الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا، وننبه هنا بهذه المناسبة إلى ما نبهنا إليه في المناسبات السابقة من أن هذا إنما هو تسجيل لواقع أمر الكفار حينما نزلت الآيات وليس هو على سبيل التأييد لأن معظم الذين وصفوا به قد آمنوا فيما بعد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه إنما يظل قائما بالنسبة للذين كفروا وماتوا وهم كفار.
وللشيخ محيي الدين بن العربي تفسير للآيتين جاء فيه: «يا محمد إن الذين كفروا ستروا محبتهم فيّ. دعهم فسواء عليهم أأنذرتهم بوعيدك الذي أرسلتك به أم لم تنذرهم لا يؤمنون بكلامك، لأنهم لا يعقلون غيري. وأنت تنذرهم بخلقي وهم ما عقلوه ولا شاهدوه. وكيف يؤمنون بك وقد ختمت على قلوبهم فلم أجعل فيها متسعا لغيري. وعلى سمعهم فلا يسمعون كلاما في العالم إلا مني وعلى أبصارهم غشاوة من بهائي عند مشاهدتي فلا يبصرون سواي. ولهم عذاب عظيم عندي.
أردهم بعد هذا المشهد السّنيّ إلى إنذارك وأحجبهم حتى كما فعلت بك بعد قاب قوسين أو أدنى. أنزلتك إلى من يكفر بك، ويرد ما جئت به إليه مني في وجهك وتسمع فيّ ما يضيق له صدرك. فأين ذلك الشرح الذي شاهدته في إسرائك، فهكذا رضائي على خلقي الذين أخفيتهم رضاي عنهم» «1» .
وفي هذا من الشطح الذي يقلب به معاني العبارة القرآنية ويبتعد بها عن معناها ودلالتها القطعية ما هو ظاهر أيضا.
[سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 15]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) .
(1) التفسير والمفسرون للذهبي ج 2 ص 13 عزوا إلى تفسير ابن العربي المعروف بالفتوحات.
(1)
السفهاء: هنا بمعنى قاصري العقل والفهم والتمييز.
(2)
شياطينهم: الذين يوسوسون لهم، والمتفق عليه أن المقصود هم اليهود.
يتفق المؤولون على أن الآيات تعني المنافقين وقد تضمنت صفاتهم ومواقفهم والرد عليهم والتنديد بهم: فهم الذين يقولون آمنا بألسنتهم وقلوبهم غير مؤمنة بقصد خداع الله والمؤمنين، في حين أنهم لا يخدعون إلا أنفسهم، لأن الله يعرف حقائقهم ولأن هذه الحقائق غير خافية على المؤمنين. ولقد خبثت نياتهم ومرضت قلوبهم فازدادوا بخداعهم وكذبهم خبثا ومرضا واستحقوا عذاب الله الأليم بسبب ذلك. وهم إذا نصحوا ونهوا عن الإفساد بنفاقهم وخداعهم ودسهم وكيدهم أنكروا وادعوا الصلاح مع أن ما هم فيه هو الفساد بعينه، ولكنهم لا ينتبهون إلى ما هم فيه من تناقض. وهم إذا قيل لهم آمنوا إيمانا صحيحا قلبا وقالبا مثل غيرهم من المؤمنين الصادقين استكبروا وغمزوا المؤمنين الصادقين، ونعتوهم بالسفهاء وتساءلوا تساؤل المستهزئ عما إذا كان يصح أن يؤمنوا مثل إيمانهم. مع أنهم السفهاء لا غيرهم، ولكنهم لا يدركون حقيقة أمرهم. وهم الذين إذا لقوا المؤمنين سايروهم وخادعوهم وقالوا لهم إننا مؤمنون، ثم إذا خلوا إلى شياطينهم الذين يحرضونهم ويوسوسون لهم أكدوا لهم بقاءهم في جانبهم وأن ما يتظاهرون به ليس إلّا من قبيل الهزء والسخرية، فالله هو الذي يهزأ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون عن الحق لينالوا جزاءه الرهيب.
والآيات أولى الآيات المدنية التي احتوت إشارة إلى طبقة المنافقين التي نجمت في العهد المدني في وقت مبكر جدا بل قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أو عقب وصوله مباشرة ولو لم ترد فيها كلمة النفاق أو المنافقين. لأن الوصف منطبق عليهم والمؤولون متفقون على ذلك. ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزولها. والمتبادر أنها استمرار في الاستطراد لإتمام سلسلة مختلف فئات الناس
إزاء الدعوة المحمدية حين نزولها وهم المؤمنون الصادقون والكافرون المكابرون، والمنافقون الكاذبون المخادعون.
والوصف القوي الذي وصف به المنافقون في الآيات، والتنديد الشديد الذي ندد بهم فيها، يدلان على ما كان لظهور هذه الطبقة من خطورة وأثر. ولقد احتوت آيات قرآنية كثيرة في سور مدنية عديدة صورا كثيرة متنوعة عن حركة النفاق والمنافقين، وما كانوا يقفونه من مواقف ضد الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم ومصلحة المسلمين كانت حقا شديدة الخطورة والأثر على ما سوف نشرحه في مناسباته.
ولقد كان منافقون من أهل المدينة ومنافقون من الأعراب، غير أن نفاق منافقي المدينة هو الأبكر والأشد خطورة وأثرا. والأرجح أن الآيات إنما عنت هؤلاء.
ولقد ذكر المفسرون «1» أن كلمة شَياطِينِهِمْ مصروفة إلى اليهود، وهو وجيه ومتسق مع مفهوم الآيات، حيث يفهم منها أن المنافقين شيء وشياطينهم شيء آخر، حتى ولو كانوا زعماءهم، بل إن العبارة تفيد أن الموصوفين هم من الزعماء مما فيه توكيد للتوجيه. وفي القرآن المدني آيات كثيرة تؤيد أن المنافقين وزعماءهم خاصة كانوا حلفاء مع اليهود ضد الدعوة الإسلامية، وأن اليهود كانوا يوسوسون للمنافقين ويوجهونهم في طرق الكيد والمكر والتشكيك. من ذلك آيات سورة النساء هذه: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)«2» وآيات سورة محمد هذه: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26)
«3» .
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
(2)
المقصود من الكافرين هنا اليهود. انظر تفسير الآية في تفسير الخازن مثلا.
(3)
هذه الآيات ليست كل ما ورد في هذا الصدد انظر آيات سورة المجادلة [14] وسورة الحشر [11] وسورة المائدة [52- 53] . [.....]