الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1)
السفهاء: هي في مقام التبكيت ونسبة خفة العقل والمكابرة والسخف إلى القائلين.
(2)
ما ولّاهم: ما صرفهم.
(3)
وسطا: عدولا وبعيدين عن مساوئ الإفراط والتفريط.
(4)
شطره: ناحيته ووجهته.
(5)
وجهة: طريقة أو اتجاه يتجهون إليه.
(6)
هو موليها: هو متوليها أي متجه إليها.
تعليقات على آيات تحويل القبلة من [141- 152] وهي الحلقة الثامنة عشرة والأخيرة من السلسلة
هذه السلسلة بشأن تبديل سمت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، وقد تضمنت ما يلي:
1-
أخبرت الآية الأولى أن السفهاء من الناس سيتساءلون مستغربين عن الأسباب التي حملت المسلمين على الانصراف عن قبلتهم التي كانوا عليها أي سمت بيت المقدس. وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن جوابا على ذلك إن المشرق لله والمغرب لله وإنه هو الذي يهدي من يريد إلى الصراط المستقيم.
2-
وطمأنت الآية الثانية المسلمين ونوهت بهم: فالله تعالى قد جعلهم بهداه
عدولا وجنبهم مساوئ الإفراط والتفريط ليكونوا من الأمم في مركز الحكم العدل والشاهد وجعل الرسول شهيدا عليهم. والله قد أراد في أمر القبلة امتحانهم لإظهار الثابت في إيمانه وتصديقه واتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم في اتجاهه للقبلة التي كان يصلي إليها من المتشكك المتردد. وإنه لامتحان عظيم حقا لا يثبت له إلا الذين هداهم الله وتشبعوا بالإيمان واطمأنت نفوسهم به وكانوا موضع عناية الله وتوفيقه. والله لم يكن ليضيع ثواب إيمان المسلمين وعبادتهم فهو الرؤوف الرحيم بالناس والمؤمنون به أولى الناس برأفته ورحمته بطبيعة الحال.
3-
ووجهت الآية الثالثة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: فالله يرى تقلّب وجهه في السماء كأنه يرجو أن يهديه إلى قبلة يرضى بها وتطمئن نفسه. وقد استجاب رجاءه فولّاه هذه القبلة حيث يأمره بأن يولّي وجهه شطر المسجد الحرام بعد الآن في أي وقت وفي أي مكان وأن المسجد الحرام لأحقّ بالاستقبال وأن أهل الكتاب ليعلمون ذلك حقّ العلم، والله غير غافل عما يعملون.
4-
ووجهت الآية الرابعة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كذلك مبينة حقيقة الأمر من موقف أهل الكتاب وانتقادهم: فهم صادرون عن هوى وغرض ومكابرة وعناد.
ومثل هؤلاء لن يتبعوا الحق ولن يتبعوا بالتالي قبلته مهما أتاهم به من حجج وآيات مقنعة. وإنهم لفي خلاف فيما بينهم أيضا، فليس بعضهم بتابع قبلة بعض وليس يصح والحالة هذه أن يتبع هو قبلتهم بعد أن جاءه العلم والحق من الله لأنه يكون حينئذ قد اندمج في أهوائهم ويكون من الظالمين المنحرفين عن الحق.
5-
واحتوت الآيتان الخامسة والسادسة تقريرا من ناحية أخرى لمكابرة أهل الكتاب: فهم يعرفون في قرارة أنفسهم صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وكون ما فعله حقا كما يعرفون أبناءهم، وإن منهم لفريقا يكتمون الحق وهم يعلمونه حق العلم وإن الحق هو ما أوحى الله به فلا محل للارتياب والتردد في اتباعه.
