الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وخبر رفع الطور فوقهم ورد في الآية [170] من سورة الأعراف، وقد أوردنا في سياق ما روي عن أهل التأويل في صدده وعلقنا عليه بما رأيناه متبادرا، فنكتفي بهذا التنبيه بمناسبة ورود الخبر ثانية في هذه الحلقة.
والآيات وإن كانت في صدد مواقف اليهود فهي كسابقاتها تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين، سواء في تقبيح التناقض بين الأقوال والأفعال أم المكابرة في الحق ومحاربته حقدا وغيظا وحسدا على أصحابه. أم عدم التمسك بعهد الله وميثاقه باتباع الحق وعمل المعروف والانحراف عن ذلك إلى البغي والجحود والعدوان.
تعليق على جملة وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ
في هذه الجملة موضوعان الأول: إتيان عيسى عليه السلام البينات، والثاني: تأييده بروح القدس. وفي صدد الأول فإن جمهور المفسرين على أن البينات هي المعجزات التي أظهرها الله على يد عيسى من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وإخباره بأمور مغيبة وخلقه من الطين كهيئة الطير ونفخه فيه ليصير طيرا مما ورد بصراحة في آيات في سورة آل عمران والمائدة. وندع الكلام على ذلك إلى تفسير هاتين السورتين لأن ذلك أكثر مناسبة. وفي صدد الثاني نقول إن جملة: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ قد تفيد لأول وهلة أن هذا شيء خاص بعيسى عليه السلام ، ولقد تكررت هذه الصدقية في آية سورة البقرة [253] والمائدة [113]، وننبه أولا على أن تعبير روح القدس قد ورد في آية سورة النحل هذه: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) التي يمكن أن تفيد خلافا لما يبدو من جملة: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ بالنسبة لعيسى أن تأييد الله لعيسى بروح القدس في القرآن ليس محصورا به وأن القرآن قد ذكر أيضا أن الله قد أيّد نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم به. وثانيا: أن آية النحل تفيد أن بِرُوحِ الْقُدُسِ هو اسم الذي كان ينزل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد هذا التعبير بلفظ الرُّوحُ الْأَمِينُ في آيات سورة الشعراء هذه: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وفي آية سورة البقرة التي ستأتي بعد قليل اسم جبريل بوصفه الذي كان ينزل بالقرآن حيث يكون التعبير في سورتي النحل والشعراء كناية عن جبريل، ومع هذا فإن المفسرين قد أوردوا في تأويل جملة: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ الواردة في الآية والتي قد لا يكون معناها في معنى ما جاء في سورتي النحل والشعراء أقوالا عديدة، منها أن تأييد الله بمعنى تأييده بروحه وقوته ونصره، وأنه بمعنى تأييد الله له بجبريل. ومنها أنه تأييد الله له بالإنجيل. ومنها أن الجملة تعني إفاضة الله التقديس والطهارة على نفس عيسى عليه السلام ، وقد يكون أوجه هذه الأقوال القول الأول.
ولقد ورد تعبير (بروح القدس) في الأناجيل الأربعة المتداولة اليوم والتي يعترف بها وحدها النصارى بأساليب ومناسبات متعددة بل وبمعان مختلفة أيضا على ما يفيده السياق الذي وردت فيه. فمن ذلك ما ورد في سياق حبل مريم في إنجيل متى (لما خطبت مريم أمه ليوسف وجدت من قبل أن يجتمعا حبلى من الروح القدس) . وفي إنجيل لوقا على لسان الذي بشر مريم بحبلها: (فأجاب الملاك وقال لها إن الروح القدس يحل عليك) . ومن ذلك في إنجيل متى على لسان عيسى: (من قال كلمة على ابن البشر يغفر له وأما من قال على الروح القدس فلا يغفر له لا في هذا الدهر ولا في الآتي) . وفي إنجيل مرقس على لسان عيسى أيضا: (فإذا ساقوكم وأسلموكم فلا تهتموا من قبل بما تتكلمون به بل بما أعطيتم في تلك الساعة تكلموا لأنكم لستم أنتم المتكلمين ولكن الروح القدس) . و (وأما من جدف على الروح القدس فلا مغفرة له) . وفي إنجيل لوقا (ورجع يسوع من الأردن وهو ممتلىء بالروح القدس) . و (كان رجل في أورشليم اسمه سمعان وهو رجل صديق تقي كان ينتظر تعزية إسرائيل والروح القدس كان عليه. وكان أوحى إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت حتى يعاين مسيح الرب) . وفي إنجيل يوحنا على لسان يوحنا المعمدان الذي هو النبي يحيى في القرآن: (إن الذي ترى الروح ينزل ويستقر عليه هو الذي يعمد بالروح القدس) .
وبعض هذه العبارات الانجيلية قد يفيد أن روح القدس شخصية إلهية مقدسة. كما قد يفيد بعضها أنه روح ربانية تنزل لتأييد الأشخاص المؤمنين. أو أنه رسول رباني لتنفيذ أوامر الله وهذا المعنى الأخير مطابق لما جاء في القرآن على ما شرحناه في سياق تفسير سورة مريم.
ومعلوم أن هذا التعبير في العقيدة النصرانية يعني أحد أقانيم أو صور الذات الإلهية التي هي الأب والابن وروح القدس. وهذه الألفاظ وردت في الأناجيل المتداولة. ولكن تلك العقيدة ليست محبوكة بشكلها الراهن في أي إنجيل، وإنما هي من قرارات مجامع دينية انعقدت في القرن الرابع بعد الميلاد بأمر ورعاية الامبراطور الروماني بسبب ما كان بين رجال الدين النصراني من خلافات حول لاهوتية المسيح والروح القدس على ما شرحناه في سياق سورة مريم أيضا.
والمرجح أن هذا التعبير كان مستعملا من قبل نصارى العرب قبل الإسلام ترجمة عن اللغة الإنجيلية السريانية أو اليونانية.
ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن التعبير القرآني يضع الأمر في نصابه من وجهة نظر القرآن والعقيدة الإسلامية في عيسى عليه السلام حيث ينطوي في الجملة التي جاء فيها تقرير كون عيسى رسول من رسل الله وأن الجملة تعني تأييد الله إياه بروح وقوة منه اقتضت حكمة التنزيل تسميتها بِرُوحِ الْقُدُسِ ولا ضير على المسلم بل من واجبه أن يستعمل هذه التسمية في التعبير عن تأييد الله تعالى لعيسى عليه السلام لأن ذلك نص قرآني، مع الوقوف عند ذلك وإيكال مدى هذه الحكمة لله تعالى ودون أن يكون ذلك من المسلم تسليما منه بما استقرت عليه عقائد النصارى المجمعية من مدى ومعنى روح القدس لأن فحوى الجملة وروحها ومقامها في القرآن لا يمكن أن يتحمل ذلك. وهي صريحة كل الصراحة بأن روح القدس الذي يؤيد الله به عيسى غير ذاته وليس جزءا منه أو صورة له بأي حال كما هو في تلك العقائد. والقرآن هو الضابط المهيمن على الكتب السماوية التي ينسبها أهل الكتاب إلى الله ويتداولونها كما جاء صراحة في آية سورة المائدة: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فما يقرره هو