الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويسوغان القول إنها جاءت استطرادية لتصف أخلاق الكفار الذين كانت تتألف منهم أكثرية الناس في البيئة التي تنزل فيها: فالإنسان من هذه الأكثرية لا يسأم من طلب الخير والاستمتاع به فإذا مسّه شرّ وقع في اليأس واستولى عليه القنوط، وإذا كشف الله ضرّه وبدله بنعمة ورحمة فإنه يجحد فضل الله ويعتبر ما أصابه من ذلك طبيعيا وحقا ولا يلبث أن يستغرق في الدنيا ويطمئن إليها وينسى الله والآخرة وما فيها من خير للصالحين، وعذاب للجاحدين، ويجحد أن يكون ما ينذر به بعد الموت من خير وحسنى، وهكذا يكون ديدنه، فإذا أنعم الله عليه انصرف عنه وجحده وإذا مسّه شرّ هلع وملأ الدنيا دعاء وشكوى، والله محص على الكافرين الجاحدين ما فعلوه ومخبرهم به ومذيقهم بسببه أشدّ العذاب.
والآيات قوية نافذة في تقريرها وتنديدها. وهي وإن كانت بسبيل وصف أخلاق أكثرية الناس الذين يسمعون القرآن الجاحدين لله ونعمه فإنها تمثل حالة من المجتمعات الإنسانية بصورة عامة في كل ظرف فيما يبدو من أفرادهم من تقصير في حق الله وجحود لفضله ونسيانه في أوقات الرخاء واستغراقهم في الدنيا وشهواتها ومطالبها دون تفكير في الواجبات والعواقب، وهذا يجعلها مستمد إلهام وفيض دائم للمسلم يذكره بواجبه نحو الله والناس دون ما بطر ولا جحود ولا إسراف ولا استغراق ولا قنوط.
[سورة فصلت (41) : الآيات 52 الى 54]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
. (1) شقاق بعيد: هنا بمعنى شدة الخلاف والمشاققة والمعارضة.
الأمر بمخاطبة الكفار يجعل الصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة أيضا.
وقد احتوت الآية الأولى أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه سؤال إنكاري وتقريعي للكفار عما تكون حالتهم إذا كان ما يسمعونه هو من عند الله حقا ثم كفروا به وعما إذا كان هناك من هو أشد ضلالا وأبعد في السخف والباطل ممن يقف موقف المعارضة والمشاققة بدون علم وبينة، وقد انطوى في صيغة الآية وروحها تقرير ضلالهم وسخفهم وموقفهم الباطل.
واحتوت الآية الثانية إنذارا لهم بأن الله سيريهم آياته في أنفسهم وفي الآفاق حتى يجعلهم يتيقنون بأن ما جاءهم هو الحق، وتدليلا على قدرة الله على ذلك بأنه شهيد على كل شيء.
واحتوت الآية الثالثة تقريعا بأسلوب التنبيه والتعجب للكفار على شدة شكهم في لقاء الله والوقوف بين يديه وتذكيرا بأسلوب التنبيه بأن الله يحيط بكل شيء مما فيه برهان على قدرته عليهم وأنهم لن يفلتوا منه ولن يعجزوه.
وقد جاءت الآيات خاتمة قوية لموقف الجدل والإنذار وخاتمة قوية للسورة معا مما جرى عليه الأسلوب القرآني ومرت أمثلة عديدة له. وقد استهدفت فيما استهدفته تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتطمينه من جهة وإثارة الندم والخوف والارعواء في نفوس المشركين من جهة أخرى.
وقد تعددت تأويلات المفسرين لجملة سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ حيث قالوا إنها عنت آيات الله ودلائل وحدانيته وربوبيته في مختلف مشاهد الكون ونواميسه وفي تركيب أجسامهم أنفسهم كما قالوا إنها عنت ما تحقق من وعد الله ووعيده بما كان من هلاك طواغيت الكفر منهم في بدر وغيرها وفتح مكة واعتراف جمهور العرب بأن الإسلام هو دين الحق ودخولهم فيه ثم انتصار الإسلام وانتشاره في آفاق الدنيا.
وكلا القولين وجيه ووارد، والقول الثاني متسق مع البشائر والتطمينات القرآنية العديدة التي مرّ بعض أمثلة منها.
وبعض الباحثين الحديثين يسوقون هذه الجملة في ظروف ما يقع من اكتشافات كونية كدليل على إعجاز القرآن في إخباره بذلك قبل اكتشافها بعشرات القرون. ونحن نرى في هذا شيئا من التكلف الذي لا ضرورة له ولا طائل منه بسبيل إثبات وجود الله وقدرته وعظمته ببديع نواميس كونه الماثلة للعيان في كل زمان. والخطاب يعدّ للسامعين مباشرة الجاحدين للرسالة على سبيل التنديد والوعيد. ولذلك نرى الأولى أن تبقى الجملة في نطاق أحد الوجهين اللذين قال المفسرون إنها عنتهما.