الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليق على آيات وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ
…
إلخ
وعلى كل حال فإن أسلوب الآيات يساعد على القول إنها من جهة وصف لما كان عليه الرعيل الأول من المؤمنين الذين استجابوا لدعوة الإسلام وأيدوا النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي من إخلاص وتضامن وتشاور وإباء وتسامح وأخلاق كريمة، وتوجب من جهة أخرى على كل مسلم أن يكون على هذه الأخلاق، أو تقرر بأن هذه الأخلاق هي من خصائص المسلم المخلص أو من نتائج الإسلام والإخلاص فيه. وهي جليلة خالدة على مرّ الدهر جديرة بالإجلال والإعظام، ومن شأن المجتمع المتصف بها والسائر عليها أن يتمتع بالطمأنينة والكرامة والقوة والعزة ورفعة الشأن والصلاح في كل مكان ومجال. وهي متمشية مع طبيعة البشر وأسس العدل والحق من جهة، وموجهة للمسلمين أفرادهم وجماعاتهم إلى خير المثل والمكارم الأخلاقية. وحرية بأن تعدّ من روائع المجموعات القرآنية.
وتعبير كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ قد ورد في الآية [34] من سورة النجم التي مرّ تفسيرها. وقد شرحنا مداه وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيه في سياق تفسيرها فنكتفي بهذا التنبيه.
وجملتا إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) ووَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ جديرتان بالتنويه بصورة خاصة. فالأولى تعني أنهم يتضامنون في الدفاع ويقفون في وجه العدوان وقفة شديدة ولا يقرون الضيم والخسف فيهم. والثانية تعني أنه ليس بينهم مستبد طاغية وأنهم جميعا متساوون لا يفتئت أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد. ينظرون في أمورهم العامة نظرا مشتركا ويحلون مشكلاتهم بما يتفقون عليه بعد التشاور فيما بينهم، وهذا من أرقى صور ما نسميه اليوم بالديموقراطية.
وقد يبدو لأول وهلة شيء من التناقض في تقريرات الآيات وتوجيهاتها. غير
أن هذا الوهم يزول إذا ما أمعن فيها حيث يظهر أن في الآيات ما هو مظهر من مظاهر أخلاق المسلمين حين نزولها وما ينبغي أن يكون خطة لهم بعضهم تجاه بعض. وإن فيها ما ينبغي أن يكون خطة تجاه أعدائهم. فجملة: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) عائدة للمعنى الأول وللمعنى الثاني معا. وجملة: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) عائدة للمعنى الثاني. وجملة: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وجملة: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ
…
إلخ عائدتان للمعنى الثالث.
وهناك أحاديث نبوية عديدة في فضيلة كظم الغيظ والغضب وتحمل الأذى والعفو فيها تلقين متساوق مع التلقين الذي احتوته الآيات في هذا الصدد. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ليس الشديد بالصّرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» «1» . وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتّى يخيّره من أيّ الحور العين شاء» «2» . وحديث رواه البخاري والترمذي وأحمد عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علّمني شيئا ولا تكثر عليّ لعلّي أعيه.
قال: لا تغضب. فردّد ذلك مرارا، كل ذلك يقول لا تغضب» «3» . وحديث رواه الشيخان عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى، إنهم يجعلون له ندا ويجعلون له ولدا وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم» «4» .
وحديث رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «المسلم إذا كان مخالطا للناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» «5» .
وحديث رواه الخمسة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أعطي أحد عطاء خيرا
(1) التاج ج 5 ص 43- 44.
(2)
التاج ج 5 ص 43- 44.
(3)
التاج ج 5 ص 43- 44.
(4)
التاج ج 5 ص 44- 47.
(5)
التاج ج 5 ص 44- 47.
وأوسع من الصّبر» «1» . وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلّا عزا وما تواضع أحد لله إلّا رفعه الله» «2» . وحديث رواه الطبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا» «3» .
وحديث أخرجه أبو يعلى عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كفّ غضبه كفّ الله عنه عذابه» «4» . وحديث أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجرّع عبد من جرعة أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله» «5» .