6-
واحتوت الآية السابعة تقريرا لطبيعة ما يرى من اختلاف الناس في اتجاهاتهم، فلكل وجهته التي يتجه إليها، وعلى المسلمين أن لا يبالوا كثيرا بهذه
المشاهد المختلفة وليس عليهم إلّا أن يتسابقوا في عمل الخير ويسبقوا إليها معتقدين أنهم راجعون إلى الله وهو القادر على الإتيان بهم من أي مكان كانوا فيه ليوفيهم جزاء أعمالهم.
7-
واحتوت الآيتان الثامنة والتاسعة توكيدا مكررا ووجه الخطاب فيهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولا وإلى المؤمنين ثانيا: فعليهم أن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام في أي وقت وفي أي مكان. فهو الحق من الله الذي ليس هو غافلا عما يعملون وإن في اتباع هذا الأمر منعا لكل حجة ونقد يمكن أن يوجها إليهم من أناس معتدلين. أما الظالمون الذين يصدرون في نقدهم واعتراضهم عن الغرض والبغي فعلى المسلمين أن لا يهتموا بهم وأن لا يخشوا نقدهم واعتراضهم وأن لا يخشوا إلا الله فبذلك يتم الله نعمته عليهم وفي هذا هداهم.
8-
واحتوت الآيتان العاشرة والحادية عشرة خطابا موجها إلى المسلمين جاء بمثابة تعقيب على الآيات السابقة، فمن نعمة الله عليهم ورغبته في هدايتهم أن أرسل فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهر نفوسهم وقلوبهم من كل شائبة وسوء ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه. وعليهم والحالة هذه أن يذكروا نعمة الله عليهم وأن يقابلوه عليها بالشكر وأن يتجنبوا الكفران والجحود لها.
والحلقة قد تبدو فصلا مستقلا، غير أن ما احتوته الآيات السابقة من تمهيدات متصلة بالكعبة وملة إبراهيم وذكر أهل الكتاب ولجاجهم الذين كان اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى وما في الآيات من تكرار ذلك والتنديد بهم من أجله تجعل الصلة قائمة بين هذا الفصل والفصول السابقة. وتبرر اعتباره حلقة من حلقات السلسلة الطويلة الواردة في هذه السورة في صدد مواقف اليهود. وكلمة السفهاء مطلقة قد تعني المشركين والمنافقين والكتابيين. وهذا ما رواه المفسرون عن أهل التأويل غير أن معظم الأقوال المروية تفيد أن المقصود بها هم اليهود «1» .
(1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن والنسفي والطبرسي وابن كثير إلخ
…
وهذا ما يدعم ما قلناه أيضا ويجعل الصلة وثيقة بين هذا الفصل والفصول السابقة.
ولقد روى المفسرون أن نفرا كبيرا من أحبار اليهود وزعمائهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له ما ولّاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه، فارجع إليها نتبعك ونصدقك. يريدون بذلك فتنته فلما لم يصغ إليهم أخذوا يدسون بين المسلمين ويقولون: إن كانت القبلة الحق بيت المقدس فسوف تضيع صلاتهم بعد الآن وإن كانت الكعبة فقد ضاع عليهم ما صلّوه إلى بيت المقدس.
والآية الخامسة أي [147] تحتمل أن تكون قصدت تقرير كون أهل الكتاب يعرفون أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق وكون ما يأمر به حقا ووحيا ربانيا. كما ذكرناه في الشرح كما تحتمل أن تكون قصدت تقرير كونهم يعرفون أن اتخاذ الكعبة قبلة هو حق. وقد قال المفسرون هذا كما قالوا ذاك وقد اخترنا ما أوردناه في الشرح لأن الآية مطلقة من جهة ولأن الشرح المذكور عام يدخل في متناوله الاحتمالان.
وليس في الآية تصريح بجنسية أهل الكتاب الذين تكرر ذكرهم في آيات أخرى من الحلقة. ومع أن المفسرين قالوا باحتمال أن يكون المقصودون هم اليهود والنصارى معا فإن بعضهم «1» رجح أن يكونوا اليهود. وروح الآيات والسياق السابق واتفاق الجمهور على أن المعترضين السفهاء هم اليهود وكون اليهود موضوع السلسلة في الدرجة الأولى مما يبرر هذا الترجيح.
