الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليق على الآية فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ
هذه الآية وإن كانت متصلة بالموضوع الخامس الذي دار الكلام عليه في الآيات فإن إطلاقها يجعل ما فيها تنديدا وإنذارا عاما مستمر التلقين. ولقد جاء في الآية [119] من هذه السورة جملة فيها بعض المشابهة وعلقنا عليها بما تبادر لنا أنه المتوافق مع ما يلهمه فحواها ومقامها غير أنه يلحظ فرق بين فحوى الآيتين.
حيث جاءت الآية [119] كإخبار وإنذار وجاءت هذه كتنديد وإنذار. وحيث تتحمل الأولى أن تكون تصدت من يضل متأثرا بهواه أو يضلّ غيره بهواه. وجاءت هذه صريحة ضدّ الذين يضلون غيرهم ووصفتهم بالظالمين ومع ذلك فإن ما نبهنا عليه وبخاصة ضد الذين يضلمون الناس بأهوائهم وافترائهم على الله بدون علم وبرهان ينطوي في هذه الآية أيضا.
ولقد حرمت الشريعة الموسوية التي تعتبر شريعة مسيحية أيضا من الوجهة النظرية والتي حكتها الأسفار المتداولة عزوا إلى توراة موسى المفقودة وإلى الروايات عنها هذه المحرمات الأربعة، غير أنها حرمت أشياء كثيرة أخرى من المأكولات غير محرمة في الشريعة الإسلامية بدون تعليل برجس أو فسق على ما سوف نذكره بعد. كما أنها لم تذكر حالة الاضطرار التي ذكرها القرآن وعفا عنها في نطاق الضرورة حيث يكون في هذا مصداق لما ذكرته آية الأعراف [157] من مهمة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من تحليل الطيبات وتحريم الخبائث ورفع الإصر والأغلال والتكاليف الشديدة التي كانت على اليهود والنصارى وبالتالي يكون في ذلك توكيد لذلك الترشيح.
تعليق على الآية قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ واستطراد إلى أسلوب التشريع النبوي
في تعليل المحرمات الأربعة في الآية بالرجس والفسق وحصر التحريم فيها ونفي تحريم أي شيء غيرها من المأكولات مبدأ من المبادئ القرآنية المحكمة
بحل كل ما هو طيب وليس فيه معصية ولا خبث ولا نجاسة من المأكولات عامة.
ومثل هذا يقال بالنسبة إلى استثناء حالة الاضطرار التي يسمح فيها للمضطر عدم الالتزام بذلك وشرط أن لا يكون في ذلك تحايل ولا تجاوز للضرورة. وفي كل هذا ما فيه من ترشيح الشريعة الإسلامية للخلود والشمول، وهذه المبادئ مما تكرر تقريره في القرآن في مناسبات عديدة مرّ بعضها في السور التي سبق تفسيرها وبخاصة في سورة الأعراف.
ويلحظ أن الآية وصفت الدم المحرم بالمسفوح أي السائل بحيث يقال إن هذا هو الأمر المستقر. ولقد روى البغوي عن ابن عباس وغيره أن المسلمين في الصدر الأول كانوا يرون الدم العالق باللحم والمخ والعظم والعروق خارجا عن نطاق التحريم لأنه غير سائل ويرون التحريم منحصرا في ما خرج من الأوداج سائلا في حالة حياة الحيوان، حيث كان العرب يفصدون الحيوان، وهو حي ويطبخون دمه. ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة في صدد حالة الاضطرار المذكورة في الآية، منها حديث رواه الطبري بطرقه عن أبي واقد الليثي قال:«قلنا يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا فيها مخمصة فما يصلح لنا من الميتة؟ قال: إذا لم تصطبحوا أو تغتدوا أو تحتفؤوا بقلا فشأنكم بها» . وروى حديثا آخر عن الحسن جاء فيه:
«سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم إلى متى يحل لي الحرام قال إلى أن يروى أهلك من اللبن أو تجيء ميرتهم» . وروى حديثا ثالثا عن مروة جاء فيه: «سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم في الذي حرم الله عليه وأحله له. فقال: يحل لك الطيبات ويحرم عليك الخبائث.
إلا أن تفتقر إلى طعام فتأكل منه حتى تستغني عنه. فقال رجل: وما فقري الذي يحلّ لي وما غناي الذي يغنيني عنه؟ فقال: إذا كنت لا ترجو غناء تطلبه فتبلغ من ذلك شيئا فاطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه. فقال أعرابي: وما غناي الذي أدعه إذا وجدته فقال: إذا أرويت أهلك غبوقا من الليل فاجتنب ما حرّم الله» .
ولقد أورد ابن كثير هذه الأحاديث في السياق نفسه وعزا أولها إلى الإمام أحمد وأورد بالإضافة إليها حديثا رواه إلى أبي داود جاء فيه: «إن ناقة ضلت لرجل
فوجدها آخر فمرضت عنده فقالت له امرأته أنحرها فأبى فنفقت فقالت له اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها فنأكله فقال لا حتى أسأل رسول الله فأتاه فسأله فقال هل عندك غنى يغنيك قال لا قال كلوها» . والأحاديث وإن لم ترد في الصحاح فإن فيها توافقا لروح الآيات وبيان لمداها. ولقد عقب ابن كثير على هذه الأحاديث فقال إن تناول المحرمات واجب إذا خاف المسلم على نفسه ولم يجد غيرها، وأورد حديثا أخرجه الإمام أحمد وابن حبان عن ابن عمر مرفوعا قال:
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يجب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته» .