والمتبادر من فحوى الأحاديث وأسماء رواتها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المدني في المناسبات التي اقتضتها للتعليم والتأديب، وأن الآيات التي نحن في صددها قد احتوت مبادئ عامة، وهذا من سمات القرآن المكي على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة والله تعالى أعلم.
وننبه على أن في سورة آل عمران آية تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورة المسلمين، والمتبادر أن هذا متصل بالدرجة الأولى بسياسة الحكم والسلطان في حين أن جملة وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ الواردة في هذه الآيات عامة تشمل هذه السياسة وتشمل سائر حالات ومواقف المسلمين فيما بينهم. ونكتفي هنا بما ذكرناه في صدد ذلك على أن نشرح أمر الشورى المتصل بسياسة الحكم والسلطان في سياق آية سورة آل عمران.
(1) التاج ج 5 ص 44- 47.
(2)
التاج ج 5 ص 44- 47.
(3)
التاج ج 5 ص 44- 47.
(4)
تفسير الآية [134] من سورة آل عمران. [.....]
(5)
تفسير الآية نفسها في تفسير ابن كثير، وننبه على أن الأحاديث التي نقلناها عن تفسيري الطبري وابن كثير لم ترد نصا في كتب الأحاديث الصحيحة، وهذا لا يمنع صحتها وهي من باب ما ورد في هذه الكتب ونقلناه عنها.
وجملة: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ جديرة كذلك بالتنويه، وقد حثت على خلقين من مكارم الأخلاق. ولقد تكرر ذلك كثيرا في سور مكية ومدنية أخرى. ففي صدد الحث على العفو آيات سورة البقرة هذه: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ
…
[109] وهذه: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى
…
[237]
وآية سورة آل عمران هذه: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)، وآية سورة النساء هذه: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)، وآية سورة النور هذه: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)، وآية سورة التغابن هذه:
وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) . وفي صدد الحث على الإصلاح آيات سورة البقرة هذه: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)، وهذه: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)، وآيات سورة النساء هذه: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)، وهذه:
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ
…
[128] وهذه: وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129)، وآيات سورة الأنعام هذه: فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)، وهذه: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)، وآية سورة الأعراف هذه: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وآية سورة الأنفال هذه: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ
…
[1]، وآيات سورة الحجرات هذه: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
. حيث يبدو من ذلك ما أعارته حكمة التنزيل من اهتمام لترسيخ هذين الخلقين في نفوس المؤمنين لأنهما من شأنهما أن يوطدا المحبة والمودة والأخوة والتسامح والتعاون ويمنعا المشاكسات والمهاترات والأحقاد بينهم.
وهناك أحاديث نبوية عديدة في صدد ذلك منها في صدد الإصلاح حديث يندد بالذين يلجون في الخصومة والمشاكسة رواه الشيخان والنسائي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصيم» «1» . وحديث يبرر استعمال أي أسلوب في سبيل الصلح رواه أبو داود والبخاري عن أم كلثوم بنت عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيرا أو نمى خيرا» «2» .
وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين وفساد ذات البين الحالقة» «3» . وزاد الترمذي هذه الجملة في روايته: «لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدّين» «4» .
وهناك حديث مهم في بابه فيه تلقين أن الصلح يجب أن لا يحرّم حلالا ولا يحلّ حراما وقد رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن عمرو بن عوف المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحا حرّم حلالا أو أحلّ حراما، والمسلمون على شروطهم إلّا شرطا حرّم حلالا أو أحلّ حراما» «5» .
أما في صدد العفو فمن ذلك حديث رواه مسلم عن أبي هريرة قال: «إن رجلا قال: يا رسول الله إنّ لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إليّ وأحلم عنهم ويجهلون عليّ. فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفّهم الملّ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على
(1) التاج ج 3 ص 63- 64.
(2)
التاج ج 3 ص 63- 64.
(3)
التاج ج 3 ص 63- 64.
(4)
التاج ج 2 ص 202- 203.
(5)
التاج ج 2 ص 202- 203.