ولقد روى بعض المفسرين «2» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: وددت أنّ الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال له: إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربّك فادع ربّك وسله. وارتفع جبريل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأله ربّه فما لبث أن نزل جبريل بالآيات. وقد روى بعضهم «3» عن الحسن وأبي العالية وعكرمة من التابعين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر الدعاء
(1) انظر تفسير ابن كثير والطبرسي.
(2)
انظر تفسير الطبرسي.
(3)
انظر تفسير ابن كثير.
والابتهال بأن يوجّهه الله إلى الكعبة فاستجاب الله دعاءه وأنزل الآيات. وقد روى البخاري والترمذي عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا «1» وكان يحب أن يوجّه إلى الكعبة فأنزل الله: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فوجه نحو الكعبة فصلى رجل معه العصر ثم مرّ على قوم من الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر نحو بيت المقدس. فقال هو يشهد أنه صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه قد وجّه إلى الكعبة فانحرفوا وهم ركوع.
وروح الآيات تتسق مع هذه الأحاديث الثلاثة وإن كان الأولان لم يردا في الصحاح. وبدء الحلقة بحرف الاستقبال يلهم أن نشاط اليهود في الدس والتشكيك كان متوقعا. وهذا ما يفسر احتواء الآيات حججا وتبريرا وإقرارا وتطمينا كما هو المتبادر. ولا نريد أن ننفي بهذا احتمال كون اليهود قد انتقدوا ودسوا وشككوا بعد التحويل. وليس في بدء الآيات بحرف السين وتقدم الآية سَيَقُولُ السُّفَهاءُ
…
إلخ [142] على آية: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ
…
إلخ [144] ما يمنع هذا لأن الآيات وحدة كاملة محبوكة.
ولقد روى الطبرسي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة يتجه إلى الكعبة فلما هاجر إلى المدينة تحول عن هذا الاتجاه إلى سمت المسجد الأقصى ليتميز المسلمون عن المشركين الذين كانوا يقومون بطقوسهم الوثنية حول الكعبة ففرح اليهود وصاروا يزهون على النبي والمسلمين باتباعهم قبلتهم واعتبارهم ذلك اعترافا منهم بأنهم
(1) التاج ج 4 ص 44 ونص الحديث برواية البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن البراء:
«صلّينا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ثم صرفنا نحو الكعبة» (التاج ج 1 ص 135) ومع ذلك ففي الطبري والخازن وابن كثير روايات تذكر أن التحول كان لثلاثة عشر أو لثمانية عشر شهرا. وأنه كان يوم الاثنين أو الثلاثاء في نصف رجب وأنه كان في صلاة الظهر في مسجد بني سلمه حيث صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس ركعتين نحو المسجد الأقصى وتحوّل مصلى الركعتين الثانيتين نحو الكعبة وهذا يفيد أن الوحي بالتحويل كان أثناء الصلاة.