وحديثا آخر أخرجه الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبل عرفة» . والحديثان وإن لم يردا في الصحاح فإن ما فيهما متسق مع فكرة الرخصة القرآنية كما هو المتبادر. ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الحكم وابن مردويه عن ابن عباس جاء فيه: «كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تعذّرا فبعث الله نبيّه وأنزل كتابه وأحلّ حلاله وحرّم حرامه فما أحلّ فهو حلال وما حرّم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو. وقرأ آية الأنعام التي نحن في صددها» . وهناك حديث رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه أيضا جاء فيه: «سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن السّمن والجبن والفراء فقال الحلال ما أحلّ الله في كتابه والحرام ما حرّم الله في كتابه وما سكت عنه فهو ممّا عفا عنه» «1» .
وينطوي في الحديث حصر التحريم والتحليل في المأكولات في كتاب الله واعتبار ما سكت عن ذكره القرآن مباحا. غير أن هناك أحاديث عديدة تبدو لأول وهلة أنها مناقضة للمبدأ الذي قرره هذا الحديث، وإخلال لنطاق التحريم الذي حددته الآية التي نحن في صددها.
منها حديث رواه أبو داود والترمذي عن المقدام بن معدي كرب عن رسول
(1) التاج ج 3 ص 48.
الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه. ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهليّ ولا كلّ ذي ناب من السبع ولا القطة إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه» «1» . وحديث رواه الترمذي وابن ماجه جاء فيه: «سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الذئب فقال ويأكل الذئب أحد فيه خير» «2» . وحديث رواه ابن ماجه جاء فيه:
«قيل يا رسول الله ما تقول في الثعلب؟ قال: ومن يأكل الثعلب» «3» . وحديث رواه الخمسة عن أبي ثعلبة: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كلّ ذي ناب من السّباع» .
وحديث رواه مسلم وأبو داود عن ابن عباس قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلّ ذي ناب من السباع وعن كلّ ذي مخلب من الطيور» «4» . وحديث رواه الخمسة إلا البخاري عن جابر قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الهرّ وعن أكل ثمنه» «5» . وحديث رواه أبو داود وأحمد جاء فيه: «ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم القنفذ، فقال خبيثة من الخبائث» «6» .
وحديث رواه أبو داود ومسلم عن جابر قال: «نهانا النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل» «7» . وحديث رواه ابن ماجه والحاكم وصححه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحلّت لنا ميتتان ودمان. فأمّا الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» «8» . وحديث رواه الخمسة عن ابن أبي أوفى قال: «غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أو ستا كنا نأكل معه الجراد» «9» .
وحديث رواه الخمسة كذلك عن خالد بن الوليد جاء فيه: «إنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة فأتي بضبّ محنوذ فأهوى النبي يده إليه فقال بعض النسوة أخبروا النبيّ بما يريد أن يأكل فقالوا هو ضبّ يا رسول الله. فرفع يده فقلت أحرام هو يا رسول الله قال لا ولكنّه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه قال خالد فاجتررته فأكلته والنبيّ ينظر» «10» . ومع ذلك فإن رشيد رضا أورد حديثا قال إنه أخرجه أبو داود عن
(1) التاج ج 3 ص 86 وما بعدها.
(2)
التاج ج 3 ص 86 وما بعدها.
(3)
التاج ج 3 ص 86 وما بعدها. [.....]
(4)
المصدر نفسه ص 83 وما بعدها.
(5)
المصدر نفسه ص 83 وما بعدها.
(6)
المصدر نفسه ص 83 وما بعدها.
(7)
المصدر نفسه ص 83 وما بعدها.
(8)
المصدر نفسه ص 83 وما بعدها.
(9)
المصدر نفسه ص 83 وما بعدها.
(10)
المصدر نفسه ص 83 وما بعدها.
عبد الله بن شبل: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الضبّ» . وهذا الحديث لم يرد في التاج الذي جمع مؤلفه فيه أحاديث الخمسة البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي على ما قال في مقدمته.
وتعليقا على ذلك نقول:
أولا: إن الأحاديث التي فيها تحليل وتحريم جديدان قد صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المدني. والآية التي نحن في صددها مكية فليس ما يمنع أن يكون الله تعالى قد أوحى لرسوله وحيا غير قرآني فيه تعديل وتوسيع لمدى الآية.
ثانيا: إن ما جاء في الحديثين اللذين يذكران أن الحلال ما أحله الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو عفو قد صدرا على الأرجح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الأحاديث التي فيها تحليل وتحريم جديدان. ثم أجرى الله على لسانه هذه الأحاديث بقصد التيسير والتوضيح والتنبيه. وهذا ما انطوى في الحديث المروي عن المقدام بن معدي كرب حيث يلمح أن القصد فيه هو بيان أن الله تعالى قد ألهم ويلهم النبي صلى الله عليه وسلم أشياء كثيرة لم ترد في القرآن ليحدث الناس بها أمرا ونهيا وتشريعا وخطة وتحذيرا وتمثيلا وأخبارا مغيبة إلخ
…
والأخذ بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مما ليس في القرآن واجب لأن الله جعل النبي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن وأمر بردّ كل ما يتنازع فيه المسلمون إلى الله الذي يمثله القرآن وإلى الرسول الذي تمثله أحاديثه بعد موته إذا ثبتت عنه على ما جاء في آية سورة النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [59] وقد أمر الله بأخذ كل ما أمر به الرسول والانتهاء عن كل ما نهى في آية سورة الحشر هذه: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [7] وقد جعل الله طاعة الرسول من طاعة الله في آية سورة النساء هذه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [80] .