلبيٌّ، وفتحٌ روحيٌّ. فالفتح القلبيُّ يجمعه على الله ويلمُّ شعَثَه، والفتح الرُّوحيُّ يُفنيه
(2)
عنه ويجرِّده منه، وبالله التّوفيق.
* * * *
(1)
ينظر «إحياء علوم الدين» : (3/ 3 - 5)، وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية عليها في «الرد على الشاذلي» (ص 170 - 177).
(2)
ط: «يغنيه» .