على الهدى وأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين يقتبسون هداهم منهم. ولقد روى الطبري أن تحول النبي صلى الله عليه وسلم عن الكعبة إلى المسجد الأقصى حينما جاء إلى المدينة كان تألفا لليهود. كما روي أن الأنصار كانوا يصلون قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وطيلة عامين إلى بيت المقدس حيث يكون النبي صلى الله عليه وسلم باتجاهه نحو هذا البيت حينما وصل قد أقرّهم على عملهم. والروايات لم ترد في الصحاح ولا مانع من صحتها وليس بينها تناقض. وفقد يكون اتجاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى سمت بيت المقدس حين وصوله للأسباب المذكورة جميعها فلما وقف اليهود منه موقف الجحود والتعطيل والدس ثم صاروا يزهون عليه وعلى المسلمين حزّ ذلك في نفسه وفي نفس المسلمين وانبثقت في نفسه أمنية التحول عن سمت بيت المقدس ولا سيما إنه قد ظهر من اليهود ما أيأسه منهم وصار ينتظر وحيا ربانيا بالتحول. والآية الثالثة والأحاديث والروايات التي أوردناها تدعم ذلك بوجه الإجمال. وقد يمكن أن يزاد على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم في حين صار يائسا أو كاليائس من اليهود تراءى له أن اتجاهه إلى قبلتهم مما يضعف قوة دعوته للعرب وأن عودته إلى قبلته الأولى مما يؤلف قلوبهم كما أنه كان يعرف مكانة الكعبة بيت الله القديم الذي يرتبط به العرب والذي كان من منظمات الوحدة الروحية فيما بينهم بسبب اشتراكهم جميعا في حجه وأداء المناسك عنده. والذي هو في الوقت نفسه متصل بإبراهيم وما يزال أثره متداولا باسم مقام إبراهيم وقد كانت ملّة إبراهيم من عناوين رسالته. وهو أولى الناس بها كما جاء في آية سورة آل عمران [68] فكان ذلك مما جعله يتمنى أن يوجهه الله إلى الكعبة.
ولعل فقرة لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ في الآية التاسعة أي [150] مما يتصل بهذا المعنى أيضا.
ولقد روى البخاري والترمذي عن ابن عباس «1» في صدد آية: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أن بعض المسلمين قالوا: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلّون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله الآية. ومما رواه المفسرون «2» في صدد
(1) انظر التاج ج 4 ص 45.
(2)
انظر تفسيرها في الخازن.
ذلك أيضا أن اليهود قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم إلى بيت المقدس إن كانت على هدى فقد تحولتم عنه وإن كانت على ضلالة فقد دنتم لله بها مدة ومن مات عليها فقد مات على ضلالة.
ولا تناقض بين الرواية والحديث حيث يمكن أن يكون الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم قد فعلوا تأثرا بكلام اليهود وتشكيكهم.
وهكذا حاول اليهود أن ينفثوا سمومهم بالانتقاد والتشكيك والدّس نتيجة لما شعروا به من شدة الضربة الأدبية التي وجهت إليهم بتحويل سمت القبلة.
ولقد روى الطبري في صدد جملة: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
…
إن بعض المسلمين ارتدوا بسبب تحويل القبلة وأظهر كثير من المنافقين نفاقهم وقالوا ما بال محمد يحولنا مرة إلى هاهنا ومرة إلى هاهنا، وقال المشركون تحيّر محمد، وقال المسلمون بطلت صلواتنا السابقة فكان تحويل القبلة فتنة وتمحيصا لإخلاص المؤمنين. ولا مانع من صحة الروايات وإن لم ترد في الصحاح وحديث البخاري والترمذي مما يؤيد ذلك.
ويلاحظ أن الآية هي في صدد اختبار المؤمنين في القبلة السابقة وليست في صدد القبلة الجديدة. والذي يتبادر لنا من روح الآية وفحواها أن المسلمين كانوا يشعرون بشيء من الغضاضة أو عدم الارتياح بسبب اتجاههم إلى بيت المقدس.
فلما أمر الله بالتحول اقتضت حكمة التنزيل أن يرد في الآية ما ورد على سبيل التنبيه. ومن المحتمل أن يكون شعور المسلمين هذا كان بسبب زهو اليهود كما أن من المحتمل أن يكون بسبب شدة تعلقهم بالكعبة وهي التي درجوا أن تكون معبدهم ومحجّهم منذ الأزمنة القديمة.
ولقد تعددت الأقوال في مدى جملة: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ منها أن الاتجاه يكون نحو سمت باب الكعبة أو نحو الميزاب وأورد ابن كثير حديثين في ذلك منهما واحد أخرجه الحاكم في مستدركه عن ابن عمر وواحد أخرجه ابن